عادل العمري
مايو 2022
الفهرس:
الصفحة
تمهيد
1
1- فشل النظام اقتصاديًا 2
2- موقف
النظام الناصري من إسرائيل 6
3- إدارة الجيش 8
4- إدارة الأزمة والحرب 13
5- بعد الهزيمة 27
اتبعت السلطة الناصرية
سياسات أدت إلى إضعاف الجيش وتقليل جاهزيته وقدرته على القتال، بالإضافة إلى
اتباع طريقة في إدارة أزمة مايو 1967 وإدارة الحرب نفسها لا تؤدي إلا إلى
الهزيمة الساحقة التي تمت، وكأن يدًا خفية كانت تحرك النظام وأحداث صدام 1967.
بحيث يمكن أن نقول إنه لو كان حكام مصر في ذلك العهد عبارة عن شبكة من الموساد فلم
يكن من المتوقع أن يفعلوا غير ذلك
|
للأجيال التي لم تعاصر الحرب ولا تعرف ماذا حدث
في حرب يونيو 1967 بالضبط نوجز الحدث فيما يلي:
حدثت اشتباكات متكررة بين سوريا وإسرائيل خلال عامي
1966 و1967، كما حدث اعتداء إسرائيلي على قرية "السموع" الأردنية عام
1966 نتجت عنه خسائر جسيمة للجانب الأردني وتم تدمير جزء كبير من القرية. ثم توالت
التهديدات الإسرائيلية ضد سوريا. وفي مايو 1967 أبلغ الاتحاد السوفيتي وكذلك رئاسة
الأركان السورية مصر أن هناك حشودًا إسرائيلية على حدودها مع سوريا، وبناء على
اتفاقية دفاع مشترك بين مصر وسوريا قامت مصر بإعلان حالة الطوارئ القصوى بالقوات
المسلحة وبدأت حشد الجيش في سيناء في 14 مايو 1967 رغم ثبوت عدم صحة التقرير
السوفيتي والإبلاغ السوري، ومن هنا بدأت أزمة مايو – يونيو 1967. وكانت توجد
بسيناء قوات طوارئ دولية بموجب اتفاق وقف إطلاق النار بعد حرب 1956، وكانت سفن
إسرائيل تمر في مضيق تيران وخليج العقبة كشرط تم الاتفاق عليه مقابل انسحابها من
سيناء التي احتلتها في تلك الحرب، ولم تعلن السلطة المصرية هذا الاتفاق للشعب. وقد
طلبت مصر من الأمم المتحدة سحب قواتها من سيناء في 17 مايو ثم أعلنت إغلاق خليج
العقبة أمام إسرائيل في 23 مايو. بناء على هذا قامت الأخيرة بمهاجمة مصر وسوريا
والأردن الواحدة تلو الأخرى من البر والجو في 5 يونيو 1967 وحتى 10 يونيو. وقد تم
تحطيم 85% من القوات الجوية المصرية في ثلاث ساعات وتدمير القوات البرية واحتلال
سيناء بالكامل ماعدا مدينة بورفؤاد. كانت الهزيمة صدمة شديدة للرأي العام العربي
ككل، وجاءت النتيجة مخالفة بشكل حاد لتوقعات الجماهير ومناقضة تمامًا للدعاية
الناصرية. فكيف تم هذا؟
الفشل نوعان: نوع يأتي من التفكير بدون فعل ونوع يأتي من الفعل بدون تفكير
جون تشارلز سالاك
|
أعلن عبد الناصر في 1962 أن
قيمة الرصيد الذهبي = 65 مليون جنيه([1])، وهو رقم صحيح بالفعل،
وهو أعلى رقم للرصيد الذهبي في الفترة الناصرية، وهو ما كان يكفي لتمويل واردات أكثر
من شهرين وقتها.
وفي دراسة جادة لهانسن - النشاشيبي جاء الآتي: حتى أواخر 1961 كان الاحتياطي النقدي كبيرًا
=136 مليون جنيه، يغطي واردات والتزامات الدولة الخارجية لمدة 6 شهور في ذلك الوقت .أما رصيد
الذهب عام 1962 فبلغ 61 مليون جنيه. ثم صار الرصيد من النقد الأجنبي صفرًا عام 1962 وأصبح
الرصيد الذهبي هو الغطاء النقدي الوحيد([2]).
لكن في 1966 باتت مصر عاجزة عن سداد
ديونها بالعملات الحرة، فلجأت إلى تأجيل السداد بموافقة فرنسا وإيطاليا لمدة 3
سنوات مع مد فترة السداد إلى 7 سنوات، كما اضطرت في نفس السنة إلى بيع ثلث رصيدها
الذهبي لتسديد أقساط الديون. وأما في 1967-1968 فقد أوقفت مصر تسديد ديونها تمامًا
للولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا ودول السوق المشتركة ودول رأسمالية أخرى،
ولكنها عادت إلى تسديدها مرة أخرى ابتداء من 1971([3]).
لقد تم إفلاس مصر من النقد
الأجنبي منذ أواسط الستينات، بحيث أصبحت عاجزة عن تسديد فوائد وأقساط ديونها
الخارجية، وهذا هو تعريف إفلاس الدول. وأصبح الاحتياطي من النقد الأجنبي يغطي من
شهر إلى شهرين فقط من الواردات، وأحيانًا لا يغطي يومًا واحدًا، ويتم الاقتراض
بسرعة أو بيع جزء من الرصيد الذهبي لتوفير العملات الصعبة.
وفي 1964 حسب تقرير الدكتور علي
نجم محافظ البنك المركزي المصري الأسبق أنه "جاء عام 1964 ولم يكن
بخزانة الدولة أيُّ نقد أجنبي.. وكانت البلاد تعتمد في وارداتها الخارجية من القمح
والسلع الغذائية الضرورية الأخرى على الاتحاد السوفيتي الذي كان يوردها بالكامل
مقابل صادرات مصرية من القطن والمواد الخام الأولية"، كما ذكر أن هذا الوضع قد دفع
الدولة إلى بيع 10% من الاحتياطي الذهبي([4]).
وقد ذكر مدير المخابرات العامة الأسبق؛
صلاح نصر، أن "الموقف الاقتصادي في مصر يعاني منذ 1965 من النقص في العملات الصعبة،
وثقلت الديون الخارجية على مصر، ونشبت أزمة سياسية بين مصر ودول الغرب نتيجة عدم
تسديد فوائد الديون... مما حدا بعبد الناصر أن يرسلني في مهمة إلى روما عام 1967
لعقد قرض واستطعت أن أمهد لعقد قرض قدره عشرة ملايين من الدولارات". وأضاف أنه بعد حرب 67 لم يكن في خزينة الدولة سوى بضعة
دولارات، مما دفع عبد الناصر إلى تكليفه باقتراض 10 ملايين دولار من الملك سعود
ووافق الملك على منح القرض بدون فوائد([5]).
الاحتياطي المصري في الستينات بالمليون دولار ومقومًا
بالمليون جنيه محسوبة على أساس معطيات البنك الدولي، مع تقريب الكسور([6]):
الرصيد الذهبي |
الاحتياطي النقدي |
الاحتياطي الكلي |
السنة |
|||
مقومًا بالجنيه |
مقومًا بالدولار |
مقومًا بالجنيه |
بالدولار |
مقومًا بالجنيه |
بالدولار |
|
68 |
177 |
34.6 |
90 |
102 |
267 |
1960 |
67.3 |
175 |
11.1 |
29 |
78.5 |
204 |
1961 |
75.6 |
174 |
21.3 |
49 |
97 |
223 |
1962 |
75.6 |
174 |
18.2 |
42 |
93.9 |
216 |
1963 |
60.9 |
140 |
36.5 |
84 |
97.4 |
224 |
1964 |
60.9 |
140 |
24.3 |
54 |
84 |
194 |
1965 |
40.9 |
94 |
27 |
63 |
68 |
157 |
1966 |
40.9 |
94 |
44 |
102 |
85 |
196 |
1967 |
48.7 |
112 |
32.6 |
75 |
81 |
187 |
1968 |
40.9 |
94 |
22 |
51 |
63 |
145 |
1969 |
39.5 |
91 |
32 |
74 |
71.7 |
165 |
1970 |
ملحوظة 1: كان هناك اقتراض مستمر، للتغلب على حالة
الإفلاس المتكررة، فلم يظهر الرصيد النقدي صفرًا في الجدول، لكن جاء في تصريحات
المسؤولين كما أشرنا.
ملحوظة 2: متوسط قيمة الواردات الشهرية عام 1965= حوالي
62 مليون دولار بأسعار سنة 1959/1960.
ملحوظة 3: سعر الجنيه المصري في الستينات تراوح بين 2.3-2.6
دولار، وفي هذا الجدول حسبناه على أساس 2.6 قبل 1962، 2.3 ابتداء من 1962 وكان هذا
وذاك هو السعر الرسمي للجنيه.
إذن بدأت البلد تفلس فعليًا منذ أواسط
الستينات، فتآكل الاحتياطي من النقد الأجنبي والرصيد الذهبي وانتهى الأمر إلى عجز
الدولة عن سداد ديونها، وإلى حد أخذها لقرض من الملك سعود بصفته الشخصية، والذي
كان لاجئًا في مصر!
ولم ينقذ البلاد بعد الحرب سوى
المعونات من السعودية والكويت وليبيا التي قررها مؤتمر القمة العربية في الخرطوم.
هذا
بالنسبة للرصيد الأجنبي. أما عن حالة الاقتصاد ككل، فقد انتهت الخطة الخمسية 1960 – 1965؛ مفخرة الناصريين، بكارثة اقتصادية. فبينما
بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 8.7% بالأسعار الجارية عام 63/1964، راح
يتدهور بعد ذلك، فبلغ 4.4% عام 65 - 1966، ثم بلغ صفرًا تقريبًا عام 66/1967 ثم
ــ1 % عام 1967/1968 وفقًا للإحصائيات الرسمية، فإذا حسبنا الرقم الأخير بالأسعار
الثابتة لعام 64/1965 يصبح – 2.5% بدلًا من –1%([7]).
وإزاء ذلك لجأت الدولة إلى زيادة الضرائب غير المباشرة ورفع الأسعار. فحتى ديسمبر 1965 رُفعت الأسعار بـ 100 مليون جنيه،
ورغم هذا أعلن عبد الناصر أن هذا غير كاف، وأنه يريد 150 بدلًا من 100 مليون جنيه؛
بل وزعم أن ارتفاع الأسعار هو ظاهرة عالمية، وأنه من المستحيل في ظل أزمة الدولة
أن تعود الأسعار إلى ما كانت عليه في 1961([8]).
وقد
كان لسوء الوضع الاقتصادي بالغ الأثر على حالة الجيش كما سنرى.
2- موقف النظام الناصري من إسرائيل:
الهجوم
خير وسيلة للدفاع
نابليون
بونابرت |
- لم تجهز الدولة المصرية نفسها أبدًا لمحاربة
إسرائيل، بل اتخذت الحكومة العسكرية موقفًا مهادنًا طول الوقت.
- بعد انقلاب 1952 قرر محمد نجيب بصراحة أن
مسألة فلسطين لا تهمه، ووفقًا له أيضًا: "لم ترد إسرائيل كنقطة في جدول أعمالنا
… كان اهتمامنا مركزًا على تحرير مصر"([9]). كما لم يأت ذكر للمسألة في برنامج هيئة التحرير
عام 1953. ثم قام عبد الناصر سنة 1954 بتخفيض الميزانية العسكرية خمسة ملايين جنيه،
مصرحًا لريتشارد كروسمان، وهو سياسي بريطاني في حزب
العمال، على حد زعم الأخير – "أنه لا يشغل نفسه بإسرائيل، وإنما يركز على
التنمية الداخلية في مصر.. وأنه يعتقد أن إسرائيل ليست خطرًا على مصر إلا لأن مصر
ضعيفة اقتصاديًا واجتماعيًا"([10]).
- اتفقت الحكومة الناصرية مع الولايات
المتحدة على مشروع لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة في سيناء، كما اقترحت
الحكومة الأمريكية مشروعين آخرين بخلاف هذا المشروع: مشروع الجزيرة، ومشروع
جونسون، لتوطين اللاجئين في سوريا ولبنان والأردن، وقد وافقت كل من سوريا والأردن
إلا أنَّ مقاومة الشعب الفلسطيني حالت دون تنفيذ المشاريع الثلاثة([11]).
- جرت مباحثات
سرية عام 1954 في باريس بين مبعوث موشيه شاريت ومبعوث جمال عبد الناصر بقصد إحلال
السلام على الحدود وفتح قناة السويس لمرور البضائع الإسرائيلية دون السفن([12])،
لكن المفاوضات توقفت بسبب تعنت إسرائيل وتغلب القوى الرافضة للسلام فيها.
- بعد ذلك تبنت السلطة قرارات الأمم المتحدة
كأساس لحل القضية الفلسطينية. وصرح عبد الناصر بذلك مرارًا: ففي باندونج أصدر تصريحًا بأنه يعتقد
بأن ما عرضته الأمم المتحدة عام 1948 يكمن اعتباره حلَّا مُرضيًا([13]).
- لم تسمح السلطة المصرية قط
للفدائيين بالعمل بحرية ضد إسرائيل انطلاقًا من الأراضي المصرية.
- ولنتذكر أن إسرائيل قد احتلت منطقة
"العوجة" جنوب قطاع غزة، وكانت منطقة محايدة منزوعة السلاح حسب اتفاق هدنة 1949
مساحتها 145 كم مربع، واستمرت إسرائيل في احتلال المنطقة حتى بعد انسحابها من
سيناء وغزة بعد حرب 1956. وكان كل ما فعلته الحكومة المصرية هو تقديم احتجاج في
الأمم المتحدة!
- وفي 1962 أعلن ناصر أمام المجلس
التشريعي لقطاع غزة أنه لا يملك خطة لتحرير فلسطين([14]).
- وكانت مصر طول الوقت في حالة دفاع
أمام إسرائيل، ولم تجهز جيشها قط للهجوم، ولم يكن لديها حتى تصور لكيفية حل القضية
الفلسطينية. وحتى الخطة "قاهر" التي كثر الحديث عنها لم تكن سوى خطة
دفاعية. كذلك كان الحشد الذي تم في سيناء قبيل الحرب دفاعيًا. وقد وُضعت، وبدون
علم عبد الناصر، قبيل حرب يونيو خطة هجومية سميت "أسد 1" ثم تغير اسمها
إلى "فجر"، بغرض احتلال إيلات وجنوب النقب، وقد صادق عليها المشير عامر
يوم 26 يونيو([15]). وقد تم إلغاؤها بعدما أبلغت روسيا عبد الناصر بأن الولايات المتحدة
كانت على علم بها، وبالأحرى بعد أن علم بها عبد الناصر.
- وهاك كلام أحد أهم ضباط جيش مصر
الناصرية؛ الفريق صلاح الدين الحديدي: "وتسجيلًا للواقع التاريخي، فإن
مصر اختطت لنفسها استراتيجية دفاعية بحتة إزاء إسرائيل، ولم تفكر في يوم من الأيام
أن تعد لعمليات هجومية واسعة. فمنذ هدنة 1949، لم تتلق هيئة أركان حرب القوات
المسلحة تعليمات بتغيير استراتيجيتها الدفاعية، بل كان أقصى ما سُمح به خلال هذه
السنوات الطويلة مجرد وضع خطوط عامة لعملية إغارة على بعض الأهداف الإسرائيلية
القريبة [من الحدود] ثم العودة لقواعدنا في النهاية، ولم يحدث أن تم تنفيذ خطط هذه
الإغارات على أهداف لها قيمتها"([16]).
الإدارة
هي لعبة فكرية، وكلما فكرت بطريقة أفضل
كلما حققت نتائج أعظم،
لذا فكر جيدًا و انتق من يفكر، واعمل مع من يفكر
ديل
كارنيجي |
- رغم تفاخرالسلطة المصرية بامتلاك
أقوى جيش ضارب في الشرق الأوسط – حسب ادعائها - والاستعراضات العسكرية المبهرة،
كان الجيش حتى 1967 أقرب ما يكون إلى جماعات الكشافة، وقد أبرزت حرب 1967 هذه
الحقيقة على نحو فاضح. فكان ذلك الجيش يضم عناصر لا يصلح أغلبها للقتال؛ فغالبية
الجنود أميون، والضباط سيئو التدريب، والقيادة لا هم لها سوى الاستمتاع بمباهج
الحياة واللهو. كما كانت بنية الجيش نفسها لا تؤهله للدخول في أعمال عسكرية
حقيقية، من حيث الضبط والربط ونظام التدريب وخطط العمليات.. إلخ. كما أنه برغم
توفر الإمدادات العسكرية السوفيتية لم يكن التدريب كافيًا على الإطلاق لإعداد
مقاتلين، كما لم تكن عمليات الصيانة والإصلاح تتم بالشكل الملائم. وعلاوة على ذلك
انغمس عموم الضباط في لهو معمم، خاصة أثناء حرب اليمن([17]).
ولم يكن إعداد الجندي، يستهدف إعداد مقاتل؛ بل إعداد عبد يصلح لتقديم الخدمات
الشخصية للقادة والقيام بأعمال السخرة المدنية. فلم يجر إعداد العدة للمواجهة
العسكرية التي زعم النظام أنه يُعد لها مع إسرائيل، واكتفت السلطة بالإيحاء بأنها
تستعد للحرب التي لم يتحدد بعد أوانها، وتزعم في دعايتها المقدمة للجماهير أن
لديها أكبر قوة عسكرية في الشرق الأوسط، وأنها على وشك سحق العدو؛ وذلك بخلاف
تصريحات رجالها أمام ممثلي الدول الأخرى.
- تم تخفيض الميزانية العسكرية عام 1966/1967
بسبب الأزمة الاقتصادية وإفلاس البلاد. وكانت اعتمادات الجيش عام 1967 تكفي
المرتبات والمصاريف العادية فقط . وترتب على ذلك التخلي عن إنشاء مطارات جديدة،
وتقليل عدد ساعات الطيران، وتسريح دفعة من الاحتياط قبل موعدها بشهرين.
كما تم تخفيض معظم التشكيلات بـ 30% ونفذ هذا
التخفيض على الأفراد ومعظم المعدات([18]).
ذكر الفريق أول عبد المحسن مرتجي، قائد جبهة
سيناء في حرب 1967 الآتي: "أما القوات البرية فكانت اعتبارًا من أول مايو 1967 تحتفظ
بمستوى مرتبات السلم المنخفضة فقط، وذلك بعد أن سرحت دفعة احتياط من الوحدات قبل
موعدها بشهرين مع تأخير استعواضها بهدف ضغط ميزانيتها وخفض هذه القوات بما يعادل
ثلث قوتها.. ولقد ترتب على هذا الوضع أن فوجئت القوات المسلحة بالأزمة السياسية في
14 مايو وهي تعاني نقصًا في مرتباتها البشرية بالغ إجماليه 37% من الضباط و 30% من
الرتب الأخرى"([19]).
وقد زعم رئيس الأركان وقتها، الفريق أول محمد
فوزي([20])
أن الميزانية العسكرية لم تُخفض، عكسما أجمع بقية القادة، وأن القوات الجوية هي
التي رفضت إنشاء دشم الطائرات بدعوى أنها بمثابة مقابر للطائرات، عكسما ذكر قادة
القوات الجوية، أعداؤه الألداء. وهو لم يقدم تفسيرًا معقولًا يعلل تخفيض عدد أفراد
القوات المسلحة بـ 25 -30% حسب ما ذكر بنفسه، وبقية الإجراءات التقشفية، سوى بوجود
جمود إداري في إمكان تحويل اعتمادات مالية من باب إلى آخر في الميزانية. فهل ظهر
هذا الجمود عام 1966 فجأة؟! وما علاقة الجمود الإداري بتخفيض كل شيء من معدات
وساعات تدريب وعدد القوات.. إلخ؟
- الامتناع عن تجنيد المتعلمين إلا في أضيق
الحدود خوفًا من انتشار معارضة سياسية في الجيش.
- الوسواس الأمني والخوف من حدوث انقلاب عسكري
سيطر على القيادة السياسية والعسكرية. وقد انعكس هذا على توزيع المناصب والصلاحيات
داخل الجيش، ابتداء من ترقية عبد الحكيم عامر من رتبة رائد إلى رتبة لواء مرة
واحدة! كما كانت الشللية وخصوصًا الصراع بين عبد الناصر والمشير عامر تحكم تعيين
القيادات، فكان لكلٍ رجاله في مناصب الجيش العليا. كما لعبت الأحقاد الشخصية بين
القادة دورًا غير قليل في فساد الجيش وتفسخه، وعززت الشللية. وقد تناول هذا عبد
الناصر بنفسه بشيء من التفصيل في اجتماع اللجنة التنفيذية العليا
للاتحاد الاشتراكي العربي في أغسطس 1967([21]). وتناول تلك الظاهرة بتفصيل كبير
اللواء صلاح الدين الحديدي([22])، وآخرون أيضًا.
- كان يوجد منصب وزير الحربية، والقائد العام
للقوات المسلحة، ورئيس الأركان، بالإضافة إلى القائد الأعلى للقوات المسلحة، ومنصب
نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، بجانب قيادة ضخمة هي قيادة القوات البرية لا
يوجد لها مثيل في معظم جيوش العالم، كانت مهمتها الإشراف الكامل على القوات البرية
سواء في الجيش وفي القوات البحرية والجوية([23]).
وترافق كل هذا مع تداخل الوظائف السياسية مع العسكرية. من أمثلة
ذلك أوامر عبد الناصر بنقل القوات على الجبهة قبيل الحرب للدفاع عن غزة، للحفاظ
على هيبة مصر السياسية، والكونتيلا، وقد انصاعت القيادة العسكرية للأمر([24]).
- رصد
الفريق محمد فوزي خلو
المكتبة العسكرية من كتب عسكرية تبين الحقائق والدروس المستفادة منها لتأخذ طريقها إلى عقول وأفكار الأجيال العسكرية الناشئة، ولتكون مرجعًا تاريخيًا للأجيال القادمة.
كما لم تُدون
أو تُنشر منذ عام 1948 حتى عام 1967 أي حقائق أو دراسات، ولم يجر أي تحليل عسكري عن المعارك التي حدثت خلال هذه الفترة من الزمن، الأمر الذي أوقع ضررًا كبيرًا بالأجيال اللاحقة والناشئة من القادة([25]).
والغريب أنه كان رئيس الأركان ولم يفكر في عمل هذا الذي يقوله!
- كما رصد
كون دعوى
الأمن، أمن القائد والقوات المسلحة والثورة، نتيجة للصراع الداخلي، قد جرّت القوات المسلحة إلى طريق أبعد ما يكون عن الالتزام الأصلي استعدادًا للمعركة،
وسيادة الممارسات التي تتسم باستعراض القوة، واستغلال النفوذ ، والخلط بين السلطات،
والتمادي
في الاستهتار، وعدم الانضباط،
والتعالي،
والمخادعة الإعلامية([26]).
-
القوات البحرية والجوية مستقلة عن رئاسة الأركان وخضوع القوات البرية الملحقة بها
لسيطرة قيادة القوات البرية سابقة الذكر.
-
تم إهمال القوات الجوية: تخفيض ساعات الطيران عام 1966 /67 - رفض إقامة دشم
للطائرات - ضعف وسائل الدفاع الجوي عن المطارات - وقف إنشاء مطارات جديدة كانت
مطلوبة - قلة عدد الطيارين والأطقم المساعدة ونقص تدريبهم - تخلف الطائرات وتخلف
تسليحها... إلخ([27]).
بل أصر عبد الناصر على طرد الطيار والقائد الكفء مدكور أبو العز مرتين: مرة قبل
الحرب بأربع سنوات كمدير للكلية الجوية بوشاية صدقي محمود، ومرة بعد الحرب كقائد
للقوات الجوية، بضغط السوفيت وربما محمد فوزي أيضًا([28])،
وخرج معه عشرون طيارًا أعلى رتبة من القائد الجديد للقوات الجوية؛ العميد طيار
مصطفى الحناوي، ومن أكفأ الطيارين حسب وصف مدكور. وبعد الحرب طُرد 10 طيارين كبار
لأن لهم أقارب من الإخوان المسلمين وأصر على ذلك جمال عبد الناصر رغم إلحاح مدكور
أبو العز عليه بعدم طردهم. وقد سرد الفريق مدكور أبو العز في مذكراته الكثير
والكثير عن مؤامرات واضح أنها كانت متعمدة من قبل الفريق محمد فوزي ضد القوات
الجوية قبل وبعد الحرب.
ورغم كل ذلك فمَن تمكن من الطيارين من الخروج
بطائراتهم يوم الحرب قد قاتل ببسالة وأوقعوا خسائر بالقوات المعادية، كما تمكنت
الدفاعات الجوية المتواضعة من إسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية، كما استبسلت بعض
الوحدات البرية التي استطاعت أن تستوعب المأساة في سيناء وأصابت العدو بخسائر.
-
رغم وجود خطط عديدة: قاهر – فهد – فجر - سهم – سليمان، كانت هذه كما وصفها أمين
هويدي مجرد خطط على الورق لم يتم تحويلها إلى إرادات فعالة على مسرح العمليات،
فكانت مجرد دوائر على الخرائط،([29]).
إذن لم يكن هناك خطة عسكرية فعلية لا للدفاع ولا للهجوم. بل وتم حشد القوات دون تكليفها بمهام محددة كما رصد محمد فوزي.
- ضعف صيانة الأسلحة.
- لم يكن يوجد دفاع جوي كافٍ أو رادارات للتعامل
مع الطيران الواطي.
-
كثرة إجازات الضباط وقلة ساعات التدريب. وقد أشار - مثلًا – مدير المخابرات
الحربية وقتها، محمد صادق في مذكراته إلى أنه قد "تعرضت برامج وخطط تدريب القوات المصرية
لكثير من العوائق التي حالت دون استمرارها وانتظامها، ومن العوامل التي أدت إلى
هذا عمليات اليمن ونقص الميزانيات"([30]). ويضيف الجمسي إلى ذلك: "أما عن مستوى التدريب في القوات المسلحة،
فإن عام 1967 كان من أسوأ السنوات من الناحية التدريبية بعد أن انخفض مستوى
التدريب إلى أقل مستوى بقرار من القيادة العامة"([31]).
-
لم تقم القوات المسلحة بمناورات منذ مناورة "انتصار" 1954 على الطريق
الصحروي([32]).لكن
أشار محمد أحمد صادق في مذكراته([33])
إلى مناورات جرت عام 1962 وربما يقصد مناورات محدودة.
-
قلة معلومات المخابرات ونظم اتصالات عتيقة وفي حالة يرثى لها. وقد بدد أمين هويدي أسطورة
رفعت الجمال([34]). كما سرد محمد فوزي بالتفصيل أخطاء
المخابرات الحربية في الأيام السابقة على اندلاع الحرب مباشرة.
وقد أكدت المخابرات الحربية أن طائرات إسرائيل لا تستطيع
الطيران لأبعد من قناة السويس رغم أن مواصفات طائراتها كانت منشورة في المجلات
العسكرية. كما اعترف صدقي محمود، قائد القوات
الجوية والدفاع الجوي أثناء الحرب، أن أجهزة المخابرات فشلت في اكتشاف أن سلاح
الجو الإسرائيلي قد زوّد طائراته بخزانات وقود إضافية ليتيح لها إطالة مدة
التحليق ونطاقه لتتمكن من بلوغ العمق المصري([35]). كما أكد كثيرون عدم معرفة المخابرات الحربية
بقنبلة الممرات التي كانت لدى إسرائيل.
قال اللواء عبد الحميد الدغيدي، قائد القوات
الجوية في سيناء في فترة الحرب، الآتي([36]):
"... وللأمانة والعدالة وللإقناع والحقيقة،
أترك للمحكمة الكلمة والحكم حيث وردت في صفحتها الثالثة والتسعين بند (د) تحت عنوان
‘المعلومات التي قدمتها المخابرات الحربية‘ الآتي:
1- ثبت للمحكمة أن إدارة المخابرات الحربية لم
تقدم إلى القوات الجوية أية معلومات عن قنبلة الممرات التي استخدمها العدو، والتي
كان لها بلا جدال تأثير كبير على سير المعركة وعدم إمكان صعود الطائرات.
2- كما ثبت للمحكمة أن المعلومات التي أرسلتها (أي
المخابرات الحربية) بخصوص مدى عمل الطائرات الميراج على الارتفاع المنخفض (300 كم)
[يقصد متر] ، كان لها تأثير عند وضع خطة
الدفاع الجوي فاستبعد إمكانية وصول هذه الطائرات إلى قواعدنا في القناة والمنطقة
المركزية مع أنها استطاعت ذلك فعلا يوم 5/6".
وقد ذكر عبد المحسن مرتجي الواقعة التالية والتي
تدل على جهل ضباط الاستطلاع المصري وقتها: "إن عددًا من الضباط المصريين وقعوا
في الأسر يوم ٢٨ مايو بالقرب من إيلات عندما تخطت وحدتهم الحدود الدولية، وعندها
خشيت القيادة العليا من أن يكون أمر الخطة ‘فجر‘ قد افتضح؛ لكن مرتجي عاد ليؤكد أن
قائد الفرقة لم يكن قد لقن خطته إلا لقادة الألوية فقط"([37]). ويضيف ما يدل على تخلف وعشوائية الاستطلاع: "ومما يدعو للأسف أنه بعد حوالي ستة عشر
يومًا منذ إعلان حالة الطوارئ في القوات المسلحة وبعد أكثر من ستة أشهر على وضع
الخطة الدفاعية ‘قاهر‘ يكتشف قائد الجيش الميداني – واضع هذه الخطة – أن أوضاع نقط
الإنذار على الحدود لا تمكنها من مراقبة كل المواجهة، وأن الضرورة تحتم تعديل هذه
الأوضاع"([38]).
- لم يكن الضباط الكبار يعرفون أن الدبابات
تستطيع أن تسير في الرمال ففوجئوا بالدبابات الإسرائيلية تأتيهم من حيث لا يتوقعون([39]).
اكتشف
الرئيس المصري ناصر الذي كان قد أسكرته نشوة ظهوره المفاجئ من أغوار
اليأس، حياة جديدة في الخطابة البلاغية القديمة..
وكان في قرارة نفسه يصلي لكيلا تحارب إسرائيل وألَّا ينخسها أحد للقيام بتوجيه الضربة الأولى على الرغم من أنه ينخسها هو باستمرار
دافيد داوننج وجاري هيرمان
|
قرار حشد الجيش:
- القيادة السياسية علمت يقينًا أن الحشود
الإسرائيلية على سوريا كانت مجرد سراب ومع ذلك أصرت على الحشد واستفزاز إسرائيل
بشكل يثير الشك، وهي تعلم يقينًا أنها غير جاهزة للحرب وصرح عبد الناصر بهذا مرات.
هذه الملاحظة سجلها عديد من القادة ولم يجد أحد منهم أي تعليل لها سوى رغبة
القيادة في إزالة آثار حرب 1956. لكن لماذا قفزت هذه الفكرة في ذهن القيادة في تلك
اللحظة بالذات فقد أجاب الفريق محمد فوزي بأن القيادة المصرية كانت منذ 1957 تريد
سحب قوات الطوارئ والسيطرة على المياه الإقليمية المصرية، وكانت تتحين أي فرصة
للقيام بذلك([40]).
لكن عبد الناصر والمشير كانا قد اتفقا على أن
هناك عملية توريط لمصر في الحرب تقوم بها الإذاعات الموجهة ضدها. بل ذكر الفريق كمال
حسن علي أنه مع تصاعد الاشتباكات بين إسرائيل وسوريا عام 1966 حضر وفد سوري إلى
مصر "يطلب عملًا مشتركًا هجوميًا سريعًا لردع إسرائيل، وكان رد عبد
الناصر أنه يخشى أن يكون المقصود هو محاولة ‘توريطنا‘ في عملية مع إسرائيل على أساس
مخطط يشترك فيه الاستعمار والرجعية"([41]). إذن الفخ واضح فلماذا السير إليه؟
وبالإضافة إلى غموض دوافع
الحشد لم يكن هناك من هدف سياسي معلن أو مفهوم للرأي العام ولا للجيش لحشد القوات
وإعلان حالة الطوارئ، مما أثار تساؤلات القوات([42]).
وتتلخص المشكلة هنا في أن قرارات الرئيس كانت تعني مباشرة: الحرب.. فلماذا اتخذها
ولم يستمع لأحد؟ لا نملك تفسيرًا سوى قوة الرغبة في استعادة السيطرة على مضيق
تيران زائد الشعور بالألم الذي كانت دائمًا "فتح" والأردن والسعودية
وسوريا يسببونه للقيادة المصرية، فيتهمونها بالجبن ويعايرون مصر بالاحتماء خلف
قوات الطوارئ في سيناء. ولم يكن هذا بدون سبب، فمن الجانب الآخر كانت الحكومة
المصرية تهاجم حكومة الأردن، خاصة بعد معركة "السموع" وتنتقد عجزها عن
الدفاع عن الحدود وتطالبها بما لم تستطع هي فعله: تسليح سكان القرى الحدودية.
فوجدنا الملك حسين يقول لعبد الناصر في رسالة: "برغم أنك عبد الناصر فأنت لا تقوم بشن
غارات على أيدي الفدائيين من الأراضي المصرية وأنت تعلم أنَّ قوات الطوارئ تفصل
حدودك عن الإسرائيليين، وبجانب ذلك فإنك ترسل إليّ رجالًا من منظمة فتح ليقوموا
بعمليات من حدود الأردن، ومع ذلك لا تريد أن تساعدني، بل لا تريد أن تغلق مضيق
تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية". كما كان النظام السوري وقتها شديد التطرف ويسعى لإشعال حرب عربية مع
إسرائيل ولم يتوان عن استفزاز الأخيرة رغم هزائمه المتوالية.
وبالتأكيد افتقدت القيادة المصرية للثبات الانفعالي.
ولا شك أن إسرائيل كانت تهدد
سوريا، كما جرت بينهما معارك كثيرة برية وجوية. وكانت إسرائيل تصادر وتزرع مساحات من الأراضي الصغيرة المتنازع عليها بعد
اتفاق الهدنة في 1948، وتمارس الاستفزاز عن طريق إرسال دوريات عسكرية لتلك
المناطق، وعندما كانت سوريا تقصفها كانت اسرائيل ترد بعنف فتشتعل المعارك. كما أثار نشاط الفدائيين الفلسطينيين إسرائيل، فراحت تهاجم سوريا
والأردن (من المعارك المشهورة الهجوم على قرية "السموع" الأردنية في
نوفمبر 1966). يضاف إلى هذا رغبة إسرائيل العدوانية في جر مصر إلى الحرب وتحطيم
جيشها.
وكان عبد الحكيم عامر أول من ابتلع الطعم، إذ استمع إلى بعض الإذاعات
المستفزة وهو في باكستان في ديسمبر 1966، فأرسل برقية بالشفرة إلى عبد الناصر
بضرورة سحب قوات الطوارئ حتى لا يتهم أحد مصر بالتخاذل في حماية العرب. ومع توالي
المعارك بين إسرائيل وسوريا وارتفاع نبرة الاتهامات العربية لمصر ازدادت رأس
القيادة المصرية سخونة. وكان رد الفعل هو تكليف عبد الناصر لمجموعة عمل بإعداد
تصور لخطوة سياسية في أواخر 1966 يكون هدفها إنهاء وجود قوات الطوارئ الدولية بين
مصر وإسرائيل، وكلف عبد الحكيم عامر مجموعات أخرى عسكرية بأن تدرس النتائج
العسكرية المترتبة على إغلاق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية. وبين تلك المجموعات كان هناك
من أهل الخبرة من حذر من الإقدام على هذه العملية في ذلك الوقت حيث لا يسمح المناخ
العالمي([43]).
ثم جاء البلاغان السوفيتي والسوري بوجود حشود إسرائيلية أمام سوريا لكن ثبت خطؤهما.
يضاف الوعد السوفيتي لشمس بدران بالتدخل إذا لزم الأمر؛ فأثناء وداع الوفد المصري في
موسكو يوم 27 مايو، "ذكر السيد شمس بدران في مذكرة رفعها إلى المشير عامر أنه ‘جريتشكو‘
وزير الدفاع السوفيتي قال له ‘اطمئنوا لكل طلباتكم سنعطيها لكم (يقصد الأسلحة)..
وأريد أن أوضح لك أنه إذا دخلت أمريكا الحرب فسوف ندخلها بجانبكم، إن أسطولنا في
البحر الأبيض قريب من شواطئكم الآن، وبه من المدمرات والغواصات المسلحة بصواريخ
وأسلحة لا تعلموها .. هل فهمت تمامًا ما أعنيه؟ أريد أن أؤكد لكم أنه إذا حدث شيء
واحتجتم لنا فمجرد إرسال إشارة نحضر لكم فورًا في بورسعيد أو أي مكان"([44]). وبدأت سلسلة التصعيد
وانطلقت حناجر عبد الناصر ورفاقه وإعلامه تهدد إسرائيل وتبشر بالنصر المبين. وكانت
مجموعة عبد الحكيم عامر تنفخ في النار وتدعو إلى مزيد من تسخين الأجواء، بل وإلى
بدء الحرب من جانب مصر، بل وقامت بوضع خطة هجومية دون علم عبد الناصر. ولمزيد من
التصعيد، بعد حشد الجيش في سيناء جاءت خطوة جديدة، هي سحب قوات
الطوارئ. واستقر الرأي أن يصدر خطاب من رئيس أركان حرب القـوات المسلحة إلى
الجنرال "ريكي" قائد قوات الطوارئ يخطره بقرار مصر سحب هذه القوات. وقد
عُرضت صورة الخطاب على عبد الناصر صباح يوم 16 مايو، بينما حمل مندوب القيادة
العامة، العميد عز الدين مختار، النسخة الأصلية من الخطاب بتسليمها إلى الجنرال
"ريكي" في غزة. وكانت ملاحظة الرئيس على الخطاب هو استبدال كلمة الانسحاب بكلمة إعادة الانتشار.. "هذا قد فتح مناقشات عدة
في بعض دوائر القيادة العامة للقوات المسلحة لما يمكن أن يتسبب عنه من ردود فعل
حادة من جانب إسرائيل. وقد أدت المناقشة إلى محاولة تأجيل تسليم طلب سحب القوات
إلى قائدها الجنرال ريكي حتى يتضح الموقف ولكن حال دون ذلك أن الشخص المكلف بتسليم
هذا الطلب كان قد نفذ المهمة المكلف بها، فأصبح لا حيلة إلا الاستمرار في تصعيد
الموقف"([45]). كما كان الكتاب الذي سُلم إلى
الجنرال "ريكي" كان يحمل كلمة "انسحاب" حيث لم يمكن الاتصال
بمندوب القيـادة العامة قبل أن يصل الساعة العاشرة مساءً إلى غزة ويسلم الخطاب إلى
الجنرال "ريكي".. وقد اتفقت القيادة على تصحيح المفهوم بين الانسحاب
وإعادة الانتشار خلال الاتصالات التي ستتم – حتمًا – عقب تسليم الخطاب. إلا أن السكرتير العام للأمم المتحدة قد
اشترط إما سحب قوات الطوارئ بالكامل أو إبقاءها بالكامل كما هي، حيث لا معني
لوجودها بعد أن تنسحب من شرم الشيخ فقط([46]). وهو ما
وضع عبد الناصر في موقف حرج..
.. لقد انطلق السهم...
والواضح أن حسابات القيادة المصرية لم تكن سليمة. فرغم أنها كانت ترى
الفخ المنصوب لها ذهبت إليه بكامل إرادتها. فكانت عملية اصطياد نظام عبد الناصر
تسير كما لو كانت سيمفونية مرتبة: استفزازات متبادلة بين إسرائيل وسوريا ومنظمة
فتح، وهجوم إذاعات عربية ضد القيادة لمصرية، والزعم بوجود حشود إسرائيلية، وحماس
وتحريض جماعات من داخل النظام المصري على التصعيد، وموقف الأمم المتحدة، وحماسة
الجماهير في عموم البلاد العربية، فضاعت أصوات العقلاء. وتم تتويج الفخ بمطالبة السوفيت
والأمريكيين لعبد الناصر بألا يبدأ الحرب. وفي الحقيقة عرفت إسرائيل بأمر الخطة
الهجومية "فجر" فأبلغت الولايات المتحدة، والتي أبلغت السوفيت بدورها،
فجاء الرد من كلي الطرفين بمطالبة عبد الناصر بضبط النفس. وربما تخيل عبد الناصر
أن هذا يعني ضمنًا أن إسرائيل لن تبادر هي الأخرى بالهجوم!
والأدهى أن جمال عبد الناصر ورجاله راحوا يطلقون التصريحات الخطيرة
والتهديدات لإسرائيل ومن ورائها، بكل ثقة وغرور، بحيث أصبح التراجع مستحيلًا دون
أن تخسر الحكومة الناصرية شرعيتها. ومن أمثلة تلك العنتريات تهديد عبد الناصر في
خطابه يوم 26/5/1967 أمام أعضاء
المجلس المركزي لاتحاد نقابات العمال العرب بتدمير إسرائيل إذا بدأت هي بالعدوان: "فإسرائيل إذا بدأت بأي عمل عدواني ضد
سوريا أو ضد مصر فحتكون المعركة ضد إسرائيل معركة شاملة مهياش محصورة في حتة أدام
سوريا أو في حتة أدام مصر. المعركة حتكون معركة شاملة وحيكون هدفنا الأساسي هو تدمير
إسرائيل. وإحنا نقدر نعمل كده. هذا الكلام يمكن مكنتش أقدر أقوله من خمس سنين
ومكنتش أقدر أقوله من ثلاث سنين ولو كنت مش قادر مكنتش مستعد وأقول هذا الكلام،
يبقى كلام فاضي ولا قيمة له".
وفي مؤتمر صحفي عقده مساء نفس اليوم كان في إجاباته - كما لاحظ
عبد اللطيف البغدادي - قد "زاد
من تشدده في موقفه بالنسبة للملاحة البحرية في مضايق تيران – وعدم السماح بمرور
السفن الإسرائيلية بها ولا السماح أيضًا بمرور المواد الاستراتيجية إلى إسرائيل وعلى أي سفن كانت. وأبدى ترحيبه كذلك في ملاقاة العدو عسكريًا
– وأظهر أن استعداده أصبح كاملًا لملاقاة إسرائيل.
وأنه كان يعد نفسه منذ عشر سنوات مضت
انتظارًا لهذا اللقاء. وحاول أن يبعد أمريكا عن المعركة بردوده الهادئة بالنسبة
إليها. ولقد لعب جمال في هذا المؤتمر دور البطل القوي الواثق من نفسه وساعده في
هذا تجمع العالم العربي كله من حوله ومساندتهم له في هذا الموقف"([47]).
وكأنه تصور أن صوته العالي وتهديداته الجزافية واندفاعه أسلحة تخيف الأعداء
وتردعهم.
هذا الأسلوب في الخطاب كبَّل عبد الناصر بوعد
لجماهيره لا يستطيع لا تحقيقه ولا التراجع عنه.
لقد كان التناقض صارخًا بين خوف النظام من قيام الحرب وأمله في الحل
السلمي للأزمة، والخطاب السياسي الذي قدمه للعالم مصورًا نفسه وكأنه يستعد للهجوم
وسحق إسرائيل.
- ذكر أمين هويدي أن قرار حشد القوات
قد صدر يوم 14 مايو 1967 بإجماع كبار القادة ولم يعترض أحد اعتقادًا منهم أن كفة
جيشهم هي الراجحة([48]). بينما قال صدقي
محمود: "أقرر أنه لم تكن هناك اجتماعات رسمية
عسكرية للقادة المصريين، لا اجتماعات ولا مؤتمرات للمجلس الأعلى للقوات المسلحة،
وبالتالي لا يوجد محضر رسمي لاجتماع واحد أو جدول أعمال لاجتماع عسكري عال أو
مؤتمر عقدته القيادة العامة للقوات المسلحة ما قبل يونيو (حزيران) 1967، ولسنوات
عديدة، وقد ظلت القرارات التي تمس مصير الوطن تصدر عن لقاءات دردشة تتم أحيانا
مصادفة ودون موعد سابق أو ترتيب زمني. كما كانت أخطر القرارات العسكرية تصدر دون
أن يعلم بها قادة الفروع الرئيسية للقوات المسلحة، أقصد قادة الطيران والبحرية
والقوات البرية.. حتى حشد القوات المسلحة الذي طبق علانية في وضح النهار وكأننا
نقوم باستعراض عسكري في 14 مايو (آيار) 1967، ومرور التشكيلات المدرعة والمدفعية
ظهرًا بشوارع القاهرة في طريقها إلى سيناء.. حتى هذا القرار مع خطورته الكبرى صدر
دون علم قادة القوات المسلحة أو الاستماع إلى وجهات نظرهم، وأكثر الآراء لم يكن
يُعتد بها أو تصل متأخرة كالعادة وبعد صدور القرار وبالتالي لا يصبح أمام القادة
غير التنفيذ"([49]). ويبدو أن هويدي يقصد بكبار القادة وزير الحربية والمشير ورئيس
الأركان وقائد الجبهة.. إلخ.
ومن طرائف الحشد العسكري الشكلي أن المواكب العسكریة قد شملت جرارات
زراعیة وأتوبیسات مدنیة خالیة من الركاب([50])!
- قررت القيادة السياسية الحشد رغم أن أهم قطعات الجيش المصري كانت في
اليمن ( 70 ألف جندي)، وكان كل ما يمكن حشده من بقية القوات والاحتياط نحو 80 -100
ألف جندي فقط معظمهم غير مدرب. وهذا يعطينا فكرة على العقلية العشوائية للقيادة
السياسية، وقد شكك البعض حتى في نية جمال عبد الناصر لكن لا نتصور ذلك.
طريقة حشد همجية وعشوائية:
- تم حشد آلاف الجنود بالجلاليب والبيجامات بدون مهمات أو عربات نقل أو تعيينات أو أدوات مطبخ،
وبدون أدوات لحفر حمامات
في الصحراء، وحتى بدون ملابس عسكرية كافية. كما تم إرسال معدات تحمل ذخيرة لا
تناسبها، ومعدات معطوبة (كان الجنود يدفعون بعض المركبات المعطوبة إلى الجبهة!).
وتكررت ظاهرة عدم تناسب الذخيرة مع نوعية السلاح في أكثر من موقع، منها تسليح قوات
المقاومة الشعبية في الإسماعيلية وبور سعيد حسب شاهد عيان هو المقدم عبد الفتاح
أبو الفضل الذي وصف الأمر بأنه مهزلة([51]).
كما وصف عبد الفتاح أبو الفضل حال جنود الاحتياط
في محطة سكة حديد القنطرة شرق كالآتي:
"كان الكل في ملابس
مدنية ومعظمهم بجلابيبهم الريفية ويحملون بنادقهم وليس هناك أي زي عسكري، جُمعوا
من قراهم على عجل ودون أي ترتيبات إدارية، وتسلموا أسلحتهم فقط وهم بجلابيبهم
المدنية وشحنوا في السكة الحديد كالدواب دون أي تجهيز أو ترتيب إداري من مأكل أو
مشرب أو راحة. كانوا يتدافعون لشراء طعامهم من الباعة الجائلين بالمحطة في فوضى
شاملة لا يتعدى مظهرهم خفر الريف إن لم يكونوا أقل مستوى من ذلك. حشد هائل من الشباب
والرجال الضائعين نتيجة إهمال واستهتار سلطات القوات المسلحة بآدميتهم وإنسانيتهم".
وحسب قوله كان قد طلب منه رئيس المدينة أن يلقي
كلمة مشجعة في هؤلاء الجنود، إلا أنه غادر المحطة ولم يلق أي كلمة بعد أن رأى
المشهد السابق([52]).
ويصف أمين هويدي مدير المخابرات العامة وقتها وضع
القوات في الجبهة كالآتي:
"وقد حدث أثناء مروري على الجبهة في الضفة
الغربية للقناة والتي كان يتولى قيادتها اللواء أحمد إسماعيل أن شكى مر الشكوى من
العجز الكبير في مرتبات (معناها: العدد المقرر أصلا – الكاتب) الوحدات من الضباط،
في الوقت الذي يكتظ فيه مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة بمدينة نصر بالضباط من
مختلف الرتب. وقد طلبت من المسؤولين في القيادة العامة تقديم اقتراحاتهم لتلافي
هذا العجز مع تدارك تكدس القيادة العامة بالضباط في الوقت الذي يتحمل فيه زملاؤهم
مسؤولياتهم الجسيمة في الجبهة وقد طلب رئيس الهيئة المختص مقابلتي لتقديم
اقتراحاته حاملا حقيبة سفر بها ملفات الموضوع لأطلع عليها!! وأمرته بأن يحمل
أثقاله وأن يخفض عدد الضباط إلى النصف مع توزيعهم على الجبهة. فالحرب سوف تنتهي
قبل أن أنتهي من قراءة ملفاته!! وكان هو بعينه رئيس الهيئة التي وضعت خطة التعبئة
قبل حرب 1967 نفذها بطريقة دفعت بالكثيرين بجلاليبهم وبالمعدات الغير صالحة أو
التي لا حاجة إليها إلى شرق القناة.. وكان لا يزال في موقعه الذي عاصر فيه حرب
1956 وحرب 1967 ولم يكن منتظرًا منه الآن أن يغير في أسلوبه الذي تمرس فيه"([53]).
ثم ذكر أنه أثناء مروره على إحدى التشكيلات في
القاعدة (لم يوضح أي قاعدة؟) بعد الهزيمة وجد أن "أكثر من 60% من الأفراد لم يستلموا
مرتباتهم منذ شهور طويلة قبل النكسة بحجة ضياع أوراقهم في اليمن وأن أكثر من 80%
من القوة مصابين بالإنكلستوما والبلهارسيا لتعذر نقلهم إلى الخلف للعلاج وأن
العشرات مصابون بالفتاق وأن ملابس الجنود غير لائقة ولم يجر لها التصليحات
اللازمة"([54]).
وقال الدغيدي: "يوم 18 مايو على الأرجح، أنا مررت على
سيناء في وجود الفريق فوزي والفريق صلاح محسن، وكان مسرح العمليات غير مجهز وعلى
الأكثر كان تجهيزه بنسبة الخمس، ثم مريت لوحدي يوم 21 مايو فوجدت الحالة قد ازدادت
سوءًا.. مريت عليهم في ‘الحسنة‘ في المواقع البرية وأغلب المواقع، ولأني أعاون
الجيش فلابد أن أعرف حالة القوات البرية، وقد وجدت أن الحالة ازدادت سوءًا، بعد
الفتح التعبوي ودخول الجلاليب وقوات الاحتياط غير المدربة منذ سنوات"([55]).
كما قال محمد أحمد صادق: " قاموا بكل الهزل والاستخفاف بإرسال
تشكيلات قوات الاحتياط بملابسهم المدنية إلى مسرح القتال ودون أسلحة أو أغذية أو
أدوية، بل بدون توفير مياه الشرب لهذه القوات، أرسلوا مئات الدبابات دون وقود،
ودون إبر ضرب النار إلى سيناء وأطقم دبابات "ت 34" يرسلونها إلى دبابات
"ت54" ودبابات جديدة خرجت من المخابرات بشحومها وبدون بطاريات أو ذخيرة،
وبينها دبابات شيرمان الغربية التي حصلت عليها مصر سرًّا قبل الحرب بفترة قصيرة،
تشكيلات برية دفعوا بها إلى سيناء، دون أن يكون لدى قادتها خرائط بمواقعهم، أو
أوامر بواجباتهم القتالية، كما شحنوا إلى الجبهة بوحدات الحرس الوطني دون مهام
لها، فتحولوا إلى عبء خطير إداريًا وقياديًا وإنسانيًا، ولم يرسلوا إليهم بكميات
من الأغذية تكفي أسبوعًا ولا حتي يومًا واحدًا ولا بمياه شرب وبالدواء تحسبًا
للأمراض المفاجئة، أعادوا قادة من الجبهة دفعوا بدلًا منهم آخرين على مستوى
التشكيلات الكبيرة والصغيرة كذلك، دون أن يكون لهؤلاء القادة الجدد أدنى فكرة عن
تنظيم التشكيلات التي سيتولون قيادتها واستمر ذلك حتى نهار 4 يونيو، وظلت مستودعات
الذخيرة والبترول واحتياطات الغذاء الجافة متناثرة في جبهة سيناء كما تستلزم حالة
السلم دون نقلها إلى مستودعات أخرى خشية التدمير أو السقوط في أيدي العدو الذي
استخدمها وهو يزحف متقدمًا نحو الضفة الشرقية للقناة وبين هذه المستودعات مخازن
الذخيرة"([56]).
والمفروض في حالة الحرب نقل مستودعات البترول
والذخيرة والطعام الجاف لمستودعات حالة الحرب.
وأضاف الفريق الجمسي أن "بعض الأفراد كانوا ينضمون
إلى وحدات ليست من تخصصهم، كما تم تعبئة وحدات جديدة من الاحتياط مر عليهم سنوات
لم يتم تدريبهم فيها على القتال... وقد عانت قيادة الجيش الميداني بسيناء من
الوحدات التي وصلتها، عندما أيقنت من انخفاض مستواها التكنيكي أو الفني أو الإداري
لضعف تدريبها أو للنقص الموجود بها من الأسلحة والمعدات"([57]).
وقد شكل جنود الاحتياط أكثر من نصف
عدد القوات التي حشدت في سيناء، وهم جنود غير مدربين، بعكس جنود الاحتياط في
إسرائيل التي تعتمد عليهم في حروبها.
- حشد قوات الحرس الوطني بلا خرائط ولا ماء وطعام
يكفيهم أسبوعًا!
- دفعوا بتشكيلات المشاة دون الأسلحة المعاونة.
- تم سحب قادة من الجبهة واستبدالهم بقادة لا
يعرفون شيئا عن ميدان المعركة. قيل إنها الوساطات والمحسوبية أو الفساد الإداري أو
أن القيادة خشيت على حياة هؤلاء في حالة نشوء الحرب.
- تخرجت دفعة ضباط جديدة قبل الحرب بأيام دفعوا
بهم إلى منطقة جبل لُبْنى بسيناء دون توزيع على الوحدات، وقد لحقت بهم خسائر جسيمة([58]).
- تم نقل تشكيلات مدرعة من موقع لآخر ثم إعادتها
بدون أي مبرر([59]).
موعد الحرب:
- تناقضت أقوال القادة في مذكراتهم حول معرفة مصر
بموعد وخطة إسرائيل في حرب 1967. لو كانوا لا يعلمون فهذا = تقصير المخابرات، وإذا
كانوا قد علموا وعبد الناصر قال بذلك بالفعل فتكون مصيبة كبرى ألا يجهز الجيش
للحرب.
فالبعض أكد أن عبد الناصر قد عرف بموعد الحرب
وأنه أبلغهم بها، وآخرون نفوا هذا تمامًا. بل زعم الفريق صادق في مذكراته أن
تقريره هو توقع الحرب يوم 3 أو 4 يونيو وأنه قدم هذا التقرير في اللقاء الشهير في
2 يونيو فعلق عبد الناصر بأن الهجوم الإسرائيلي سيكون يوم 5، وفي نفس المذكرات قال
العكس أيضًا؛ أن القيادتين السياسية والعسكرية كانتا مقتنعتين أن إسرائيل لن تخاطر
بالحرب، وأن الأمر لن يخرج عن كونه مجرد مناورة قد تخرج منها القيادة السياسية
ببعض المكاسب (ص 64).
- قال عبد الناصر أنه أعلن في اجتماعه يوم 2
يونيو 1967 مع قادة الجيش: "جه بعد كده بقى صدقي محمود وفوزي وشمس وصادق، وابتدى القاضي يتكلم،
قلت له: والله قبل ما تتكلم أنا بدي تسمع الموقف. أنا بدي أقول لكم: الحرب ٪100 قايمة، وأن اليهود حايهجموا يوم الإثنين،
وأن الضربة الأولى هتيجي على الطيران؛ فصدقي لما أنا قلت إيده عملت كده، وقال
لي:" but this
will cripple us
!" قلت له: إحنا النهارده الجمعة والكلام ده يوم الإثنين!"([60]). وقد أشارعلنًا في خطاب 23 يوليو
1967 إلى اجتماعه بالقادة العسكريين الكبار بمبنى القيادة العامة للقوات المسلحة،
حيث قال: ".. وقلت في هذا الاجتماع يوم 2 يونيو أنه لابد لنا أن نتوقع ضربة من
العدو في خلال 48 ساعة إلى 72 ساعة لا تتأخر عنها أبدًا على أساس ما كانت تشير
دلائل الحوادث والتطورات، وقلت أيضًا في هذا الاجتماع إنني أتوقع أن يكون العدوان
في الإثنين 5 يونيو وأن الضربة الأولى ستوجه إلى قواتنا الجوية. وقد ذكر ذلك أيضًا محمد أحمد صادق
في مذكراته([61]). لكن الفريق صدقي
محمود قائد القوات الجوية قد حضر ذلك اللقاء ونفى هذه الواقعة تمامًا، كما ذكر اللواء الدغيدي أن "إنذار الرئيس لم يصلني"([62]). ويعزز كلامه توجيهات رئاسة
الجمهورية بطيران وفدين عراقي وسوري كانا بالقاهرة وقتها مع المشير ومرافقيه يوم 5
يونيو. ولم يقم المشير بإلغاء رحلته تلك إلى
سيناء في نفس اليوم! إذ خرجت طائرتان تقلانه مع مرافقيه وحسين الشافعي والوفدين المذكورين. وكان في
توديع المشير بعد القادة العسكريين ومنهم محمد فوزي رئيس الأركان([63]).
فكيف يحذر عبد الناصر من الحرب يوم 5 يونيو ويأمر بتجهيز طائرتين للمشير ورفاقه في
نفس اليوم؟ فهل كان عبد الناصر
يكذب لتحميل القيادة العسكرية مسؤولية الهزيمة؟ بل ذكر الفريق صدقي محمود أنه قال: "على أية حال أنا متأكد من حل الموضوع
سياسيًا.. الاتصالات مع أمريكا مستمرة، وسيطير زكريا محيي الدين للتشاور مع واشنطن
خلال يومين"([64]). وقد ذكر كمال حسن علي - وهو شاهد عيان - أن
تقريرًا قد وصل "في
2 يونيو وزع على كافة وحدات القوات المسلحة ذكر أن إسرائيل لن تقدم على عمل عسكري
تعرضي (هجومي) وأن الصلابة العربية ستجبر العدو بلا شك على أن يقدر
العواقب المختلفة المترتبة على اندلاع شرارة الحرب في المنطقة" وذكر أن من أصدر
هذا التقرير هو عبد الحكيم عامر، "وهكذا أيضًا
صدرت الأوامر إلينا في الميدان بإيقاف التحضير لأي عمل هجومي"([65]). ويضيف محمد فوزي:
"بالرغم من أن التقدير الوارد في هذا التقرير كان خاطئًا وتأثيره على
القوات المسلحة المصرية كان مدمرًا، فقد أمر المشير بتوزيعه على جميع القوات حتى مستوى
القادة الأدنى"([66]). وقد كان المشير
عامر حاضرًا للقاء 2 يونيو، فالمفروض أنه قد استمع لتقديرات الرئيس عن موعد الحرب
المرتقبة، ومع ذلك قام بتعميم منشور المخابرات سابق الذكر ولم يناقش عبد الناصر في
توقعه المزعوم.. فهل هذا معقول؟ يفسر الأمر محمد فوزي كالآتي: "أما المشير
عامر، فمن خلال مواقفه في الاجتماع نستطيع أن نقول إنه لم يقتنع بتقديرات الرئيس
السياسية والعسكرية، كما أنه لم يبالِ بالإنذار الصريح من الرئيس بميعاد المعركة وهو
5/6/1967، بدليل أنه استمر في تنفيذ برنامجه المعتاد، وقيامه بزيارة سيناء في نفس
اليوم الذي حدده هذا الإنذار"([67]). لكن لم نسمع عن
موقف لعبد الناصر ضد تصرف المشير أو تقرير المخابرات سابق الذكر. وربما يفسر تعليق
الفريق محمد صادق هذا بأن عبد الناصر بعد 2 يونيو قد اقتنع بأن الأمر سيحل سلميًا
من خلال دائرة اتصالاته السياسة الخارجية([68]).
كما تم وقف عمل مضادات الطيران بهذه الحجة بأمر
محمد فوزي([69]).
وسواء تم هذا بتوجيهات عبد الناصر أم لا.. أليس المشير ممن أبلغوا – زعمًا - بموعد
الحرب ؟!
وفي 29 مايو، قبل
لقاء 2 يونيو بثلاثة أيام فقط، التقي عبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وكمال
الدين حسين بجمال عبد الناصر، وحين "سألناه عن
تقديره لموقف إسرائيل – وهل من المنتظر أن تتحرك عسكريًّا وتحارب وهل لدينا أية
معلومات تدل على ذلك. ولكنه استبعد هذا وذكر أنها إن تحركت فلن يكون ذلك قبل ستة
أو سبعة شهور. ولما استفهمنا منه عن موقف أمريكا – أجاب – ولا حاجة"([70]).
رفض القيام بالضربة الأولى:
رفضت القيادة السياسية القيام بالضربة الأولى دون
أن تستعد للرد على الضربة الإسرائيلية المتوقعة. أكد عبد الناصر أكثر من مرة على
أن المسألة ستحل سلميًا وكان من المقرر أن يسافر زكريا محي الدين يوم 5 يونيو إلى
الولايات المتحدة([71]).
وقد ذكر صدقي محمود أن الفريق فوزي قد أبلغه بأن الموضوع عبارة عن مظاهرة([72]).
وأشار الفريق صادق في مذكراته كذلك أن القيادة كانت مقتنعة "أن الأمر لن يخرج عن كونه مناورة قد تجبر
إسرائيل في النهاية على التراجع واستخلاص ما كسبته من حقوق تتعلق بالمرور عبر مضيق
خليج العقبة كثمن لانسحابها من سيناء عام 1956"( [73]).
ضعف التواصل بين القوات وتخلف سلاح الإشارة وعدم
الاكتراث:
- إشارة عجلون الشهيرة من الأردن تفيد بساعة بدء
الهجوم الجوي الإسرائيلي. لكن جندي الإشارة في مصر لم يستطع توصيلها إلى شمس بدران
وزير الحربية بسبب رفض حارسه الشخصي إيقاظه من النوم، وفي ظل غياب ضابط المناوبة
وذهابه للنوم في بيته هو وبقية الضباط. وبسبب تغيير تردد الإشارة في غرفة عمليات
القوات الجوية في موعدها، فلم يتم استقبالها. وقد قام الفريق محمد فوزي بعد الحرب
بتعذيب جندي الإشارة ثم تخفيض رتبته، لأنه ذكر مرة – حسب فوزي نفسه - أنه غير تردد الاستقبال للوصول إلى
استماع أوضح وفي المرة الثانية قال أن توقيت العمل بالتردد القديم انتهى حسب جدول
العمل، فغير على التردد التالي. وهنا نجد ثلاث جرائم كبرى: الأولى: عدم إيقاظ وزير الحربية
ليستلم الإشارة، والثانية: عدم وصول الإشارة للقوات الجوية بسبب تغيير
الشفرة، والثالثة: غياب ضابط الإشارة في بيته وبالتالي عدم قيامه لا بإيقاظ
وزير الحربية ولا بإبلاغ القوات الجوية بمضمون الإشارة سواء بالتليفون أو بأي
وسيلة أخرى.
- تم إغلاق مركز العمليات العام يوم 5 يونيو
المسؤول عنه محمد فوزي رئيس الأركان ويصف اللواء الدغيدي هذا القرار بأنه أكبر
ريبة([74]).
-
أرسل مكتب المخابرات الحربية في العريش إشارة بتحرك القوات الإسرائيلية واستعدادها
للهجوم صباح يوم 5 يونيو، ووصلت الإشارة للمشير عامر وقرأها ولم يفعل شيئًا([75]).
ويعزز هذا أن اللواء
عبد الحميد الدغيدي، قائد الطيران في سيناء في حديث أدلى به لصحيفة "الأهالي"
في 29 يونيو 1983 قال أن قوة استطلاعية في العريش تبين لها ليلة 4 يونيو 1967 أن
العدو بدأ بالفعل تحركاته، وأن قوات العدو تمكنت من احتلال الخط الواصل بين بيرين
ورفح والشيخ زويد، وأن العدو ينوي الهجوم في صباح اليوم التالي؛ 5 يونيو. وبالفعل
أرسل الدغيدي إشارة بهذا المعنى الساعة العاشرة والنصف ليلًا لقيادة الجبهة، ولكن
القادة كلهم كانوا قد تركوا أماكنهم استعدادًا لزيارة المشير عامر لمطار بير تمادا
المقرر لها صباح 5 يونيو، وبالتالي فلم يؤخذ بها([76]).
- كان من المقرر القيام بعمل مظلة جوية في سيناء
طول الوقت منذ بدء الأزمة تحسبًا لأي هجوم إسرائيلي، وقد أصدر اللواء الدغيدي
أمرًا بذلك. لكن الضابط المسؤول عن القيام بالمظلة وقت الهجوم الإسرائيلي صباح 5
يونيو، وهو المقدم محمد الغزاوي، قد أهمل عمله وذهب إلى بيته. وكانت هذه المظلة كفيلة
بإنقاذ أو تحسين الموقف. وقد قال الدغيدي عن هذه المظلة بالضبط ما يلي: "خرجت كل المظلات قبلها.. ولم أر تلك المظلة
على شاشات الرادار، سألت عن سبب غيابها وإجراء التحقيق اللازم في ذلك، فرد عليَّ
مدير العمليات بعد 5 – 7 دقائق وقال أنه اتصل باللواء الجوي الذي عينته أن تخرج
منه المظلات فقيل له: إن قائد ثاني اللواء وهو المقدم طيار فاروق الغزازي عند صدور
الأمر بخروج المظلات كتب لنفسه أن يكون قائدًا لهذه المظلة بالذات
وأنه ذهب إلى بيته بالقاعدة لسبب ما وأنه في طريقه إلى الخروج بالمظلة".. "إن غياب تلك المظلة أمر غريب
ومريب للغاية، والذي يزيد من ريبته أن قائد تلك المظلة المقاتلة الغائبة كان أبرز
شهود عليَّ على أني لم أُخرج ولا مظلة جوية، وهو الأمر الذي حوكمت من أجله.. وقد
ثبت للمحكمة بأني أمرت بعدد كبير من المظلات كان هو قائدًا للكثير منها". وأضاف الدغيدي أن ذلك الطيار قد
زاره في بيته بعد عشرين عامًا من الهزيمة مقدمًا له الاعتذار([77]).
-
كانت القوات التي هوجمت بريًا مبكرًا في سيناء، قبل الهجوم الجوي الشامل بساعتين،
قد أبلغت القيادة بعد الهجوم بساعة، ولم يهتم أحد بهذا الهجوم حتى بعد العلم به!
وكانت هذه هي بداية الحرب، حيث قامت قوة إسرائيلية بمهاجمة المحور الأوسط واحتلت
موقعًا متقدمًا 12 كيلومترًا داخل الحدود المصرية كانت تدافع عنه سرية مدعومة في
منطقة "أم بسيس". ورغم
أن وحدات مصرية في المنطقة قد أرسلت إشارةً الساعة الرابعة صباحًا للعريش تنذر بأن
هناك ما يدل على استعدادات للعدو للقيام هجوم بري. إلا أن تلك الإشارة قد قبعت في
مكتب العريش حتى السابعة صباحًا، إذ كان تصرف قائد مكتب الاستخبارات خاطئًا، حيث
استغرق تحليله حوالي 3 ساعات، وتلخص التحليل في أن الوحدات الأمامية لإسرائيل على
كِلَي المحورين الشمالي والأوسط تقوم بتغيير عناصرها من احتياطي المنطقة، بينما لم
تكن تلك التحركات سوى الاستعدادات النهائية للهجوم. وأخيرًا وصلت الإشارة إلى مكتب
وزير الحربية في السابعة صباحًا ولكنها لم ترسل إلى قيادة العمليات لكي تتحرك على
الأرض إلا الساعة 9.45 صباحًا؛ بعد بداية الهجوم الاسرائيلي بأكثر من ساعة. أما
القوة المصرية التي تعرضت للهجوم فلم تبلغ القيادة العامة بذلك الهجوم إلا بعد
بدئه بأكثر من ساعة!
وقد بلغت تلك الإشارة قائد الجيش بعد
ظهر يوم 5 يونيو([78]).
- ويفصل الأمر الفريق كمال حسن علي،
كما يضيف أنه لم يكن هناك أي اتصال بين قيادة الجبهة وفرق الجيش الميداني،
الأمر الذي
ترتب عليه أن الأوامر كانت تصدر رأسًا من القيادة العامة بالقاهرة إلى الجيش
الميداني والتشكيلات دون إخطار قيادة الجبهة([79]).
وترتب على ذلك انعدام
التنسيق بين القوات.
- بل إن العدو قد اخترق الاتصالات التليفونية للجيش المصري وأنه
كان في بعض الأحيان يرد على الاتصالات ضابط إسرائيلي!([80])
- أما عن الاستطلاع الجوي، فقد ذكر قائد القوات
الجوية الفريق صدقي محمود أن
سلاح الجو لم يقم بطلعات استطلاعية كافية على مواقع العدو، وأن الطائرات القليلة
التي قامت بطلعات عادت بصور مشوشة لأن الكاميرات المثبتة على الطائرات لم يكن
ممكنًا تدويرها أو تثبيتها بزاوية منحنية، الأمر الذي يعني أنه كان على الطائرات
أن تحلق عموديًا فوق أهدافها للحصول على صورة واضحة([81]).
كما وجدت أخطاء جسيمة للاستطلاع الجوي، حسب
ما ذكر الفريق صادق.
- قطع الإسرائيليون خط الاتصالات الرئيسي في
سيناء أمام الجنود المصريين المسلحين دون أن يتدخلوا، غالبًا لعدم وجود أوامر
بالتدخل وعدم وجود لامركزية.
تضارب الأوامر:
صدور الأوامر كان يأتي من جانب أي مسؤول: رئيس
الأركان – وزير الحربية – القائد العام، قائد الجبهة... وصدر أمر الانسحاب من جهات
متعددة.
اختفاء القادة والهروب:
يوم 5 يونيو اختفى بعض القادة في قاعدة بيرتمادا
لاستقبال المشير عامر ومرافقيه، ثم هرب بعض القادة يوم 6 يونيو من الجبهة إلى
الإسماعيلية واحتموا بفيلات معسكر الجلاء، ثم هربت القيادات الميدانية والضباط بعد
ذلك وتركوا الجنود.
قال الدغيدي([82]) أنه كان
القائد الوحيد الذي تواجد على رأس طاقم العمليات بمركز عملياته وباقي القادة
الكبار غابوا عن مراكزهم. وقد هرب قائد الجيوش صلاح محسن من سيناء مع طاقم
قيادته. وممن توجهوا إلى القاهرة الفريق محمد فوزي
رئيس الأركان حين علم أن العدو يقترب من قناة السويس.
- صدر أمر الانسحاب
شفويًا من جانب المشير عامر، بينما قال هو أنه تشاور مع عبد الناصر في أمر
الانسحاب. وقد تم وضع خطة جيدة
للانسحاب من شرق سيناء، ثم صدرت أوامر فورية بالانسحاب دون الخطة، وكانت فاجعة
كبرى. إذ صدر أمر الانسحاب لمختلف الفرق من جانب: القائد العام - المخابرات
الحربية – الشرطة العسكرية – شمس بدران – علي شفيق.. إلخ، كيفما اتفق.
ومن
مهازل هذه العملية أن قائد جبهة سيناء؛ الفريق أول عبد المحسن مرتجي، لم يُبلَغ
بقرار الانسحاب وفقط علم به من مدير الشرطة العسكرية.
وكان هذا التخبط واضحًا في مأساة الفرقة الرابعة
المدرعة([83]).
والحقيقة
أن تلك الفرقة كانت ضحية الأوامر المتناقضة بغض النظر عن الأشخاص الذين أعطوا
الأوامر: أمْر باستعادة العريش بعد احتلالها، ثم أمر بالتمركز في مضايق سيناء
لتغطية القوات المنسحبة، ثم انسحبت إلى غرب القناة دون علم رئيس هيئة العمليات أو
قائد جبهة سيناء. ثم صدرت لها الأوامر بالعودة إلى الشرق والمضايق. وأخيرًا صدر
أمر الانسحاب مرة أخرى لأن العدو كان قد احتل المضايق. كما تعرضت الفرقة لقصف جوي،
وحين حاولت عبور القناة كانت الجسور قد نُسفت بواسطة الجيش المصري حتى لا يعبر
الإسرائيليون قناة السويس، فتركت الدبابات شرق القناة وكان معظمها سليمًا (أو
مدمرًا، فقد اختلفت الأقوال في ذلك). وبعد الهزيمة أمر عبد الناصر بتقديم قائد الفرقة،
محمد صدقي الغول، للمحاكمة، والتي حكمت عليه بالسجن 15 سنة والطرد من الخدمة
العسكرية.
في نهاية الأمر تم الانسحاب بشكل غير مخطط، كلٌ
انسحب بطريقته الخاصة وعلى مسؤوليته، فصار الانسحاب هروبًا عشوائيًا جماعيًا للجيش.
وهذا معناه أن القيادات لا تعرف ألف باء قواعد الانسحاب في الحروب.
-هروب الجيش تم دون حرق الوثائق أو تدمير الأسلحة
والذخائر. لكن بعض الجنود استطاعوا حرق بعض مستودعات الوقود مع الانسحاب، ثم تم
بعد ذلك تدمير بعض مخازن الذخيرة بواسطة قوات الصاعقة والمخابرات الحربية.
-
من المساخر أن الستارة المضادة للدبابات والتي اعتمدت عليها القيادة العليا لسحق
العدو كانت "تتعرض
لظروف مأساوية غريبة! فقد نسيت القيادة العليا إبلاغها بقرار الانسحاب، أو أنها سقطت
سهوًا من رسل المشير، فظلت في مواقعها حتى الساعة الثانية من بعد ظهر يوم 7 يونيو،
لتفاجأ بقوات شارون المدعمة بالطيران تحيط بها، ولتسقط بعد وقت قصير"([84]).
- اعتكف رئيس الدولة في غرفته الخاصة في بيته
لمدة ثلاثة أيام، كان يجري أثناءها اتصالات خارجية، ثم خرج من الغرفة مساء يوم 8
يونيو ليقابل المشير ويبدأ الاستعلام عن الموقف. فهل هذا سلوك شخص يشعر
بالمسؤولية؟
وقف إطلاق النار:
- رفضت
مصر قرار مجلس لأمن رقم 233 بوقف إطلاق النار مساء 6 يونيو بسبب سوء تقدير القيادة
للموقف العسكري، وذلك قبل الانهيار الكامل للجيش، ثم وافقت على القرار 234 يوم 7
يونيو بعد تدمير الجيش ككل واحتلال سيناء.
أما البيانات العسكرية وإعلام أحمد سعيد فحدث ولا
حرج:
- مسخرة بالمعنى الحرفي للكلمة؛ بث معلومات
وأخبار وهمية عن تقدم الجيش المصري في أرض إسرائيل، ودك تل أبيب، وتحقيقه انتصارات
أخرى عظيمة، وانهيار العدو، وتدمير جيشه وإسقاط أسراب من طائراته.. إلخ. وقد كانت
بيانات أحمد سعيد تذاع على أساس المعلومات التي كانت ترسل إليه من القيادات
العسكرية والسياسية. وقد ساهمت المبالغة حول الانتصارات الوهمية والنصر المبين في
زيادة قوة الصدمة التي تعرضت لها الجماهير حين عرفت الحقيقة.
5- بعد الهزيمة:
انتصار الهزيمة والتآخي مع الخطيئة
محمد نعيم |
- حين لاحت بوادر الهزيمة وبعدها، لجأ معظم كبار
رجال الجيش والقيادة السياسية إلى الكذب وتحميل مسؤولية الكارثة للآخرين، كما قُدم
إلى المحاكمة عدد قليل من الضباط بعضهم بلا ذنب. كما تمت التضحية بالمشير عامر وقتله
أو دفعه إلى الانتحار، وتحميله مسؤولية الفشل. إنه النظام الاستبدادي الذي يفتقد
للشفافية والإعلام الحر، وتسوده الصراعات الخفية بين مراكز القوى.
- استقال معظم القادة العسكريين والرئيس والمشير،
ثم عاد الرئيس المهزوم بتأييد شعبي واسع. ثم تم تعيين قادة مهزومين في موقع
المسؤولية وعلى رأسهم رئيس الأركان محمد فوزي والذي لم يقدم استقالته، وكذلك مدير
المخابرات الحربية. وإذا كان الرئيس المهزوم قد استمر في منصبه بأمر الجماهير
فلماذا لا تستمر بقية المهزومين؟!
- تشكلت لجنة من القادة السوفيت
للتحقيق في أسبابها وحققت مع العسكريين المصريين ثم كتبت تقريرها من نسختين وسلمت
نسخة لجمال عبد الناصر ونسخة لوزارة الحربية. وقد ذكر محمد صادق مدير المخابرات
الحربية وقتها بعد أن صار وزيرًا للحربية أنه حاول العثور على النسخة التي سلمت
لمحمد فوزي لكنه لم يجد لها أثرًا، وحاول العثور على نسخة عبد الناصر بعد وفاته
وتولي السادات فلم يجدها أيضًا([85]).
- كما تم عقد اجتماع سري للجنة
التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي (أشرنا إليه أعلاه) برئاسة جمال عبد
الناصر لتحليل أسباب الهزيمة. قدم عبد الناصر نقدًا هزيلًا للنظام. أهم بنود هذا
النقد:
1-عدم احترافية القيادة العسكرية،
ويقصد المشير.
2-عجز صدقي محمود قائد القوات الجوية
وأبوها الروحي حسب وصف حسني مبارك.
3- فساد يحيط بتعيين القيادات
العسكرية.
4- ضعف مستوى الطيارين.
والهدف كان واضحًا، وهو تبرئة عبد
الناصر لنفسه، رغم أنه أعلن في خطاب التنحي يوم 9 يونيو 1967 استعداده
لتحمل المسؤولية كلها عن كل ما حدث، بلهجة "جدعنة" وفي سياق تمثيلية
التنحي المُحكمة، ولم يعترف أنه مسؤول بالفعل، وإدانة المشير والقوات الجوية. ونضيف
دليلًا آخر هو محاكمة اللوائين صدقي محمود والدغيدي وكذلك اللواء الغول قائد
الفرقة الرابعة بدون أي وجه حق. وزعم عبد الناصر إلى أنه كان يعرف موعد الحرب وأنه
قال ذلك في لقاء 2 يونيو 1967 المفاجئ مع القادة، وهو لم يكن اجتماعًا رسميًا، وهو
الكلام الذي نفاه صدقي محمود وكان حاضر اللقاء، ولم يأت له بذكر اللواء محمد صدقي
الغول وكان حاضرًا لذلك اللقاء، كما تم نفيه من قبل آخرين أيضًا. لم يتطرق
المجتمعون إلى عورات النظام السياسي وعوامل هزيمته الحقيقية.
- بعد الهزيمة اهتم النظام بتحميل
المسؤولية للمشير عامر والقوات الجوية، وتم استخدام أحقر الأساليب، منها تقديم
قائد القوات الجوية للمحاكمة بخمس تهم برأته المحكمة من 4 منها وأدانته في تهمة
عدم صحة تقديره لحجم الخسائر المتوقعة للقوات الجوية في حالة تلقي الضربة الأولى،
رغم أن عبد الناصر بنفسه قال أنه قد قال: but this will cripple us، فأين سوء التقدير؟! كما تم ترويج كتاب طُبع
في بيروت بعنوان: "وتحطمت الطائرات عند الفجر" بقلم جاسوس إسرائيلي وهمي
تغلغل – زعمًا – في القوات الجوية، وهو كتاب فنده بوضوح اللواء الدغيدي، وأي طفل
يمكنه حين يقرأه أن يكتشف أنه مليء بالمغالطات والكذب واللامعقول.. ومن يستطيع
وقتها ترويج كتاب في مصر سوى الدولة؟ كما تم التركيز على محاكمة قادة سلاح الطيران
وبلعت الجماهير الإشاعة وتناست مسؤولية القيادات السياسية والعسكرية المختلفة! وإشاعات
عن عمالة اللواء عبد الحميد الدغيدي، قائد القوات الجوية في سيناء، لإسرائيل..
وغير ذلك الكثير من الإشاعات.
وقد سمى النظام الهزيمة: نكسة
للتقليل من أهميتها..
وخرج الملايين في العالم العربي
يناشدون القائد المهزوم بالبقاء في منصبه..
****************************
- يمكن تحديد الشخصيات الكبيرة المسؤولة عن
الهزيمة تحديدًا وهم: جمال عبد الناصر – عبد الحكيم عامر – الفريق أول محمد فوزي
رئيس الأركان – الفريق صلاح محسن قائد الجيش – الفريق محمد أحمد صادق مدير
المخابرات الحربية. وهذا لا ينفي مسؤولية شخصيات كثيرة أقل في الرتب والموقع من
السلطة.
إن علامات استفهام كثيرة وجهت إلى الفريق محمد
فوزي بالذات، وهو رئيس الأركان قبل وأثناء الحرب ووزير الحربية بعدها، بل اتهمه
اللواء الدغيدي بالخيانة مباشرة وفي صفحات عديدة من مذكراته، وسرد الفريق مدكور
أبو العز الكثير عن مؤامراته ضد القوات الجوية.
ونحن لا نستبعد أبدًا وجود اختراقات مخابراتية في
الجيش ومراكز القيادة في مصر الناصرية، من عناصر تابعة للموساد والمخابرات
الأمريكية والسوفيتية. ولا نستبعد عمليات الخداع من قبل السوفيت والأمريكان
للقيادة المصرية، وألاعيب اللوبي الصهيوني في البلدين. هذا طبعًا بجانب ضعف كفاءة
القيادات العسكرية وغباء القيادة السياسية التي غررت بالقادة والضباط عمومًا
وأوهمتهم بأن القضية ستحل سلميًا ولم تحسن تقدير حساب نتائج قراراتها. وطبعًا لا
يجوز التغاضي عن ضعف التسليح والتدريب والتنظيم والتخطيط وقلة المعلومات عن
العدو... إلخ. مع حالة الغرور والشعور بالقوة الزائفة وبالعظمة الذي أصاب فرسان
يوليو 1952. كل هذا أنتج النفخة الكدابة التي تحلّوا بها وساقوا البلاد إلى
التهلكة.
كانت طريقة فرسان يوليو في إدارة الجيش وإدارة
أزمة مايو – يونيو 1967 امتدادًا لثقافتهم ولطريقتهم في إدارة الاقتصاد والدولة
والبلد ككل: ثقافة قبل حداثية تسود أذهانهم التي لا تفهم أهمية العلوم الحديثة، وتحتقر
العقل، مع غياب التفكير المنطقي، بجانب الغرور والشعور بالقوة الزائفة والعظمة
الوهمية التي تخلقها في العادة الخلفية العسكرية، وقصر النظر وضيق الأفق
والعشوائية، تغليب أهل الثقة على أهل الخبرة، وتغليب مصالحهم الفردية، وتقديس
ذواتهم المنتفخة، بجانب سيادة الفساد والمحسوبية، وكل أمراض النظم الاستبدادية. لم
يتعلم أولئك الناس أي شيء من دروس حرب 1948 والتي كانت قد أديرت بنفس الطريقة
العشوائية والهمجية، ولا من دروس حرب 1956، التي أديرت بنفس الطريقة. ولولا
الخبراء السوفيت الذين أداروا الجيش بعد هزيمة يونيو لما تمكنوا من إعادة بناء ذلك
الجيش على أسس جديدة مكنتهم من شن حرب 1973 وتحقيق نصر مؤقت، إذ سرعان ما طغت روح
الهمجية واللاعقلانية، فكان الوقوع في فخ معركة الدبابات الكبرى في 14 أكتوبر 1973
وما تلاها من الثغرة وحصار الجيش الثالث، والنتائج السياسية للحرب([86]).
وإذا استعرنا لغة هيجل الجميلة نقول إن
نظام يوليو 1952 قد عاد إلى ذاته بعد اغترابه في نصر عابر، فقد جُبل على الهزيمة.
ولا نستطيع إعفاء الجماهير من المسؤولية؛ تلك
التي رحبت بجلاديها وعشقتهم، وفرحت بالفتات تلقى إليها، بينما يرتع أمام أبصارها
الكذب والخداع والفساد.. وقد استمتعت في الغرق في ذلك المستنقع.
([1])خطاب الرئيس جمال عبد الناصر في الاحتفال الشعبي
من ميدان الجمهورية بالعيد العاشر للثورة في 22/7/1962.
([2]) Bent Hansen and Karim Nashashibi, Foreign
Trade Regimes and Economic Development: Egypt, Volume ISBN: 0-87014-504-5,
Publication Date:1975, p. 89, 73, 89,
https://www.nber.org/books-and-chapters/foreign-trade-regimes-and-economic-development-egypt
([3])
ف. أ. لوتسكيڤتش، عبد الناصر ومعركة الاستقلال الاقتصادي (1952-1971)، ترجمة:
سلوى أبو سعدة ومحمد واصل بحر، دار الكلمة للنشر، بيروت، ط 1، 1980، ص 99.
([4])عمرو صابح، عبد الناصر وثورة اليمن واحتياطي مصر
من الذهب.
وقد
ذكر أن حجم رصيد الذهب هو 154 طنًا، قيمتهم وفقًا لحسبته =100 مليون دولار، أي نحو
43.5 مليون جنيه فقط لا غير، وهذا حساب خاطئ. فلو تم بيع 15 طنًا من الذهب بسعر
الذهب في ذلك الوقت (35 دولار للأوقية) فيكون حاصل البيع: 16.561 مليون دولار، أو أن يكون قد باع الذهب
بأقل من قيمته أو أن جزءًا من الثمن أو من الذهب قد اختفى.
([12]) دافيد داوننج
وجاري هيرمان، حرب بلا نهاية وسلام بلا أمل، ص 83 – محمد نصر مهنّا، السوفييت
وقضية فلسطين، ص 23. وقد أشار البعض إلى قيام مصر بالتفاوض المباشر مع إسرائيل في
عام 1950، المرجع السابق، ص 19.
([17]) تعد مذكرات محمد فوزي وزير الحربية الأسبق (حرب الثلاث
سنوات) وثيقة تشهد على حالة الجيش الناصري حتى 1967. انظر أيضًا كتاب صالح صائب
الجبوري، محنة فلسطين وأسرارها السياسية والعسكرية، بيروت، ط 1، 1970.
([21] ) اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد
الاشتراكي العربي برئاسة الرئيس جمال عبد الناصر، القاهرة، مقر الاتحاد الاشتراكي
فى 3 أغسطس 1967، ص 27.
([28]) أشار أمين هويدي أن مدكور قد طُرد لخلافات
مستعصية بينه وبين الفريق محمد فوزي رئيس الأركان، الفرص الضائعة، ص 85.
([37]) الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ص 91 – 92، نقلًا
عن خالد فهمي، المرجع السابق. وذكر نفس الواقعة الفريق محمد صادق.
([44]) حرب
عام 1967 من وجهة النظر المصرية، المبحث الرابع،
http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Siasia2/Harb67Misr/sec05.doc_cvt.htm#_ftn3
وقد صدق عبد الناصر
هذا الكلام. وهنا نجد تعليق عبد اللطيف البغدادي، وقد التقي هو وحسن إبراهيم وكمال
الدين حسين - وهم ممن لم يتحمسوا للتصعيد - بعبد الناصر في 29 مايو: "والذي
أثار دهشتنا أكثر من أي شيء آخر في هذا الحديث الذي جرى بيننا وبين جمال هو
اعتقاده أن الروس مستعدون لدخول حرب ثالثة من أجلنا – وكيف يمكنه أن يصدق مثل هذا
القول".
([56]) صحيفة الشرق الأوسط ، عدد 9/6/1987، نقلًا عن
أحمد عبد المجيد، دور عبد الناصر في حرب يونيو 1967،
[68]) ) في أعقاب النكسة لمحمد الجوادي، ص 283.
([86]) يمكن الاطلاع على
تفاصيل تلك المأساة في كتاب اللواء جمال حماد، المعارك الحربية على الجبهة
المصرية، ص ص 249 – 284.
وفي بحث أحمد عبد المنعم زايد، حقائق معركة تطوير
الهجوم 14 أكتوبر 1973،
لقد كان الفخ منصوبًا ومعروفًا ونتيجة
المعركة محسومة، إلا أن القيادة السياسية فرضت رؤيتها، مؤدية إلى تحطيم عدة ألوية
مدرعة واحتلال العدو لجزء من غرب قناة السويس وتدمير جزء مهم من حائط الصواريخ
المضادة للطائرات، و