عادل العمري
18 سبتمبر 2018
- كتبت الكثير عن الناصرية لكن هذه أول مرة أكتب عن جمال عبد الناصر
كشخص. من قبل كتبت عنه كمجرد زعيم لنظام معين وطغمة حاكمة عبارة عن فئة مغلقة
مصطنعة تكونت من أفراد ينتمون إلى أصول وفئات متعددة: ضباط جيش وأمن، وإعلاميين،
"مثقفين"، و "مفكرين"، وفنانين وإداريين في جهاز الدولة، وأفاقين
وانتهازيين من كل صنف، شكلوا جميعًا زمرة واحدة، تتناحر – مع ذلك – شللها مع
بعضها، ويقودها جمال عبد الناصر.
- لا يمكن افتراض أنه كان يرغب في تحقيق مكاسب مادية لنفسه؛ فلم يثبت
عليه أي فساد مالي.. ولا شك أنه كان يحب السلطة وكان مقعد الحكم جذابًا، لكن لا شك
أيضًا أنه كان يمنى أنْ يحكم بلدًا له أهمية في العالم. فالواضح أنه كان بالفعل
يرغب في تطوير البلد وجعلها بلدًا متقدمًا وغنيًّا وقويًّا، وقد سعى إلى ذلك بالفعل.
- إلا أنه:
·
اعتقد
أنَّ حكمه هو ضمانة تحقيق مشروعه، ولذلك كان الاحتفاظ بالسلطة وإقصاء أيِّ معارضة أهم
قضية عنده، وفي سبيل ذلك كرس جهودًا ضخمة: أجهزة أمنية كبيرة، تشويه المعارضة ولو
باللجوء إلى الكذب والدعاية الرخيصة (مثال ذلك الدعاية الرخيصة للغاية ضد الشيوعية
التي شارك فيها بنفسه مرارًا). وبنفس الدافع ارتكب جرائم بوعي وإدراك في بداية
حكمه للمحافظة على السلطة: منها – كمثالين بارزين - إعدام العاملين خميس والبقري عام 1952،
واستخدام البلطجية في 1954 للاستيلاء النهائي على السلطة، وفي أواخر حكمه: مثال
قتل عبد الحكيم عامر خارج القانون.
·
كان
محدود الثقافة ويتسم بضيق أفق سياسي بشع أدى إلى توريط
البلاد في معارك خاسرة. كان الهدف المباشر هو تجييش الشعب خلفه ولو في معارك
خارجية، مدعيًا التعرض لحصار اقتصادي ومؤامرات دولية، مدعيًا أنَّ مصر في شخصه
مكلفة بالدفاع عن القومية العربية..
·
افتقد حصافة السياسي المسؤول وتصرف
كزعيم لا كرئيس مسؤول عن شعب؛ فلم يقبل -
مثلًا - بالتراجع في مناسباب أو لحظات خطيرة مثل حرب اليمن وحالة الحشد في مايو
1967، ولم يقبل بالحل السلمي للقضية الفلسطينية حسب اقتراح بورقيبة المعقول جدًّا
وقتها، بينما اضطر لقبول قرار مجلس الأمن 242 بعد هزيمة نظامه في 1967.. هذه
مجرد أمثلة.
·
لا
يعرف كيف يمكن أنْ يحدث التطور وكيفية بناء بلد قوي، بدليل أنه فشل في تحقيق ذلك
الحلم، بسبب لجوئه إلى نمط تنمية مكلف جدًّا وغير فعال في جعل الاقتصاد مؤثرًا في
السوق العالمي (تنمية التخلف).. لم يستطع حتى أنْ يقضي على الأمية، بل وتدهور
مستوى التعليم في عهده، ولم يتغلب على ظاهرة هجرة العقول بسبب سياسة إحلال أهل
الثقة محل أهل الخبرة. بل من الطريف أنه أعلن قرار التحول الاشتراكي ثم وضع
الاشتراكيين في المعتقلات وعذبهم! كما اتبع سياسة "عدم الانحياز" دون أنْ
يتمكن فعليًّا من وضع استراتيحية لمصر (على غرار الصين مثلًا).
·
كان
يجهل أبجديات تكوين جيش قوى؛ فوضع على رأس الجيش قائدًا شديد الجهل بأصول بناء
الجيوش (لم يكن يعرف هو وضباطه الأشاوس - مثلًا - أنَّ الدبابات تستطيع أنْ تسير
في الرمال!)، وتجنب تجنيد المتعلمين - لأسباب أمنية – مما كان كارثة على الجيش،
واتضح جهله في رفضه إنشاء دشم للطائرات، ولولا الخبراء السوفيت بعد 1967 لما
استطاع إعادة بناء جيش مقاتل.
·
كان
يعتقد أنه يستطيع تطوير مصر بمجرد إعطاء الأوامر؛ فتصور أنَّ إرادته وشخصيته القوة
كفيلان بتغيير مسار التاريخ بغض النظر عن إمكانيات الواقع، مما يعبر عن شعور بالعظمة.
·
لم
تخل شخصيته من القسوة والنزوع للانتقام: محمد نجيب مثال بارز – تعذيب الخصوم بقسوة
– الاعتقال بدون مبرر سياسي. فقد كان يشعر بالعظمة والضعف في ذات الوقت (شخصية
بارانوية)، وعاش في وهم المؤامرت الدولية والمحلية طول الوقت رغم الدعم الاقتصادي
الأمريكي الكبير حتى 1965، ومساعدتهم له في مفاوضات الجلاء وحرب 1956 وخلال فترة
الوحدة مع سوريا وبعدها، وتدريب جهاز المخابرات الذي أنشأه..إلخ، بخلاف دعم
السوفيت الضخم والصداقات العديدة في العالم الثالث.
·
بسبب شعوره الداخلي بالضعف والخواء،
كان يظن أنه بالصوت العالي والتهديدات الجزافية سيخيف العدو ويحقق النصر.. وهذا
ينم عن جهل بلعبة السياسة أصلًا.. إذ كلفت هذه النغمة مصر غاليًا.
·
كان يسعى لتكوين أتباع لا أنصار
أقوياء. بدافعين: الأول: اعتماده على شعوره بالعظمة الشخصية وبالتالي عدم احتياجه
لأنصار ولا لأهل الخبرة. والثاني: شعوره الداخلي بالضعف
والعجز. لذلك كان بالتأكيد - كما تدل الوقائع - يتدخل في تفاصيل عمل جهاز الدولة،
ولم يعتمد على المؤسسات خوفًا من المؤامرات! بل أمر حتى باعتقال أفراد بعينهم مدى
الحياة (مثل الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم)؛ فكان بالفعل يلعب بشكل مباشر دورًا
قائدًا ومؤثرًا في إدارة البلد وتوجيه سياستها.
·
بحث
عن الشعبية على حساب المستقبل في سبيل تثبيت حكمه. وكانت الخطوة الأولي هي الإصلاح
الزراعي المحدود والمصحوب بدعاية كبيرة، رفع الأجور وتخفيض ساعات العمل على حساب
الاقتصاد، مِنَح الموظفين المنتظمة من التمويل بالعجز، خفض إيجارات المساكن دون
تقديم بدائل فعالة لحل أزمة الإسكان اللاحقة (قرر إنشاء عدد من المساكن الشعبية
والمتوسطة لا تكفي حتى عشر الزيادة السكانية مع دعاية ديماجوجية واسعة) - التوسع
في التعليم الجامعي المجاني بدون إمكانيات مناسبة، الدخول في معارك خارجية مكلفة
أشهرها حرب اليمن ثم مظاهرة 1967...
·
لجأ
إلى الدعاية المضللة عن "الإنجازات" الوهمية لتدعيم شعبية حكمه؛ منها الدعاية المفخمة عن إصلاحاته الزراعية،
زعم تحقيق انتصار عسكري في 1956 مناقضًا للحقيقة، الصواريخ التافهة الشهيرة،
وطائرة حلوان 300 الكسيحة، وسفينة الفضاء المصرية الوهمية، وسيارة
"رمسيس" البدائية، والاكتشافات البترولية الهائلة على الورق.. والأمر من
ذلك كله افتخاره بامتلاك أقوى جيش في الشرق الأوسط وبقدرة ذلك الجيش على مواجهة
دول كبرى، بينما كان مجرد جهاز استعراضي بلا حول ولا قوة.
·
كان
أسيرًا لوضع صعب صنعه بنفسه، فكان مضطرًا لاتخاذ قرارات وإجراءات مسكنة لكن مكلفة
في نفس الوقت ليستمر في حكمه، خاصة أنه قد اعتمد على الزمرة المشار إليها سابقًا،
وحكم الزمرة دائمًا ما يأتي بالفساد والصراع على مناطق النفوذ داخل الدولة.. لقد
قرر منذ البداية أنْ حكم زمرته هو الهدف الأول والضمان الأكيد لإعادة بناء مصر،
ولم يكن يعنيه إقامة مؤسسات حكم رشيدة، بل ركز على تدعيم حكم زمرته من "أهل
الثقة".
·
لم يستغل شعبيته الطاغية في تحقيق
إصلاحات جذرية في المجتمع، مثل وقف النمو السكاني، تصفية الفساد، محو الأمية فورًا،
علمنة الدولة فورًا (بل فعل العكس في هذا المجال)، تحديث التعليم.. بحكم
أفقه المحدود وثقافته البسيطة وعدم استماعه لأهل الخبرة.
- وقد امتلك
الرجل شخصية تآمرية مكنته من إدارة الصراعات داخل الزمرة
الناصرية لصالحه، أو لصالح سلطته الشخصية.
- الخلاصة: شخصية
بارانوية وتآمرية قليلة الكفاءة ضيقة الأفق ورعناء. في نفس الوقت تمتع بسحر
وكاريزما مؤثرة في المحيطين به، وبدا كقائد حكيم وقوي وقادر على كل شيء.. استطاع
أنْ يقدم نفسه في صورة البطل المهاب رغم ضعفه الداخلي وفراغ عقله، فكانت الصورة
الخارجية مناقضة للشخصية الحقيقية؛ بالضبط مثلما صور نظامه كنظام قوي ثوري تقدمي
بعكس الحقيقة.
امتلك عبد الناصر قدرة عجيبة على مخاطبة الفقراء ودغدغة المشاعر القومية بالكلمات الفخمة واللغة "العميقة"، عزز نجاح هذا الخطاب
إجراءات مثل تأميم قناة السويس؛ هذه العملية الناجحة التي كسرت حاجزًا نفسيًّا
معينًا في العالم الثالث بعد فشل محاولة مصَّدق في إيران، ثم انتصار 1956 السياسي
والجزئي وما تبعه من تأميم الشركات الأوروبية في 1957. مما ألهب بشدة المشاعر
الوطنية المتأججة أصلًا وحققت للشعب – من حيث المظهر فقط – انتصارات باهرة؛ رغم
أنَّ هذا كان يخدم الإمبرياليين الجدد: الأمريكيين.
وقد لعبت حتى الشعارات
الوطنية المتطرفة وإلقاء التهديدات جزافًا ضد الغرب دورًا بالغًا في تأجيج حماسة
الجماهير؛ ورغم الطابع الغوغائي والديماجوجي للخطاب الناصري، فقد كان يمس وترًا
حساسًا لدى الجماهير. فحتى مجرد الكلام بهذه الطريقة كان جديدًا على العالم
العربي؛ فقبل ذلك لم يتميز خطاب القادة العرب بهذا الطابع المتطرف، ولم تبلغ لغة
العظمة القومية هذا المبلغ. لقد كان هذا شيئًا أخاذًا تمامًا للجماهير؛ خاصة أنَّ
رد فعل الغرب لم يكن قويًّا؛ بل كان يبدو على السطح أنَّ الناصرية تستطيع أنْ
تواجه العالم كله، متحدثة عن نفسها كقوة كبرى تحمي ولا تهدد تصون ولا تبدد تبني
ولا تهدم..
وقد تميز الخطاب
الناصري بعد 1955 بالتطرف في العداء لإسرائيل، هكذا موهمًا الجماهير أنَّ الدولة
تستعد لسحقها ومن ورائها كذلك. وقد لعبت هذه اللغة دورًا كبيرًا في الإحباط الحاد الذي أصاب الجماهير نتيجة لهزيمة 1967 المهينة.
كما تميز خطابه بإظهار
العداء للطبقات الغنية، مما كان له تأثير بالغ في مشاعر الفقراء. عزز ذلك إجراءات
مثل ضرب أغنى أغنياء مصر، وطرد الملك نفسه في البداية. وقد كانت إهانة الملكية
الخاصة ممثلة في الباشوات شيئًا جديدًا وفريدًا في مصر منذ صعود محمد علي. ورغم
محدودية الإجراءات العملية، كانت بالغة التأثير في الجماهير، لأنها أهانت شيئًا
كان يبدو أنه لا يمكن قهره.
في النهاية
أقول إنَّ نجاح عبد الناصر الكاسح في فرض سلطته المطلقة وسحر الجماهير وحتى جل
مثقفي مصر والعالم العربي بخطابه إنما يعني وجود فراغ حقيقي في المنطقة وحالة خواء
فكري وسياسي.. في نهاية المطاف أفاق الجميع على هزيمة مخجلة في 1967.. ومع ذلك أظن
أنهم في حالة حنين حتى الآن للخطاب الناصري وشخصية جمال عبد الناصر، ببساطة لأن
حالة الخواء مازالت مستمرة.
ملاحظة:
أتوقع كمية محترمة من عبارات السباب والإهانة من حارقي بخور الزعيم كما كان يفعل
مع خصومه، دون أي تأثير في الواقع الفعلي.