الأحد، 26 مارس 2023

ماركسيون وناصريون - نموذج لتخبط العقل الماركسي

 

 

 

 لتخبط العقل الماركسي


 

 

عادل العمري

 

مارس 2023

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يتناول المقال علاقة الصراع والوئام بين الماركسيين المصريين والنظام الناصري في الخمسينات والستينات من القرن الماضي

 

تمهيد

تفسير العداء للشيوعية وحملة الاعتقالات في 1959

الموقف من النظام داخل المعتقلات

قرار حل الحزب والاندماج في النظام

التنظير للناصرية

لماذا صار جُل الماركسيين ناصريًّا؟

 

***************************


تمهيد([1]):

في السنوات الأخيرة شهدنا اضطرابًا واضحًا من قبل معظم الماركسيين المصريين  إزاء انقلاب 2013 وعودة العسكر إلى الواجهة. فقد أيد جلهم، وخاصة كبارهم، انقلاب الجيش، بل وتمنوه أصلًا ودعوا إليه، دون أن ننكر أن البعض قد عارضه وندد به وناضل ضده أيضًا. فقد صنف مفكر كبير مثل سمير أمين الانقلاب بأنه قد يحقق استقلال مصر عن الإمبريالية وقد يحقق تنمية حقيقية.. بل وصف السيسي بأنه كان نابهًا عندما انحاز للشعب المصري وارتبط بإرادة المصريين([2]). وراح خليل كلفت في مقال ممل ومعقد يبرر انقلاب السيسي ويصف مظاهرات 30 يونيو بالموجة الثورية، رغم أنه راح ينتقد حكم السيسي فيما بعد([3]). كما فسر انقلاب العسكر بأنه "تدخل" يهدف إلى إقامة "حكم ليبرالي عالم-ثالثي، يقوم على تعددية ثقافية وسياسية وحزبية وفكرية ضمن حدود بعينها. ولا سبيل إلى تحقيق مثل هذا النزوع إلا باحتواء قوى وقيادات ليبرالية وقومية ويسارية وثورية"([4]). وهو كلام يشجع على تأييد السيسي. وبوجه عام فسرت أقلام ماركسية عديدة، بل نجزم بأنها الغالبية العظمى من الماركسيين، مظاهرات 30 يونيو بالثورة التي انضم إليها الجيش، وكانوا قد شاركوا في حملة "تمرد" الموجَّهة من المخابرات الحربية. كما أصدر الحزب الشيوعي المصري في 8 أغسطس 2013 تقريرًا يؤيد فيه ويمتدح ثورة الدولة([5]) في 30 يونيو - والتي وصفها بالثورة - ويحييها ويبني الآمال الكبرى عليها. وهناك من كبار المثقفين من انضم علنًا إلى معسكر الجيش ضد الثورة، مثل الصحفي اللامع والكاتب الكبير صلاح عيسى. كما بررت أقلام عديدة مذبحتي رابعة والنهضة... وقد بشر الكثيرون ببناء السيسي للدولة الديموقراطية الحديثة داعين الشعب للاصطفاف خلف الدولة لإنقاذ الوطن.

واليوم تتباكى الغالبية العظمى من اليسار على اللبن المسكوب وتعلن ندمها على تأييد العسكر بعد أن تبين خطأ توقعاتها وكل حساباتها، وبالتالي عجز واضطراب منهجها.

 وإذا استعدنا فترة الحكم الناصري، سنجد أن التاريخ قد كرر نفسه، بصورة مختلفة بالطبع، مما يذكرنا بالعبارة الشهيرة المنسوبة إلى ماركس: "يقول هيجل في مكان ما إن جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم تظهر، إذا جاز القول، مرتين، وقد نسي أن يضيف: المرة الأولى كمأساة والمرة الثانية كمسخرة". إذ تأرجح موقف المنظمات الماركسية من انقلاب يوليو 1952 بين العداء والتأييد، فقد اختلفت المنظمات، وتغيرت المواقف حسب سياسة النظام. فالاعتقالات وفرض الديكتاتورية العسكرية استدعت العداء، أما قانون الإصلاح الزراعي فكان مغريًا للغالبية. والأهم كان اختيار الضباط لسياسة عدم الانحياز، ثم عقد صفقة أسلحة مع تشيكوسلوفاكيا، ثم تأميم قناة السويس ورفض حلف بغداد ثم تحقيق وحدة مصر وسوريا واليمن. مع هذه الاختيارات من جانب الناصريين صار موقف المنظمات الماركسية مؤيدًا للسلطة مع التحفظ إزاء ديكتاتوريتها إلى حين. وبعد حل الحزب الشيوعي وحدتو لنفسيهما راحت الغالبية العظمى من الماركسيين تتغنى بعظمة وجلال، بل وديمقراطية السلطة الناصرية. ولا شك أن قلة كانت تخالف ذلك على طول الخط. وحتى الآن ما زال جمهور ماركسي عريض في مصر يقدس تاريخ الاشتراكية المزعومة ويحن لنمط الحياة في ستينات القرن الماضي. والكل تقريبًا ما زال يعشق سياسة تأميم القطاع الخاص وتدخل الدولة في كل صغيرة وكبيرة.

وتدل – حسب ما نرى – تأرجحات الماركسيين في العصر الناصري تجاه النظام وتناقضاتهم ومخالفة أفكارهم لمبادئهم المعلنة على قدر كبير من الاضطراب.

***************************

تفسير العداء للشيوعية وحملة الاعتقالات في 1959:

رغم التأييد العميق الذي قدمه الحزب الشيوعي وبقية المنظمات الماركسية للناصرية اعتبارًا من 1956، قامت السلطة بشن حملة اعتقالات واسعة النطاق ضد كوادر الحزب في أول يناير 1959 ثم في مارس من نفس العام. وقد صاحب ذلك شن الناصريين لحملة دعائية وتحريضية شعواء على الشيوعيين، متهمين إياهم بالعمالة للاستعمار وللاتحاد السوفيتي وبالصهيونية، وظل زعيمهم يكيل لهم هذه التهم حتى منتصف الستينات. ورغم هذا كله، كانت الناصرية قد احتلت موقعًا مقدسًا في وعي جل الماركسيين، فظلت تفسيرات الحملة الناصرية تبتعد عن جوهر القضية، وتختلق عوامل عرضية تفسر المذبحة، وقد تمثلت طريقة السلطة في تفسير الحركات الثورية كنتائج لإيماءات من الخارج ودور العناصر "المندسة". وفي الواقع كان النظام الناصري يعاني من فوبيا الماركسية طول الوقت وهو ما يفسر حملاته المتكررة ضد منظماتهم وكوادرهم وتعريضهم للتعذيب الشديد بهدف كسر إرادتهم وتدمير نفوسهم. إن السعي المحموم طول الوقت لخلق وإعادة خلق وتدعيم شرعية النظام كان دافعه للعمل على انتزاع اعتراف المعارضة وكسر إرادتها بالقوة، سواء من اليمين أو اليسار. خاصة أن النظام قد جاء بانقلاب عسكري واحتاج لخوض صراعات معقدة لمدة سنتين حتى تحقق له الاستقرار.

وكانت الاعتقالات مفاجأة لم يحسب الحزب حسابها، لأنه لم يفهم الدافع الحقيقي لوحدة مصر وسوريا واكتفى بالانفعال برونق الشعار، كما أنه لم يفهم ماهية الناصرية نفسها. ومن الأمور التي كانت واضحة للغاية وقتها أن وحدة مصر وسورية كانت مقدمة لحملة ناصرية صليبية ضد الشيوعية والقومية العربية في مصر والمشرق العربي التي شهدت نموًّا كبيرًا في عموم المنطقة وكانت تنذر بتغيرات جذرية في المشرق العربي. ولم يتوان كبار دعاة الوحدة عن إعلان ذلك. ورغم قوة الصدمة، استمر الحزب الشيوعي المصري يتناسى دور السلطة عما يحدث لأعضائه، بل وأصدر بيانًا يشجب فيه "محاولة الوقيعة بين السلطة والحزب"، معتبرًا اعتقالات أول يناير مجرد مخطط تقوم به "القوى المعادية للوحدة الوطنية". وراحت تبرئة السلطة الناصرية تسير على قدم وساق على صفحات جريدة "المساء" التي كان يديرها ماركسيون معينون من قبل السلطة. فنُشرت على سبيل المثال عبارة لعبد الناصر ذكرها ردًّا على سؤال لمراسل التليفزيون البريطاني تستهدف - فيما يبدو - تبرئته ومناشدة ضميره: "حين أريد أن أبدي رأيي في نشاط الحزب الشيوعي السوري فإني أبديه هنا في القاهرة ولا أبديه في إذاعة لندن، لأن الحزب الشيوعي السوري وغيره من الأحزاب الشيوعية العربية هم عرب أولًا ثم شيوعيون"([6]). كما دعت صحف "الجمهورية" و"المساء" و"روز اليوسف" على لسان أعضاء والمتعاطفين مع الحزب إلى الوحدة الوطنية، مستنجدين بعبارة عبد الناصر سابقة الذكر. وراحت صحف الحزب الشيوعي ونشراته تناشد السلطة المصرية إعادة النظر في قراراتها المعادية للشيوعيين وتطالبها بـ "وحدة الصف الوطني"..

وبهذه المناسبة ذهب فتحي عبدالفتاح – كمثال - إلى أن حملة 1959 كانت عملية منافية للمنطق والعقل ولا تستند إلى أي مبرر موضوعي، بل نتجت عن الوقيعة بين القوى التقدمية، والتي قام بها المرتزقة وعناصر مشبوهة، مما جعل الناصرية – مخدوعة بالطبع!- تغلب تناقضها الثانوي على تناقضها الرئيسي، وأن هذه الهجمة لم تكن مفيدة إلا للإمبريالية والرجعية في المنطقة([7])، وهو طبعًا يعتبر الناصرية ضمن القوى التقدمية. وقد ردد نفس المعنى شهدي عطية الشافعي أمام المحكمة عام 1959، فأخذ يحذر من الذين يعملون على ما أسماه "تفتيت القوى الوطنية". وقد ظلت هذه النغمة سائدة حتى بعد موجة الاعتقالات الثانية في 28 مارس 1959، الأوسع نطاقًا([8]). وكأنَّ الحكومة قد خُدعت لمدة سنوات طويلة من قيامها بالتنكيل بالشيوعيين والعمال ابتداء من قمع إضراب كفر الدوار في 1952 وإعدام اثنين من العمال، حتى قتل فرج الله الحلو، سكرتير الحزب الشيوعي اللبناني وقتها، وتذويب جسده في ماء النار، مرورًا بحفلات التعذيب - حتى الموت أحيانًا - للكوادر الشيوعية.

ويبدو أن مثقفي اليسار قد رأوا في معاداة الشيوعية من جانب الناصرية الاستثناء، أو إذا ما استعرنا لغة هيجل الذي يحبونه كثيرًا: "العنصر الوضعي الذي يتضمنه القانون"، أو "العنصر اللاعقلي المتضمن بالضرورة في العقل"([9]). فالدولة الناصرية تكون بهذا الشكل هي العقل وقد تحقق بالفعل، وينبغي أن نأخذ في الاعتبار العناصر اللاعقلية التي تتضمنها بشكل ضروري! والتي تصبح بالتالي عناصر عقلية. وفي الحقيقة وجد هذا الفهم وجودًا ضمنيًّا في تحليلات مفكري اليسار الماركسي، فالنظام تقدمي ككل ولكنه قد ارتكب ما ترتكبه في العادة البرجوازيات التي تمر بظروف خاصة. بل وكثيرًا ما عُزيت جرائم النظام لهذا الجهاز أو ذاك أو هذا الفرد أو ذاك دون إدانة النظام نفسه.

***************************

الموقف من النظام داخل المعتقلات:

لكن مع استمرار الاعتقال لمدة طويلة توارت داخل المعتقلات فكرة التحالف مع الناصرية من أدمغة مفكري الحزب. فبينما تطورت لدى مجموعة خليل([10]) (الأقلية)، فكرة رأت أنه على القوى الشيوعية أن تندمج في حزب النظام لا أن تقيم معه جبهة فحسب، أصبحت الأغلبية ترى أن على الثوريين أن يشكلوا جبهة وطنية ديمُقراطية ضد النظام وليس معه، إذ إن تناقض الشيوعية مع الناصرية قد تفاقم من جديد بصدد قضية الديمقراطية، التي لا تشملهم على الأقل.

إلا أنه بعد قرارات تأميم عدد كبير من الشركات الرأسمالية في 1961 وصدور "الميثاق" وإعلان النظام تبنيه للاشتراكية العلمية، راحت الكتلة الأكبر من الحزب تترنح، وازدادت حيرتها في المعتقلات. ويوضح فتحي عبدالفتاح هذه الحالة قائلًا: "إن المعتقلين قد احتاروا في تفسير التناقض بين شعارات النظام ووجودهم في السجن "([11]). وكان سيصبح من الطريف للغاية أن تصل التوفيقية إلى أوجها، فيجري اعتبار هذا التناقض المزعوم ديالكتيكيًّا، وبالتالي مبررًا وصحيًّا وضروريًّا للتطور (لن يطول انتظارك أيها القارئ لترى هذا "الإبداع" يتحقق)، وقد استمرت هذه الحيرة، وانقسم المعتقلون حول تفسير التناقض المزعوم إلى ثلاثة اتجاهات أساسية:

فاعتقدت كتلة "حدتو" أن الناصريين هم عبارة عن مجموعة اشتراكية، كشفت عن ذاتها بقرارات التأميم وأنها قررت تحقيق الاشتراكية. وعلى أساس هذا التفسير توقعت المنظمة أن يُفرج عن أعضائها المعتقلين ليشاركوا في إنجاز الثورة الاشتراكية. وينسجم هذا التفسير مع الروح التي تم بها تقبل اعتقالات 1959، فالسلطة قد ظلت تقدمية ولكن "الخطأ" يرجع إلى عوامل أخرى. واعتقدت مجموعة أخرى أن الدولة قد قررت السير في طريق التطور الرأسمالي بواسطة رأسمالية الدولة، ذات الطابع التقدمي بالطبع! أما المجموعة الثالثة فقد فسرت الأمر على أساس أن السلطة قد قررت اتباع "التطور اللارأسمالي".

ورغم الخلافات، أجمع الكل على الطابع التقدمي لإجراءات 1961 وعلى أنه يستحق تأييد الشيوعيين. فملكية الدولة في الماركسية أكثر تقدمية تاريخيًّا من الملكية الخاصة. فالبرنامج الماركسي في كل مكان نص على تحويل الملكيات الخاصة أو ما تيسر منها إلى ملكية الدولة. وفي كل مكان تقريبًا أيد الماركسيون التأميم والتخطيط المركزي. قال ماركس وإنجلز بوضوح: "يستطيع الشيوعيون أن يلخّصوا نظريتهم بعبارة وحيدة: إلغاء الملكية الخاصة"([12]). ومما ذكره لينين في هذا المجال بُعيْد الثورة الروسية: "إن رأسمالية الدولة خطوة إلى الأمام مقارنة بالحالة الحالية في جمهوريتنا السوفيتية وإذا تأسست في غضون ستة أشهر تقريبًا في جمهوريتنا، فسوف يكون هذا نجاحًا كبيرًا"([13]). وفي بلادنا ينظر الماركسيون دائمًا إلى خصخصة قطاع الدولة الاقتصادي على أنه خطوة رجعية أو بمثابة ردة، بل حتى اعتُبرت في عهد السادات من قبل الكثيرين ثورة مضادة.

ولكن كان أمام حدتو وأصحاب نظرية الطريق اللارأسمالي مشكلة نظرية كبيرة: أيَّ طبقة تمثل تلك المجموعة الاشتراكية (أو اللارأسمالية)؟ وكان التفسير المعتمد هو أن السلطة تمثل الشعب العامل وليس الطبقة العاملة. ولكن من هو الشعب بالضبط ؟ ألا يشمل – كما ذهبت الناصرية – الرأسمالية "غير المستغلة"! لم يحدد مفكرو الحزب وحدتو. ويتحدث في هذه المسألة فؤاد مرسي، أحد الزعماء الثلاثة للأغلبية، أي كتلة الحزب (بخلاف كتلة حدتو)، معتبرًا أن "ديكتاتورية البروليتاريا شرط أولي للثورة الاشتراكية"، ولكنه أخذ يعدل أقواله فورًا: "إنه بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت فكرة جديدة: الديمُقراطية الشعبية" (وحتى هنا لا يبدو أي شىء فريد)، ولكن فلنوصل مع المفكر الكبير: "وظهر شىء ثالث وهو جديد تمامًا وتم تحقيقه في المستعمرات السابقة.. تبدأ هذه البلدان في التحول من الثورة الوطنية إلى الاشتراكية بغير إقامة ديكتاتورية البروليتاريا ولكن باتخاذ أشكال جديدة لسلطة الشعب العامل"([14]) (ولابد أن فؤاد مرسي يشعر هنا أنه يضيف إلى الفكر البروليتاري!). وتتخلص إضافات فؤاد مرسي في الآتي:

1- لم تعد ديكتاتورية البروليتاريا شرطًا للثورة الاشتراكية، ولم يذكر لِمَ؟.

2- إنها مجرد شكل لسلطة ما أسماه "بالشعب العامل"، والتي توجد منها أشكال عديدة، طالما أن المضمون يمكن أن يتخذ عدة أشكال، منها الناصرية بالطبع. وتناسى الأستاذ مرسي طبعًا أن يحدد لنا مفهومه عن الشعب العامل، هل يشمل الرأسمالية الوطنية والجنود – و بالطبع الضباط - كما ذهب الميثاق الناصري؟([15]).

ولكن كيف تقوم سلطة الشعب العامل، الثورية طبعًا! باعتقال وتعذيب الشيوعيين، الذين رفعوا شعارات النظام نفسه، أو بالأحرى الذين رفع النظام شعاراتهم واستخدام لغتهم؟ استمر التفسير السابق الذي يفصل بين الدولة ومؤسساتها، وبلغ أكمل صورة على يد الزعيم الثاني لمجموعة الأغلبية؛ أبو سيف يوسف، فهو يرى وجود تناقض مع النظام ولكنه لا ينفي "وحدة القوى الوطنية"، مستندًا إلى قانون وحدة وصراع المتناقضات الديالكتيكي، الذي عبَّر عنه في رأي فيلسوف الأغلبية قول الشاعر:

بلادي وإن جارت علىّ عزيزة

 

               وأهلي وإن ضنوا علىّ كرام

     وكان تعليق الفيلسوف كالتالي: "هذا الشاعر يعبر بشكل من الأشكال عن صياغة لقانون الوحدة والصراع"([16]).

والحقيقة أن التناقض مرتبط دائمًا بالوحدة، ولكن الوحدة أو الهوية في الديالكتيك ليست كما هي في ذهن أبي سيف يوسف، بل هي وحدة متناقضات. والأمر الأهم أن الفيلسوف لم يفسر لنا الوقائع، فالتناقض قد تغلب على الوحدة، دون أن ينبس ببنت شفة حول إمكانية اعتبار هذه الوحدة لا تمت بصلة ما إلى الوطنية، أفلا تتحد البرجوازية والبروليتاريا أيضًا في نمط إنتاج واحد؟ إن الوحدة في الديالكتيك لا تعني الصداقة أو المحبة كما يفهمها الفيلسوف العزيز!([17]).

***************************

قرار حل الحزب والاندماج في النظام:

وبعد إصدار "الميثاق" وإعلان الاشتراكية رسميًّا برزت إلى الأذهان فكرة التحالف مع السلطة. فالنظام صار في نظر المنظمات الشيوعية تقدميًّا جدًّا علاوة على أنه ضمن القوى الوطنية. وقد قررت قيادة حدتو حل التنظيم في 1963 وهي داخل المعتقل، على أساس أن ينضم كوادرها إلى "الاتحاد الاشتراكي". ثم قامت بحل نفسها رسميًّا في مارس 1965، وقام أحد كبار رجالها بإرسال برقية إلى عبد الناصر يزف إليه بشرى حل التنظيم كهدية لـه من الحزب بمناسبة إعادة انتخابه رئيسًا للجمهورية([18]). كما راح الحزب يروج لفكرة "وحدة القوى الاشتراكية" ثم قام بحل نفسه في أغسطس 1965([19]) وأصدر بيانًا يدين فيه نفسه، معترفًا بأن الشيوعيين قد "قصروا عن تحويل أفكارهم ومواقفهم السياسية إلى قوة مادية فعَّالة تُجري التحولات الثورية المتطلبة"، وهذا رجع إلى سببين من وجهة نظر الحزب:

"الأول: عدم الارتباط العميق والعضوي بالجماهير الواسعة، والعزلة النسبية، خصوصًا عن أعرض أقسامها، وهم الفلاحون.

والثاني: الانقسامات المزمنة التي فتتت الحركة الشيوعية المصرية.

وبالإضافة إلى هذين السببين الرئيسيين، ثمة أسباب أخرى بعضها ذاتي والآخر موضوعي، في مقدمتها افتقار التنظيمات الشيوعية المصرية إلى القيادات الشعبية النابعة من صفوف العمال والفلاحين، وغلبة نفوذ مفاهيم البرجوازية الصغيرة بين صفوفها. ومن هذه الأسباب أيضًا الجمود العقائدي، الذي ساد فترة طويلة في الحركة الشيوعية المصرية. ان هذا الجمود في جوهره يتمثل بالدقة في عدم إدراك التغيرات الجذرية التي حدثت على الصعيد الدولي بانتصار الاشتراكية في العالم، ومن هنا درجت المنظمات الشيوعية المصرية على التقليل من دور القيادات الوطنية الثورية الأخرى، التي بدأت توالي الظهور على المسرح السياسي ونخص منها بالذكر قيادة الضباط الأحرار التي نظمت ثورة 23 يوليو 1952"([20]).

هكذا لم يكتف الماركسيون بحل حزبهم، بل وراحوا يعتذرون عن جمودهم العقائدي ويبدو من البيان السابق أن المقصود أن ذلك الجمود قد منعهم من حل منظماتهم في وقت سابق! لكن لا نستطيع إغفال أن قلة صغيرة قد رفضت حل الحزب واستمرت في العمل المنظم بعد الخروج من المعتقلات.

وأخيرًا تحققت الجبهة المنشودة، الشعار المطروح منذ الأربعينات من قبل التنظيمات الماركسية كحل سحري لقضايا الثورة، ولكن على الطريقة الناصرية. وحينئذ انضم عشرات الماركسيين إلى الاتحاد الاشتراكي، وانضم آخرون للتنظيم الطليعي ليقوموا بالترويج للناصرية. وكانت آخر لعبة لاستكمال تصفية الحزب أن سمحت السلطات، قبل حله بقليل، بدخول عدد من أعضائه إلى التنظيم الطليعي والاتحاد الاشتراكي، على أساس التزامهم بالماركسية اللينينية. وخُدع فعلًا عدد من الكوادر بفضل ما أُتيح لهم – عمدًا - من حرية الحركة، كما تم الإفراج عن عدد من عمال حلوان – استكمالًا للخدعة – بمجرد اتصال تليفوني من أحد القادة الماركسيين في الاتحاد الاشتراكي بوزير الداخلية. ولكن بعد حل الحزب تم طرد عد كبير من هؤلاء، واستمر فقط الموافقون على حل الحزب وقبلوا التعاون مع الناصرية تعاونًا كاملًا، وبتعبير ط. ث . شاكر: "الذين قبلوا التعاون بدون تحفظ مع النظام"([21]).

وقد تم الإفراج عن جميع المعتقلين في مايو عام 1964، لتعود السلطة لاعتقال عدد من الرافضين لقرار حل الحزب أو ممن انتقدوا النظام، كما اعتُقل عدد من قيادات منظمة الشباب الاشتراكي ومدرسي "المعهد العالي للدراسات الاشتراكية" الحكومي عام 1966 بحجة ترويج الماركسية([22]). ورغم ذلك لم تختف فكرة التحالف أو الاندماج في النظام. فبعد أن كان مفكرو اليسار قد عادوا يركزون على مسألة الديمُقراطية باعتبارها نقطة خلافهم الرئيسية مع الناصرية، تراجعت الغالبية عن ذلك، وتلاشت كافة التناقضات بدخول معظم المثقفين إلى الاتحاد الاشتراكي وحصول قليل منهم على مناصب في الدولة وقطاعها الاقتصادي. وعلى العكس لم يعد أغلب العمال إلى أعمالهم وتُركوا يبحثون عن عمل، بل وأُوصيت كافة المؤسسات بعدم قبولهم. أما المدرسون وأساتذة الجامعات فقد ألحقوا بأعمال إدارية كما سجل فتحي عبد الفتاح([23]). هذا طبعًا دون أن يتحرك المثقفون ودون أن يكتشف "المتعاونون مع النظام" وجود تناقض، ديالكتيكي بحق هذه المرة! لقد توقف قانون الوحدة والصراع - كما أحب بعضهم تسميته – عن العمل، بل وانعدم التناقض وبقيت الوحدة فقط! كذلك أصبح الاتحاد الاشتراكي يعد هو التنظيم الثوري، والميثاق الناصري هو النظرية الثورية([24]).

وبعد أن كانت قيادات اليسار تقف مع الليبرالية ضد الناصرية في أعقاب انقلاب يوليو 1952، فيما يختص على الأقل بمسألة شكل الحكم، انقلب الحال إلى ضده بعد الاندماج في تنظيم السلطة، وقد بدأ هذا التحول منذ 1957.

 وهاك بعض الأفكار الجديدة لمفكري الحزب المنحل:

يقول ميشيل كامل أحد كبار المنظرين الماركسيين في الستينات والسبعينات: "إن واجهة الديمُقراطية المزيفة لم تكن تمثل إلا ديمُقراطية الرجعية" (يقصد ليبرالية نظام ما قبل انقلاب يوليو 1952) .. إن ممارسة الحرية بعد العملية الثورية الهائلة لإعادة توزيع الثروة الوطنية منذ يوليو 1961 لا تشكل خطرًا على أمن النضال الوطني"([25]). ولكن مهلًا أيها القارئ، فلسوف يوضح حالًا – في نفس الموضع - مفهومه للحرية: "إنها الحرية الموجهة تقوم على ضرب الدعائم المادية للإقطاع ورأس المال وتقصر حرية العمل والتنظيم على القوى الشعبية (شاملة طبعًا الضباط الناصريين والرأسمالية غير المستغلة! – الكاتب) إنها ذات مدلول اجتماعي وطابع ثوري، ديمُقراطية للطبقات الشعبية". وفي موضع آخر راح المفكر الكبير يضع أربع سمات للنظام الاشتراكي، من ضمنها:

"أن تكون السلطة في أيدي القوى العاملة" (التشديد من عندنا). ولنلاحظ أن تعبير "القوى العاملة" بديل عن الطبقة العاملة، ومن المفهوم أن كل القوى الاجتماعية عاملة ما عدا الأطفال والعاطلين والعجزة.. أليس كذلك؟ فالبيروقراطيون والضباط يعدون أيضًا ضمن القوى العاملة!

وباستخدام ألفاظ درجت الكتابات الماركسية على استعمالها، راح لطفي الخولي يبرر ديكتاتورية الفرد: "أمام هذا كله يصبح ضرورة موضوعية للعمل الثوري أن يتولى المناضل جمال عبد الناصر بجانب قيادته لتنظيم قوى الشعب العاملة رئاسة الدولة"([26]). لقد أصبحت "الضرورة الموضوعية" تبرر ديكتاتورية الفرد وليس فقط إنهاء الخلاف حول المسألة الديمُقراطية!

باستثناء السنوات الأولى، كان جل أعضاء المنظمات الشيوعية متحمسين أشد التحمس للسياسة الناصرية، خاصة السياستين الخارجية والاقتصادية. وكان الحماس عظيمًا خلال الستينات، وحتى داخل المعتقلات. ويستثنى من ذلك موقف أقلية يسارية كانت أقل تحمسًا وبعضها معاد، وقد رفضت أن تقبل الشعارات الاشتراكية للنظام، وشخصته ككل كنظام برجوازي رغم التأميمات الكبرى. أما الخلاف الذي ظل دائمًا يوضع في الاعتبار من جانب الجميع تقريبًا، فكان يتعلق بمسألة نظام الحكم، أي الديمُقراطية. ولكن منذ الإفراج عن الشيوعيين المعتقلين تغيرت الغالبية، وخاصة عناصر المثقفين، وراحت تتفادى بقدر الإمكان أي خلاف مع الناصرية، حتى بخصوص مسألة الديمُقراطية، وتشكلت "جبهة" في شكل ناصري أصيل. فاندمج اليمين الماركسي في مؤسسات السلطة، فلم يكتف بحل الحزب في عام 1965 وإنما راح يمارس الدمججة على وعي الجماهير بشعارات لم يرفعها من قبل صراحةً. وكان هو الذي استطاع بأفضل شكل أن يصور الحكم الناصري في صورة الحكم الثوري الديمُقراطي.

***************************

التنظير للناصرية:

في التنظيم الطليعي ضمت السلطة عددًا محدودًا من الشيوعيين المعتدلين انضم بعضهم قبل حل الحزب الشيوعي المصري؛ 20 حسب تقدير فتحي عبد الفتاح و36 حسب تقدير صلاح عيسى. وقد لعب هؤلاء دورًا كبيرًا في إعداد النشرات والأبحاث التي تظهر الحكم الناصري في صورة اشتراكية وديمُقراطية شعبية، وإلقاء المحاضرات على الشباب، وتلقينه مبادئ الأفكار الناصرية كما جاءت في الميثاق ونشرات أخرى.

وقد اعترف الشيوعيون الناصريون بالاتحاد الاشتراكي كتنظيم ثوري وبالميثاق كنظرية ثورية؛ كبديل معترف به ضمنًا على الأقل، للماركسية التي تم الاحتفاظ منها ببعض الصياغات وتقاليد الكتابة ووُضعت في خدمة الناصرية. وكذلك رحبوا بصيغة الـ 50٪ للعمال والفلاحين، باعتبارها مساوية لقيادة الطبقتين للتحالف المزعوم "لقوى الشعب العاملة"، وراح هؤلاء يساوون شعار الـ50٪ الناصري بشعار "تحالف العمال والفلاحين" اللينيني.

وإذا رجعنا إلى المنابر الرسمية ليمين الحركة الشيوعية إبان الفترة التالية لعام 1965: مجلتي "الطليعة" و"الكاتب"، مجلة "روز اليوسف" إلى حد ما، صحيفة "الأخبار" في فترة ما، نجد الترويج للأفكار الناصرية وفق صيغ ماركسية. ولا يخلو عدد واحد من عشرات التوكيدات على سلامة "النظرية الثورية" و"التنظيم الثوري" الناصريين.. نقتبس منها بعض النماذج لكي يقف القارئ على روح اللحظة، إن صح التعبير:

"تعترف اشتراكيتنا في الميثاق بصراع الطبقات، وتضع له تحليلًا علميًّا من أرقى ما عرف من تحليلات، وهي تتطلب حل الصراع الطبقي حلًّا سلميًّا"([27]).

ويستكمل نفس الكاتب، فيتكلم في فقرة طويلة عن ديكتاتورية البروليتاريا باعتبارها شرطًا أوليًّا للثورة الاشتراكية.. ولكنه يتدارك فيقول أنه بعد الحرب الثانية "ظهر شيء جديد تمامًا في البلدان النامية"... "تبدأ هذه البلدان في التحول من الثورة الوطنية إلى الاشتراكية بغير إقامة ديكتاتورية البروليتاريا، ولكن باتخاذ أشكال جديدة لسلطة الشعب العامل"([28]). يفهم من هذا أن الماركسي فؤاد مرسي يعتقد أن ديكتاتورية البروليتاريا ليست سوى أحد أشكال سلطة الشعب العامل. أما في الكلاسيكيات الماركسية فقد اعتبرت سلطة السوفيتيات، أو المجالس الشعبية شكلًا لديكتاتورية البروليتاريا، أي عكس ما يقصده. ويضيف فؤاد مرسي: "إن مبدأ الـ50% هو أخطر مبدأ ديمُقراطي أقرته التجربة الناصرية"([29]).

وينتقل بنا محمود أمين العالم، أعمق منظِّر للناصرية، نقلة أخرى ذات شكل أكثر هيجلية([30])، فيتحدث عن الحرية منتقدًا المفهوم الليبرالي للحرية، مقدمًا لمفهوم هيجلي للغاية: الحرية هي إدراك الضرورة. ولكنه راح يصدمنا، فهو لا يقصد بـالضرورة ما قصده هيجل، بل حالة الطوارئ الدائمة طوال العصر الناصري: "كثير من المواطنين لازالوا يفتقدون المعنى الحقيقي للحرية ويتعلقون بأسلوب ليبرالي لا يتفق مع ملابساتنا الثورية الجديدة"، "ولعل الميثاق أن يكون أنضج ما كتب حتى الآن عن المفهوم العلمي الصحيح للحرية"، ثم يسند نفسه إلى هيجل: "يعرف هيجل الحرية بمعرفة الضرورة"([31])، ويواصل: "أي الوضعين أكثر حرية، مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952 أم مصر بعدها؟ في مصر قبل 1952 كانت هناك أحزاب ومعارك دستورية وبرلمان وانتخابات ووزارات تقوم وأخرى تقعد، وجرائد ومجلات مملوكة للأحزاب أو للأفراد ومعارضة برلمانية... " ("نسي!" أن يضيف أنه كانت هناك نقابات للعمال والطلاب وحق العمال في الإضراب، ونقابات مهنية مستقلة ودستور يكفل الحريات الشخصية للأفراد وصحافة يسارية معلنة وشرعية... إلخ) وفي مصر الثورة ليست هناك أحزاب ولا صراع حزبي، ليس ثمة معارضة برلمانية بالمعنى التقليدي ولا ملكية فردية للصحف والمجلات... إلخ. ثم راح يتساءل: "فأي الوضعين أكثر حرية؟". ثم يجيب على التساؤل في فقرة طويلة قائلًا: "إن جوهر الحرية قبل عام 1952 كان للرجعيين والرأسماليين والإقطاع.. أما بعد عام 1952 فقد تحققت أسس أرقى للحرية بفضل انتقال السلطة إلى الأيدي الوطنية، ثم حدث انتقال من سلطة مجلس الثورة إلى سلطة الشعب العامل وإلى نسبة العمال والفلاحين المقررة". ثم يصف الدعوة إلى تعدد الأحزاب بأنها "دعوة في الحقيقة إلى الثورة المضادة": "إن طريق الحرية في بلادنا ليس طريق البرلمانية الليبرالية، ليس طريق تعدد الأحزاب، وإنما هو طريق التحالف الثوري لقوى الشعب العامل والتنظيم الثوري القائد"، "إنه طريق البرلمان الشعبي والمجالس الشعبية، طريق أغلبية العمال والفلاحين... إلخ". ويقول في نهاية الفصل: "وهذا هو المعنى الذي نحتفل به في أعياد ثورة يوليو المجيدة". وليس من العسير على الأستاذ محمود العالم أن يستوعب مدى زيف تلك الـ50% المذكورة، فيكفيه أن يرجع إلى تعريف العامل والفلاح. كذلك ليس من الصعوبة بمكان أن يرى بكل وضوح كيف انتقلت السلطة من "مجلس قيادة الثورة" إلى الحكم الفردي وليس إلى الشعب العامل، وأسهل من ذلك أن "يكتشف" غياب البرلمان الشعبي والمجالس الشعبية إلخ.

كما راح لطفي الخولي "يتعمق" كعادته في التحليل بمناسبة إنشاء التنظيم الطليعي وينظِّر للاندماج في النظام:

"هذه الثنائية الموضوعية لظروف المجتمع المصري العربي الراهن هي - في رأيي - الأساس المادي الذي يعكس بالضرورة ثنائية التنظيم السياسي في مصر، إذ يجب أن يكون جماهيريًّا وطليعيًّا في وقت واحد"، "وهذه الثنائية في التنظيم تفيد في ظروفنا الحالية في تلافي أخطاء وعيوب نظام وحدانية الحزب". ثم يلجأ إلى استخدام لغة هيجل: "فالجهاز السياسي إذن هو - موضوعيًّا - جزء من تنظيم كلي، وبمعنى أكثر دقة هو الجزء القادر والمؤهل ... والعلاقات التي يجب أن تقوم بين الاتحاد الاشتراكي والجهاز السياسي هي من النوع الأخير: علاقات توحد عضوي"([32]). ثم يواصل الحديث عن مفهوم جديد، هو العضوية المزدوجة لكادر الجهاز السياسي. وما يستكمل هذا التحليل الديالكتيكي(!) ما قاله لطفي الخولي فيما بعد: "وكل محاولة لإعادة التنظيم الشيوعي أو تكوين تنظيم جديد خروج على الالتزام يجب أن يُدان لأنه أصبح تآمرًا ضد قضية بناء الاشتراكية في مجتمعنا بالطريق الذي اختاره الميثاق وتحالف قوى الشعب العاملة بقيادته الثورية"([33]).

ولم يحتج أحد على ذلك من الأغلبية، التي باتت يسارًا رسميًّا، والتي استمر مفكروها يكتبون قصائد الغزل في الناصرية على صفحات مجلتي "الطليعة" و"الكاتب".

ومن الطريف أن نشير إلى تشخيص فتحي عبد الفتاح للناصرية، والذي أصدر كتابًا يصف فيه ما تعرض له المعتقلون من تعذيب وإهانة وينتقد فيه قسوة وقمعية النظام، إذ قال في كتابه: "إن ثورة يوليو هي في النهاية ثورة وطنية تقدمية عملت بقدر طاقة وإمكانيات قيادتها على أن تخطو في طريق التطور الوطني الديمُقراطي وبالذات في الستينات.."([34]) (التشديد من عندنا). كأن الأستاذ فتحي لم يلاحظ أبدًا أن النظام قد صادر حرية كل الطبقات وكل الأفراد لصالح حرية الدولة فحسب.. فأين التطور الديمُقراطي؟ ومثله ذهب طاهر عبد الحكيم الذي وصف انقلاب يوليو بأنه حلقة من حلقات الثورة الوطنية الديمُقراطية في كتاب خُصص لوصف تعذيب الشيوعيين في سجون الناصريين، راصدًا في نفس الوقت ديكتاتورية النظام([35]). وفي الواقع يقصد كل منهما أن انقلاب يوليو كان أحد حلقات الثورة البرجوازية، والتي تسمى في العرف الماركسي بالثورة الديموقراطية.

لقد تم باسم الاشتراكية، وبمساعدة هامة من مفكري اليسار في مصر، الذين تحول كثير منهم إلى ناصريين، تقديم نظام يوليو كثورة اشتراكية وديمقراطية، بل واعتبار الانتقال للاشتراكية ممكنًا حين تختار السلطة هذا الحل. أي أن الاشتراكية يمكن أن تتحقق بواسطة فرد ملهم، تطورت أفكاره وهو على قمة جهاز دولة رجعي. بل وأنه من الممكن أن يقتنع جهاز الدولة الرجعي بضرورة ما سُميَ بالحل الاشتراكي لمشاكل المجتمع، والانتقال من الرأسمالية أو غيرها إلى الاشتراكية طوعًا واختيارًا. بل لقد أصبح للصراع الطبقي أسماء جديدة مثل: نظرية الوحدة والصراع، وبهذا المفهوم الجديد أصبح من الممكن أن يُحل الصراع الطبقي سلميًّا! وأصبح إذن التطور التاريخي يجري، لا من خلال الصراع الطبقي، بل من خلال حله سلميًّا، أي من خارجه، بتدخل عامل فوق طبقي، آلة توفيقية، كما صورت السلطة الناصرية نفسها. وفي أقصى الحالات يتم حل الصراع الطبقي بالنضال الفكري، داخل "تحالف قوى الشعب العاملة". ولقد تراجع كثيرٌ من مفكري اليسار حتى عن النضال البرلماني وشعار الحكومة البرلمانية بل واعتبروا الديمُقراطية الليبرالية شيئا برجوازيًّا رجعيًّا وأحيانًا وصفت بأنها دعوة للثورة المضادة.

لقد وقفت الماركسية المصرية في الفترة الناصرية مدهوشة أمام سلطة بدت لها مثل أبي الهول، يكتنفها الغموض من كل ناحية. وهذا ما يفسر لنا لماذا أصبحت الخلافات حول الخط السياسي بين المنظمات الماركسية التي راحت تتكون منذ أواخر الستينات تنطلق من الاختلاف على تحديد طبيعة تلك السلطة: هل هي سلطة شعبية، أم برجوازية كبيرة أم صغيرة أم برجوازية بيروقراطية أم بونابرتية أم سلطة التكنوقراط أم سلطة عناصر وطنية مستنيرة وتقدمية أم مجموعة اشتراكية... إلخ. وقد بلغ التشوش أقصاه عند ط. ث. شاكر. فقد اعتبر أنه في النظام الناصري كان "الثقل السياسي في المجال الفكري للبوجوازية الصغيرة... بينما كانت سياسته العملية تخدم في الأساس مصالح الفئات الوسطى من البرجوازية"، بينما عاد في مكان آخر "يعمق" هذه الفكرة، معتبرًا أن الناصرية "قد تبنت فكر البرجوازية الصغيرة للاستعانة بها في الصراع ضد أعدائها"([36]). في الحقيقة ذهب ط. ث شاكر مذاهب شتى في كتابه الصغير، ولم يكن محددًا أبدًا في وصفه لطبيعة السلطة الناصرية، فيقول مثلًا: "لقد كان النظام الناصري يمثل البرجوازية المتوسطة أساسًا ويعتمد على البرجوازية الصغيرة كقاعدة اجتماعية محكمة" (ص 37)، بينما ذكر في نفس الكتاب أن الناصرية كانت تحالفًا بين البرجوازية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة (ص 38)! ونحن نوجه انتقادًا لجوهر التصور النظري نفسه، إذ كيف يمكن أن يسود فكر طبقة ما بينما تسود طبقة أخرى اقتصاديًّا؟ ومن الممكن أن نتصور هذا في حالتين، أولهما أن يسبق نفوذ الطبقة الأيديولوجي نفوذها الاقتصادي زمنيًّا كما حدث مع البرجوازية الأوروبية مثلًا، وثانيهما أن تسود أفكار طبقة مقهورة تزيح أفكار الطبقة المسيطرة بشكل عابر للغاية، فلا نتصور إلا أن يؤدي هذا الوضع الفريد إلى اضطرابات سياسية خطيرة لا تستمر طويلًا. وقد صاحبت معارك 45-1952 في مصر سيادة تدريجية لأفكار الفئات الوسطى، مثل فكرة "المستبد العادل" مثلًا، إلا أن الوضع المتفجر ككل قد أُنهي بانقلاب يوليو، الذي لم يطرح يوتوبيا ولا سياسة تخدم هذه الفئات الوسطى، بل طرح أفكارًا ذات نكهة برجوازية صغيرة، ولكنه قدمها في صورة ثوروية لكن بمحتوى يعبر كليًّا عن الطبقة المسيطرة.

 ومع أن كافة التنظيمات الماركسية كانت قبل يوليو 1961 لا تزال تفكر في إطار الثورة الديمُقراطية([37])، فقد دفعت إجراءات 1961 أهمها إلى التخلي عن هذه الفكرة. فمنذ الآن فصاعدًا، صار شعار الثورة الاشتراكية معتَمدًا لدى الغالبية، مع أنه كان من المنطقي أكثر أن يرفض الحزب الشيوعي المصري الشعارات الاشتراكية للنظام وكذلك إجراءات الاشتراكية المزعومة، السابقة لأوانها حسب خط الحزب الأصلي. بل لقد التهب اليسار حماسًا بعد أن تجاوزت الناصرية برنامجه، بل وأيّدت الغالبية خط الناصرية الجديد معتبرةً أن الثورة الاشتراكية قد بدأت، أو على الأقل أن السلطة تسير في طريق تنمية "لارأسمالي"، يؤدي طبعًا إلى الاشتراكية! ليس هذا فحسب، بل واعتبروا هذه التحول خطوة عجزوا هم عن القيام بها. واعتبر معظم أفراد اليسار إعلان الاشتراكية بداية الثورة الاجتماعية، بينما اعتبر انقلاب 1952 بداية الثورة السياسية. فلا يكتفي غالي شكري (مثلًا) بوصف الناصرية بالثورة، بل يقول: "نظلم الناصرية لو قلنا إنها كانت ثورة واحدة، فالحقيقة أنها كانت ثلاث ثورات". ثم راح يقسمها كالآتي: "الفترة الواقعة بين عامي 1952، 1956 هي الثورة الوطنية".. "أما الفترة الواقعة بين عامي 1958 و1961 فهي ثورة الوحدة القومية".. "وأما الفترة الواقعة بين عامي 61 و70 رغم الهزيمة العسكرية بينهما وتدهور خطة التنمية الاقتصادية وتعاظم الطبقة الجديدة، فإنها تكون الثورة الاجتماعية حيث انتقلت السلطة في شخص قائدها من تمثيل الطبقة الوسطى موضوعيًّا إلى تمثيل قاعدة اجتماعية أوسع من البرجوازية المتوسطة والصغيرة والفلاحين والعمال". وإحقاقًا للحق نقول إن غالي شكري قد وصف هذه الموجات الثورية المزعومة بأنها ثورات ناقصة([38]). ونسجل هنا ملحوظة أن الإشارة لكون هذه "الثورات" ناقصة إنما يعبر في رأينا عن عدم ارتياح الأستاذ/ شكري لتحليله، ذلك أن كل الثورات كانت ناقصة بمعنى من المعاني، حتى الثورة الفرنسية. ونسجل ملحوظة أخرى: إن انتقال السلطة طبقيًّا في شخص قائدها لهو أمر يحتاج إلى تفسير لم يقدمه أبدًا الأستاذ/ شكري، وهي فكرة طرحها الناصريون ومعظم مفكري الماركسية المصرية كثيرًا، تتلخص في أن تطور فكر الزعيم أدى إلى تطور النظام، دون تقديم تفسير لآلية حدوث مثل هذا التأثير السحري.

الحقيقة أن الماركسيين راحوا يبحثون دائمًا عن الطبقة الحاكمة فلم يتفقوا على تحديدها، ببساطة لأنها لم تكن موجودة. فالسلطة كانت في يد بيروقراطية الدولة، وهو أمر ليس فريدًا في التاريخ وسبق أن تكلم عنه ماركس نفسه بالتفصيل، وهو ما يُعرف بـ البونابرتية. لم يكن لأي طبقة أي وجود سياسي في مصر الناصرية، ولم يكن صوت يعلو على صوت نخبة العسكر ومن انضم إليها من عناصر أخرى، والتي كانت تضرب من تشاء من أي طبقة كانت لتحقيق استقرار سلطتها.

فلم يتصور جل الماركسيين في مصر أبدًا أن البيروقراطية يمكن أن تكون هي نفسها الطبقة أو الفئة الحاكمة رغم أنها كانت لآلاف السنين في مصر بالذات لا الفئة الحاكمة فقط بل الطبقة المسيطرة اقتصاديًّا واجتماعيًّا أيضًا. وحين أقر البعض بسلطتها نسبوها للبرجوازية: البرجوازية البيروقراطية، رغم أنها لم تكن تمارس الاستثمار الرأسمالي ولا تتبع اقتصاد السوق، بل اعتمدت على النهب بوسائل بيروقراطية للفلاحين وبقية الشعب واعتمدت نظام الاقتصاد المركزي. فهل توجد رأسمالية بدون سوق حرة؟! وبنفس المنطق لا يتصور أبدًا ماركسيو مصر في عمومهم أن الطبقة المسيطرة الآن وكما تدل وقائع الحياة اليومية هي البيروقراطية العسكرية التس تتحكم على كافة مفاصل الاقتصاد والمجتمع المدني عمومًا، بينما يتم البحث عن رأسمالية ما وراءها، سواء كانت كومبرادورية أم طفيلية... بينما يتم على مدار الساعة التضييق على الرأسمال الخاص وتهديده ونهب بعض ممتلكاته وإغلاق بعض مشروعاته بواسطة البيروقراطية العسكرية.

***************************

لماذا صار جُل الماركسيين ناصريًّا؟

1- لم يكن السجن والتعذيب دافعًا يذكر لاعتناق جل الماركسيين المصريين للناصرية، إذ بدأ التأييد الجارف للنظام قبل ذلك، وحتى بعد بدء الاعتقالات مباشرة كان التفسير المعتمد هو وجود دسائس لتفريق القوى الوطنية كما رأينا في أول المقال. كما لابد أن نعترف أنهم قد واجهوا التعذيب بشجاعة.

2- هل يمكن تفسير تبني الماركسيين للناصرية بمجرد عجز منهجهم أو نسقهم ذي القوالب الثابتة؟ لا يكفي هذا التفسير، إذ تنازل مفكروهم عن هذه القوالب والمنهج حين تحمسوا لبلورة الأفكار الناصرية في أيديولوجيا تبدو متماسكة. فبالرغم من وجود تيارات سياسية أخرى بخلاف التيارات اليسارية إبان العهد الناصري، إلا أن اليسار بالذات، (استثناء قلة من الأفراد، قد انتهى به الأمر إلى الاندماج في النظام الناصري، بل لعب الماركسيون المؤدلجون جيدًا دورًا هامًّا في الدعاية لهذا النظام. لذلك نحلل هنا تصور هذا التيار، ليس باعتباره تيارًا معارضًا، بل باعتباره أهم أبواق النظام على الصعيد الأيديولوجي اعتبارًا من 1964/1965. بل إن ما قدمه المنظرون الماركسيون كان في حقيقة الأمر تعميقًا لـ"الفلسفة" الناصرية، بل يمكن القول ببساطة إنهم ساهموا مساهمة جوهرية في إنتاج أيديولوجيا ناصرية ذات مظهر متماسك وعميق مع الاحتفاظ بمكونها الديماجوجي القوي. وفي الحقيقة لا يمكن أبدًا سوى اعتبار الغالبية العظمى من الماركسيين المصريين وقتها ناصريين إلى حد أو آخر، وخصوصًا كبار مفكريهم.

3- لقد أصابت حركة التأميمات الماركسيين المصريين بالسكر والتيه؛ فالدولة؛ بقرتهم المقدسة، قد استولت على جزء كبير من أموال أعدى أعدائهم رسميًا: البرجوازية. وقد ساهم انتصار الستالينية في العشرينات على الأناركية والتروتسكية وغيرهما من التوجهات الاشتراكية الديموقراطية في تدعيم وترسيخ عبادة الدولة في الماركسية. ومن هنا أصبح إرهاب الدولة – التقدمية للغاية! – مبررًا وصار التعاون معها والخضوع لها عملًا تقدميًّا. ومن لحظتها تم إعادة النظر في الأفكار الماركسية وتقييفها مع الناصرية لتناسب مقاسها. وإن الإيمان المطلق بأن النظام الدولتي أكثر ثورية من نظام الملكية الخاصة، والاعتقاد الجازم باشتراكية النظام الاستبدادي السوفيتي، وتحقيق السلطة الناصرية لما فاق أحلام المنظمات الماركسية.. هذه كلها دوافع تبني الماركسيين للناصرية. وحتى المجموعات الأكثر يسارية رأت أن البرجوازية البيروقراطية - كما نعتت الناصرية - قد حققت صعودًا تاريخيًّا تلاه هبوط تاريخي، أي أنها مرت بمرحلة تقدمية وقامت بدور تاريخي. ولم تر تلك المجموعات الطابع الطفيلي والمخرب للناصرية، وكان هذا هو تصور حزب العمال الشيوعي المصري في السبعينات. لقد استمر الماركسيون يقدسون الدولة ويروجون لقدرتها على تحقيق الاشتراكية رغم فشل المشروع أي دولة في تحقيق شعارات الاشتراكية، بل استطاعت فقط أن تخلق الستار الحديدي وقمع المجتمع المدني.

4- ويُضاف دافع آخر هو ميل الماركسيين المصريين إلى تغليب المسألة الوطنية على أي مسألة أخرى. فالموقف من الغرب هو الذي كان محددًا لها تجاه النظام القائم، بالضبط مثلما ذهبت السياسة السوفيتية. فالاستقلال مقابل التبعية كان دائمًا تقريبًا هو المعيار الأهم للحكم على السلطة من قبل ماركسيي مصر وقتها. وحتى اليوم تتمتع قضية الاستقلال مقابل التبعية بأكبر اهتمام من قبل اليسار. بل حتى يقصد بالتبعية التبعية المباشرة وليس التبعية الهيكلية. وهذا ما يفسر لماذا انقلب العداء للناصرية إلى التأييد الجارف بالذات بعد المواقف الوطنية للنظام وصدامه مع الاستعمار القديم في 1956.

5- في النهاية نرى أن جل الماركسيين المصريين في ذلك الوقت لم يتمسكوا في كل الحالات لا بمذهبهم الرسمي ولا بتراث الشيوعية في العالم ولا بشعاراتهم التي طالما رفعوها. بل نجدهم قد تأرجحوا بين الجمود العقائدي: مثل تقديس الدولة واقتصاد السوق المركزي، والتحريفية: مثل التفسير المثالي لتحولات المجتمع كإقامة الاشتراكية بواسطة فرد عبقري. إنهم كانوا ناصريين "بالقوة" منذ البداية. وهذا ما يفسر لنا الحنين الدائم لدى الجيل القديم منهم حاليًا إلى خطاب الناصرية في الستينات، وتقوقعه داخل كهف فكري من الخرافات، منها أن مصر كانت تنتهج سياسة اقتصادية تكرس الاعتماد على الذات، أو التنمية المستقلة، وكانت تنتج كل شيء بفضل تصنيع حقيقي مزعوم، وتصنع الطائرات والسيارات والصواريخ... إلخ. كما أصبح الانقلاب العسكري ثورة بل وثلاث ثورات لدى أحدهم! بل ما زال الكثيرون يحنون إلى ثلاجات شركة إيديال القديمة وبوتاجاز المصانع الحربية والسيارة نصر وتليفزيون نصر.. وكأن مصر الآن لا تنتج هذه الأشياء بماركات أفضل وبكميات أكبر، وكلها كانت وما زالت صناعات تجميع تستورد التكنولوجيا.

فقد تميزت الشيوعية المصرية بطابع محافظ منذ نشأتها، وبانخفاض سقف الطموحات. فقد أطلقت على نفسها اسم الشيوعية دون أن تكون كذلك بالفعل. فلا هي حركة بروليتارية، ولا هيَ تهدف الى قلب النظام الاجتماعي القائم في اتجاه الاشتراكية، ولم تهدف حتى إلى إقامة جهاز دولة بروليتاري يقود التحولات اللاحقة؛ الفكرة الجوهرية في اللينينية. فجل دعايتها اتسم بالطابع الوطني - الديمقراطي، وبرامجها لم تكن تروج للاشتراكية، ولا كانت حتى تطمح لتحقيق تنمية مستقلة حقًّا. كل ما تمسكت به هو الاستقلال المباشر وديمقراطية صندوق الاقتراع. وبالطبع وُجدت جماعات محدودة العدد أكثر راديكالية، لكننا نتحدث عن التيار العام.

وربما كانت المجموعات التروتسكية الصغيرة – والتي ظهرت متأخرة - استثناءً، أكثر عداءً للنظام الاستبدادي ولم تُصب – إلى حد كبير - بمرض الناصرية العضال.

*********************

 



[1])) قدمنا كتابًا كبيرًا يحلل النظام الناصري وسياساته تفصيلًا بعنوان: الناصرية في الثورة المضادة، وهو متاح على الإنترنت. وهذا المقال يعتمد على ذلك الكتاب. وفي الغالب سيحتاج قارئ هذا المقال للرجوع للكتاب المذكور.

[3])) الانقلاب على الشرعية بين الشكل والمحتوى،

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=372718

[4])) لكيلا يدمِّر الحكم الجديد مستقبل مصر،

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=372021

[5])) هذا عنوان جانبي لبحث طويل لنا بعنوان: نقد الثورة المصرية (2) يسرد ويحلل التجهيز والقيام بحركة 30 يونيو 2013 بقيادة السيسي وما تلاها من انقلاب عسكري. وهو متوفر على الإنترنت.

([6]) فتحي عبدالفتاح: شيوعيون وناصريون، القاهرة، الطبعة الخامسة، ص ص 23-24.

([7]) نفس المصدر، ص ص 11-20.

جدير بالملاحظة أن هذا الرأي كان واسع الانتشار وسط أعضاء الحزب، انظر: رفعت السعيد: تاريخ الحركة الشيوعية المصرية 1957-1965، الفصل السابع.

([8]) بهذه المناسبة نتذكر إحدى طرافات غالي شكري. ففي مقارنته بين عهد الناصرية السعيد وعهد الساداتية ذكر أن المثقفين في عهد عبد الناصر لم يهاجروا بينما هاجر 500 في عهد السادات (اعترافات الزمن الخائب). هكذا متناسيًا أن 700 مثقف قد هُجَّروا إلى المعتقلات إبان العهد السعيد ولم يعادوا إلى المجتمع إلا بعد الاتفاق مع معظمهم على الاستسلام!

[9])) The Philosophy of Right, Paragraph 3

([10]) طاهر عبدالحكيم: الأقدام العارية، دار ابن خلدون، بيروت، لبنان، ص 101 في الهامش. وخليل هو الاسم الحركي للشاعر كمال عبد الحليم.

([11]) بالمثل احتار بيليايف وبريماكوف، من أبرز الكتاب السوفيت الذين حللوا الناصرية، في تفسير التناقض الناصري المشهور، فبمناسبة طريقة الناصرية في الرد على مقتل صلاح حسين ذكرا: "وهنا يتضح من جديد ذلك التناقض الرئيسي في نظام الحكم المصري في عهد الرئيس عبد الناصر، فإن الشعارات الثورية المعلنة من أعلى لم تدعم بشكل كاف بأعمال تتصل بتنشيط جماهير الشعب". مصر في عهد عبد الناصر، أشرف على تعريبه: عبد الرحمن الخميسي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط 1، ص 149.

وقد لجأ الكاتبان إلى تفسيرات جزئية وذاتية لهذا التناقض.

([12]) Manifesto of the Communist Party, Proletarians and Communists

([13]) The Tax in Kind (The Significance Of The New Policy And Its Conditions), Collected Works, 1st English Edition, Progress Publishers, Moscow, 1965, Volume 32, pp. 329-365

([14]) مجلة "الطليعة"، عدد 10، عام 1965.

([15]) ضمن الإضافات الأحدث للدكتور فؤاد مرسي حول الاشتراكية الناصرية: "إن طريق التحول الاشتراكي هو طريقنا الوحيد، وإننا حققنا فيه منجزات كبيرة، وإن ما ثار من صعاب مرده قصور في التطبيق أو قيود فرضت على التحول الاشتراكي". هذا الانفتاح الاقتصادي، دار الوحدة للطباعة والنشر، القاهرة، 1980 ، ص 7.

ويُفهم من هذا أنه يؤيد الاشتراكية الناصرية تمامًا مع تحفظه على بعض "الأخطاء" العرضية. ومع ذلك ذهب في انتقاده لقطاع الدولة في الفترة نفسها إلى آخر مدى، إلى درجة إقراره بأنه قد "تم تشويه مفهوم التنمية ذاته"، ص 33. ومع ذلك لم يتراجع أبدًا عما ذكره من قبل عن اشتراكية ذلك "القطاع العام" الذي تشوه على يديه مفهوم التنمية! والأمرّ من ذلك أنه اعترف وأقر (ص 52) بالآتي: "وفي النهاية لم يقدم القطاع العام نموذجًا جديدًا لأسلوب الإنتاج يكون هو النقيض والبديل لأسلوب الإنتاج الرأسمالي، ومن ثم بقي أسلوب الإنتاج الرأسمالي بغير إدانة عملية وبالتالي فإنه لم يُصف".

ونحن لدينا هنا تساؤل مشروع: كيف يمكن لاقتصاد لا يزال رأسماليًّا أن يكون اشتراكيًّا في نفس الوقت؟ أو هل يمكن لاقتصاد اشتراكي أن يظل رأسماليًّا بسبب بعض الأخطاء؟ وهل يكون اشتراكيًّا "في ذاته" إذن؟

([16]) مجلة الطليعة، يناير 1975.

([17]) رغم أن فيلسوف الأغلبية قد استطاع أن يجد تعليلًا ذا لهجة ماركسية للتناقض المزعوم، فان أحد مفكري اليسار قد اكتفى بالتعجب مما اعتبره التناقض بين الثقافة السائدة والواقع في مصر الناصرية، وراح يصب هجومه على فساد المسرح والسينما، وعلى الكتب الرخيصة التي ملأت المخازن، وعلى تحكم التجار في "القطاع العام" للمسرح والسينما. كما أقر بأن الفلسفة التي سادت في تلك الفترة كانت براجماتية جون ديوي، أو الوضعية المنطقية (ليست الاشتراكية العلمية إذن؟!). ومع ذلك لم يتخل صاحبنا هذا عن إخلاصه العميق للناصرية، بل وحين نعت عبد الناصر بالبونابرتية فقد اختلف مع الآخرين في أنه استخدم هذا اللفظ في سياق المديح لا الذم. وقد رصد وجود تناقض بين الاتجاه نحو الشرق تجاريًّا ونحو الغرب ثقافيًّا، ولم يحاول أن يفسر لنا كيف يتناقض البناء الفوقي لطبقة ما مع بنائها التحتي بهذه الصورة! إن التناقض في الحقيقة ظل يكمن في ذهنه الذي لم يستطع حتى أن يهاجم جماعة "التفكير والهجرة" في نفس دراسته إلا من داخل الإسلام، ولم يكتشف هنا التناقض البيَن بين ماركسيته وإسلامه. وقد امتد معه الانفصام حين هاجم الماركسيين الساداتيين في الوقت الذي أصبح هو فيه ذيل قصيرًا لصدام حسين. والكاتب هو أمير اسكندر، والمرجع هو: صراع اليمين واليسار في الثقافة المصرية، دار ابن خلدون للطباعة والنشر، 1978.

([18]) نشر رفعت السعيد صورة البرقية في: تاريخ الحركة الشيوعية المصرية 1957-1965، ص 329.

[19])) طاهر عبد الحكيم، المصدر السابق، ص 9.

([20]) مجلة "الطليعة"، عدد 12 عام 1966، الافتتاحية.

([21]) قضايا التحرر الوطني والثورة الاشتراكية في مصر، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ص 182، ص 183.

([22]) فتحي عبد الفتاح، المصدر السابق، ص 268.

([23]) نفس المصدر، ص 267.

([24]) انظر - على سبيل المثال – "الطليعة"، عدد 2/1965، مقال إسماعيل صبري عبدالله، الزعيم الثالث للأغلبية، ومقال سليمان الطحاوي.

([25]) مفهوم وطريق الاشتراكية في الميثاق، مجلة "الطليعة"، عدد 1 عام 1965، ص 20.

([26]) مجلة "الطليعة"، عدد 2 عام 1965، الافتتاحية. ولم يكن لطفي الخولي يمثل أيًّا من المنظمات المنحلة، ولكنه كان على وجه العموم يمثل تيارًا واسعًا من الشيوعيين المراجعين إبان الستينات. ونحن نشير في هذه الدراسة إلى الأفكار التي نرى أنها قد وجدت قبولًا واسعًا وسط المشهد العام الماركسي، بغض النظر عن الأمثلة الفردية التي قدمناها. ومن المعروف أن هناك قلة رفضت الاستسلام للناصرية، ولكنها حصرت خلافها أساسًا في مسألة شكل الحكم، وانصب نقدها لأفراد التيار المرتد في تخاذلهم أمام السلطة وتعاونهم الكامل معها وموافقتهم على حل الحزب. انظر على سبيل المثال: طاهر عبدالحكيم: الأقدم العارية، دار ابن خلدون، بيروت، لبنان.

([27]) فؤاد مرسي، مجلة "الطليعة"، عدد أكتوبر 1966.

([28]) نفسه.

([29]) مجلة "الطليعة"، يوليو 1965.

([30]) معارك فكرية، القاهرة، 1965، ص ص 154-187.

([31]) ليس المعنى الذي يقصده هيجل بهذه العبارة هو المعنى الذي أراد أن يقدمه لنا محمود العالم، فهيجل يرى أن "الحرية تعني أن الشيء الآخر الذي تتعامل معه هو ذات ثانية، حتى إنك لا تترك أبدًا الأساس الخاص الذي تقف عليه، وإنما تشرع لنفسك وتضع قانونك الخاص" (موسوعة العلوم الفلسفية، المجلد الأول، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، ص 102). فالحرية باختصار تعني التعيين الذاتي، أي أن تحدد نفسك بنفسك. فإذا كانت القوانين تعبر عن إرادتي، فأنا إذن حر. أما إذا كانت تعبر عن إرادة الحاكم فأنا إذن لست حرًّا لأن "الحرية تستلزم ألا نشعر أننا في حاجة إلى شيء آخر غير ذواتنا" (ص 103). ويرى هيجل أن الحقيقي هو الكلي، لذلك يكون الفرد إنسانًا حقيقيًّا بقدر ما يكون في هوية مع مفهومه كإنسان، أن تكون إرادته هي إرادة الكل - الإنسان كذات مفكرة، أي أن تكون هي إرادة العقل. أما حرية الإنسان الطبيعي فهي عكس الحرية، لأن هذا الإنسان - حسب تعبير هيجل - "ليس سيد نفسه"، "فمكونات إرادته وآرائه ليست خاصة به" (ص 103).

فالقاعدة التي يضعها هيجل للحرية الحقيقية قاعدة أعمق كلية من فهم الأستاذ محمود العالم، فالحرية ينبغي أن تفهم على نحو عقلاني، فعلى الإنسان الفرد كذات مفكرة أن يحدد نفسه بنفسه بهذه الصفة، وبالتالي أن يحددها وفقًا لما هو معقول، والمعقول كلي لأن العقل الإنساني هو العقل الإنساني عمومًا، وليس عقولًا عديدة، فالحقيقة - لدى هيجل - واحدة والمنطق واحد، والحقيقة تتفق دائمًا مع العقل، فهي المعقول نفسه. أما العقل الفردي الذي يعارض المعقول، فهو ليس في هوية مع مفهوم العقل، أي ليس عقلًا حقيقيًّا.

وهيجل يمد كلامه على استقامته، فهو يستنبط المجتمع المدني والدولة بطريقة تبدو منطقية. ولكنه يفعل ذلك في الحقيقة بطريقة بالغة التعسف، ورغم ذلك فهو يقول إن "الدولة الفاسدة أو السيئة هي دولة غير حقيقية" (الموسوعة، ص 106) ويقصد الدولة التي لا تتـفق مع مفهوم الدولة كما حدده هو. والخوض في هذه المسألة يحتاج إلى كثير من الإطالة، ولكننا أردنا فقط أن نوضح كيف قُدِّمت "الفلسفة الناصرية" باستخدام مفاهيم لها بريقها ولكن بمعانٍ مناقضة لها.

([32]) مجلة "الطليعة"، عدد أبريل 1965.

([33]) افتتاحية مجلة "الطليعة"، عدد 12، عام 1966.

[34])) المصدر السابق، ص 268.

([35]) المصدر السابق، ص 12.

([36]) المصدر السابق، ص ص 23-25.

([37]) رفعت السعيد، منظمات اليسار المصري 1950-1957.

ومن الطريف أن خطاب شهدي عطية الشافعي إلى جمال عبد الناصر كان يصر على أن الثورة الاشتراكية ليست قضية اليوم بالنسبة لحزبه، بل لخص برنامجه في:

       1 - التفاف الشعب حول الحكم القائم.

       2 - تحالف الطبقات الوطنية من أجل تنفيذ برنامج الحكومة.

       3 - تحويل الاتحاد القومي إلى حزب فعال للشعب كله.

       4 - إزالة الشقاق بين مصر والعراق.

       5 - تأكيد العلاقات الودية مع المعسكر الاشتراكي.

وقد كتب الخطاب في سبتمبر 1959 ونشرته مجلة "الطليعة" في يناير 1975، ونشر رفعت السعيد أجزاءً منه في: تاريخ الحركة الشيوعية المصرية، الوحدة - الانقسام - الحل (1957-1965)، ص ص 203-204.

([38]) الثورة المضادة في مصر، كتاب الأهالي رقم 15، القاهرة، 1987، ص ص 375-376.