هذه دعوة للعمل على مناهضة قوى الظلام

واستمرار ركب الحضارة الحديثة

This Is A Call To Work Against The Forces Of Darkness And For Promotion Of Modern Civilization


أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 22 أكتوبر 2011

منهج لينين فى تناول الإمبريالية

  

تحليل نقدي
عادل العمري - شريف يونس
(نُشرت عام 1988 فى مجلة الراية العربية)

 نستهدف في هذا المقال القصير تقديم تحليل نقدي لمنهج لينين في دراسة ظاهرة الإمبريالية. ولهذا فهو لا ُيعد دراسة في ظاهرة الإمبريالية، بل مجرد عرض لطريقة فهمها.
ومن المعروف أنَّ لينين قد قدم مساهمته الأساسية في دراسة الإمبريالية في كتابه: "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية". ونحن نعلم أنَّ توجيه أيِّ عبارة تشتم منها رائحة النقد للينين ُيعد من الأمور الشائكة، بل والمرعبة وسط اليسار العربي، إلا أنَّنا نعتبر أنَّ المنهج العلميالماركسي الذي نتبناه هو سلاح للنقد، أو للنفي بالمعنى الديالكتيكي للكلمة، كما نعتقد أنَّ المبادئ تعلو على الأشخاص مهما كانوا. ونحن لا ننوي لا الآن، ولا في المستقبل أنْ نختبئ بمفاهيمنا الخاصة وراء أيِّ أشخاص مهما علا شأنهم، كما فعل ويفعل الكثيرون؛ فالماركسية ليست ديانة وليس لها نبيٌّ ولا معبد.
 ونحن نتوقع أنْ يوجه لنا اللوم لأننا تجرأنا وحللنا إحدى أطروحات لينين تحليلًا نقديًّا، ذلك أنه استطاع قيادة ثورة ناجحة، إلا أنَّ هذه الحجة تبدو لنا متهافتة؛ فالنجاح العملي لا يبتلع الأخطاء النظرية في هذه النقطة أو تلك، ولا يبررها، خاصة إذا لم تكن الفكرة ذات صله مباشرة بالخطط العملية الناجحة. كما أنَّ الفكرة تكون متميزة أو مستقلة عن الشخص الذي ينتجها؛ فاذا كنا نوجه النقد فإننا نوجهههناللفكرة لا لشخص لينين. وأخيرًا. لا ينبغي أنْ نفترض عدم أحقيتنا في نقد الآخرين لمجرد أننا لم نحقق مثلما حققوا من إنجازات. فإنَّ لحظة النفي (السلب) هيَ اللحظة الحاسمة في عملية التطور، أيْ لتحقيق الإنجازات المفتقدة والمطلوبة.
***************************
في كتابه المذكور آنفًا([1]) في سياق رده على كاوتسكي، عرض لينين ما أسماه "ترابط وصلات السمات الاقتصادية الأساسية للإمبريالية" وحددها كالآتي:
 1 - تمركز الإنتاج والاحتكارات.
2 - تمركز البنوك وسيطرتها على الصناعة؛ أيْ نشوء ظاهرة رأس المال المالي وهو رأس المال الموجود تحت تصرف البنوك والذي يستخدمه رجال الصناعة - ص 65.
3 - تصدير رأس المال.
4 - اقتسام العالم بين اتحادات الرأسماليين.
5 - اقتسام أراضي العالم بين الدول الكبرى.
 وبعد شرح هذه السمات وضع تعريفًا معتبرًا إياه تعريفًا موجزًا:
 "الإمبريالية هيَ الرأسمالية في مرحلة الاحتكار" - ص 124. ثم عاد مرة أخرى إلى وضع تعريف اعتبره أشمل، هو نفسه السمات الخمس سابقة الذكر والتي شرحها من قبل بالتفصيل طوال الكتاب.
وقد قدم لينين تعريفه للإمبريالية على أساس المفاهيم والمعطيات التي عرضها كل من بوخارين (الإمبريالية والاقتصاد العالمي) وهلفردنج (رأس المال المالي) وهوبسون (الإمبريالية)([2])، كما تأثر بفكرة ماركس القائلة بالتحول التلقائي لحالة المنافسة الحرة إلى حالة الاحتكار([3]). ونعتقدبداية - أنَّ لينين كان محقًّا في ربطه - دون أنْ يكون محقًّا في خلطهبين مفهوميّ الرأسمالية الاحتكارية والإمبريالية:
قدم لينين تعريفه للإمبريالية اعتمادًا على عدد من السمات التي نرى أنَّ بعضها لا يرتبط على نحو ضروريمنطقيبالنظام الرأسمالي حتى في مرحلته الاحتكارية:
 1- فلا تعتبر ظاهرة هيمنة الاحتكارات ظاهرة رأسمالية خالصة؛ فهيَ تسم أيضًا اقتصاديات البلدان البيروقراطية القديمة (في الشرق خاصة) والحديثة المسماة بالاشتراكية؛ فالدولة تحتكر ملكية وإدارة معظم وسائل الإنتاج. أما تمركز الإنتاج فهو الأمر السائد في المجموعة الأخيرة. بل إنَّ الظاهرتين موجودتان بقوة في البلدان المتخلفة جميعًا؛ حيث رغم انتشار وحدات الإنتاج الصغيرة، المنتشرة أيضًا بدرجه أقل في البلدان الرأسمالية الكبرى، تهيمن الاحتكارات التجارية (ووراؤها الصناعة الكبرى والمزارع الواسعة) اقتصاديًّا على البلاد، سواء كانت احتكارات أجنبية أم محلية؛ إذ تم تحديث هذه البلدان عن طريق الاحتكارات الأوربية منذ أواسط القرن الماضي بإنشاء مشاريع البنية الأساسية، والمزارع الواسعة (في بعض المناطق) واقترن هذا بتكون طبقة محلية من رجال الأعمال وكبار ملاك الأراضي تمتعت بوضع احتكاري قوي؛ فالأمر لايتعلق فقط بهيمنة الاحتكارات الأجنبية. ومثال مصر بهذا الصدد واضح تمامًا: فمنذ تحطيم احتكارات محمد علي سيطرتتدريجيًّا الاحتكارات البنكية والتجارية والشركات الكبرى في مجالات النقل، الأجنبية ثم المحلية، وتبعتها الاحتكارات الكبرى في مجال الصناعة: مجموعة بنك مصر، عبود، صدقي.. بالإضافة إلى نفوذ الملكية العقارية الكبيرة منذ عهد محمد علي.
كذلك شهد الاقتصاد هيمنة التروستات والكارتلات([4])، وباختصار، لم تشهد مصر ولا أيُّ بلد متخلف آخر مرحلة منافسة حرة أبدًا. ولا شك أنَّ هذه البلدان لا تعد لدى أيِّ مدرسةبلدانًا إمبريالية.
2 - منح لينين أهمية فائقة لظاهرة هيمنة رأس المال المالي، ومنحها الإضافة إلى الظاهرة السابقة مع ربطهما معًا دائمًاأولوية على بقية السمات التي ذكرها، وهيَ ظاهرة شهدتها الرأسمالية منذ أواخر القرن الماضي واستمرت حتى الحرب العالمية الثانية؛ فأخلت السبيل تدريجيًّا لهيمنة رأس المال الصناعي مرة أخرى؛ لهيمنته البالغة على رأس المال البنكي نفسه([5]) فقد اتضح إذن أنَّ هذه الظاهرة والتي اهتم بها لينين كثيرًا ما هيَ إلا ظاهرة مؤقتة في حياة الرأسمالية؛ ففي عصرنا هذا أصبحت البنوك تابعة على نحو مباشر للشركات الصناعية العملاقة متعددة الجنسية وتبلور على نحو مباشر دور رأس المال البنكي كمجرد وسيط أو نقطة عبور داخل رأس المال الصناعي وهو دوره الحقيقي في الاقتصاد الرأسمالي.
3 - أما تصدير رأس المال فلا يرتبط هو الآخر بتلك الأنظمة "الإمبريالية" على نحو مطلق؛ فالظاهرة نفسها موجودة بالنسبة لبعض البلدان المتخلفة، خاصة البلدان البترولية (تمثل في هذه البلدان ظاهرة أساسية). بل وفي بعض البلدان غير البترولية أيضًا.
وتلعب الشركات متعددة الجنسية التي يملكها رجال أعمال من بلدان متقدمة أو متخلفة دورًا هامَّا في تصدير رأس المال إلى المتروبولات. وعلى سبيل المثال تلعب شركات الأموال المصرية دورًا بارزًا في تصدير رأس المال من مصر إلى أوروبا وبكميات ملموسة.
والاعتراض المتوقع هنا هو أنَّ تصدير رأس المال في الاتجاه المعاكس، وهذا غير صحيح وهو اعتقاد يجد جذوره – على ما نظن ) - في تصور ضمني لعملية تصدير رأس المال من المتروبولات كتصدير لفائض مطلق من رأس المال؛ فظاهرة الفائض تدل على انحطاط النظام لا على نضجه؛ فهو يصبح في مرحلة تدهوره عاجزًا عن تحويل الإدخار إلى توظيف رأسمالي بشكل فوري، لأسباب مباشرة عديدة. وليس من الغريب - لهذا السبب – أنْ يتدفق رأس المال في الاتجاهين من البلدان المتروبولية في أوقات متقاربة وأحيانًا بين نفس فروع الصناعة. ونستطيع أنْ نقول إنَّ تصدير رأس المال من البلدان المتخلفة إلى البلدان الرأسمالية([6]) هو عملية تنتج عن نفس آلياتها في الحالة العكسية، صعوبات نسبية في الاستثمار ناتجة عن فوضى الإنتاج، مما يدفع رأس المال للهجرة بحثًا عن أعلى معدل احتمالي للربح على المدى الطويل، الذي يتحدد لا بظرف موضوعي فحسب بل بالظرف الذاتي أيضًا لهذا الرأسمال أو ذاك في هذه اللحظة أو تلك([7])، ، والفرق الأساسي بين الاتجاهين سابقي الذكر لتصدير رأس المال هو أنَّ النتائج تكون دائمًا  على المدى الطويلفي صالح التقسيم الدولي للعمل بين مجموعتي البلدان؛ فانتقال رأس المال في الاتجاهين يخدم في النهاية هيمنة البلدان الرأسمالية على البلدان المتخلفة([8]).
4 - أما السمة الأخيرة: تقسيم العالم بين الدول الكبرى([9]) فيطرحها لينين بوضوح باعتبار أنها تقسيم "أراضي وسكان العالم"؛ أيْ الاستعمار المباشر لكل المعمورة، ومن الواضح أنَّ هذا الواقع قد تغير الآن تمامًا؛ فلم يعد العالم مقسمًا بين الدول الكبرى بالكيفية التي فهمها لينين؛ فقد ُصفي الاستعمار المباشر بسرعة بعد الحرب العالمية الأخيرة، ولم تعد الجداول التي ذكرها لينين والخاصة بمساحات الأراضي وعدد السكان التابعين لكل بلد أوربي حقيقة، وقد يقال أنَّ تقسيم العالم قد استمر بشكل آخر غير مباشر في صورة نفوذ سياسي واقتصادي وهذا صحيح بالطبع، إلا أنَّ هذه الطريقة في فهم المسألة تختلف كثيرًا عن طريقة لينين كما عرضها في كتابه ولهذا الاختلاف مغزاه الهام والذي سيتضح حين نتناول مفهوم لينين بالتحليل النهائي؛ فتقسيم العالم بالمعنى الأول هو فقط تقسيم مباشر؛ فلينين في هذه النقطة لا يرى في هيمنة الرأسمالية على العالم سوى الهيمنة على الأراضي والسكان مباشرة؛ أما المفهوم الثاني فيتضمن أنَّ نوعًا آخر من الهيمنة هو الذي ميز عهد الرأسمالية، هو الهيمنة الهيكلية([10]) وسوف نقتبس هنا عدة كلمات للينين بخصوص هذه المسألة لنوضح ما يقصده وبكلماته الخاصة:
“إنَّ السمة المميزة للمرحلة المذكورة هيَ اقتسام الأرض بشكل نهائي، لا بمعنى استحالة إعادة التقسيم (....) بل بمعنى أنَّ السياسة الاستعمارية التي تمارسها البلدان الرأسمالية قد استكملت الاستيلاء على الأراضي غير المشغولة في كوكبنا (....) ولأول مرة بدا العالم مقتسمًا بشكل لا يمكن معه في المستقبل إلا إعادة التقسيم، أيْ انتقال الأراضي من (مالك) إلى أخر" - ص 157.
"من السمات الجوهرية للإمبريالية تنافس عديد من القوى الكبرى في النزوع إلى السيطرة، أيْ إلى الاستيلاء على الأراضي" - ص 128([11]).
في الحقيقة حاول لينين أنْ يحيط بظاهرة الإمبريالية من خارجها، من كل أطرافها، بتعداد أكبر عدد ممكن من السمات التي اعتبرها ضرورية. وهو في محاولته هذه لم يميز قط بين الرأسمالية في مرحلتها الاحتكارية وبين الإمبريالية كظاهرة متميزة (رغم ارتباطها المطلق بالرأسمالية) فقد اعتبر الإمبريالية مرحلة خاصة من الرأسمالية: "الإمبريالية هيَ المرحلة الاحتكارية للرأسمالية" - ص 124، ونحن لا نجد أيَّ مبرر موضوعي أو منطقي في الاصرار على اعتبارهما شيئا واحد رغم أنَّ هناك تمايزًا واضحًا بين مفهومي: الرأسمالية، والإمبريالية كنتيجة لها([12]) والعلاقة بين البلدان الرأسمالية والبلدان التي صارت متخلفة الآن لا تخص رأس المال الاحتكاري وحده؛ فالإمبريالية ترتبط بنقيضها: التبعية، لأنه لا يكفي أنْ تصبح الرأسمالية احتكارية (وحتى مع هيمنة رأس المال المالي!) لتتكون ظاهرة الإمبرياليةالتبعية، بل لابد من وجود ذلك الطرف الملائم للهيمنة الإمبريالية، وكان الأجدر بلينين أنْ يهتم بإضافة التبعيةالتخلف لكي يمس تعريفه أو يقترب من مس جوهر الموضوع.
ولا غبار إذا كانت المشكلة تكمن في التسمية؛ فمن حق لينين (كما منح هو نفس الحق لكاوتسكي) أنْ يسمي مرحلة الرأسمالية الاحتكارية بأيِّ اسم يختار، ولكن ليس من حقه أنْ يخلط بين ظاهرتين: الرأسمالية، وهمينتها الكلية على العالم المتخلف، وهو قد اختار هذا الخلط لسبب سنحدده فيما بعد.
تختلف الإمبريالية؛ كعلاقة بين البلدان الرأسمالية والبلدان المتخلفة التابعة عن الاستعمار أو احتلال الأراضي([13]) اختلافًا جوهريًّا؛ فهيَ هيمنة هيكلية Structural Domination حيث قامت الرأسمالية بفضل نموها الهائل والتطور التقني الذي حققته واللذان توسطًا تحول المنافسة الحرة إلى الاحتكار (أو بالأحرى إلى المنافسة الاحتكارية) بتحويل التشكيلات الاجتماعيةالاقتصادية قبل الرأسمالية في آسيا وافريقيا وأمريكا الجنوبية والوسطى إلى بنى متخلفة تتميز من الناحية الجوهرية بالنمو المركب([14]) تحت سيطرة رأس المال التجاري التابع للرأسمالية عبر السوق الدولي. ويمكننا بهذا المعنى أنْ نتحدث عن الوجود الهيكلي للإمبريالية في هذه البلدان، أيْ عن الإمبريالية، كوجود بالفعل، والذي يقابله من ناحية البلدان المتخلفة: التبعية. وهذا هو الأمر الذي أغفله لينين إغفالًا كاملًا، وهو خطؤه الجوهري في فهم الإمبريالية، مكتفيًا برصد تقسيم العالم بين الاحتكارات، وبين الدول الكبرى وموردًا جداول بمساحات الأراضي وعدد السكان الملحقين بهذه الدول، وذلك دون الاهتمام بالإشارةعوضًا عن شرحظاهرة التبعيةالتخلف([15]) اللهم إلا بشكل يؤكد إهماله لهذه القضية من الناحية الفعلية. ففي صفحة 119 يقول لينين:
"وفي سياق الحديث عن سياسة حيازة المستعمرات في عهد الإمبريالية الرأسمالية ينبغي أنْ نلاحظ أنَّ رأس المال وسياسته الدولية، والصراع بين القوى الكبرى لاقتسام العالم اقتصاديًّا وسياسيًّا يخلقان جملة أشكال انتقالية من تبعية الدول. فما يميز هذا العهد ليس فقط الفريقان الأساسيان من البلدان المالكة للمستعمرات والمستعمرات([16])، بل كذلك مختلف أشكال البلدان التابعة، المستقلة رسميًّا من الناحية السياسية والواقعة عمليًّا في شباك التبعية المالية والدبلوماسية"([17]). والعبارات تتضمن عددًا من الأخطاء القاتلة:
1 - يعتبر لينين أنَّ حياة المستعمرات هيَ الوضع النهائي أو المصب النهائي للسياسة الإمبريالية؛ أما التبعية الاقتصادية والسياسية فمجرد حالة وسيطة، حالة انتقالية حسب تعبيره الخاص. أيَّْ أنه يعتبر الاستعمار المباشر (حيازة الأراضي والسكان) هو الأمر الأهم الذي تظهر تبعية بعض البلدان في سياقه.
 2 - لم يشر إلا إلى التبعية المالية والدبلوماسية، وهيَ أشكال من التبعية المباشرة؛ فلم يهتم إطلاقًا بالتبعية بالمعنى العميق للكلمة: التبعية الهيكلية، التي تعد النتيجة الكلية للسياسة الإمبريالية والتي يتم في سياقها أشياء من قبيل احتلال الأراضي... إلخ.
3 - إنَّ المستعمرات هيَعلى عكس ما ذهب لينينحالة انتقالية بين الاستقلال والتبعية (الهيكلية لا المالية والدبلوماسية فحسب)([18]).
4 - وللإنصاف نشير إلى أنَّ لينين قد أشار إلى أنَّ رأس المال المالي يهتم بالبحث عن الخامات والأسواق في المستعمرات، إلا أنه قدم هذه الإشارة قاصرًا اهتمامه على إبراز آلية قصيرة المدى: الاستيلاء على المستعمرات. وكان من الضروري أنْ يُشار إلى الآلية الأبعد مدى والأهم بكثير: إقامة بنى اجتماعية - اقتصادية تابعة هيكليًّا؛ فتعمل وفقًا لطبيعتها هذه لصالح الاحتكارات الرأسمالية. وهنامرة أخرى لا ينظر لينين إلى ما هو أبعد من التبعية المباشرة رغم أنَّ إنشاء بنى التخلف كان قد قطع شوطًا بعيدًا للغاية في مناطق واسعة، خاصة أمريكا الجنوبية والهند وتركيا.
ويتضح لنا بشكل أكمل المحتوى المشوش لمفهوم لينين عن الإمبريالية من خلال رده على كاوتسكي:
وقد بدأ بايراد تعريفه الأخير للإمبريالية
"الإمبريالية هيَ نتاج الرأسمالية الصناعية المتطورة جدًّا، وهيَ تتلخص بنزوع كل أمة رأسمالية صناعية إلى أنْ تسيطر على أو تلحق بنفسها أكثر ما يمكن من الأقاليم الزراعية بغض النظر عن الأمم التي تقطنها" - ص 127 ([19])
ورغم وضوح التعريف من حيث تمييزه بين الرأسمالية والإمبريالية، بل ومن حيث فصله بين الاحتكار بما هو كذلك والإمبريالية (رغم أخطائه الفاحشة كما سنرى فيما بعد) فإنَّ لينين لم يعطه حقه من التحليل والتفنيد رغم اعتراضه عليه تمامًا. وقد بدأ نقده بوصف التعريف بأنه "لا يساوي قلامه ظفر، لأنه وحيد الجانب، أيْإ       يقتصربطريقة متعسفةعلى إبراز المسألة القومية وحدها" - ص 127 (التشديد من عندنا) ثم راح يواصل اعتراضاته قائلًا: إنَّ السمة المميزة للإمبريالية ليست رأس المال الصناعي، بل رأس المال المالي" - ص 128. وهو اعتراض أوضحنا من قبل مدى تهافته، ويمكننا أنْ نضيف هنا أنَّ رأس المال المالي نفسه، حتى في زمن لينين هو بالدرجة الأولى، ومن حيث حقيقته رأسمال صناعي؛ حيث إنه موظف أساسًا في قطاع الإنتاج، أيْ في النشاط الصناعي، بالمعنى العريض للكلمة؛ أو بمعناها المنهجي([20]) وحتى بالمعنى الضيق لكلمة صناعي. وفي الحقيقة لم يكن نمو البنوك وتمركزها في البلدان الرأسمالية ممكنًا إلا بالنمو الهائل الذي حققه رأس المال الصناعي، أيْ تحول هذه البلدان إلى "بلدان صناعية متطورة جدًّا" كما وصفها كاوتسكي بحق. ووفقًا لمفهومنا سابق الذكر للإمبريالية تكون الأخيرة نتاجًا لرأس المال الصناعي، بالمعنى المنهجي للكلمة (حتى لو افترضنا استمرار ظاهرة الهيمنة المباشرة لرأس المال المالي إلى الأبد)، لأن الإمبرياليةالتبعية هيَ نتاج لتطور القوى المنتجة في اطار علاقات الإنتاج الرأسمالية إلى الحد الذي أدى إلى تغير علاقة الرأسمالية بالمستعمرات من مجرد علاقة نهب إلى علاقة عضوية كاملة.
ولنتابع اعتراضات لينين:
ينص تعريف كاوتسكي على النزوع لإلحاق الأقطار الزراعية وحدها، وكان اعتراض لينين هنا كالآتي:
"ما يميز الإمبريالية بالتحديد ليس النزوع إلى إلحاق الأقاليم الزراعية وحدها بل حتى المناطق الصناعية الأكثر تطورًا (مطامع ألمانيا فيما يخص بلجيكا ومطامع فرنسا في اللورين)" - ص 128. وبالنسبة لكاوتسكي فإنه كان الأجدى أنْ يقول البلدان قبل الرأسمالية بدلًا من الزراعية؛ حيث إنها ليست ولم تكن في مجملها مجرد بلدان زراعية؛ فهذه البلدان قبل استعمارها وتحويلها إلى بلدان تابعة لم تكن في مجملها مجرد بلدان زراعية؛ فالهند على سبيل المثال (وكذلك بعض المناطق في أمريكا الجنوبية) كانت متفوقة صناعيًّا على أوروبا قبل ثورتها الصناعية([21]). أما اعتراض لينين فكان خطوة إلى الوراء؛ فهو لم يميز بين الهيمنة الإمبريالية (الوجه الآخر للتبعية الهيكلية) وإلحاق الأراضي والسكان أو هيمنة بلد كبير على بلد صغير دون تحويله إلى بلد تابع هيكليًّا. وقد واصل حديثه بعد ذلك مشيرًا إلى الاستيلاء على الأراضي، إقامة نقط ارتكاز..إلخ؛ معتبرًا هذا كله ضمن النزوع إلى السيطرة على الدول الصناعية والذي يعده هو الآخر ضمن خواص الإمبريالية؛ فهو لا يميز بين الإمبرياليةالتبعية، والمنافسة والصراع بين البلدان الرأسمالية أو قيادة بلد رأسمالي لبقية هذه البلدان.
بل وأضاف إلى نقده السابق عبارة مثيرة للدهشة: "ولو كانت القضية هيَ أساسًا إلحاق بلاد زراعية ببلاد صناعية لكان دور التبادل في المقدمة" - ص 129، ولم يذكر مثالًا واحدًا لشرح عبارته هذه... وهو قد ذكر ذلك لدحض كاوتسكي على أساس أنَّ رأس المال المالي في ذلك الوقت كان هو الأكثر تفوقًا (كانت البنوك مسيطرة على تمويل الصناعة)، ويقصد أنَّ ظاهرة تصدير رأس المال كانت تبرز عن ظاهرة التبادل السلعي. وهذا يطرح علينا قضية العلاقة بين تصدير رأس المال والتبادل الدولي([22]). والأمر الذي يهمنا حتى الآن هو أنَّ لينين لم يميز إطلاقًا بين مفعول تصدير رأس المال إلى بلد متخلف وإلى بلد رأسمالي. فمجرد بروز ظاهرة تصدير رأس المال لا يدل أبدًا على عدم أهمية مسألة الإلحاق العضوي للبلدان قبل الرأسمالية (ما قصده كاوتسكي بالزراعية كما يُفهم من صياغته) لسبب بسيط: أنَّ الإلحاق العضوي المهمل لدى لينين وكاوتسكي قد بدأ مع تحول التجارة الدولية إلى خدمة رأس المال الصناعي في أوروبا وتدعيم تقسيم عالمي للعمل: السلع المصنعة في أوروبا والمواد الخام الزراعية (ثم المعدنية) في بقية العالم، وذلك منذ سيطرة رأس المال الصناعي على رأس المال التجاري. أيْ أنَّ الإلحاق العضوي قد بدأ من خلال التبادل الدولي، ثم تعزز بتصدير رأس المال من المتروبولات إلى البلدان قبل الرأسمالية، عن طريق تنشيطه للتبادل الدولي. أيْ أنَّ دور التاجر لم يتراجع لصالح رأس المال المالي كما ُيفهم من كلمات لينين، بل بالعكس تزايد دوره تزايدًا مستمرًا في إلحاق وإعادة إلحاق "بلدان زراعية ببلدان صناعية"، إذا استعرنا كلمات كاوتسكي.
نحن إذن نعترف بأن تصدير رأس المال إلى البلدان قبل الرأسمالية (التي صارت متخلفة) لعب دورًا في إنشاء التخلف ولكننا نؤكد على أنَّ:
1 - هذا الدور تم من خلال حفز التبادل وليس على حسابه.
2 - وأنه ليس نفس دوره في حالة تبادل رأس المال بين البلدان الرأسمالية
3 - إنشاء وإعادة إنشاء التخلف قد بدأ "والتاجر في المقدمة"، حسب ما يعنيه لينين بهذا التعبير ولكن ضد فكرته، أيْ من خلال التبادل الدولي المحض، وقد عزز تصدير رأس المال هذه العملية. كما أنَّ توسيع السوق كمنحى فطري للرأسمالية قد تم - كما ذهب سمير أمين([23]) - في عصر المنافسة الحرة بالاستيلاء على المستعمرات واحتكارها كأسواق؛ أما في عصر سيادة الاحتكار فقد تم هذا من خلال تصدير رأس المال.
في المرحلتين: التبادل السلعي والتبادل المعزز بتصدير رأس المال، ظلت "القضية هيَ أساسًا إلحاق بلدان..”حسب كلمات كاوتسكي وضد كلمات لينين بالضبط، وفي الحالتين بمعنى مختلف: إلحاق هيكلي.
وفي نقده كاوتسكي يتضح لنا لماذا أصر لينين على اعتبار الإمبريالية والرأسمالية الاحتكارية شيئا واحدًا. فباعتباره الإمبريالية مجرد نزوع للرأسمالية وضع كاوتسكي عدة استنتاجات متعسفة تمامًا ولا علاقة لها بتمييزه بين المفهومين؛ فطالما أنَّ الإمبريالية هيَ نزوع للإلحاق والسيطرة تكون مقاومة سياسة الإلحاق والسيطرة هيَ المدخل الصحيح للقضاء على الإمبريالية كظاهرة، وظهور ما أسماه كاوتسكي بـ128. "ما فوق الإمبريالية"؛ أيْ تحالف جميع البلدان الرأسمالية بدلًا من الصراع بينها، وممارسة حرية التجارة، مما يعني في النهاية تحقيق السلام. أيْ أنه يدعو للنضال من اجل اتحاد الاحتكارات لاستثمار العالم بأسره بدون إلحاقات ولا تقسيم في ظل السلام الدولي. فطالما أنَّ الإمبريالية لديه هيَ مجرد سياسة أو نزوع فمن الممكن تغييرها إلى فوق إمبريالية، ونلاحظ أنَّ كاوتسكي يتكلم من منطلقات أوروبية بحتة، ناسيًا تلك الشعوب التي تعتبر الطرف الثاني في المعادلة:
إمبريالية= تبعية، داعيًا إلى السلام الأوربي (نلاحظ أنه لم يدع إلى النضال بالعنف ضد الاستعمار أو مساعدة ثوار البلدان المستعمرة).
وقد رد لينين بنفس المنطق المتعسف وبطريقة ليِّ القضيب في الاتجاه المعاكس: فمن أجل دحض كاوتسكي، حدد أنَّ الإمبريالية ليست مجرد نزوع للإلحاق، بل هيَ الرأسمالية الاحتكارية نفسها، وبالتالي لا يمكن القضاء على الإلحاقات واحلال السلام الدولي إلا بالقضاء على الرأسمالية الاحتكارية نفسها، لا بإعادتها إلى مرحلة المنافسة الحرة (لأن هذه نفسها ستتطور تلقائيًّا إلى رأسمالية احتكارية من جديد، علاوة على استحالة تحقيق هذا أصلًا) بل بالقضاء على النظام الرأسمالي نفسه.
واستكمالًا لتحليلنا لانتقاد لينين لكاوتسكي سنضيف هنا بعض التحديدات:
ينص تعريف كاوتسكي على أنَّ الإمبريالية هيَ مجرد نزوع إلى الإلحاق والسيطرة. ومن الواضح الآن أنه يقصد ضم الأراضي والسكان، دون أنْ يقرن هذا بإنشاء وإعادة إنشاء التخلف في البلدان التي وصفها بالزراعية. وبهذا الشكل لم يميز بين الإمبريالية والاستعمار (نقصد الاستغلالي لا الاستيطاني)، ولم يربط بين الإمبريالية والتبعيةالتخلف. ولم ير في الإمبريالية سوى نزوع وليس علاقة موضوعية قائمة بالفعل ومتجسدة ماديًّا في بنى التخلف.
وبذلك يكون من وجهة نظرناالقضاء على الإمبريالية بتحقق الاستقلال القومي الكامل للبلدان المتخلفة، أيْ بتحولها ثوريًّا إلى بلدان مستقلةمتقدمة (طبعًا في ظل نظام اجتماعي أرقى، كما تحقق في عديد من هذه البلدان: الصينالهند الصينيةآسيا السوفيتيةكوبا..... إلخ)، وهو أمر أغفله كل من كاوتسكي ولينين في سياق تناولهما لمفهوم الإمبريالية بل وتصور كاوتسكي أنَّ إلغاء سياسة الإلحاق كفيل وحده بالغاء الإمبريالية مبشرًا بإمبريالية قريبه الشبه بالإمبريالية المعاصرة، التالية للحرب العالمية الثانية؛ إذ تحقق الاستقلال السياسي المباشر للدول المتخلفة وتحقق السلام بين الدول المتقدمة.
ونجد جذور الإشكالية عند كاوتسكي قبل "ارتداده". ففي كراس أصدره عام 1907 بعنوان "الاشتراكية والسياسة الاستعمارية"([24]) حلل فيه مسألة المستعمرات ناقدًا فكرة ما سُميَ وقتها بالسياسة الاستعمارية الاشتراكية. وكانت وجهة نظرة باختصار شديد هيَ أنَّ السياسة الاستعمارية كفيلة بدفع التطور على صعيد العالم بأسره بحيث تصبح الثورة الاشتراكية أقرب إلى التحقق في كل البلدان، كما نفى بشدة أيَّ دور تقدمي للاستعمار.
وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة وجهة النظر هذه فإنَّ كاوتسكي في هذا العمل قدم لدعوته اللاحقة لحرية التجارة العالمية كبديل لفكرة السياسة الاستعمارية الاشتراكية، والأمر من ذلك أنه لم يناقش أصلًا دور الإمبرياليةالتبعية، بل انتقد الاستعمار المباشر فقط مقدمًا لبديل ميت هو حرية التجارة والتي لا تنفي بالطبع الإمبرياليةالتبعية بالمعنى الذي أوضحناه، بل تتضمن الإمبريالية بدون استعمار أو بدون سياسة إمبريالية، بالمعنى السطحي الذي عرضه كل من كاوتسكي ولينين (ضم الأراضي...).
لا يمنع التمييز بين مفهوميِّ الإمبريالية والرأسمالية من انتقاد كل منهما. فليس من الضروري اعتبارهما شيئا واحدًا من أجل توجيه النقد للنظام الرأسمالي. وقد وقع لينين في خطأ خلط المفاهيم تحت ضغط الأهداف العملية الملحة ولم يتبين أنه من الممكن التمييز بين المفاهيم مع الربط بينهما في الوقت نفسه.
وبغض النظر عن السياق الذي ذكر فيه كاوتسكي تعريفه للإمبريالية، فقد كان أكثر دقة بكثير من تعريف لينين المفكك، وخاصة من الناحية المنهجية فهو محاولة رغم أخطائها الفاحشة ودوافعها الانتهازيةلاكتشاف وتحديد مفهوم كليواحدي للإمبريالية؛ أما لينين فلجأ إلى تعداد السمات والخواص أيْ إلى ما نسميه بنظرية العوامل. فهو يعدد السمات والخواص دون أنْ يوضح علاقتها ببعضها وبالظاهرة التي يتناولها ككلية، وهو بهذه المنهجية يظل دائمًا خارج الظاهرة التي يفحصها مكتفيًا بالدوران حولها من كل جانب دون حتى الاهتمام بابراز تطور هذه الجوانب تاريخيًّا ودون تصور لإمكانية تغير أيٍّ منها في المستقبل. وهيَ طريقة انتقائية أكثر تعسفًا حتى من البنيوية([25])؛ فالظاهرة لدى الأخيرة هيَ دائمًا كل معقد ثابت (يسمونها بنية) بل إنَّ البنيوية تتفوق بتركيزها على فحص العلاقات القائمة بين جوانب البنية لا على هذه الجوانب نفسها وهو أمر أغفلته طريقة لينين (المستعملة كثيرًا في الأدبيات الماركسية التالية لماركس). والأمر الذي ترفضه البنيوية تمامًا وتتحاشاه نظرية العوامل هو مفهوم الظاهرة، أيْ الظاهرة كانعكاس في ذاتها، وبشكل أكثر بساطة: العلاقة بين الظاهرة ونفسها، الجانب الداخلي العميق لها. والمفهوم بهذا المعنى ليس هو أهم جوانب الموضوع الذي يبحث بل الجانب الضروري فيه، ونقصد الضروري لوجوده نفسه. وهو ما يميز الشئ كوجود يبرز نفسه عن الجوانب العريضة التي تسم وجودها العيني في هذا الظرف أو ذاك وهذه اللحظة أو تلك.
حين بدأ لينين كتابه قرر أنْ يعرض ما أسماه ترابط وصلات الخواص الأساسية للإمبريالية.. وحين أراد أنْ يقدم نظرة واحدية لها لجأ إلى تعريفها بما اعتبره النقاط الرئيسية (دون أنْ يحدد لماذا اعتبرها كذلك): "الإمبريالية هيَ الرأسمالية في مرحلة الاحتكار"، ولكنه لم يحدد علاقة هذا التعريف ببقية السمات التي ذكرها، وقد تنبه لهذه الحقيقة فقال" ولكن التعاريف الموجزة للغايةوإنْ كانت ملائمة لأنها تلخص النقاط الرئيسيةلا تكفي مع ذلك (لا تكفي ماذا؟ لم يحدد) ما دامت ثمة حاجة لأن يستخلص منها سمات بالغة الأهمية" - ص 124، ص 125. ثم ذكر السمات الخمس دون أنْ يوضح كيف استخلصها من تعريفه السابق، ذلك أنه لا يمكن في الحقيقة استخلاصها منه، لأنه لا يتضمنها بالقوة، كما أنَّ التعريف نفسه يحمل تناقضًا منطقيًّا؛ إذ يعرف الجزئي (الإمبريالية) بالكلي (الرأسمالية الاحتكارية)([26]).
 ومع أنه اعتبر تعريفه الموجز ضامًّا للنقاط الرئيسية فقد عاد مرة أخرى لطرح تعريف أشمل، ذلك أنه لا يعتقدفيما يبدوبكفاية "النقاط الرئيسية". والحقيقة أنَّ لينين استخدم التعريف بالطريقة الشائعة جدًّا في الكتابة العامية فاعتبره موجزًا.. أيْ مجردًا (ولكن بأيِّ معنى؟)([27]) و ينعتقد أنَّ قضية التعريف يجب أنْ تعالج بشكل موسع إلا أننا سنكتفي في هذا المقام بتحديد أولي للقضية: من الأمور المنطقية البسيطة أنَّ الدراسة العلمية لأيِّ ظاهرة ينبغي أنْ تبدأ بتحديد الظاهرة نفسها، بمعنى تحديد أولي لمفهومها، انطلاقًا نحو دراسة مكونات هذه الظاهرة كوجود فعلي، وبهذه الدراسة يتحدد مفهوم الظاهرة تحديدًا نهائيًّا من خلال رصده في الواقع الفعلي. فالانفصال بين المفهوم وتجلياته، يفقد الدراسة الطابع العلمي، أيْ يفقدها المنطق. ولكي نتحاشى هذه النتيجة يجب أنْ نكشف العلاقة الضرورية (الماهوية) بين المفهوم وتجلياته وهيَ مسألة غير ممكنة إلا بكشف العلاقة بين هذا المفهوم والمفاهيم الأخرى؛ إذ أنَّ تجليات المفهوم هيَ الجانب العرضي في الظاهرة موضع الدراسة، وهيَ كذلك لأنها ليست مجرد امتداد منطقي للمفهوم بل نتيجة لتفاعله من الآخر، إلا أنها مع ذلك تظل مجرد تجليات خاصة به، قد تزيد أو تنقص، قد تتغير وفقًا لتغير علاقته بالأخر، إلا أنها تظل مع ذلك على علاقة وثيقة بالمفهوم موضع الدراسة.
وبغض النظر الآن عن الخلط الذي وقع فيه لينين بين مفهومي الإمبريالية والرأسمالية الاحتكارية؛ فإنَّ طريقته في التحليل نفسها تفتقر للربط بين ما يسميه بالتعريف الموجز والتعريف الموسع إذا اعتبرنا الأول هو المفهوم والثاني هيَ تجلياته، والحقيقة أنه خلط بين الضروري والعرضي وهذا هو كعب أخيل في تعريفه.
وتتضمن طريقة لينين في تعريف الإمبرياليةدون أنْ ينص على ذلك صراحة  - شرط اجتماع السمات الخمس التي ذكرها لكي تتكون ظاهرة الإمبريالية.. وحتى في هذه الحالة فإنَّ الطريقة تفتقد إلى تحديد القوة التي تربط السمات المختلفة للظاهرة، أيْ أنَّ الكلي يظل مفتقدًا لصالح الجزئي، ويظل المفهوم هو بمثابة "الشئ في ذاته" الكانتي الذي كان ينبغي أنْ يكون قد مات منذ أمد بعيد، وتظل السمات والخواص.. أيْ الأمور الظاهرة، التي تعرف عن طريق الملاحظة هيَ وحدها المعروفة.. أو التي يمكن معرفتها؛ أما حقيقة الظاهرة.. أو مفهومها فينظر إليه على أنه "التعريف الموجز"!
وقد أدت طريقة لينين إلى كثير من أوجه القصور والاضطراب:
فقد حدد للإمبريالية عدة عوامل على أنها ضرورية اتضح لنا بعد ذلك أنَّ بعضها مؤقت (خاصة هيمنة رأس المال المالي) وبعضها سابق على الرأسمالية. وقد تنبه لينين إلى هذه المسألة بشكل ما حين تذكر روما القديمة وسياستها "الإمبريالية" فقرر نبذ فكرة البحث "العام" على حد تعبيرهص 115، في الإمبريالية، وراح يميز بين إمبريالية وأخرى مضيفًا أنَّ الإمبريالية الحديثة هيَ إمبريالية الاحتكارات الرأسمالية([28]). وعند هذه النقطة راح يتذكر أنَّ الإمبريالية الرأسمالية يجب أنْ تكون مختلفة عن "إمبريالية" روما، وفي هذا الصدد أشار إلى أنَّ رأس المال المالي([29]) يبحث عن الخامات والأسواق في المستعمرات، كما أشار بهذه المناسبة إلى خلق أشكال من التبعية "المالية والدبلوماسية" (ص 119) ضاربًا مثالًا بالأرجنتين؛ إلا أنه أخذ بعد ذلك يبدد أيَّ شك يتطرق إلى أنفسنا حول اقترابه من مفهوم الإمبريالية - التبعية الهيكلية؛ فقال بالحرف الواحد: "قد ُوجدت دائمًا علاقات من هذا النوع بين الدول الكبرى والصغرى، إلا أنها غدت نظامًا عامًّا([30]) في عهد الإمبريالية الرأسمالية وكونت جزءا من مجموع علاقات (اقتسام العالم) وأصبحت حلقات في سلسلة عمليات رأس المال المالي العالمي" - ص 120. إنه إذن يعود كما هو واضحلينفي مباشرة خصوصية مفهوم التبعية في ظل الرأسمالية، ويصبح الفرق بين إمبريالية روما والإمبريالية الحديثة محدودًا للغاية؛ فقد غدا هذا النوع من العلاقات نظامًا عامًّا، وجزءا من كل.... إلخ. أهذا إذن هو كل شئ.؟ ألم يظهر نوع جديد تمامًا من التبعية؛ التبعيةالإمبريالية؟
2 - كما اختار سمة أولاها أهمية محورية في علاقة الرأسمالية الاحتكارية بالعالم الخارجي، ذلك أنه لم يفهم علاقة الرأسمالية بالآخر (خصوصًا المستعمرات) إلا كعلاقة نهب، وسجل ملاحظة أنَّ تصدير رأس المال يستهدف تحقيق معدل أعلى للربح ويعتبره جوهرالإمبريالية والطفيلية الإمبريالية، على حد تعبيره([31]).
والحقيقة أنَّ تصدير رأس المال لم يكن بديلًا لتصدير البضائع بل لقد حفز هذه العملية كما حفز من استيراد البضائع أيضًا، أيْ حفز التبادل الدولي (وهذا هو دوره الحقيقي) وهو لا يعدفي حد ذاته، لو توقفنا عندهآلية لصياغة علاقة الإمبرياليةالتبعية، وإنما يقوم بهذا الدور من خلال التبادل الدولي المصاحب بأشكال مختلفة من القسر الاقتصادي والعسكري والتهديد الدائم باستعمالهما. ويلعب تصدير رأس المال إلى العالم الثالث دورًا كبيرًا في حفز عملية التبادل السلعي من خلال إنشاء قطاعات حديثة في البلدان المختلفة تشكل بدورها طلبًا على منتجات البلدان الرأسمالية وتنتج عرضًا كذلك من السلع المطلوبة في السوق الدولي. وليس من الصدف أنَّ كل من تحدثوا عن تصدير رأس المال (ومنهم لينين) وأولوه أهمية مطلقة، ربطوا بين هذه العملية وعملية البحث عن المواد الخام والأسواق. وقد أشار سمير أمين إلى أنَّ معدل النمو السنوي للتجارة العالمية قد ارتفع من 3.3% في الفترة من 1840 - 1880 إلى 14% في الفترة من 1880 - 1913 وهيَ الفترة التي شهدت أعظم معدل لتصدير رأس المال([32]).
ورغم هذا لم يقطع لينين برأيٍ واضح حول العلاقة بين تصدير رأس المال وتصدير السلع؛ ففي إحدى عباراته حددها كعلاقة إحلال: "كان تصدير السلع الحالة النموذجية في الرأسمالية القديمة؛ حيث كانت السيادة التامة للمنافسة الحرة وغدا تصدير رأس المال الحالة النموذجية في الرأسمالية الحديثة التي تسودها الاحتكارات" - ص 86. وفي موضوع آخر أشار إلى استغلال الاحتكارات لـ "العلاقات" لعقد الصفقات المفيدة، ضاربًا أمثلة مثل اشتراط استيراد السلع من البلدان التي تمنح القروض للبلدان الأخرى، مما يفهم منه أنَّ الاحتكارات قد تستفيد أو تستفيد بالفعلبشكل عارض جانبي من عملية تصدير رأس المال بزيادة تصدير السلع.. ونجده بعد قليل يستنتج من هذا ما يلي: "أصبح تصدير رأس المال إلى الخارج وسيلة لتشجيع تصدير السلع" - ص 96([33])، إلا أنه واصل مباشرة محاولة البرهنة (بالأمثلة) على أنَّ هذه الوسيلة إنما تستخدم بالرشوة والضغط، أيْ يتعامل معها كذريعة أو وسيلة مفتعلة أو تآمرية (راجع الكتاب ص 96، 97) فهو لا يحدد أنَّ تبادل رأس المال في حد ذاته يحفز مباشرة وبشكل غير مباشر أيضًا تبادل السلع.
وقد عبر السياسي الاستعماري الكبير بالمرستون عن حقيقة الرأسمالية الاحتكارية ذات النزعة الإمبريالية، وعلى نحو صريح بقوله: لإمبراطورية هيَ التجارة"([34])، هكذا مزيلًا كل الغشاوات دفعة واحدة. كما أنَّ السمات التي حددها لينين للإمبريالية تتضمن "تصدير رأس المال كعملية متميزة عن تصدير البضائع" - ص 125؛ ففي تعريفه "الشامل" إذن لا يحدد العلاقة بين العمليتين.
وقد أرجع لينين ظاهرة تصدير رأس المال إلى وجود فائض منه: "وقد حدث فيض هائل من رؤوس الأموال في البلدان المتقدمة" (ص 87)، "ومن البديهيَ أنه لو استطاعت الرأسمالية تطوير الزراعة المتأخرة في كل مكان عن الصناعة بشكل فظيع، ولو استطاعت أنْ ترفع مستوى معيشة الجماهير، فلن يكون هناك مشكلة مثل فيض رأس المال "....”ولكن الرأسمالية في هذه الحالة ما كانت لتكون رأسمالية، لأن التفاوت في التطور وانحطاط معيشة الجماهير إلى مستوى شبه المجاعة هما شرطان أساسيان وحتميان لا غنى عنهما لهذا الأسلوب في الإنتاج" . - ص 87.
ومن الغريب أنَّ الجدول الذي أورده لينين ص 89 والخاص بكمية رأس المال الأجنبي يوضح بجلاء أنَّ الجزء الأعظم منه ذهب إلى بلدان الرأسمالية احتكارية (أوروبا وأمريكا) تمتع بعضها (مثل الولايات المتحدة) بإمكانية تصدير رأس المال وكانت تصدره بالفعل. وكان القليل من رأس المال يُصدر إلى بلدان متخلفة فقيرة، كما أصبح من الواضح الآن أنَّ تطور الزراعة قد سار شوطًا بعيدًا جدًّا (معادلًا لمستوى الصناعة) ولم يعد مستوى معيشة السكان على حافة الجوع! وذلك رغم استمرار وعمل قانون التطور المتفاوت الذي أشار اليه. وكما أشار لينين نفسه، فإنَّ تصدير رأس المال يأتي بأرباح عالية، وهذا مما يفاقم من مشكلة الفائض.([35]) والحقيقة أنَّ مسألة تصدير رأس المال منفصلة على المدى الطويل تمامًا عن مسألة الفائض النسبي من رأس المال، وهو نسبي فقط لأنه ليس فائضًا حقيقيًّا؛ إذ أنه يعبر عن انحطاط الرأسمالية لا أكثر. وهذا الفائض لا يجري تصديره، بل تبديده بمختلف الأساليب. وهذه العملية الأخيرة هيَ المقياس المباشر لمدى تعفن الرأسمالية ومع ذلك لم يتناولها لينين أبدًا رغم حديثه عن طفيلية الرأسمالية الاحتكارية وتعفنها!
والمسألة الأساسية من وجهة نظرنا في موضوع تبادل رأس المال بين البلدان الرأسمالية والمتخلفة تتعلق ببحث دور هذه العملية في إنشاء وإعادة إنشاء علاقة الإمبرياليةالتبعية الهيكلية وهو الأمر المهمل كليًّا عند لينين؛ فهو لم يميز بين مفعول تصدير رأس المال إلى المتروبولات عنه إلى المستعمرات.
وأخيرًا لا يمكن النظر إلى الإمبرياليةالتبعية كمجرد علاقة نهب؛ فرغم وجود النهب إلا أنه لا يشكل جوهر العلاقة([36])؛ فالدول الرأسمالية تبدد من الفائض بمختلف الأشكال أضعاف أضعاف ما تنهب من البلدان المتخلفة وفقًا لأيِّ تقديرات([37])؛ فهيَ ليست في حاجة إلى نهب العالم الثالث وتستطيع إذا وفرت نسبة ضئيلة من الفائض المبدد أنْ تستغني عن هذا النهب تمامًا، إلا أنَّ المسألة لا تتلخص في عملية النهب؛ فهيَ تستخدم هذه البلدان لخدمة عملية التراكم داخلها، سواء كان مصدر النهب هو الفائض المنتزع من عمال المتروبولات أم المحول من العالم الثالث.. فالإمبريالية كعلاقة تخدم عملية إعادة الإنتاج الموسعة بأشكال ُيعتبر النهب الخارجي أحدها فحسب، بل وقد يلعب تحويل الفائض بالعكس، من المتروبولات إلى العالم الثالث أو بعض بلدانه الدور نفسه في فترات معينة (مثل ريوع البترول الضخمة المدفوعة إبان السبعينات)، وسوف نشير هنا إلى مثال ذي دلالة: في 1945 كان أمام بريطانيا أنْ تختار بين حدود التبادل، والتوسع فاختارت الأخير، متخذة سياسة تقشفية مما أدى إلى انخفاض أسعار منتجاتها من السلع الإنتاجية والتي شكلت معظم صادراتها في ذلك الوقت، وقد أدى هذا الأمر إلى تدهور حدود التبادل لغير صالحها، عكس ما حدث في نفس الوقت مع بلد مثل فرنسا([38])، وهكذا عبر الخسارة المباشرة حققت بريطانيا مكاسب أهم: تعجيل التراكم على حساب الطبقة العاملة في الداخل.
وقد تبين خطأ لينين بخصوص الإمبرياليةالتبعية أخيرًا في مقارنة عقدها - نقلًا عن هوبسون - بين ما تكسبه بريطانيا (في زمنه) من التجارة الخارجية (18م. جـ) وما تكسبه كعوائد للاستثمار الخارجي (90 - 100 م.  جـ)؛ فقد توقف عند النهب فقط ولم ينظر إلى التبادل السلعي كمحفز استراتيجيإنْ صح التعبيرلتقسيم العمل لصالح المتروبولات، أيْ لم يضع في اعتباره ما يحدث التبادل من تراكم داخلي في البلد الرأسمالي نفسه.
بهذا المعنى يمكننا أنْ نحدد مفهوم الإمبريالية كعلاقة بين مجتمعية على الصعيد العالمي طرفاها: البلدان الرأسمالية والبلدان المتخلفة، وهيَ ظاهرة مرتبطة ارتباطًا مطلقًا بالتبعية، أو هما وجهان لعملة واحدة هيَ بنية التخلف. والإمبريالية بهذا المعنى مجرد نتاج الرأسمالية؛ أما بالنسبة للبلدان المتخلفةوهيَ صورة التبعيةتُعتبر جوهر وجودها نفسه؛ حيث إنها جوهر التخلف ([39]). لا يمكن للمرء إذن أنْ يدرس ظاهرة الإمبريالية إلا بدراسة ظاهرة التخلفالتبعية وأنها التجسيد الحيِّ الملموس للإمبريالية.
ولا شك أنه من الضروري أيضًا لدراسة الإمبريالية أنْ نحلل تطور وآليات عمل النظام الرأسمالي، باعتباره الطرف الأقوى في علاقة الإمبرياليةالتبعية والمعمل الذي أفرز هذه العلاقة أصلًا، وإلى لينين رغم أخطائه التي أشرنا اليها يعود الفضل في التنبيه القوي لأهمية ظاهرة الاحتكارات، إلا أنهكما انتقده باران وسويزي بحقلم يحلل آلية عمل النظام في ظل الرأسمالية الاحتكارية ([40]).

************************************





([1]) اعتمدنا على الترجمة الإنجليزية، طبعة موسكو 1970..
([2]) محمد عبد الشفيع تصنيع العالم الثالث في إطار النظام الاقتصادي العالمي الجديد - بيير جاليه، الإمبريالية عام 1970.
انظر كذلك مقدمة لينين لكتابه المذكور.
وقد استعرض كينيث تارباك أفكار كل من روزا الكسمبورج وبوخارين وهوبسون وهلفردنج ولينين وإرنست ماندل، في مقدمة لكتاب:The Accumulation of Capital , An Anti – Critique, By Roza Luxomborg. Imperialism and Accumulation of Capital. By N. Bukharin. monthly Review press. New york – London.
 ([3]) تناول ماركس هذه المسألة في مواضع متفرقة من "رأس المال"، "نظريات في فائض القيمة"، صنفتها طبعة موسكو الإنجليزية في فهرس الموضوعات تحت عدة عناوين:
Concentration, Monopoly, Capitalist monopoly.
 ([4]) انظر في هذا: Charles Issawi: Egypt at Mid -Century
باتريك أوبريان. ثورة النظام الاقتصادي في مصر.
محمود متولي: الأصول التاريخية للرأسمالية المصرية وتطورها.
 ([5]) بيير جاليه الإمبريالية عام 70 - (the Introduction) Kenith Tarbac, Op. cit.
([6]) نقصد هنا التصدير الابتدائي do novo لرأس المال لا مجرد إعادة تصدير أرباح رأس المال الأجنبي، رغم أنَّ هذه العملية الأخيرة تعتبر هيَ الأخرى عملية تصدير لرأس المال، لأنه لو وجدت هذه الأرباح مجالًا مجزيًا ومأمونًا من وجهة نظر الرأسمالي لإعادة الاستثمار لما ُحولت إلى الخارج؛ فتحويل الأرباح ينتج عن نفس الميكانيزمات العامة التي تؤدي إلى تصدير ابتدائي لرأس المال. وكان هذا الشكل أيْ تحويل الأرباح هو السائد وربما الوحيد في زمن لينين.
([7]) أصبحت هذه الصعوبات أكثر بروزًا بكثير مع نمو الحد الأدنى للحجم الاقتصادي للمشروع وبالتالي الميل التلقائي لرأس المال لتجاوز الحدود القومية. وسوف نعود لبحث هذه النقطة فيما بعد.
([8]) ليس أدل على ذلك من أنَّ مفعول تبادل رأس المال بين البلدان الرأسمالية كان دائمًا في صالح تطور هذه البلدان ولم يؤد إلى تحويل بعضها إلى بلدان مختلفة تابعة. وقد لعب رأس المال الأجنبي دورًا مهما في تصنيع معظم بلدان العالم الرأسمالي؛ ففي 1760 شكل رأس المال الهولندي 25% من رأس المال في بريطانيا، ولعب رأس المال البلجيكي والإنجليزي دورًا هاما في موجة التصنيع الأولى في فرنسا، كما لعب رأس المال الهولندي دورًا شبيها في ألمانيا، والفرنسي فعل نفس الشئ في بريطانيا، والإنجليزي قام بدور كبير في إنشاء السكك الحديدية في الولايات المتحدة.
Ernest Mandel , Late Capitalism, 1980, page 50.
([9]) قد ُتثار هنا حجة نعتبرها طريفة فقط، هيَ أنَّ المقصود هو الدول الرأسمالية، كما كان المقصود فيما سبق: الاحتكارات الرأسمالية، تمركز الإنتاج الرأسمالي. والرد بسيط جدًّا: في هذه الحالة يمكن الحديث عن إمبريالية رأسمالية وإمبريالية قبل رأسمالية وإمبريالية اشتراكية (أو بيروقراطية) إلخ. وسوف لا يطول انتظارنا حتى نجد لينين نفسه يقع في هذا النوع من المقارنة!
([10]) نقصد بالهيمنة الهيكلية: الإلحاق العضوي للعالم الثالث بالمتروبولات. بمعنى آخر هيَ: إقامة بنى اقتصادية اجتماعية (مع إعادة إنتاجها باستمرار) يكون دورها الأساسي هو خدمة البلدان الرأسمالية (أوروبا غ أمريكا ش اليابان..) لا تنمية نفسها، بحيث يصب التراكم أساس في المجموعة الأخيرة. ويتبدى هذا الأمر في وضع تقسيم عالمي للعمل وإعادة وضعه حسب التطورات التي تتم في المتروبلات أساسًا، والأهم من هذا هو فرض توجيهات محددة للاقتصاديات المتخلفة يمكن إيجازها في نقطتين: 1- نمو متزايد لقطاع تصديري قوي. 2- نمو متزايد لقطاع احلال واردات قوي. على حساب النمو الداخلي، أو بتعبير سمير أمين: "المتمحور حول ذاته". وقد وصف سمير أمين التبعية الهيكلية وصفًا دقيقًا للغاية بأنها النمو التخارجي Extroverted Development. مقابل Enteroverted Development في المتروبولات.
([11]) التشديد من عندنا. واضح أنَّ السيطرة تعني عند لينين الاستيلاء على الأراضي (ونفس الأمر عند كاوتسكي كما سنرى).
([12]) يجب أنْ نلاحظ أنَّ ظاهرة الإمبريالية كهيمنة هيكلية على البلدان المتخلفة قد سبقت بعدة عقود عصر الرأسمالية الاحتكارية، وقد بدأت الإمبريالية على وجه التحديد مع الثورة الصناعية وهيمنة رأس المال الصناعي على رأس المال التجاري في أوروبا، والتي تبعها إعادة تشكيل النظام الاقتصادي في المستعمرات والبلدان قبل الرأسمالية، وهذا لا ينفي أنَّ المشاريع الأكبر حجما هيَ التي لعبت الدور الأهم في صياغة هذه العلاقة الجديدة، لا بفضل طابعها الاحتكاري بالذات، بل بفضل ضخامة إمكانياتها وإنتاجها. كما نستطيع القول بأن العلاقة العضوية بين مجموعتي البلدان قد تبلورت تمامًا مع سيادة الاحتكارات، لا بفضل سيادة الاحتكارات بالذات بل بفضل نمو الرأسمالية. باختصار: الإمبريالية سابقة على عصر سيادة الاحتكارات الرأسمالية.
([13]) نقصد هنا ما يسمى بال Exploitation Colonization وليس الـ Settlement Colonization أو الاستعمار الاستيطاني.
 ([14]) يُقصد بالنمو المركب، نمو أشكال وعلاقات تنتمي إلى مراحل تاريخية مختلفة، وأعمق معنى للنمو المركب هو النمو في اطار أكثر من نمط إنتاج متشابكين دون أنْ ينحي أحدهم الآخر.
([15]) تناولنا بشئ من التفصيل تحليل هذا المفهوم تحليل هذا المفهوم في مقال "بنية التخلف" - الراية العربية، العدد الأول، نوفمبر 1986.
([16]) نلاحظ أنَّ هذه الإشارة العابرة جدًّا تتضمن بالقوة شعورًا بتميز العلاقة بين المتروبلات والمستعمرات، إلا أننا نتذكر فورًا أنَّ هذه العلاقة قد ُحصرت لدى لينين في الاستعمار المباشر.
([17]) التشديد من عندنا.
([18]) قد يقول قائل بأن لينين لم يكن في وضع يمكنه من التنبوء باستقلال المستعمرات المباشر.. ولكن الحقيقة أنَّ المسألة ليست على مستوى التنبؤ بل على مستوى التحليل، ألم يكن ينبغي له أنْ ينظر إلى التبعية هيَ تبعية كلية، شاملة للهيكل الاقتصادي ككل؟
ومع ذلك فنحن نتوقع أنْ يشير البعض إلى أنَّ الوضع الحالي: حالة التبعية في ظل استقلال مباشر هيَ مكسب خطوة إلى الأمام حققتها البورجوازيات الوطنية في المستعمرات السابقة وأنها بذلك تمثل حالة انتقالية كما وصفها لينين! ونحن نطالب أصحاب هذه الفكرة الواسعة الانتشار بأن يجيبوا على السؤال الآتي: هل هذه هيَ حالة انتقالية من الناحية المنطقية..؟ ولنلاحظ أنَّ هذا هو ماقصده لينين بالفعل. والواقع أنَّ الرأسمالية تحتاج إلى أشكال الهيمنة المباشرة ولكنها تحتاج إليها كمجرد وسائل أو وسائط لاستمرار إنتاج وإعادة إنتاج الهيمنة الهيكلية، التي تعتبر النتيجة الاستراتيجية للإمبريالية، والتي تلعب دورًا استراتيجيًّا في تسيير آلة النظام الرأسمالي.
([19]) التشديد من عند كاوتسكي.
([20]) كان ماركس دقيقًا للغاية في تحليله لرأس المال التجاري والبنكي في "رأس المال"، حيث استخلصهما كمفاهيم من رأس المال بما هو كذلك. وهو يقصد برأس المال الصناعي رأس المال المستثمر في عملية إنتاج وإعادة إنتاج فائض القيمة. واعتبر ماركس مستنتجًا بطريقة منطقية رأس المال التجاري مجرد رأسمال متحور modified  وكذلك رأس المال البنكي.
 ([21]) بول بايروك، مأزق العالم الثالث. ونشير كذلك إلى أنَّ الصراع بين البلدان الرأسمالية قد تجاوز هذه النقطة إلى نقطة أعلى: الصراع على بلدان متخلفة، أيْ بعد تحديث (أو التحديث الجزئي للبلدان قبل الرأسمالية). وهذا النوع من الصراع تختلف آلياته وغاياته عن الصراع على أسواق البلدان الرأسمالية نفسها، كما تختلف آلياته وغاياته أيضًا عن الصراع على بلدان قبل رأسمالية (أيْ البلدان التي صار معظمها بعد ذلك بلدانًا متخلفة).
([22]) سنعود إلى هذه المسألة فيما بعد، ونذكر القارئ بأننا نهتم أكثر بالمسائل المنهجية ولا نقدم في هذه الصفحات دراسة عن الإمبريالية ككل.
([23]) التراكم على الصعيد العالمي، التطور اللامتكافئ.
([24]) Socialism and Colonial Policy Translated into English by Angela Clifford , 1975 puplished by Athol Books, Belfast.
([25]) نستمد مشروعية هذه المقارنة من اتفاق طريقة لينين مع البنيوية في نقطة البداية؛ فالظواهر تعامل على أنها كل معقد.. تعدد متشابك دون الاعتراف بالقيمة العلمية للمفهوم (الواحدي، البسيط بهذا المعنى نفسه) كأساس للمعرفة.
([26]) طبعًا من الواضح للقارئ اللبيب أنَّ هذين المفهومين يعدان من الكليات إلا أنَّ احدهما جزئي بالنسبة للأخر.
([27]) لا يوجد تعريف موجز وتعريف مفصل؛ فالتعريف كما قال هيكل بحق يختزل موضوع البحث إلى "مفهومه" ينتزعه من تخارجاته اللازمة لوجوده العيني"، وهو بهذا المعنى "العلامة المميزة والتعيين الماهوي Essential في الوجود الفعلي لمثل هذا العيني" Hegel, Science of Logic, Translated by A.V. Miller, 1976, p. 795, 799 respectivily.
([28]) انظر هامش (9).
فلنلاحظ هنا أنَّ لينين يخلط الأمور من جديد: فالإمبريالية لم تعد مفهوما عاما ولا حتى تعريفًا (مختصرًا أو شاملًا!). إنَّ لينين يهتم أكثر بالوقائع المباشرة.. باللحظات العملية؛ أما المفاهيم وطريقة التحليل فلا تُعار الأهمية اللازمة.
([29]) من الواضح الآن أنَّ رأس المال الصناعي في عصرنا هذا يبحث هو الآخر عن مصادر الخامات (البترول خاصة) وعن الأسواق.. فمن المؤكد أنَّ هذه النزعة لا ترتبط فقط برأس المال المالي، بل وكان يجب أنْ يلاحظ لينين أنها ارتبطت برأس المال المالي في عصره لا بصفته مالي بل بصفته صناعي أيضًا، والأهم من ذلك أنَّ رأس المال الأجنبي منذ انتهاء الحرب العالمية الأخيرة يهتم أكثر فأكثر بالصناعة التحويلية في العالم الثالث.
([30]) التشديد من عندنا.
([31]) لا يمكن في الحقيقة إرجاع ظاهرة تصدير رأس المال إلى دافع مباشر محدد مثل: البحث عن معدل أعلى للربح حيث إنَّ رأس المال يتجه أحيانًا إلى مناطق ذات معدل ربح أقل مما هو في البلد الأم، والمناطق المفضلة عمومًا لا تتميز بمعدل ربح أعلى، وقد سبق أنْ حددنا أنَّ رأس المال يبحث عن اعلى معدل احتمالي للربح على المدى الطويل ويحقق هذا بوسائل مختلفة منها الهجرة ليس بالضرورة إلى أكثر المناطق ربحية في لحظة التصدير.
وقد استعرض محمد السيد سعيد (الشركات عابرة القومية ومستقبل المسألة القومية) مختلف النظريات في هذا الموضوع ونحيل القارئ أيضًا إلى سمير أمين: التراكم على الصعيد العالمي التطور اللامتكافئ صفحات متفرقة.
([32]) التطور اللامتكافئ ترجمة برهان غليون.
ط 3 بيروت 1980، ص 127.
([33]) نوجه النقد التالي لهذه العبارة:
1- إنَّ هذا الأمر كان موجودًا منذ بداية تصدير رأس المال ولم "يصبح" فقط.
 2- من الأفضل والأصح أنْ نقول: تبادل رأس المال يحفز تبادل السلع.
([34]) Arghiri Emmanuel, Unequal Exchange, Op cit. Page 83.
([35]) بول باران سويزي: رأس المال الاحتكاري.
([36]) يمكن الحديث عن علاقة نهب محض خلال ما تسمى بالفترة المركانتلية، إلا أنَّ الأمر لم يعد كذلك فحسب منذ الثورة الصناعية.
([37]) قدر سمير أمين الفائض المحول من البلاد المتخلفة إلى البلاد الرأسمالية عام 66 بـ 22 مليار دولار عن طريق "التبادل غير المتكافئ"، أيْ 1.5% من مجموع إنتاج الأخيرة (التبادل غير المتكافئ، ص 114).
فاذا اضفنا من أشكال النهب الأخرى ضعف هذه النسبة لأصبح ما ينهب العالم الرأسمالي يعادل 4.5% من إنتاجه. فاذا حسبنا الفائض الذي يبدده لوجدناه يزيد بعدة أضعاف عن هذه النسبة؛ فهناك بطالة في حدود هذه النسبة نفسها في أفضل اللحظات، كما أنَّ الطاقة العاطلة ككل في الصناعة تفوق هذه النسبة بكثير في أوقات الانتعاش. وهنا بالإضافة إلى هذا التخلص من الإنتاج النهائي نفسه بالإحراق والإلقاء في البحر.. وهكذا.
وقد قدرت خسائر الاقتصاد الأمريكي في الفترة من عام 1930 إلى عام 1938 بـ 293 مليار دولار بسبب البطالة وحدها، بينما كان الناتج القومي في عام 1929 نحو 810 مليار دولار، وتزيد هذه الخسارة عن 30% من الناتج عام 1939 وعن نصف الناتج عام 1938. بول باران: الاقتصاد السياسي للتنمية، ص ص 105-106. وطبعًا ترتفع نسبة الخسارة بعدة أضعاف اذا ما أخذنا في الاعتبار أشكال التبديد الأخرى، وبذلك تقف التحويلات الخارجية هزيلة للغاية أمام هذا التبديد.
وعلى الجانب الآخر تبدد البلدان المتخلفة من الفائض الاحتمالي والفعلي أضعاف أضعاف ما تحوله إلى الخارج، وهاك امثلة:
 الدولة                                 معدل الادخار الضائع من الدخل القومي
اكوادور                                59.3%
هندوراس                              58.1%
السلفادور                              61.9%
الدمنيكان                              67.5%
كولومبيا                               61.5%
الهند                                   10.1%
باكستان                                14.8%
تايلاند                                  30.9%
كوريا الجنوبية                         49%
رمزي زكي. أزمة الديون الخارجية للدولة النامية، ص 604.
ويقدر باران الفائض المبدد سنويًّا في بعض البلدان المتخلفة:
الملايو              1947                                23%
سيلان              1951                                20%
الفلبين              1948                                16%
الهند                                                       10%
تايلاند                                                      26%
   (الاقتصاد السياسي للتنمية، ص 347).
لا يمكن اذن اعتبار مسألة النهب ذات أهمية حاسمة في العلاقات الدولية المعاصرة.
([38]) Arghiri Emmanuel, Op. cit., p. 83
([39]) وبعد هذا ينبغي لنا أنْ نتساءل هل يجب اعتبار الإمبريالية التبعية شرًّا محضًا؟ هل الإمبريالية هيَ علاقة رجعية بصورة مطلقة؟
في الواقع أوضح كتاب لينين بجلاء، أنَّ الرأسمالية الاحتكارية تميل إلى عرقلة تطور القوى المنتجة في البلدان الرأسمالية وحلل طابعها الطفيلي، إلا أنه لم يتناول دورها في البلدان المتخلفة بالشكل الملائم. فإذا كان من الواضح أنَّ الرأسمالية الاحتكارية في أوج تطورها تلعب دورًا رجعيًّا على صعيد العالم الرأسمالي؛ فإنَّ دورها واضح في تحويل المجتمعات قبل الرأسمالية إلى مجتمعات متخلفة ذات اقتصاد نقدي حديث واكثر ديناميكية مئات المرات من الوضع السابق، هذا الدور يطرح سؤالًا ملحًّا: هل لعبت الإمبريالية بدورها في تكوين الأنظمة المتخلفة دورًا تقدميًّا، بمعنى أنه حول هذه البلدان إلى وضع أكثر قابلية لتحقيق نقله ثورية كبرى؟ لا شك أنَّ هذه الإشكالية تحتاج إلى دراسة تفصيلية، إلا أنَّ السؤال نفسه مشروع، وهو أمر يوضح لنا مدى أهمية تحديد مفهوم الإمبريالية بالطريقة التي عرضناها بها؛ أما طريقة لينين فتطمس هذه القضية تمامًا، حيث لا تميز بين دور الرأسمالية في الداخل ودورها الإمبريالي (في العالم المتخلف).
([40]) رأس المال الاحتكاري، الفصل الأول. 

ليست هناك تعليقات: