هذه دعوة للعمل على مناهضة قوى الظلام

واستمرار ركب الحضارة الحديثة

This Is A Call To Work Against The Forces Of Darkness And For Promotion Of Modern Civilization


أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 16 سبتمبر 2008

وضع الإنتليجينسيا فى البناء الاجتماعى المصرى الحديث




عادل العمري
(نُشرت عام 1996)
        
                                    
                                      

   عندما يتداخل عصران وثقافتان وديانتان تتحول الحياة البشرية إلى معاناة حقيقية.. إلى جحيم.. فهناك أوقات يُحشر فيها جيل كامل في ذلك الطريق الواقع بين عصرين وأسلوبين للحياة، فتكون نتيجة ذلك أنْ يفقد كل قدرته على فهم نفسه ويفتقد المعايير والأمل وبساطة الرضا

                                   هيرمان هيس               


قبل محمد علي شملت الإنتليجينسيا([1]) المصرية رجال الدين بشكل أساسي، الذين بجانب نشاطهم كرجال دين قدم بعضهم مساهمات أخرى، كالتعليم مثلًا. يضاف إليهم قليلون من أصحاب المهن، كالكتبة.
ومع تكون نظام محمد علي، وفي سياق إعادة بناء الدولة في مواجهة محاولات الغزو الاستعماري، بدأت عملية تحديث، بغرض تطوير القدرات الدفاعية للبلاد، والنهوض بالاقتصاد لتوفير الفائض اللازم لتمويل عملية إعادة بناء الإمبراطورية العثمانية تحت قيادته. ولكن لأسباب اجتماعية - تاريخية معقدة لم تكن هذه العملية كاملة ولا متسقة، بل تم تحديثٌ جزئيٌّ للبنية الاجتماعية – الاقتصادية الإقطاعية، وفي النهاية لم ينجح محمد علي لا في تحقيق أهدافه ولا حتى في المحافظة على التطور المستقل للبلاد، فاضطر إلى الاستسلام أمام الغرب في 1838-1840.
   ومع هيمنة الغرب وإدماج مصر في السوق الدولي قسرًا، استمرت عملية تحديث البلاد، والتي تمحورت منذئذ حول إدماج وإعادة إدماج مصر في السوق الدولي، لصالح الأخير. ولذلك لم تصل عملية التحديث المذكور إلى نهايتها أبدًا؛ إذ تم التحديث بالشكل وفي الحدود التي تجعل من مصر مستعمرة مفيدة للغرب – وفي السياق- خدمت طبقة كبار الملاك والتجار المحليين. فتم في النهاية تكون بنية اجتماعية – اقتصادية متخلفة تتميز بنمو ذو طابع مركب.
ويمكننا إيجاز عملية التحول الاجتماعي - الاقتصادي التي تمت منذ هزيمة محمد علي بأنه قد تم الانتقال من نظام الإقطاع الشرقي إلى حالة وسط بين الإقطاع والرأسمالية، وبمعنى أصح لم يكن الانتقال إلى الرأسمالية حاسمًا. بل وقفت مصر عند حالة يمكن أنْ تُسمى بـ "الانتقال المحتجز" - بتعبير سمير أمين - ولكنها مع ذلك ليست عملية انتقال، بل حالة انتقالية مستقرة، نسميها بنية التخلف([2]).
تضمنت عملية التحديث المذكورة بناء كوادر جديدة ضرورية للقيام بدور في البناء الاجتماعي الجديد؛ الرأسمالويCapitalistic؛ فكان لابد من إدخال التعليم الحديث، ونشر العلوم الفيزيائية، وإدخال نظم قانونية جديدة وضعية. وكان من المنطقي بالتالي أنْ يظهر النمو المركب على مستوى جماعات الإنتليجينسيا؛ فالإنتليجينسيا الدينية لم تنته، لا ككتلة متميزة، ولا كفكر، بل ظل فكرها متغلغلًا في وعي الإنتليجينسيا الحديثة كذلك؛ إذ رغم إدخال العلم وأشكال التنظيم الحديثة، لم يتم نشر وترسيخ مبادئ عقلانية في الفكر النظري، إلا على نطاق محدود.
لقد كان التصنيع في عهد محمد علي، وتوسيع الجيش، وتزويده بالمعدات الحديثة، وتطوير الزراعة والري، يستلزم إنتاج كوادر تستطيع التعامل مع الصناعة الحديثة، والمعدات العسكرية المتطورة: ضباط - مهندسين- مدرسين- مديرين.. ومع استمرار عملية التحديث في عهد الاحتلال، وما بعد الاحتلال، كان لابد من إدخال نظم قضائية أكثر تعقيدًا تلائم التكوين الجديد لمصر الحديثة. وكان من الطبيعي أنْ تظهر قيم جديدة، تلائم أولًا التنظيم الاجتماعي الجديد، وتلائم ثانيًا ثقافة الأفراد المندمجين في أو المكونين لهذا النظام الحديث. ولكن التحديث لم يكن كاملًا ولا منسجمًا أبدًا؛ فالنمو الصناعي لم ينف التأخر الشديد في الزراعة رغم تحسين نظام الري، وظهور أساليب التنظيم الرأسمالي لم ينف استمرار ونمو أساليب التنظيم قبل الرأسمالي، بل وظهرت ونمت باستمرار أشكال من التنظيم تتسم بطابع مركب؛ رأسمالي وقبل رأسمالي، على صعيد كل من الإنتاج والتبادل.
وهذا النمو المركب يعني أول ما يعني أنَّ عملية التحديث لا تسير في اتجاه إحلال النظام الرأسمالي المعقلن إلى حد ما محل النظام الإقطاعي القديم، بل نشأ نظام هجين؛ رأسمالوي، مما يعني أنَّ القوى الاجتماعية المختلفة قد تأثرت بدرجات متباينة بهذه العملية. فهناك تحديث وإعادة تحديث على كافة الأصعدة، وهناك استمرار نمو لأنماط العمل والتنظيم والقيم القديمة، وهناك من ثم أشكال ودرجات متباينة من اندماج الجماعات والأفراد في مختلف عناصر النظام الرأسمالوي. مما يعني أنَّ تناقضات الجماعات المختلفة والأفراد قد باتت أشد تعقيدًا. فهناك فئات مرتبطة تمامًا ببنية التخلف كما هيَ، وهناك فئات تُعد أعلى نتاج لعملية التحديث، وتعاني من حالة التخلف، وهناك فئات لم تستفد شيئًا، بل خسرت كثيرًا، وهناك في الوسط درجات مختلفة من القبول والرفض لهذا العنصر أو ذاك من عناصر بنية التخلف.
لقد تم توجيه ضربات قاتلة للمجتمع القديم دون إحلال مجتمع رأسمالي بالكامل محله. وقد تفاوتت درجات حالة الانتقال الناتجة على مستوى الأصعدة المختلفة: الاقتصاد بمختلف أقسامه، البناء الفوقي بمختلف مكوناته: بنية القيم – الأفكار – التقاليد - جهاز الدولة.. إلخ.
وكان من الطبيعي أنْ يحدث تغيير تدريجي ملموس على صعيد البناء الفوقي، كنتيجة لتغيرات البناء التحتي. فقد كان من الضروري ظهور قيم وأفكار ودعوات تناسب الاوضاع الجديدة من جهة وتناسب تكوين أصحاب المهن الحديثة وأصحاب مهن قديمة في مواجهة بنية التخلف الجديدة هذه. كذلك كانت التبعية على الصعيد المادي عاملًا ساهم بقوة في انتقال كثير من الأفكار والعادات وأشكال التنظيم من الغرب.
إذن لم يتم على الصعيد المادي تحويل المجتمع المصري إلى مجتمع رأسمالي حقيقي. وبالتالي لم يتم على صعيد البناء الفوقي هدم وإعادة بناء متسقة تتجاوز البناء القديم.
وقد أدى النمو المركب في مصر إلى إعادة تكوين الطبقات المسيطرة دون أنْ تشهد صفوفها صراعًا تاريخيًّا بين البورجوازية والإقطاع، بل حدث تحول تدريجي للطبقة المسيطرة القديمة: المشايخ - كبار الملاك - كبار رجال الدولة، إلى ملاك كبار، ورجال أعمال من نوع مختلف، دون حرب طبقية تذكر، بغض النظر عن الصراع المعتاد بين مختلف كتل الطبقة المالكة. كذلك أفرز التحديث "طبقة"- مجازًا- من عمال الصناعة، وهيَ ليست طبقة عاملة بحق، بل تضم نسبة طاغية من أنصاف العمال. كذلك ظهرت طبقة من عمال الزراعة المأجورين أوسع نسبيًّا من طبقة عمال الصناعة.
  ولكن كانت أبرز نتائج نمو التخلف في مصر هيَ تهميش أعداد ضخمة ومتزايدة من الجماهير، بتحويلها إلى "حثالة بروليتاريا"؛ تعيش على هامش عملية الإنتاج. كذلك كان ظهور فئات وسيطة من الإنتليجينسيا كبيرة العدد للغاية قياسًا إلى مجمل عدد السكان، تعد أقصى نتاج للتحديث، تحمل مختلف ألوان المعرفة الحديثة وخبرات التنظيم والإدارة.
(الآن  2017 نتحفظ تماما على استخدام تعبير حثالة البروليتاريا المهين ونستبدله بوصف المهمشين وأشباه المهمشين)
 وتعود ضخامة كل من الفئات شبه البروليتارية والإنتليجينسيا إلى الطابع العام لنمو التخلف؛ حيث يتحقق باستمرار نمو أكبر في القطاعات الثالثية للاقتصاد، ويجري هدم المجتمع القديم بمعدل أعلى من معدل بناء المجتمع المحَدث. وينتج عن الميل الأول تضخم مستمر في نسبة أفراد الفئات الوسطى شاملة الإنتليجينسيا، بينما ينتج عن الميل الثاني اتساع أعداد حثالة البروليتاريا، ويدعم الانفجار السكاني الظاهرة الأخيرة، والذي يُعد أحد نواتج نمو التخلف.
وقد حملت الإنتليجينسيا المذكورة ثقافة مركبة؛ حديثة علمانية، وقديمة دينية. فهيَ لم تقد أبدًا عملية تنوير حقيقية، ولم تشهر سلاح العقل في وجه الأيديولوجيا القديمة([3]). ذلك أنَّ عملية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية ظلت محتجزة، أو – بمعنى أصح- ظلت الحالة الانتقالية قائمة ومستقرة بما هيَ كذلك.
فالنمو المركب على الصعيد المادي قد أنتج نموًّا مركبًا على صعيد الوعي كذلك؛ فنشأت الإنتليجينسيا الحديثة بجانب الإنتليجينسيا الدينية، والفكر العلماني بجانب الفكر الديني، بدون صراع تاريخي، حيث صودر الصراع منذ بداية التحول على صعيد الطبقة المسيطرة في البناء التحتي، والتي تحولت سلميًّا كما ذكرنا من قبل. كما كان الفصل بين الدين والدولة غير كامل، بل وكان عنصر الوئام بينهما يغلب أحيانًا على عنصر الصراع. فرغم حاجة الدولة المحدثة والطبقة الحاكمة الجديدة إلى فكر جديد، ظل للأيديولوجيا القديمة دور هام للغاية بالنسبة لها، بفضل حالة الانتقال المحتجز بالذات؛ المتضمن لاستمرار التأخر وعدم خضوع قطاعات واسعة من السكان لآليات الحداثة الاجتماعية عموما والإنتاجية خصوصًا. ونخص بالذات التأثير الخاص لإعادة الإنتاج الموسع للفئات المهمشة([4])، تلك التي فقدت ارتباطها المادي المباشر بالمجتمع القديم دون أنْ تُدمج جيدًا في النظام الاجتماعي الجديد. ولذلك ظل للأيديولوجيا القديمة مكانة هامة لديها. لذلك ظلت هذه الأيديولوجيا قابلة للاستخدام كسلاح جيد في أيدي الطبقة المسيطرة، لإحكام قبضتها على الجماهير شبه البروليتارية تلك. ولا يوجد انفصال مطلق بين الإنتليجينسيا والفئات المهمشة، لا على صعيد الواقع المادي ولا أيضًا على صعيد الفكر. فالمهمشون ليسوا مجرد صفر، بل يتعيشون على بنية التخلف نفسها. ومن هذه الزاوية فقط يرتبطون جزئيًّا بعملية التحديث القائمة.
أما الإنتليجينسيا فلم تشكل قطاعًا يستقل بالعمل في إطار نظام حديث محض pure، بل هيَ أيضًا تعمل في إطار بنية التخلف؛ الازدواج البنيوي. لهذا السبب لم تتبن أيديولوجيا بورجوازية بالكامل، ولم تصبح علمانية بحق. لذلك ظلت الإشكالية المعروفة بمسألة العلاقة بين الأصالة والمعاصرة قائمة طوال تاريخ مصر الحديث.
ويمكننا أنْ نصف الإنتليجينسيا المصرية عمومًا بأنها مثل بنية التخلف التي تنتمي إليها؛ تتضمن حالة انتقال، أو حل وسط ؛ تاريخي بمعنى ما، بين الأيديولوجيا الدينية القديمة تاريخيًّا والفكر العقلاني الحديث. وهيَ حالة تتضمن كلًّا من السلام والحرب، ولكن فقط حرب خنادق، بدون اشتباك حقيقي، فكل طرف يكتفي بكشف تناقضات الآخر ونقاط ضعفه، دون أنْ يقدم مبررًا لنفسه سوى مجرد وجوده.. إنه وضع يعكس في - النهاية – حالة البنية الاجتماعية المصرية نفسها. فالطبقات المسيطرة ظلت منسجمة مع بعضها على المستوى التاريخي العام، وطبعا هذا لا ينفي وجود خلافات جزئية وصراعات على توزيع الفائض، وفي نفس الوقت لم يفرز نمو التخلف طبقة ثورية جديدة، إذ لم تكن عملية التحديث في مصر حادة تمامًا، مقارنة مثلا بروسيا القيصرية؛ فلم تنشأ في مصر مراكز صناعية متطورة، وتركز التحديث على قطاع الخدمات اللازمة لإقامة اقتصاد تصديري لسلعة واحدة أساسًا؛ القطن أولًا ثم البترول حديثًا، ولإقامة صناعات حالة محل الواردات وكذلك لتقوية قبضة الدولة على المجتمع المدني. ولهذا كله شهدت ساحة الأيديولوجيا موقفًا سلبيًّا من قِبل العقلانية الحديثة في مواجهة الفكر الديني. ولم نرصد في تاريخ مصر الحديث صراعًا أيديولوجيًّا حاسمًا وتاريخيًّا... بل ساد الحل الوسط والانتقاء حتى من قبل الإسلاميين الأصوليين.. ومن الملاحظ أنه نتيجة حالة النمو المركب على صعيد الفكر لم تصبح الثقافة المصرية متماهية ولم تشهد انتصارًا نهائيًّا لأحد قطبيها: الإسلام والعلمانية، وكنتيجة - في رأينا- لطبيعة الطبقة المسيطرة الجديدة – القديمة التي سبقت الإشارة إليها، إذ لم تتطلع هذه أبدًا إلى إنهاء نفوذ الدين على المجتمع المدني والدولة وتحويله إلى مسألة شخصية وفردية. ولنتذكر – للمقارنة - أنَّ البورجوازية في الغرب قد حققت هذا تقريبًا، استنادًا إلى إنجازاتها الاجتماعية -الاقتصادية الكبيرة. وفي المقابل نجد أنَّ "طبقتنا" المذكورة لم تحقق أيَّ ثورة بورجوازية بالمعنى المفهوم للكلمة، كما أنه لم تتكون طبقة بديلة يمكن أنْ تحفز ظهور وانتشار ثقافة علمانية - عقلانية.
في ظل هذه الوضعية تحركت الإنتليجينسيا جيدة التعليم (وقت كتابة ونشر المقال كانت الإنتليجينسيا المصرية جيدة التعليم بالفعل).
ونظرًا لغياب الحاجة الموضوعية لتصفية الفكر القديم وتحقيق نصر نهائي للعقلانية فإن الإبداع الفكري لم يبرز في مصر أبدًا. فبلوغ الحالة الانتقالية بيسر، والتي لم يقاومها الفكر الإسلامي نفسه مقاومة حادة، لم تتطلب إنجازات فكرية ضخمة، بل ساهم مفكرون إسلاميون كبار في عملية تكييف الإسلام مع عملية التحديث الجزئي: محمد عبده ورشيد رضا مثلًا. لذلك لم تشهد مصر حركة تنوير واسعة، مقارنة بأوروبا الغربية وروسيا أو حتى الصين الشعبية.
 وضمن السمات الرئيسية للبنية الاجتماعية لمصر الحديثة تقف التبعية، و التي نُعدها جوهر هذه البنية، سواء بعنصرها البورجوازي أو قبل البورجوازي ، وقد ساعدت التبعية الاقتصادية على حفز أشكال من التبعية الثقافية العامة، وحتى الأيديولوجية. وقد ساهمت هذه النزعة في عرقلة، وليس منع، الإبداع الفكري في مصر. ومن الضروري في رأينا ملاحظة أنَّ عملية إنتاج وإعادة إنتاج التخلف في مصر لم تتم وفقًا لآليات داخلية محضة، بل لعبت وتلعب الضغوط والحواجز والحوافز الخارجية الدور الرئيسي، وهذا الحفز الخارجي يترك بصماته على تحولات الثقافة، سواء بشكل مباشر (تأثير مباشر في الثقافة السائدة) أو غير مباشر (خلق وإعادة خلق البناء التحتي). وربما يفسر لنا هذا التأثير الكبير للفكر الأوروبي الحديث على نشوء وتطور الفكر المصري الحديث، بدءًا من تأثير أعضاء بعثات محمد علي؛ الطهطاوي خاصة. وهذا لا ينفي أيضًا أهمية الإبداع المحلي. إلا أنَّ هذا الإبداع نفسه، علاوة على أنه لم يكن دوره حاسمًا في تطور الفكر المصري الحديث، كان كذلك يتم في إطار الثقافة الواردة من الخارج بشكل أساسي. وحتى "الإبداع" داخل الفكر الديني قد مثل رد فعل عابر، وليس تطورًا ذاتيًّا، في مواجهة ما اعتبره الإسلاميون غزوًا فكريًّا من الغرب، تمثل في الأفكار الليبرالية، والقومية، والاشتراكية. وما نقصده هنا هو أنَّ الفكر المصري الحديث لم يكن نتيجة حركة واسعة لإنتاج الفكر بقدر ما مثل استجابة محلية لدور أجنبي مباشر وغير مباشر. فالليبرالية والقومية والاشتراكية لم تظهر كنتيجة لتناقضات الفكر المحلي القديم، بل كانت قبولًا محليًّا لفكر نُقل نقلًا من الغرب، مع تكييف ما. وهذا لا يعني أنه لم توجد أسس محلية لانتشار مثل هذه المبادئ، بل وُجدت بالتأكيد هذه الأسس وبقوة. فتناقض الفكر القديم مع الواقع هو حقيقة برزت بوضوح في عجزه عن التصرف في مشكلة التبعية - التخلف.. واتضاح قلة حيلته أمام الفكر المدجج بالسلاح والقوة الاقتصادية والنموذج المؤسساتي الأوروبي. ولكن تلك الأسس المحلية تتضمن كذلك عوامل ذاتية مثل نزعة تقليد الغرب والإعجاب بالسادة الأوروبيين وبقيمهم، تلك العوامل الناتجة عن قوة ونجاحات التنظيم الرأسمالي - الأوروبي للمجتمع ووضوح تفوقه على الأنظمة الشرقية التقليدية، هذا التفوق الذي ساندته القيم الأوروبية الحديثة في مجملها. وإن هذا كله يعني أنَّ نشوء الفكر المصري الحديث لم يكن نابعًا- كعملية تحول- من الذات. فمثلما كان نشوء بنية التخلف في مصر عملية قصرية إلى هذا الحد أو ذاك، أو على الأقل ُمحفزة بشدة من الخارج، كان كذلك نشوء الفكر المصري الحديث. إذ لم يوجد إطلاقًا عنصر انتقال في مصر القرن التاسع عشر يبرر التحول الذاتي من القنانة، سواء المعممة أوغير المعممة، إلى نظام السوق والتطور المركب، ولا من الإسلام السلفي إلى الإسلام المعقلن والفكر العلماني. فالعامل الخارجي هنا حاسم تمامًا، فلا يُتصور أنْ ينشأ نظام تابع بدون وجود وفعالية الطرف الخارجي إلى أقصى حد.
  ونحن لا نشير إلى دور التأثير الخارجي السائد لإظهار النقائص، بل لإبراز عدم تماهي الفكر المصري الحديث، والتباين القائم بين الفكر الموجود بالفعل والإمكانيات المحلية لإنتاج الفكر.
ونود أنْ نشير إلى ظاهرة جد بارزة تخص الإنتليجينسيا المصرية. فلقد تميز نمو التخلف في مصر بتضخم حجم الإنتليجينسيا باستمرار بمعدل كبير، بحيث باتت تشكل منذ منتصف هذا القرن قطاعًا عريضًا في المجتمع. وهيَ الحقل الأهم على الإطلاق إنْ لم يكن الوحيد لإنتاج وتلقي وانتشار الفكر النظري بالمعنى المفهوم. وقد قابل هذا الحجم الضخم ضعف بالغ لكل الطبقات كتكوين. فالطبقة المسيطرة من رجال أعمال وكبار ملاك هشة للغاية وعاجزة عن إحداث تغيرات جذرية سريعة وتقدمية بحيث تقيم بناء اجتماعيًّا مُحدثًا بشكل ناجز. أما "الطبقة العاملة" فهيَ ليست طبقة حقيقية بأيِّ حال، فعلاوة على صغر حجمها بالنسبة لمجمل السكان وتبعثرها، يرتبط كثير من أفرادها بأنشطة أخرى بخلاف العمل المأجور، وهيَ لا تملك أدوات نضالية فعالة ولا تقاليد متماسكة في النضال حتى الاقتصادي، ويضاف لذلك غيابها السياسي بالكامل باستثناء فترات بالغة القصر في تاريخ مصر الحديث. وبخصوص طبقة الفلاحين؛ فقد ظلت طوال تاريخ مصر الحديث غير واعية بمصالحها الجماعية، ولم تشكل قط جماعة ضغط فاعلة، وهيَ على العموم لا تملك آفاقًا تقدمية. لهذا وذاك وجدنا الإنتليجينسيا تملك دائمًا المبادرة إزاء النظام القائم، عدا لحظات نادرة، وتقود نظريًّا وعمليًّا كل "الطبقات" الأدنى، بما فيها عمال الصناعة. فكافة الأشكال السياسية غير المعبرة عن الطبقات المسيطرة قد تكونت من مثقفين بشكل أساسي: المنظمات الشيوعية- حزب مصر الفتاة- الإخوان المسلمين- الطليعة الوفدية- الناصريون بعد سقوط الناصرية- أحزاب العمل والتجمع.. إلخ. ومن الطبيعي أنْ يقود المثقفون، بالمعنى الضيق للكلمة، الطبقات المختلفة، ولكننا لا نقصد هنا القادة الأفراد، بل المثقفين بالمعنى العريض؛ المتعلمين ككتلة اجتماعية.. أيْ جمهورهم العريض ككل. وعلى هذا يمكننا تحديد أن الصراع السياسي في مصر الحديثة قد تركز بين الدولة والطبقة المسيطرة، والإنتليجينسيا، التي وقف وراءها أحيانًا بعض العمال وقلة من الفلاحين، سواء قبل 1952 أو أثناء العهد الناصري أو بعده وحتى اليوم. بل ولعبت الدور الأكبر في الكفاح الوطني أثناء الاحتلال. ونلفت النظر إلى أن دورًا جوهريًا قد قامت به الجماهير المهمشة في الصراع الاجتماعي، يتلوهم العمال والفلاحون، ولكن في لحظات محددة، من أهمها انتفاضة يناير 1977. بخلاف ذلك كانت المعارضة دائمًا في أيدي الإنتليجينسيا وكانت فعاليتها هيَ الأكثر تأثيرًا في مسار الصراع الاجتماعي والسياسي.
ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أنَّ الإنتليجينسيا المصرية في مجملها والمعارضة منها بالأخص قد حثت دائمًا على زيادة دور الدولة وتغلغلها في حياة المجتمع المدني وتنظيمه سواء في اتجاه مزيد من التحديث أو تطبيق الشريعة أو التنظيم بوجه عام. وكل هذه المسائل تحتاج إلى مواهب الإنتليجينسيا، مما يمنحها فرصة للهيمنة وتحقيق النفوذ، كما أنه أمر يُشبع تطلعاتها النخبوية. لذلك ظلت العلاقة بين الإنتليجينسيا والدولة قوية للغاية رغم الخلافات والصراعات وحتى العنف المتبادل أحيانًا.
ونحن نقصد بإثارة هذه النقاط التنبيه إلى عقم تلك الطريقة الشائعة في تحليل الصراع الاجتماعي والتي تعد كل حزب معبرًا عن طبقة اجتماعية محددة: عمال – فلاحون- بورجوازية كبيرة- بورجوازية صغيرة.. إلخ. فلا يمكن مثلًا اعتبار "الإخوان المسلمين" مجرد معبرين عن البورجوازية الصغيرة([5])، تلك الطبقة الهزيلة جدًّا في مصر، كما لا يمكن اعتبار الحزب الشيوعي المصري معبرًا عن عمال الصناعة بحال من الأحوال. فكل منهما يتشكل أساسًا من متعلمين ويعمل وسطهم وبطريقة تلائمهم.
  وأخيرًا نود أنْ نلقي بعض الضوء على التكوين الداخلي للإنتليجينسيا المصرية:
  تحتكر هذه الفئات شيئا بالغ الأهمية وهو العلم، سواء العلم الفيزيائي أو العلوم الاجتماعية النظرية والتطبيقية، وكذلك الفكر وفهم الأيديولوجيا، شاملة الفكر الديني. ويتشكل قطاعها العريض من إنتليجينسيا حديثة، أما الإنتليجينسيا الدينية فلا تشكل سوى كسر بسيط من جمهورها الغفير.
تحمل إذن هذه الفئات سلاح العلم الحديث وهيَ تتلقى العلم من الخارج مباشرة: كل العلوم الفيزيائية، وحتى العلوم الاجتماعية. فإذا كان للإبداع المحلي دور في إنتاج الأيديولوجيا فإن دوره الفعلي في إنتاج العلم لا يذكر. ولنمد هذا ا لكلام على استقامته: هناك تناقض معين بين العلم الوارد من الخارج، أو على الأقل بين منهج هذا العلم وبين الأيديولوجيات السائدة، نصف العقلانية في أحسن الأحوال. ويضيف هذا التناقض مزيدًا من العمق لازدواجية الفكر المصري الحديث، والتمزق بين "الأصالة" و"المعاصرة".
 إذن قطعت الإنتليجينسيا المصرية خطوات ملموسة على صعيد العلم، فهيَ متعلمة بشكل متماسك إلى حد ما، ولكنها لم تقطع الشوط نفسه على صعيد عقلنة الفكر. فالتحديث في مجال العلم كان كاملًا، ولكن على صعيد الفكر لم يصل إلا إلى منتصف الطريق في أحسن الأحوال. ويضاف إلى عامل التمزق هذا عامل آخر؛ فالتعليم النظري يصل إلى قمته، ولكن تطبيقه، بمعنى عقلنة النظام الاجتماعي قد توقفت عند منتصف الطريق أوأقل. وتخلق هذه الوضعية إشكالات كثيرة للمثقفين. ولنتخيل ماذا يتيح المجتمع المصري لعالم فيزياء كبير أو لمهندس كيميائي نابغ أو لطبيب متفوق... فقط يتيح لهم مأزقًا خطيرًا، وهذا أحد دوافع هجرة العقول. وكثير من هذه النماذج يُنتج في مصر بالجملة. وبالتالي يكون ضمن مشاكل المثقفين عدم الانسجام بين طاقاتهم وبين ما يستطيع النظام الاجتماعي أنْ يستوعبه منها. هذه نقطة، وهناك قضية أخرى: فهذه الإنتليجينسيا المتعلمة جيدًا تجد نفسها عاجزة عن تجاوز الفكر اللاعقلاني الموروث. فقد تكونت في إطار ثقافي مزدوج، ولا يوجد أساس اجتماعي مادي لتجاوزه، مما يضعها أمام إشكالات عديدة، تتلخص في التناقض بين منطق العلم ومنطق الأيديولوجيا الازدواجية التي تحملها، وحتى بين هذا كله مجتمعًا وبين قيم وتقاليد المجتمع السائدة؛ القديمة - الجديدة. ولنتصور وضع باحثة في الفيزياء لا يعطيها المجتمع حق الانتخاب (قبل 1956) أو حريتها في الملبس والإقامة بمفردها وحق الطلاق أو الانفصال عن زوجها؛ فهناك مشكلة إذا هيَ تطلعت إلى هذه الحقوق، اما إذا لم تفكر فيها فهذا يدل على وجود مشكلة أعمق.
المفاهيم والنزعات المتأصلة لدى أفراد الإنتليجينسيا المصرية هيَ إذن بين الفكر التقليدي القديم المرتبط أساس بالدين، خصوصًا الإسلام والفكر العقلاني الحديث. ووفقا للتباينات العديدة داخل كافة مكونات البنية الاجتماعية تختلف درجة هذا الخليط لدى أفراد وجماعات الإنتليجينسيا المصرية اختلافًا شديدًا.
ونأتي الآن إلى المصالح المادية للمثقفين. لقد تربت الإنتليجينسيا المصرية في حضن الدولة منذ محمد علي: تعليم مجاني أو رخيص- وظائف حكومية مضمونة للغالبية العظمى، حتى للكتاب، والأدباء، والمفكرين، والباحثين. وقد استطاعت الدولة أنْ تشتري بشكل نهائي عددًا محدودًا من المفكرين والكتاب، من خلال دمجهم تمامًا في مصالحها وآليات عملها. ولكنها لا تستطيع قط أنْ تشتري الجميع، إلا أنها تضطر إلى إنتاجهم بالجملة، كحد أدنى من الرشوة، في صورة عملية التعليم نفسها لأبناء الطبقات الأدنى، وهذه الظاهرة واضحة تمامًا منذ ثلاثينيات هذا القرن. ورغم الضمانات المذكورة فإن المصالح المادية للمثقفين لا تتحقق في ظل النظام القائم بشكل متماثل، بل توجد درجات عديدة من الارتباط المصلحي بينهم وبين الدولة وبين الطبقة المسيطرة، بل إنَّ البعض قد نُقل من طبقته أو فئته الأصلية إلى مصاف المتعلمين دون أنْ يحصل على أيِّ ميزة مادية إضافية. فالإنتليجينسيا لا تنتمي في مجملها إلى الصفوة، بل إنها تعرف البطالة والفقر والإفقار أيضًا مثلما تعرف امتيازات متعددة بالإضافة إلى الوجاهة الاجتماعية طبعًا. كذلك تتفاوت مصالح الأفراد حسب موقعهم في عملية التحديث المستمرة ومعدلها المتغير.
كذلك تأتي مسألة النظام السياسي ضمن المسائل التي تهم الإنتليجينسيا. فقد تطلع دائمًا هؤلاء المتعلمون إلى دور خاص في إدارة البلاد، بحكم شعورهم بكفاءتهم وتفوقهم. فإن لهم طموحات نابعة من تكوينهم كمثقفين في بلد غير مثقف ككل، كما أنَّ لهم مصالح مادية ومعنوية مرتبطة بطريقة ومعدل عملية التحديث القائمة. ولنتذكر أنهم يتطلعون عادة إلى وضع نظرائهم في أوروبا، كما لا ُيغفل الوضع المميز لنظرائهم السابقين على التحديث في مصر؛ رجال الدين أساسًا. ورغم أنه قد بُدء في تحديث جهاز الدولة منذ محمد علي وقُطعت خطوات فعالة على هذا الطريق، فإن النظام السياسي بما هو كذلك لم يتغير إلا تغيرًا شكليًّا بشكل أساسي، فالطغيان والحكم الفردي والإدارة الغاشمة ظلت موجودة. ولنتأمل كيف يكون شعور مئات الألوف من المدرسين والمحامين والأطباء وهم يستمعون إلى قرار بإلغاء الدستور أو بحل البرلمان، دون مشورتهم، أو بنقل الصحفيين إلى إدارات الدولة، وإلى طرد القضاة.. إلخ. وهذا لا علاقة له بكون الإنتليجينسيا المصرية ليبرالية أم لا، بل هيَ تريد أنْ تشارك في إدارة النظام بشكل أو بآخر. فمشاركتها تمنحها ضمانات ما بتحقيق أوضاع تنسجم بقدر أو آخر مع ثقافتها ومصالحها المادية. ولا شك أنَّ عددًا من المثقفين يشكل النخبة السياسية كتابعين مباشرة للنظام السياسي والطبقة المسيطرة بالطبع، إلا أنَّ الجمهور العريض من هؤلاء لا يتمتع بوضع مناسب إزاء النظام السياسي. ولا شك أنَّ الأخير قد أصبح أكثر مرونة مع سقوط نظام محمد علي، إلا أنه لم يصبح مرنا للدرجة التي تستوعب تطلعات الإنتليجينسيا، بل ويشهد فترات طويلة من التصلب والشراسة.. لذلك ظلت الإنتليجينسيا تنتج حركات المعارضة.
ويمكننا إيجاز المصالح المشتركة لأفراد الإنتليجينسيا المصرية فيما يلي:
1- خلق مناخ اجتماعي- اقتصادي يلائم مهاراتهم العلمية والعملية العالية.
2- تعديل النظام السياسي بحيث يمنحهم فرصة كافية للمشاركة في إدارة النظام الاجتماعي بحيث يصبح بالصورة الملائمة لاستخدام طاقاتهم مع تقديم قدر ملموس من الامتيازات المادية لهم.
وهذا لا يعني أنَّ الإنتليجينسيا تشكل طبقة اجتماعية، فهيَ لا تشارك في نمط إنتاج معين، بل إنَّ مصالح أفرادها ليست واحدة تمامًا إلا في الإطار العام للغاية المذكور أعلاه. وقد وجدنا المثقفين المصريين يختلفون بشدة حول طبيعة التغيير المطلوب في النظام القائم. وقد أشرنا من قبل- ونؤكد هنا- أنَّ المثقفين يندمجون في النظام المذكور بدرجات متباينة، فمصالحهم؛ الاقتصادية والثقافية، وإن كانت تتفق في النقطتين المذكورتين، تتباين بشدة داخل هذا الإطار، وإلى الحد الذي أدى إلى تبنيهم لأيديولوجيات وشعارات سياسية متعددة بل ومتناقضة؛ نظريًّا على الأقل.
  والإنتليجينسيا لا تملك مشروعًا سياسيًا يخصها على وجه التحديد لإعادة بناء المجتمع، وهيَ لا تتطلع - بما هيَ كذلك - إلى مصادرة النظام لحسابها. فالجماعات المختلفة من المثقفين لم تتحدث على الصعيد الأيديولوجي أو السياسي باسم المثقفين، بل باسم الشعب، أو الكادحين، أو العمال، أو المسلمين، أو مصر.. إلخ. أيْ أنها احتاجت دائمًا إلى قوة من خارجها تصلح لتمثيل الإطار الكلي الذي يلائمها. فهيَ لا تحمل- موضوعيًّا- نظامًا اجتماعيًّا كاملًا، مثلما تحمل البورجوازية – مثلا – النظام الرأسمالي، ولكنها تتطلع إلى هيكل عام يخص قوة اجتماعية أساسية أو على الأقل تفترض هيَ أو تتخيل هذه العلاقة، ولكن لها فيه موضع قدم مناسب. ولأن عملها الذهني منفصل إلى حد كبير ومتميز وغير متلائم كإمكانية مع البناء الاجتماعي المتخلف، ترى في نفسها العقل الأوحد في المجتمع.. أيْ أنها تراه جسدًا يجب إصلاحه؛ فعلاقتها به – من وجهة نظرها- هيَ علاقة ذات بموضوع. ومن ثم تجد في نفسها صاحبة رسالة؛ فليس المهم هو الإمكانيات الكامنة في الجسد الاجتماعي ككل – شاملًا الإنتليجينسيا نفسها - بل ترى أنَّ المهم هو موقفها هيَ.. رأيها الخاص.. ومن هنا تأتي مشاريعها: الليبرالية – الاشتراكية - الدولة الإسلامية.. إلخ، معبرة عن رغبتها وطموحاتها الخاصة، لا عن مصالح موضوعية حقيقية لقوى اجتماعية قادرة على التغيير الجذري. لذلك تتعامل مع الأيديولوجيا والمشاريع السياسية باعتبارها اختيارًا محضًا؛ الرأيَ الأصوب عمومًا، أو المبدأ الصحيح، محاولةً تكييف الواقع معه دون محاولة حقيقية لتكييفه مع الإمكانيات الموضوعية، باحثة في الوقت نفسه عن قوة اجتماعية تصلح – من وجهة نظرها - لتبني ذلك المذهب، بل وقد تعلن أنَّ هذا المذهب يخص الله نفسه.
ولنلاحظ أنَّ الطبقة التي كانت طوال تاريخ مصر الحديث أقوى وأقدر- نظريًّا على الأقل - على تبني مشروع اجتماعي شامل، هيَ الطبقة المسيطرة نفسها، أو أحزابها على الأقل؛ الوفد مثلًا قبل 1952. مما يفسر لنا جزئيًّا على الأقل تفكك وهزال حركات المعارضة، الجذرية بالذات.
ورغم وجود مصالح عامة للإنتليجينسيا الحديثة في مصر، إلا أنها قد تشرزمت سياسيا وأيديولوجيًا طوال تاريخها. ويمكن تحديد عدة عوامل لعبت أدوارًا متباينة في هذا التشرزم:
1- اختلاف الأصول الاجتماعية للمثقفين؛ فهناك أبناء مثقفين، وأبناء فلاحين، ومدينيين من طبقات مختلفة.
2- انقسام المثقفين أنفسهم إلى شرائح اجتماعية عديدة.
3- وجود اختلافات في درجات الاندماج في كل من النظام السياسي والنظام الاجتماعي.
4- اختلاف المهن: تكنوقراط – ضباط - باحثون- علماء- كتبة.. إلخ. وبالتالي اختلاف مناهج التفكير، في حدود تأثير المهنة في منهج التفكير.
5- تباين المصالح الجزئية تجاه حالة التبعية.
لهذه الأسباب، وربما لأسباب إضافية، تباينت الطرق التي تبنتها جماعات الإنتليجينسيا المصرية لتحقيق تطلعاتها العامة المذكورة.

**********************
       




([1]) نقصد بالإنتلجينسيا الأفراد الذين يتخصصون في العمل الذهني؛ أيْ المتعلمين: الأطباء – المهندسين – المحامين – المديرين – المحاسبين – الصحفيين – العلماء – الباحثين – الكتاب – الفنانين – الأدباء – رجال السياسة – رجال الإعلام – الضباط – رجال الدين .. إلخ.
([2]) ألقينا الضوء على هذه الظاهرة في : الراية العربية، كتاب غير دوري، الكتاب الأول والكتاب الثاني، نوفمبر 1986، سبتمبر 1988.
([3]) بالاطلاع على ما يسمى بعصر التنوير العربي (القرن التاسع عشر) نجد ثلاثة تيارات رئيسية: التيار الديني المحافظ، المتمسك بالثقافة التقليدية والمعادي لأية نزعة تغريبية أو تبدو كذلك. والتيارالعلماني المتأورب، مثله أساسًا المفكرون المسيحيون الشوام والذين انتقل بعضهم إلى مصر. أما الاتجاه الثالث وهو الغالب، فيشمل المجددين الإسلاميين، الذين حاولوا تطويع الإسلام التقليدي للمتغيرات الحديثة ومزجه بالعقلانية الأوروبية. وفي رأينا لم تعبر التيارات الثلاثة عن حركة تنوير حقيقية، فالأول معاد للتنوير مباشرة كما هو واضح، والثاني؛ التنويري (بالمعنى الأوروبي) لم يتعرض إطلاقًا للأيديولوجيا السائدة ولم يمسها تقريبًا واكتفى بنقل بعض الأفكارالعلمانية والعقلانية من أوروبا كما هي، ولم يجد استجابة ملموسة من جمهور الإنتليجينسيا. أما الاتجاه الثالث، الرئيسي؛ النهضوي - بالمعنى الأوروبي- فقد جذب أغلبية الإنتليجينسيا وكان مهتما بتطويع الفكر الإسلامي مع عملية التحديث مع الاحتفاظ بنفس الأسس المعرفية. ومن الملاحظ أنَّ العلمانيين والمجددين قد ركزوا جل اهتمامهم لا على الفكر النظري بل على الفكر الاجتماعي- السياسي، فاهتموا بقضية المرأة والحريات الشخصية، وفوق ذلك اهتموا أكثر ما اهتموا بإقامة نظام برلماني وحكم دستوري ونظام قضاء حديث، دون تجاوز الشريعة الإسلامية. مقابل هذا لم نلاحظ اتجاهًا واضحًا لنقد الإبستمولوجيا القديمة.
  وقد عبر الاتجاه الثالث عن أقصى طموحات الطبقة المسيطرة. ورغم الخلافات والصدامات المحدودة التي جرت بين الدولة وبين بعض عناصر المجددين ظل هو الاتجاه الرسمي للدولة، دون أيِّ نبذ أو تصفية للاتجاه الأول بالطبع، المتركز في الأزهر والذي لجأ هو الآخر إلى تجديد جزئي.
([4]) من الملاحظ أنه في فترة متأخرة من نمو التخلف في مصر أضيف للفئات المهمشة بعض عناصر الإنتليجينسيا نفسها، خصوصًا في أربعينيات ثم في سبعينيات هذا القرن، فصار هناك متعلمون عاطلون تمامًا، كذلك تحول بعض المتعلمين إلى الأعمال الرثة (حثالة بروليتاريا) ولكننا نفصل هنا بين الإنتليجينسيا والفئات المهمشة على أساس أنَّ عنصر الاندماج بينهما محدود للغاية، وتظل حثالة البروليتاريا تشمل نسبة صغيرة للغاية من المتعلمين وترادف – تقريبًا – بالتالي مفهوم الفئات المهمشة.
([5]) يستخدم أغلب الكتاب المصريين تعبير "البورجوازية الصغيرة" للدلالة على الفئات الوسطى عمومًا، شاملين حتى صغار الضباط، والمثقفين، وأصحاب الدكاكين الصغيرة، وتجار الشنطة.. إلخ. ونحن نرى أنَّ هناك فرقًا جوهريًّا بين صغار المنتجين السلعيين، أيْ البورجوازية الصغيرة بحق وبين الفئات الوسطى (الإنتليجينسيا وصغار التجار. إلخ ..). فالبورجوازية الصغيرة لها نمط إنتاج بورجوازي صغير، وهذه هي سمتها الجوهرية، وهو نمط الإنتاج العائلي في حالته المفككة. أما الفئات الوسطى فليس لها نمط إنتاج أصلًا، لذلك لا تدخل ضمن طبقات المجتمع. وهذا التميييز ضروري للمحافظة على دقة التحليل. 

الجمعة، 5 سبتمبر 2008

الخصخصة واليسار وثقافة التكية

عادل العمرى


لا شك أن توسع القطاع العام فى مصر فى العصر الناصرى والتوسع فى سياسة دعم السلع الضرورية بأشكال مختلفة (منها بطاقة التموين وإنشاء الجمعيات الحكومية التى تبيع سلعا رخيصة وإنشاء شقق سكنية مدعومة....) وتقديم عدد كبير من الخدمات شبه المجانية وتوظيف الخريجين وغير الخريجين بدون حاجة لخدماتهم..قد ساعد الطبقات الأدنى وقلل من الفوارق الاجتماعية ومن حدة الصراع الطبقى.وكان من الممكن أن تكون هذه الإجراءات مفيدة للنمو الاقتصادى الاجتماعى إذا تمت معالجة أسباب فرضها بتحقيق معدلات نمو مرتفعة وتحقيق قدر من التطور الاقتصادى ووقف النمو السكانى وتطوير نظم التعليم..إلخ بحيث تكون إجراءات مؤقتة فقط لحين معالجة أسبابها. ولكن سار النظام الناصرى ومن تلاه مسارا آخر:
1- فقد استخدم دعم الطبقات الأدنى لكسب تأييد النظام وتأميم الصراع الاجتماعى.
2- لم يتم اتخاذ مايلزم من الإجراءات لتجاوز الأسباب التى دفعت لاستخدام سياسة الدعم بأشكالها سابقة الذكر ولذلك استمر الدعم ضرورة لامتصاص ثورة الفقراء المحتملة دائما وصارت فكرة رفع الدعم مخيفة للنظام.
3- بالعكس عرقلت سياسة الدعم التطور الاجتماعى –الاقتصادى:ويمكن ضرب عشرات الأمثلة سنوجزها:
- لم ينخفض معدل نمو السكان بشكل حاسم،فتربية الأطفال ليست مكلفة كثيرا ورب الأسرة يضمن أن يحصل لهم على الكثير من السلع والخدمات شبه المجانية.
- تتمتع الصناعات الرديئة بحماية جمركية عالية وتحصل على طاقة رخيصة مدعمة وعمالة رخيصة (وهذا أحد أشكال الدعم المقدم للصناعة حيث أن الحد الأدنى للأجور بالغ الانخفاض) ولذلك لم يهتم أصحابها بتطويرها بحيث تنافس الصناعات الأجنبية.
- يصل قدر ملموس من الدعم إلى رجال الأعمال والأغنياء عموما مما يعد إهدارا لقدر من الدخل الحكومى وهذا يساهم كثيرا فى عجز الموازنة.
- الاستخدام غير الرشيد للثروة الاجتماعية،منها سوء استخدام الملكية العامة الضخمة للغاية لعدم وجود آليات للحفاظ عليها لأنها ليست معتبرة فى الواقع ملكا لأحد،واستخدام بعض السلع المدعمة استخداما مفرطا وغير رشيد.إن تقديم كهرباء ومياه رخيصة مثلا يشجع الناس على إهدارهما فى غسيل السيارات مثلا أو عدم الاهتمام بتخفيض استخدام أجهزة غير ضرورية أو عدم الاهتمام بمعالجة أسباب تسرب المياه... تقديم الخبز المدعم طعاما للدواجن وارتفاع معدل استهلاك السكر ،نمو عدد السيارات بشكل كبير بل وامتلاك الأسرة الواحدة لعدد من السيارات أحيانا..وتمتع الأغنياء أصحاب السيارات الفارهة بالوقود المدعم بدون مبرر.
- أدى تخفيض ايجارات المساكن واستمرار الإيجار القديم حتى الآن (وهو دعم مقدم لمستأجرى هذه العقارات)إلى امتناع الملاك عن القيام بصيانة العقارات مما أدى إلى تآكل كبير للثروة العقارية وطبعا لا يقوم المستأجرون بأعمال الصيانة المكلفة لأنهم اعتادوا على دفع إيجار رمزى فقط للوحدات السكنية وليسوا مستعدين للقيام بدور المالك وإلا فما فائدة تخفيض الإيجارات؟.كما شجع هذا التخفيض كثيرا من المستأجرين على تأجير أو شراء وحدات سكنية عديدة مع الاحتفاظ بالعقارات ذات الإيجار الرخيص بينما توجد أسر لا تجد مسكنا ملائما.
- أدى توظيف عدد كبير من الخريجين وغيرهم إلى وجود "بطالة مقنعة"ضخمة مما يعرقل من إمكانية رفع الأجور وبالتالى تنتشر الرشوة وتتدهور الخدمات الحكومية ويعم الفساد مختلف المؤسسات..بل ويعرقل الموظفون نشاط أصحاب الأعمال الحرة ويبتزونهم مما يعيق النمو الاقتصادى(أى صاحب مال يفكر ألف مرة قبل أن ينشيء مشروعا خوفا من الضرائب العشوائية وصعوبة الحصول على ترخيص بدون رشوة...إلخ).
- ضمن أشكال الدعم:الوظيفة المضمونة ومنع الفصل التعسفى،وقد ساهم هذا الأمر مساهمة فعالة فى تدهور إنتاجية العمال والموظفين وإهمالهم لوسائل العمل التى تحت أيديهم وإهمالهم مصالح العملاء وأصحاب الأعمال بمن فيهم الدولة.
************************
فى الواقع إن كانت سياسة الدعم مفيدة للفقراء فهذه الفائدة تكون على المدى القريب فقط ولكن إذا نظرنا الآن للاقتصاد المصرى نجد أنه يعانى من مشاكل عميقة لأسباب من ضمنها استمرار سياسة الدعم طويل الأمد،مما أثر أيضا على الطبقات الأدنى حيث توجد البطالة وانخفاض الدخل عموما وارتفاع الأسعار وأزمة السكن..إلخ.ولا يمكن لإنسان أن يطالب بحرمان الأشخاص المعدمين أوغير القادرين على الكسب لأسباب خارجة عن إرادتهم من المساعدة،ولكن الكلام هنا يتعلق بأولئك الذين صاروا يعتمدون على ما يشبه التكية الحكومية ويطالبون بالمزيد.وإذا تابعنا البرامج الفضائية والتحقيقات الصحفية سنجد – مثلا - من يصرخون لعدم قدرتهم على تربية أبنائهم (الأربعة أو الستة أو أكثر) ولكن لا يطرح عليهم أحد سؤالا يتعلق بمدى مسئوليتهم عن إنجاب هذا العدد بينما دخلهم محدود.
إن استمرار التكية الحكومية إلى أجل غير مسمى يشجع ثقافة التواكل واستنزاف الثروة العامة والاستهلاك المبالغ فيه.
ورغم ذلك مازلنا نجد مختلف جماعات اليسار تصرخ ضد أى عملية رفع لأحد أشكال الدعم شاملة تصفية أحد مراكز التكية الحكومية غير المنتجة فعليا للقيمة المضافة ،بدعوى أن هذا ضد مصالح الجماهير الكادحة ولصالح الليبرالية المتوحشة..إلخ. هكذا يشجع اليسار ثقافة التواكل والكسل والاستهلاك غير المفيد دون إنتاج مقابل.
فى الواقع لن يسلك المواطن المصرى سلوكا منتجا حقا إلا إذا دفع التكلفة الحقيقية لكل خدمة يحصل عليها.


ونحن لا نقصد أن سياسة الدعم أو السياسات "الاشتراكية" هى المسؤول الوحيد عن مشاكل مصر الاقتصادية –الاجتماعية،ولكن تعد أحد الأسباب أو المعوقات المهمة لتجاوز التخلف.وإن تحرير السلع والخدمات تدريجيا وإطلاق آليات السوق والتخلص من العمالة الزائدة يُعد ضرورة لترشيد الفرد المصرى سواء كان من الفقراء أم من رجال الأعمال المدللين.فيجب أن تباع السلعة والخدمة بتكلفتها الحقيقية،ويجب أن يحصل الأجراء على أجور حقيقية وليس مصروف جيب،على أن يقوموا بعمل حقيقى أيضا . ويجب أن يكون الحد الأدنى للأجور مناسبا لتكاليف المعيشة،ويجب أن يدفع كل مواطن تكاليف استهلاكه وإسرافه.هكذا فقط يتعلم المرء كيف يستخدم إمكانياته بأفضل الطرق إنتاجية،وبدلا من مطالبة الدولة دائما بتقديم العون يصبح مطالبا بتحمل المسئولية عن مشروعاته سواء الشخصية أو الاستثمارية.
لقد استمر المصريون يستهلكون أكثر مما ينتجون منذ اتباع السياسات المسماة بالاشتراكية،وهذا وضع لا يمكن أن يساعد على التطور،بل أدى إلى ثقافة الكسل والتواكل والتعود على الأخذ دون عطاء[1].


[1] فى دراسة بعناون:انحطاط الرأسمالية .. مصر نموذجا ،منشورة على:http://fasail.blogspot.com
،ذكر سامح سعيد عبود فى النهاية أن "من يوفرون احتياجاتهم المادية من الاستثمار أو العمل فى استثمارات رأسمالية متطورة فى الصناعة والزراعة والخدمات فقد لا يتجاوزون المليونين من بين ثمانين مليون، وهؤلاء هم الناجون من التخلف والتهميش الذى يقع فيه معظم السكان".


الأحد، 17 أغسطس 2008

آفاق الثورة العلمية الجديدة

عادل العمرى

30 أبريل 2008

مقدمة:

مقدمة:
يمر العالم بثورة علمية متعددة الأوجه بدأت منذ عقود. وفي العادة تطلق كلمة ثورة على التغيرات العميقة في حياة البشرية، ولكننا في هذا المقال سنتناول ما نعتقد أنه سيؤدي إلي تغيرات مصيرية للنوع البشري من حيث هو نوع. فالثورة البيولوجية ستقود إلي تغير الصفات البشرية نفسها وتجاوز سرعة الضوء سيمكن الإنسان من غزو واسع النطاق للكون بأسره وكسر حاجز الزمن من الحاضر إلى الماضي، وبالتالي لن يصبح مجرد كائن أرضي محدود القدرات، أما اكتشاف واستخدام مصادر لا تنفذ للطاقة النظيفة فسيؤدي إلي نقلة نوعية في علاقة الإنسان بالطبيعة، حيث سيتحرر إلي الأبد من العوز في مصادر الطاقة التي يعتمد عليها في حياته عموما.

1- مصادر الطاقة الجديدة

- حتي الآن يعد البترول هو المصدر الرئيسي للطاقة، وحين تم استخدام الطاقة الانشطارية اعتبر هذا فتحا جديدا ولكنها ملوثة للبيئة كما أنَّ مصادر البترول محدودة وستنضب بعد عقود. ويتجه العالم الآن لاستخدام مصادر أخري لا متناهية للطاقة النظيفة وغير المكلفة مما يعد ثورة كبري تفوق الثورة التي ترتبت علي اكتشاف البترول. وضمن مصادر الطاقة الجديدة الرياح والأمواج والهيدروجين والاندماج النووي... وسوف ألقي الضوء هنا علي المصادر الأكثر إنتاجية للطاقة.   

1 - الطاقة الهيدروجينية:

توجد في الغرب جمعية اسمها جمعية الطاقة الهيدروجينية مهمتها الترويج لاستعمالات الهيدروجين والأبحاث الخاصة به بهدف تأمين وقود متجدد لا ينضب، وخدمة البيئة بالتغلب على ظاهرة الانحباس الحراري، وتأمين فرص عمل جديدة. ومن أعضائها خمس من كبرى الشركات العالمية لصناعة السيارات هي "جي إم" و"تويوتا" و"هوندا" و"ديلمر كرايسلر" و"بي إم دبليو"، وعدد من شركات النفط العالمية مثل" شل" و"باور جين" و"بي بي""واكسيل انيرجي" و"شيفرون" و"كونكو فيليبس". كما تتعاون معها 12 جامعة على صعيد الأبحاث.


يمكن استخدام الهيدروجين العادي كمصدر للطاقة بإحراقه، وهو يتحد مع الأوكسجين منتجا الماء والطاقة. والهيدروجين عنصر واسع الانتشار في الكون بأسره، وهو لن ينفذ مع مر العصور، فهو يشكل 90% تقريبا من وزن الكون، كما أنه العنصر الوحيد الذي لا ينتج عند احتراقه أيَّ انبعاثات ضارة للبيئة، بل إنَّ الانبعاثات الصادرة عنه هي كل ما نسعى إليه مثل الطاقة أو الماء النقي. وهو مصدر طاقة أكثر كفاءة من المصادر التقليدية؛ فكمية الطاقة التي ينتجها الهيدروجين في وحدة الوزن الواحدة، تعادل ثلاثة أضعاف الكمية المنتجة من وحدة وزن مماثلة لأيِّ مصدر طاقة آخر، وتزيد هذه الكمية لتصل إلى سبعة أضعاف كمية الطاقة المستخرجة من الفحم، ولكن ليس من المعروف بالضبط حتي الآن مدي تأثيره علي حرارة الأرض إذا استخدم علي نطاق واسع كمصدر للطاقة..
يمكن الحصول على الهيدروجين من مصادر عديدة، ولكنه لا يتوفر في صورته النقية إلا نادرا، ويوجد دائما تقريبا متحدا مع عناصر أخري، ولذلك لابد من استخلاصه من مركبات أخري. وهو يستخدم في محركات الاحتراق الداخلي، كسيارة H7 من BMW على سبيل المثال. كما يستخدم أيضا في خلايا الوقود. إلا أنَّ مشكلته هي في كيفية إنتاجه، وتتطلع الجمعية سابقة الذكر إلي إنتاجه عبر الطاقة النظيفة، و الطاقة النووية الخالية من الكاربون، وعن طريق الطاقة الشمسية النظيفة أيضا و"البايوماس"Biomass، وهو الأسلوب المباشر لإنتاج الهيدروجين من المحاصيل الزراعية، وبقايا النجارة والخشب وبقايا الغابات ( الكاربون الناتج منها سلبي ولا يؤثر على البيئة مثل كاربون العوادم حسب كلام رئيس الجمعية المذكورة)، وكذلك من القمامة والنفايات ومياه الصرف. ومن طاقة الرياح وهي حتي الآن تعتبر الأرخص في إنتاج الهيدروجين. وقد عمل الباحثون على تطوير الإيثانول المستخرج من الذرة والذي يستخدم الآن في الوقود العضوي في بعض الدول. وحتى الآن تعتمد شرائح طاقة الهيدروجين اعتماداً رئيسياً على الميثانول، حيث يتم استخلاص الهيدروجين منه لتزويد خلايا الطاقة به ومن ثم توليد الكهرباء. وحتي اليوم يتم استخلاص الجزء الغالب من الميثانول من الغاز الطبيعي والفحم الحجري، إلا أنَّ الأبحاث الحديثة تبشر بتحقيق طفرات تكنولوجية لجعل المصادر المتجددة للميثانول أمراً ممكناً عمليا من الناحية ً الاقتصادية. و قد أمكن بالفعل استخلاص وإنتاج الميثانول المتجدد من غاز الميثان الموجود في باطن الأرض، و في بعض المنتجات الزراعية مثل البنجر وعيدان الأرز وغيرهما.  

وقد تطورت بشدة الأبحاث الخاصة باستخدام الطاقة الهيدروجينية بحيث
سيصبح من الممكن قريبا استخدامها في تشغيل السيارات وذلك بعد أنْ زال العائق الرئيسي أمام استخدامها وهو التكلفة العالية.. وقد بدأت بالفعل شركات سيارات وخصوصا شركة  BMW في إنتاج جيل من السيارات الهيدروجينية. كما أنَّ شركات كبرى (منها هيتاشي - توشيبا - سامسونج - سانيو - شارب - ميتسوبيشي - فوجيتسو – باناسونيك) قد بدأت تهتم بشدة بغزو الأسواق بمنتجاتها المزودة بشريحة صغيرة من خلايا طاقة الهيدروجين بدلاً من البطاريات التقليدية. وفي وسع هذه الخلايا أنْ تزود معدات كثيرة بالطاقة اللازمة لتشغيلها منها الكاميرات وال "دي في دي" وأجهزة الكمبيوتر المحمول التلفون المحمول وغيرها.  
ومن أهم ميزايا شرائح خلايا طاقة الهيدروجين المطروحة في الأسواق أنها غير ملوثة للبيئة وأنها خالية من أيِّ، انبعاثات عدا الماء الصافي والحرارة كمخرجات وحيدة لها، بالإضافة إلي أنها خفيفة سهلة النقل والحمل.  

ومن التطبيقات المهمة لاستخدام الطاقة الهيدروجينية أنَّ رواد الفضاء قد استخدموها في سفن الفضاء على امتداد 30 عاما. كما أنهم يستخدمون ماء الشرب الصافي الذي تفرزه خلايا الهيدروجين، كمصدر أساسي للماء أثناء رحلاتهم الفضائية.

الاستخدامات الممكنة للهيدروجين:
يمكن استخدام طاقة الهيدروجين بالضبط مثل أيّ مصدر آخر للطاقة مثل البترول، فيمكن تشغيل وسائل النقل، مثل الطائرات والسيارات والقطارات والسفن، وتزويد المصانع بالكهرباء، وفي التدفئة وغيرها، ويستطيع الهيدروجين، في حالته الغازية، نقل الطاقة لمسافات بعيدة وعبر أنابيب النقل وبكفاءة عالية وبتكلفة معقولة، ويستطيع أنْ يوفر بجانب الكهرباء الماء النقي الصالح للشرب.
وضمن الاستخدامات الهامة للهيدروجين كمصدر للطاقة استخدامه كوقود في المفاعلات النووية.

وتتوقع بعض الأوساط المتخصصة في أبحاث الطاقة أنْ يصبح الهيدروجين مصدرا أساسيا وهاما للطاقة بعد عدة عقود.





المخطط الزمني لظهور كل نوع من الوقود و الفترة التي بلغ فيها معدل الاستهلاك الأعظم في أسواق الوقود


2-           الطاقة النووية الاندماجية:
المفاعلات النووية العاملة بالفعل حتي الآن بشكل تجاري هي مفاعلات انشطارية تعتمد علي الانشطار النووي لمادة اليورانيوم المخصب أو الطبيعي، وكل هذه تقدم نحو 20% من الطاقة اللازمة للعالم. وتتمثل المشكلة الأساسية لهذه المفاعلات في خطورة النفايات المتولدة منها، رغم أنَّ حجمها صغير للغاية إذا ما قورنت بحجم النفايات المتولدة عن الفحم أو البترول. وخطورة هذه النفايات وصعوبة التخلص منها هما العائقان أمم التوسع في استخدامها كبديل للبترول والفحم بشكل كامل.
لذلك تسعي الدول لإغلاق المفاعلات النووية الانشطارية وإنشاء مفاعلات أكثر نظافة هي المفاعلات الاندماجية التي تعتمد في توليد الطاقة علي الاندماج النووي لذرات الهيدروجين بدلا من انشطار ذرات اليورانيوم. وتكون النفايات الناتجة عن الاندماج النووي غير مشعة تقريبا كما أنَّ كمية الطاقة أكبر بكثيرلنفس الوزن من الهيدروجين. وعلي سبيل المثال كمية الهيدروجين الثقيل التي تملأ حمامًا قد تكفي لأوروبا لمدة 30 عامًا. وقد ذكر العالم الفيزيائي ماتيوس بريكس للمقارنة أنَّ الوقود المستخدم في مفاعل "جيت" الاندماجي في بريطانيا أقل من جرام بينما كان الوقود المستخدم ب مفاعل " تشيرنوبل" حوالي 250 طنًّا.

ينتج عن الاندماج النووي لذرتي هيدروجين عنصر الهيليوم ونيترون واحد وكمية هائلة من الطاقة.

أنواع ذرات الهيدروجين هي ثلاثة:

- الهيدروجين الأحادي تتكون ذرته من إلكترون واحد وبروتون واحد.

-
 الهيدروجين الثنائي (الديوتيريوم 2 ): تحتوي ذرته على إلكترون واحد وبروتون واحد ونيوترون واحد.

 -
الهيدروجين الثلاثي ( التريتيوم 3 ) والذي تحتوي ذرته على إلكترون واحد وبروتون واحد واثنين من النيوترونات.


و الوقود الهيدروجيني المستخدم في عملية الاندماج عبارة عن جزء من الهيدروجين الثقيل، ويمكن استخلاصه بسهولة من الماء، والهيدروجين الفائق الثقل أو التريتيوم3 الذي يمكن تصنيعه من عنصر الليثيوم وهو معدن متوافر بقدر معقول، وهذه المصادر متوفرة للغاية، فكمية الديوتيريوم 2 التي يمكن استخلاصها من محيطات العالم تكفي البشرية لمليار سنة.

يوجد نحو 28 مفاعل اندماج نووي في دول العالم المتقدم، وهي مفاعلات تجريبية أكبرها يوجد في مدينة كالهام ببريطانيا وقد بدأ بناؤه عام 1983م ويُدعى اختصارا جيت (jet – Joint Europian Torus)، و تم تشغيله عام 1991.  تبلغ درجة الحرارة في قلبه نحو 10 أضعاف تلك التي في قلب الشمس، ويعتبر المفاعل هو الأول من نوعه الذي يستخدم طاقة الاندماج النووي في العالم. وقد وقعت الدول المتقدمة في أوربا والصين والهند واليابان في 2006 اتفاقا لإنشاء مفاعي نووي اندماجي كبير في مدينة بجنوب كاداراشيه جنوب فرنسا يسمي بمشروع إيترIter، باستثمارات قدرها 10 مليارات يورو.. وكلمة إيتر هي اختصار لكلمة طويلة هي مفاعل تجريبي حراري نووي دولي - (International Thermonuclear Experimental Reactor) بناء على الخبرة المكتسبة من مفاعل جيت، و سوف يكون 10 أضعاف حجم الأخير.
يعقد أمل كبير للبشرية علي المفاعلات الاندماجية لتوليد طاقة نظيفة غير محدودة ولمدد طويلة للغاية. ومع ذلك يتحفظ بعض العلماء علي الفكرة بسبب المشاكل التي قد تترتب علي إنشائها وأهمها انطلاق كمية هائلة من النيوترونات إذا حدث تآكل في جدران المفاعل. فمفاعل من النوع "أيتر" سوف يُنتج نيوترونات أقوى بعشر مرات من تلك التي تنتجها المفاعلات الانشطارية، وهي بالتالي سوف تضعف جدران المفاعل وتفتك بها بسرعة بما يُوجب استبدالها بشكل منتظم. وفي الواقع إنَّ تأثير النيوترونات على الجدار سوف يُحول هذا الأخير بدوره الى مادة مشعة. كما أنَّ عملية استبدال جدران المفاعل التي تتم كل خمس سنوات ستؤدي إلى انطلاق كمية كبيرة من الإشعاعات من الحوائط التالفة تبلغ قوتها حجم تلك الموجودة في جوف المفاعلات الانشطارية الحالية. غير أنَّ البحث عن وسائل حماية من الإشعاعات يسير على قدم وساق. ومن نافلة القول أنه في حالة نجاح التشغيل العملي للمفاعل النووي الاندماجي ستتوفر كميات رهيبة من الطاقة لا تقارن بإنتاج المفاعلات الانشطارية بل وكل مصادر الطاقة الأخري بحيث ستحدث ثورة شديدة الأهمية في الاقتصاد العالمي.



3 – طاقة المادة المضادة:

ITER



3 – طاقة المادة المضادة:
 المادة المضادة هي مادة أيضا ولكنها تتكون من جسيمات مضادة فتكون مثلا نواة الذرة المضادة سالبة الشحنة بينما تكون إلكتروناتها موجبة الشحنة، وتسمى أيضا قرين المادة. و لا توجد المادة المضادة علي الأرض طبيعيا إلا لفترات محدودة للغاية و في ظروف محدودة نتيجة الاشعاع النووي و الأشعة الكونية و ذلك لأن جسيمات المادة المضادة حين تتلاقي مع جسيمات المادة العادية فإنهما تتلاشيان معا وتتخلف أشعة جاما و أزواج من الجسيمات و الجسيمات المضادة. وهذه المادة المضادة موجودة في الفضاء والأشعة الكونية ويتصور بعض العلماء أنَّ هناك أكوانا بأكملها تتكون منها وتقع علي بعد مسافات شاسعة من الكون الذي نعيش فيه.
والحقيقة القائلة بأن التقاء المادة مع المادة المضادة يؤدي إلي تحولهما إلي طاقة وإشعاعات ربما يشكل أساسا علميا لاستخدام هذه الظاهرة لتوليد كمية هائلة من الطاقة.
وثمة مشروع للعالم الروسي ستانيو كوفتش حول إنتاج سفينة فضاء تتحرك بوقود مصنوع مما تسمي بـالمادة المضادة. وتسمي فكرة هذا العالم بـ (المصباح الطائر) الذي يعمل وفق مبدأ بث الضوء بدلا من قاعدة الغازات الساخنة، وإذا تحقق هذا المشروع فسوف تكون سرعة السفينة عالية بدرجة غير متصورة.  
وحسب كلام العالم الفرنسي جاك بيرجيه فإن طاقم هذا المصباح الطائر لن يشعر أنه في مركبة فضائية. فقوة الجاذبية فيها ستكون مثلما هي علي الأرض، وسيكون إحساس رجالها بالزمن طبيعيا. ونظرا للسرعة العالية للغاية سيتمكن رواد الفضاء من الوصول خلال سنوات قليلة الي أبعد النجوم، فبعد 22 سنة (وفق زمنهم) قد يجدون أنفسهم في قلب درب المجرة الذي يبعد عن الأرض 75 ألف سنة ضوئية.. وبعدها ب 28 سنة قد يقطعون مسافة مليونين وربع المليون سنة ضوئية.. ويؤكد بيرجيه أنَّ هذه حسابات لا علاقة لها البتة بالخيال العلمي، فالعالم الروسي راجع معادلته الرياضية وتأكد من صحتها. وحسب المعادلة سيقضي طاقم المصباح الطائر 65 سنة من (الزمن الكوني) وهو زمن يعادل يعادل 415 مليون سنة أرضية.


        ************************************************************
إنَّ حلم إنتاج طاقة نظيفة ورخيصة ومن مصادر لا تنفذ علي وشك التحقق بل هو يتحقق الآن بالفعل ولن تمر سوى عدة عقود حتي يستبدل البترول والفحم نهائيا بالطاقة الهيدروجينية والاندماجية، ولكن يبدو أنَّ استخدام المادة المضادة بشكل عملي سيحتاج إلي مدة أطول بكثير.
وسوف يتغير العالم كليا مع تحقق هذه الثورة، فستصبح البيئة أنظف بكثير، حيث سينعدم انبعاث ثاني أوكسيد الكربون والغازات الأخرى الملوثة للبيئة، كما سيرتفع معدل النمو الاقتصادي بشدة نتيجة رخص الطاقة وسهولة إنتاجها ووفرتها، وللقارئ أنْ يتصور مصير البلاد التي تتعيش علي نهب العالم باحتكارها للبترول والتحولات السياسية التي ستترتب علي ذلك...


2- الثورة البيولوجية:

قطع العلماء شوطا بعيدا في بحوث الجينات فتم إنجاز مشروع خريطة الجينات البشرية واستنساخ بعض الكائنات والتوسع في الهندسة الوراثية لتعديل الصفات الوراثية لبعض النباتات والحيوانات والعلاج الجيني للأمراض الوراثية وغير الوراثية... ومن الواضح أنَّ العالم مقبل علي مزيد من التحولات الثورية في هذا المجال تتمثل في الآتي:

1- العلاج الجيني:حيث تجرى البحوث باهتمام كبير لعلاج أمراض عديدة بالجينات، منها أمراض الشرايين التاجية وارتفاع نسبة الكولسترول والسكر وغيرها الكثير. وقد بدأت أبحاث العلاج بالجينات منذ الخمسينات في القرن الماضي وتطورت حتي بدأت محاولات جادة للاستنساخ البشري. وتسير أبحاث العلاج الجيني في اتجاهين أساسيين:

أولا: معالجة أمراض في إنسان ولد فعلا أو حتي شخص بالغ بطرق متعددة، وهذا النوع من التدخل يعالج الشخص المعنى فقط ولا يتم تفادي نقل المرض لأبنائه. ويمكن بهذا معالجة أمراض وراثية أو غير وراثية، بزرع جينات مرغوبة للقيام بعمل محدد.

وتتخذ أساليب العلاج من هذا النوع عدة أشكال:
·   العلاج المباشر بالجينات: علي سبيل المثال يمكن زرع جينات معينة بالقلب لتحفيز تشكيل عقدة كهربائية جديدة بدلا من التالفة رغم أنَّ تلفها يتم في الغالب لأسباب مكتسبة وبذلك نتفادى تركيب منظم كهربائي للقلب، كما يمكن زرع جينات أخري لتحفيز نمو شرايين في أماكن معينة بالجسم، منها شرايين القلب التي تصاب بأمراض لأسباب بعضها وراثي وبعضها غير وراثي، وهذا يجنبنا القيام بعمليات جراحية لتركيب وصلات شريانية لا تعيش طويلا في حالات كثيرة. وضمن الأمراض التي أجريت عليها أبحاث ناجحة جزئيا علي الأقل حتى الآن مرض ارتفاع نسبة الكولسترول وارتفاع ضغط الدم الذي يصيب 15% من سكان العالم، وتصلب الشرايين. وحين ينجح العلاج الجيني لمثل هذه الأمراض، وهو علاج حقيقي ونهائي، يتم تفادي مضاعفاتها والإعاقات الناجمة عنها بالإضافة إلي العمليات الجراحية المعقدة التي يلجأ إليها الطب الحالي وكذلك توفير التكاليف الباهظة للأدوية المتخلفة المستخدمة حاليا.  
·   استنساخ أعضاء كاملة باستخدام خلايا من الشخص المريض وزرعها له بدلا من الأعضاء التالفة وبذلك يتم تفادي مضاعفات زراعة الأعضاء المتمثلة أساسا في طرد الجسم للعضو الغريب عنه. أما عند زراعة عضو مستنسخ من نفس الشخص فلن يعتبره الجسم غريبا عنه وهذا يحل مشاكل ضخمة ومن شأنه أنْ يجعل الإنسان يستغني عن أساليب علاج فظة مثل الغسيل الكلوي والعلاج الدوائي المكثف لأمراض هبوط القلب وعمليات تغير صمامات القلب ومعالجة أمراض سرطانية في مختلف الأعضاء حيث يتم استبدال العضو بأكمله دون التعرض لخطر وجود خلايا سرطانية ببقايا العضو مثلما يحدث حين يتم استئصال جزء من الكبد وغيره. ولنتخيل أنه بات من الممكن استنساخ كبد أو كلي أو قلب أو مخ إنسان، سيتم في هذه الحالة توفير عشرات المليارات من الدولارات تنفقها البشرية علي أدوية لها مضاعفات عديدة ولا تشفي من المرض. فلنتخيل مثلا أنه أمكن استنساخ البنكرياس ومن ثم زراعته.. كم مليون مريض بالسكر سوف يشفي نهائيا ويتم الاستغناء عن أدوية السكر وتفادي مضاعفات هذا المرض الرهيبة. إنَّ آلاف الأمراض سيتم علاجها علاجا نهائيا بهذه الطريقة ولن يقلق المرء حين يصاب بمرض مثل سرطان المخ (في بدايته بالطبع وقبل أنْ ينتشر في الجسم) والبروستاتا أو الجلطات الدماغية أو تصلب الشريان الأورطي وسوف يتم استبدال الرئتين المصابتين برئتين جديدتين وهذا يقود إلي ثورة كبرى في مجال أمراض الصدر المزمنة (مثل الربو المزمن وتمدد الحويصلات الهوائية والدرن الرئوي...) التي لا يعالج معظمها علاجا فعالا حتي الآن. في الحقيقة يشكل هذا ثورة لا تقل عمقا عن الثورة الناتجة عن اكتشاف النار وأكثر عمقا بكثير من تأثير اكتشاف المضادات الحيوية.

·   تربية أو استنساخ خنازير معالجة وراثيا بحيث يمكن زراعة أعضائها للإنسان دون أنْ يعتبرها الجسم غريبة فلا يقوم بطردها، وهذا النوع من العلاج تحت البحث منذ سنوات. وسوف تكون هذه محطة هامة قبل النجاح في استنساخ الأعضاء البشرية وهو عمل لا يعترض عليه رجال الدين وأتباعهم.

·   يتم وعلي نطاق واسع استنساخ جينات معينة مرغوبة عن طريق البكتريا وهي جينات مسؤولة عن إنتاج مواد موجودة بجسم الإنسان تستخدم كعلاج، منها مثلا الإنسيولين البشري - مذيب بشري للجلطات الشريانية والوريديةrTPA - مضاد الفيروس: انترفيرون-أدوية مضادة للسرطان - إريثروبويتين؛ الهرمون المحفز لإنتاج خلايا الدم الحمراء، وغيرها الكثير مما يتم استخدامه في الطب علي نطاق واسع. وهذه المرحلة من العلاج الجيني قد أنجزت بالفعل ويتوسع استخدامها باستمرار. وقد كان لهذا الابتكار تأثير كبير للغاية علي الطب الحديث؛ وعلي سبيل المثال أصبح الإنسيولين المستخدم الآن هو الإنسيولين البشري وبذلك تم تفادي مشاكل الإنسيولين الحيواني القديم غير النقي، كما أنَّ ال rTPA  نجح في معالجة ملايين من المصابين بجلطات الشرايين القلبية والدماغية الحادة وشبه القاتلة.

 ثانيا: معالجة أمراض وراثية بتغيير الصفات الوراثية للأجنة لمنع ظهور المرض الوراثي، وهذا النوع من العلاج يلقي حتى الآن مقاومة من السلطات الدينية والقوي المحافظة عموما لأنه يتضمن تدخلا بشريا مباشرا في خلق البشر. وهذا النوع من التدخل يقود إلي تفادي نقل المرض الوراثي للجنين ولأبنائه بعد ذلك.

وهذه ستكون الثورة الأكثر راديكالية في التاريخ البشري كله. فإذا كان من الممكن استبدال الجينات المسببة للمرض بغيرها فيمكن أيضا استبدال أيِّ جينات بغيرها، وبذلك يمكن تعديل الصفات البشرية، بل وتصنيع نوع جديد من الكائنات البشرية، وحين يمكن الاستغناء عن الرحم كذلك يكون من الممكن تصنيع البشر أو "السوبرمان" في معامل معينة وبالصفات المرغوبة أو التي يتم الاتفاق عليها في مؤتمر دولي مثلا أو حسب ما تقرره الدول في الأمم المتحدة. يمكن مثلا إنتاج إنسان بالغ الذكاء أو يتمتع بعبقرية معينة وكامل النمو الجسدي ولا يأكل أو يتنفس ويحصل علي حاجته من الطاقة من الشمس أو من بطارية هيدروجينية بيولوجية.. وفي حالة كهذه سوف لن يكون من الضروري زراعة أو صناعة الغذاء ولا صيد السمك ولا صناعة الملابس الثقيلة... إلخ. وإذا أطلقنا العنان لخيالنا فسوف نتصور أنه من المحتمل أيضا أن يتم إنتاج جينات تنقل المعلومات كالرياضيات أو الفيزياء، وجينات تجعل من الفرد فنانا موسيقيا أو تشكيليا.. حسب الطلب. كما يمكن أن نتصور إمكانية إنتاج إنسان قادر علي الطيران أو قادر علي التفكير في مئات الموضوعات في وقت واحد.... في هذه الظروف الجديدة سيكون من المضحك أن يتصارع الناس علي مصادر المياه والغابات، وستصبح الأشجار والغابات مجرد أماكن للتنزه وقد يتم تغيير أشكال وتكوين الأشجار ... إلخ، حسب الطلب.  
ومع إنتاج السوبرمان سيكون علي البشر الذين لا يشاركون في الثورة البيولوجية أن يدفعوا ثمنا باهظا. فالسوبرمان سيكون شديد الاختلاف عن الإنسان العاقل الحالي، بل سينظر إليه علي أنه كائن بدائي، وبالتالي سيمنح نفسه الحق الأخلاقي والقانوني في استخدامه في التجارب العلمية، أو تدجينه أو وضعه في حدائق الحيوان. وهذه ليست فكرة خيالية فهناك شعوب بأكملها تستخدم من الآن كحيوانات تجارب علي العقاقير الجديدة وعلي الأسلحة الفتاكة والأطعمة المنتجة بالهندسة الوراثية.


3- تجاوز سرعة الضوء:

أقصي سرعة معروفة ومؤكدة حتي الآن هي سرعة الضوء (300 ألف كم/ثانية)، وهي سرعة محدودة للغاية بالقياس إلي الحجم الهائل للكون الذي نعرفه. واذا سافرنا بهذه السرعة فلن نتمكن من الوصول إلي أقاصي الكون إلا قبل ملايين السنين، بل إن الوصول إلى مركز المجرة التي نوجد بها بسرعة الضوء يستغرق ثلاثين ألف سنة. وبالتالي لن يتمكن الإنسان من تحقيق هجرات كونية واسعة مع الاحتفاظ بالعلاقات الاجتماعية بين المهاجرين في الكون الشاسع إلا إذا تجاوز سرعة الضوء بملايين أو حتي مليارات المرات.
وقد شكك بعض العلماء في النظرية القائلة بأن سرعة الضوء هي السرعة القصوى الممكنة مفترضين وجود إمكانية لتجاوز سرعة الضوء وأجري بعضهم بحوثا رياضية كما أجرى آخرون بحوثا تجريبية لإثبات هذه الإمكانية.

- نظرية التاكيونات:
 أول من تناول فكرة التاكيون (كلمة يونانية تعني السريع) هو الفيزيائي الألماني إرنولد سمرفيلد، بينما قام عدد من العلماء بوضع تصور نظري محدد لها وكان جيرالد فينبرج (عالم فيزياء من جامعة كولومبيا ) هو الذي ابتكر اصطلاح تاكيون في الستينات من القرن الماضي. وهي نظرية رياضية مثلما كانت النظرية النسبية ثبتت صحتها رياضيا لكنها ما زالت تفتقر الي الدليل التجريبي فلم يتم التقاط تاكيوناً واحداً حتى الآن بشكل عملي. وتتلخص نظرية التاكيون في الآتي:

وفق نسبية أينشتاين تنمو الكتلة مع ازدياد السرعة. والكتلة التي تصل إلي سرعة الضوء تصبح متناهية في الكبر. وإذا أقحمنا الأعداد التخيلية في نظرية النسبية نحصل على جسيمات لا تتحرك إلا بسرعات أكبر من سرعة الضوء، فإذا خفضنا من طاقاتها تزداد سرعتها، وإذا زودناها بشكل مطرد بالطاقة تتناقص سرعاتها، أما إذا توفرت لهذه الجسيمات طاقات لانهائية لها فإن سرعاتها تنخفض إلى سرعة الضوء، لكن يستحيل أن تنخفض دونها، هذه الجسيمات هي التي أسميت تاكيونات وهي جسيمات سالبة الكتلة (وهذا مجرد تصور رياضي).
وقد أثبت فنبرج، بالدليل الرياضي، وجود هذه الجسيمات وهي جزئيات تتحرك الي ما لا نهاية و هي أسرع من الضوء ببليونات المرات إلا أنها تتفكك وتتلاشى حين تنخفض سرعتها الي سرعة الضوء.  

- ومع ذلك هناك ما أثبت تجريبيا صحة فرضية إمكانية تجاوز سرعة الضوء فقد أجريت تجربة في برنستون نيوجيرسي حيث أرسلت نبضة من ضوء الليزر عبر حجرة فيها بخار مادة السيزيوم فكانت سريعة بحيث خرجت كلها من الحجرة قبل أن يتم رصد دخولها إليها.
فقد تحركت النبضة بسرعة تقدر ب310 ضعف السرعة التي كانت ستتحرك بها لو كانت الحجرة تحتوي فراغا بدل السيزيوم. ووفقا للعلماء يعد هذا أكثرالأدلة إقناعا بأن سرعة الضوء يمكن تجاوزها، على الأقل تحت ظروف مخبرية خاصة. وهذا لا يعارض نظرية النسبية الخاصة التي تحدد السرعة القصوى "للمادة والطاقة" فقط في الفراغ بسرعة الضوء.

ومع ذلك شكك في الأمر أحد الفيزيائيين في جامعة تورنتو:"إنَّ فوتونات الضوء الخارجة من حجرة السيزيوم ربما لا تكون نفسها التي دخلت الحجرة"، لكنه الأمر المثير كما يري هو السؤال كيف أمكن لهذه الحجرة أن تنتج فوتونات تبدو مماثلة تماما لأخرى لم تصل لموقعها بعد؟ ‍والاستنتاج المنطقي هنا أنَّ "المعلومات" فقط هي التي انتقلت بسرعة أكبر من سرعة الضوء، وهو ما يعني أيضا أنَّ تجاوز سرعة الضوء ممكن.
-   ماذا يترتب على تجاوز سرعة الضوء عمليا؟؟
من البديهي أنه إذا تمكن الإنسان من السفر بسرعات عالية للغاية سيكون في مقدوره أن يقتحم الكون الشاسع ويصل إلي المجرات البعيدة، ومع تطور العلوم عموما سيكون أمام البشر فرصة لزيادة الثروات المتاحة بشكل لا نهائي، وسيكون من الممكن استعمار مليارات المجرات بنجومها وكواكبها، وسيصبح من الممكن أن يكون كل الناس أثرياء إلي حد أسطوري. وإذا تذكرنا الطاقة الهيدروجينية والمفاعلات الاندماجية نستطيع أن نتخيل كم سيتطور الإنتاج البشري وكيف سيسيطر البشر علي الوجود.
الأمر الأسطوري الثاني الذي سيترتب علي تجاوز سرعة الضوء هو إمكانية السفر عبر الزمن؛ إلي الماضي، حيث يستطيع المرء إما بالانتقال المباشر أو بواسطة معدات معينة أن يرصد الأحداث التي تمت في أزمنة مختلفة ويسجلها ويحفظها كملفات علي أجهزة الكمبيوتر. ولتوضيح المسألة فلنتصور أنَّ شخصا أو جهازا ما قد انتقل في الفضاء إلي نقطة ما قبل أن تصل إلي هذه النقطة صورة حدث ما تم في مكان آخر من الكون، فسوف يتمكن من رؤية ذلك الحدث ويسجله. وضمن هذه الأحداث وقائع التاريخ، الجرائم، والأهم وقائع تاريخ الكون نفسه وبالتالي سيكون الكشف عن كل المجهولات في الماضي ممكنا. كما سيتمكن البشر من التعامل مع أجزاء الكون الحالية، فمن المعروف أننا نشاهد أجزاء الكون كما كانت عليه في أزمنة سحيقة وربما تكون نجوم أو حتي مجرات كاملة قد تلاشت ولكننا نراها الآن لأن الضوء الصادر عنها وصلنا بعد مليارات السنين من صدوره. أما إذا استطعنا أن نسبق الضوء فسنكون قادرين علي إدراك تلك الأجسام في الزمن الحاضر وهذا سيعد نقلة هائلة علي طريق تطور المعرفة البشرية وتطور قدرتنا علي استخدام الكون. ويمكن أن نطلق العنان أكثر لتخيل ما سيحدث بعد أن ينتشر جنس البشر في الكون الشاسع ويستعمره، بعد قرون، من ذلك أنَّ المنافسة والحروب لن تدور حول قطعة من الأرض أو عدة آبار للبترول كما يحدث الآن بل ربما تدور حول مجرات بأكملها أو حتي علي أكوان كاملة بخلاف الكون الذي نعرفه حتي الآن، هذا إلا إذا استطاع البشر أن يقيموا علاقات تعاون وسلام فيما بينهم. وبدلا من أن يعيش المرء في شقة أو حتي قصر ربما يتطلع إلي كون كامل بملحقاته وضواحيه. وسوف يستعيد الناس تاريخهم القديم (الحالي) ويسخرون من تفاهتهم حين كانوا يكافحون أو يتقاتلون من أجل أشياء صغيرة وتافهة. ربما يستبدل الأطفال اللعب بالفوانيس باللعب بالنجوم العملاقة أو حتي بالمجرات وفي لعبة "الاستغماية" البسيطة حيث يخفي الطفل نفسه وراء منضدة أو حجر كبير أو شجرة ربما يخفي نفسه في كون بعيد للغاية غير مأهول أو وراء كون يملكه شخص ما ويمنع الآخرين من دخوله!!
ويبدو أنَّ تجاوز سرعة الضوء بشكل تطبيقي قد يحتاج عدة عقود أو قرون ولكن فلنتذكر أنَّ فكرة تجاوز سرعة الصوت كانت هي الأخرى تعد مستحيلة أو مستبعدة في وقت ما.



*************************************


ونحب أن نؤكد أنَّ كل هذا ليس من قبيل الخيال العلمي، فقد تم بالفعل إنتاج كائنات دقيقة كثيرة ومنذ سنوات كما تم تعديل الصفات الوراثية لبعض النباتات والحيوانات ونحن نستخدمها الآن كما تمت منذ سنوات زراعة القطن الملون وخضروات بألوان جديدة وإنتاج ذبابة بأربعة عيون، وباختصار تمت عديد من التجارب الناجحة في مجال الهندسة الوراثية. أما الاستنساخ فكلنا نعرف النعجة دوللي وما بعدها وتسير محاولات الاستنساخ البشري رغم أنف رجال الدين والمحافظين ومن المرجح أنه بعد قرون قليلة سيصبح استنساخ البشر بالصفات المرغوبة أسهل من عمل القهوة.
إنَّ الأبحاث تسير بسرعة وثبات لإنتاج الأنواع الجديدة من الطاقة التي لا تنفذ كما قطعت أشواط جيدة في مجال الهندسة الوراثية والاستنساخ أما تجاوز سرعة الضوء فيبدو في أفق أبعد وسوف يدفع أبحاثه إلي الأمام الاستخدام العملي للطاقة الهيدروجينية أو طاقة المادة-المادة المضادة.
ويبقي أن نضع تصورات حول التأثيرات الاجتماعية والسياسية للثورة العلمية الجارية.