الثلاثاء، 16 سبتمبر 2008

وضع الإنتليجينسيا فى البناء الاجتماعى المصرى الحديث




عادل العمري
(نُشرت عام 1996)
        
                                    
                                      

   عندما يتداخل عصران وثقافتان وديانتان تتحول الحياة البشرية إلى معاناة حقيقية.. إلى جحيم.. فهناك أوقات يُحشر فيها جيل كامل في ذلك الطريق الواقع بين عصرين وأسلوبين للحياة، فتكون نتيجة ذلك أنْ يفقد كل قدرته على فهم نفسه ويفتقد المعايير والأمل وبساطة الرضا

                                   هيرمان هيس               


قبل محمد علي شملت الإنتليجينسيا([1]) المصرية رجال الدين بشكل أساسي، الذين بجانب نشاطهم كرجال دين قدم بعضهم مساهمات أخرى، كالتعليم مثلًا. يضاف إليهم قليلون من أصحاب المهن، كالكتبة.
ومع تكون نظام محمد علي، وفي سياق إعادة بناء الدولة في مواجهة محاولات الغزو الاستعماري، بدأت عملية تحديث، بغرض تطوير القدرات الدفاعية للبلاد، والنهوض بالاقتصاد لتوفير الفائض اللازم لتمويل عملية إعادة بناء الإمبراطورية العثمانية تحت قيادته. ولكن لأسباب اجتماعية - تاريخية معقدة لم تكن هذه العملية كاملة ولا متسقة، بل تم تحديثٌ جزئيٌّ للبنية الاجتماعية – الاقتصادية الإقطاعية، وفي النهاية لم ينجح محمد علي لا في تحقيق أهدافه ولا حتى في المحافظة على التطور المستقل للبلاد، فاضطر إلى الاستسلام أمام الغرب في 1838-1840.
   ومع هيمنة الغرب وإدماج مصر في السوق الدولي قسرًا، استمرت عملية تحديث البلاد، والتي تمحورت منذئذ حول إدماج وإعادة إدماج مصر في السوق الدولي، لصالح الأخير. ولذلك لم تصل عملية التحديث المذكور إلى نهايتها أبدًا؛ إذ تم التحديث بالشكل وفي الحدود التي تجعل من مصر مستعمرة مفيدة للغرب – وفي السياق- خدمت طبقة كبار الملاك والتجار المحليين. فتم في النهاية تكون بنية اجتماعية – اقتصادية متخلفة تتميز بنمو ذو طابع مركب.
ويمكننا إيجاز عملية التحول الاجتماعي - الاقتصادي التي تمت منذ هزيمة محمد علي بأنه قد تم الانتقال من نظام الإقطاع الشرقي إلى حالة وسط بين الإقطاع والرأسمالية، وبمعنى أصح لم يكن الانتقال إلى الرأسمالية حاسمًا. بل وقفت مصر عند حالة يمكن أنْ تُسمى بـ "الانتقال المحتجز" - بتعبير سمير أمين - ولكنها مع ذلك ليست عملية انتقال، بل حالة انتقالية مستقرة، نسميها بنية التخلف([2]).
تضمنت عملية التحديث المذكورة بناء كوادر جديدة ضرورية للقيام بدور في البناء الاجتماعي الجديد؛ الرأسمالويCapitalistic؛ فكان لابد من إدخال التعليم الحديث، ونشر العلوم الفيزيائية، وإدخال نظم قانونية جديدة وضعية. وكان من المنطقي بالتالي أنْ يظهر النمو المركب على مستوى جماعات الإنتليجينسيا؛ فالإنتليجينسيا الدينية لم تنته، لا ككتلة متميزة، ولا كفكر، بل ظل فكرها متغلغلًا في وعي الإنتليجينسيا الحديثة كذلك؛ إذ رغم إدخال العلم وأشكال التنظيم الحديثة، لم يتم نشر وترسيخ مبادئ عقلانية في الفكر النظري، إلا على نطاق محدود.
لقد كان التصنيع في عهد محمد علي، وتوسيع الجيش، وتزويده بالمعدات الحديثة، وتطوير الزراعة والري، يستلزم إنتاج كوادر تستطيع التعامل مع الصناعة الحديثة، والمعدات العسكرية المتطورة: ضباط - مهندسين- مدرسين- مديرين.. ومع استمرار عملية التحديث في عهد الاحتلال، وما بعد الاحتلال، كان لابد من إدخال نظم قضائية أكثر تعقيدًا تلائم التكوين الجديد لمصر الحديثة. وكان من الطبيعي أنْ تظهر قيم جديدة، تلائم أولًا التنظيم الاجتماعي الجديد، وتلائم ثانيًا ثقافة الأفراد المندمجين في أو المكونين لهذا النظام الحديث. ولكن التحديث لم يكن كاملًا ولا منسجمًا أبدًا؛ فالنمو الصناعي لم ينف التأخر الشديد في الزراعة رغم تحسين نظام الري، وظهور أساليب التنظيم الرأسمالي لم ينف استمرار ونمو أساليب التنظيم قبل الرأسمالي، بل وظهرت ونمت باستمرار أشكال من التنظيم تتسم بطابع مركب؛ رأسمالي وقبل رأسمالي، على صعيد كل من الإنتاج والتبادل.
وهذا النمو المركب يعني أول ما يعني أنَّ عملية التحديث لا تسير في اتجاه إحلال النظام الرأسمالي المعقلن إلى حد ما محل النظام الإقطاعي القديم، بل نشأ نظام هجين؛ رأسمالوي، مما يعني أنَّ القوى الاجتماعية المختلفة قد تأثرت بدرجات متباينة بهذه العملية. فهناك تحديث وإعادة تحديث على كافة الأصعدة، وهناك استمرار نمو لأنماط العمل والتنظيم والقيم القديمة، وهناك من ثم أشكال ودرجات متباينة من اندماج الجماعات والأفراد في مختلف عناصر النظام الرأسمالوي. مما يعني أنَّ تناقضات الجماعات المختلفة والأفراد قد باتت أشد تعقيدًا. فهناك فئات مرتبطة تمامًا ببنية التخلف كما هيَ، وهناك فئات تُعد أعلى نتاج لعملية التحديث، وتعاني من حالة التخلف، وهناك فئات لم تستفد شيئًا، بل خسرت كثيرًا، وهناك في الوسط درجات مختلفة من القبول والرفض لهذا العنصر أو ذاك من عناصر بنية التخلف.
لقد تم توجيه ضربات قاتلة للمجتمع القديم دون إحلال مجتمع رأسمالي بالكامل محله. وقد تفاوتت درجات حالة الانتقال الناتجة على مستوى الأصعدة المختلفة: الاقتصاد بمختلف أقسامه، البناء الفوقي بمختلف مكوناته: بنية القيم – الأفكار – التقاليد - جهاز الدولة.. إلخ.
وكان من الطبيعي أنْ يحدث تغيير تدريجي ملموس على صعيد البناء الفوقي، كنتيجة لتغيرات البناء التحتي. فقد كان من الضروري ظهور قيم وأفكار ودعوات تناسب الاوضاع الجديدة من جهة وتناسب تكوين أصحاب المهن الحديثة وأصحاب مهن قديمة في مواجهة بنية التخلف الجديدة هذه. كذلك كانت التبعية على الصعيد المادي عاملًا ساهم بقوة في انتقال كثير من الأفكار والعادات وأشكال التنظيم من الغرب.
إذن لم يتم على الصعيد المادي تحويل المجتمع المصري إلى مجتمع رأسمالي حقيقي. وبالتالي لم يتم على صعيد البناء الفوقي هدم وإعادة بناء متسقة تتجاوز البناء القديم.
وقد أدى النمو المركب في مصر إلى إعادة تكوين الطبقات المسيطرة دون أنْ تشهد صفوفها صراعًا تاريخيًّا بين البورجوازية والإقطاع، بل حدث تحول تدريجي للطبقة المسيطرة القديمة: المشايخ - كبار الملاك - كبار رجال الدولة، إلى ملاك كبار، ورجال أعمال من نوع مختلف، دون حرب طبقية تذكر، بغض النظر عن الصراع المعتاد بين مختلف كتل الطبقة المالكة. كذلك أفرز التحديث "طبقة"- مجازًا- من عمال الصناعة، وهيَ ليست طبقة عاملة بحق، بل تضم نسبة طاغية من أنصاف العمال. كذلك ظهرت طبقة من عمال الزراعة المأجورين أوسع نسبيًّا من طبقة عمال الصناعة.
  ولكن كانت أبرز نتائج نمو التخلف في مصر هيَ تهميش أعداد ضخمة ومتزايدة من الجماهير، بتحويلها إلى "حثالة بروليتاريا"؛ تعيش على هامش عملية الإنتاج. كذلك كان ظهور فئات وسيطة من الإنتليجينسيا كبيرة العدد للغاية قياسًا إلى مجمل عدد السكان، تعد أقصى نتاج للتحديث، تحمل مختلف ألوان المعرفة الحديثة وخبرات التنظيم والإدارة.
(الآن  2017 نتحفظ تماما على استخدام تعبير حثالة البروليتاريا المهين ونستبدله بوصف المهمشين وأشباه المهمشين)
 وتعود ضخامة كل من الفئات شبه البروليتارية والإنتليجينسيا إلى الطابع العام لنمو التخلف؛ حيث يتحقق باستمرار نمو أكبر في القطاعات الثالثية للاقتصاد، ويجري هدم المجتمع القديم بمعدل أعلى من معدل بناء المجتمع المحَدث. وينتج عن الميل الأول تضخم مستمر في نسبة أفراد الفئات الوسطى شاملة الإنتليجينسيا، بينما ينتج عن الميل الثاني اتساع أعداد حثالة البروليتاريا، ويدعم الانفجار السكاني الظاهرة الأخيرة، والذي يُعد أحد نواتج نمو التخلف.
وقد حملت الإنتليجينسيا المذكورة ثقافة مركبة؛ حديثة علمانية، وقديمة دينية. فهيَ لم تقد أبدًا عملية تنوير حقيقية، ولم تشهر سلاح العقل في وجه الأيديولوجيا القديمة([3]). ذلك أنَّ عملية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية ظلت محتجزة، أو – بمعنى أصح- ظلت الحالة الانتقالية قائمة ومستقرة بما هيَ كذلك.
فالنمو المركب على الصعيد المادي قد أنتج نموًّا مركبًا على صعيد الوعي كذلك؛ فنشأت الإنتليجينسيا الحديثة بجانب الإنتليجينسيا الدينية، والفكر العلماني بجانب الفكر الديني، بدون صراع تاريخي، حيث صودر الصراع منذ بداية التحول على صعيد الطبقة المسيطرة في البناء التحتي، والتي تحولت سلميًّا كما ذكرنا من قبل. كما كان الفصل بين الدين والدولة غير كامل، بل وكان عنصر الوئام بينهما يغلب أحيانًا على عنصر الصراع. فرغم حاجة الدولة المحدثة والطبقة الحاكمة الجديدة إلى فكر جديد، ظل للأيديولوجيا القديمة دور هام للغاية بالنسبة لها، بفضل حالة الانتقال المحتجز بالذات؛ المتضمن لاستمرار التأخر وعدم خضوع قطاعات واسعة من السكان لآليات الحداثة الاجتماعية عموما والإنتاجية خصوصًا. ونخص بالذات التأثير الخاص لإعادة الإنتاج الموسع للفئات المهمشة([4])، تلك التي فقدت ارتباطها المادي المباشر بالمجتمع القديم دون أنْ تُدمج جيدًا في النظام الاجتماعي الجديد. ولذلك ظل للأيديولوجيا القديمة مكانة هامة لديها. لذلك ظلت هذه الأيديولوجيا قابلة للاستخدام كسلاح جيد في أيدي الطبقة المسيطرة، لإحكام قبضتها على الجماهير شبه البروليتارية تلك. ولا يوجد انفصال مطلق بين الإنتليجينسيا والفئات المهمشة، لا على صعيد الواقع المادي ولا أيضًا على صعيد الفكر. فالمهمشون ليسوا مجرد صفر، بل يتعيشون على بنية التخلف نفسها. ومن هذه الزاوية فقط يرتبطون جزئيًّا بعملية التحديث القائمة.
أما الإنتليجينسيا فلم تشكل قطاعًا يستقل بالعمل في إطار نظام حديث محض pure، بل هيَ أيضًا تعمل في إطار بنية التخلف؛ الازدواج البنيوي. لهذا السبب لم تتبن أيديولوجيا بورجوازية بالكامل، ولم تصبح علمانية بحق. لذلك ظلت الإشكالية المعروفة بمسألة العلاقة بين الأصالة والمعاصرة قائمة طوال تاريخ مصر الحديث.
ويمكننا أنْ نصف الإنتليجينسيا المصرية عمومًا بأنها مثل بنية التخلف التي تنتمي إليها؛ تتضمن حالة انتقال، أو حل وسط ؛ تاريخي بمعنى ما، بين الأيديولوجيا الدينية القديمة تاريخيًّا والفكر العقلاني الحديث. وهيَ حالة تتضمن كلًّا من السلام والحرب، ولكن فقط حرب خنادق، بدون اشتباك حقيقي، فكل طرف يكتفي بكشف تناقضات الآخر ونقاط ضعفه، دون أنْ يقدم مبررًا لنفسه سوى مجرد وجوده.. إنه وضع يعكس في - النهاية – حالة البنية الاجتماعية المصرية نفسها. فالطبقات المسيطرة ظلت منسجمة مع بعضها على المستوى التاريخي العام، وطبعا هذا لا ينفي وجود خلافات جزئية وصراعات على توزيع الفائض، وفي نفس الوقت لم يفرز نمو التخلف طبقة ثورية جديدة، إذ لم تكن عملية التحديث في مصر حادة تمامًا، مقارنة مثلا بروسيا القيصرية؛ فلم تنشأ في مصر مراكز صناعية متطورة، وتركز التحديث على قطاع الخدمات اللازمة لإقامة اقتصاد تصديري لسلعة واحدة أساسًا؛ القطن أولًا ثم البترول حديثًا، ولإقامة صناعات حالة محل الواردات وكذلك لتقوية قبضة الدولة على المجتمع المدني. ولهذا كله شهدت ساحة الأيديولوجيا موقفًا سلبيًّا من قِبل العقلانية الحديثة في مواجهة الفكر الديني. ولم نرصد في تاريخ مصر الحديث صراعًا أيديولوجيًّا حاسمًا وتاريخيًّا... بل ساد الحل الوسط والانتقاء حتى من قبل الإسلاميين الأصوليين.. ومن الملاحظ أنه نتيجة حالة النمو المركب على صعيد الفكر لم تصبح الثقافة المصرية متماهية ولم تشهد انتصارًا نهائيًّا لأحد قطبيها: الإسلام والعلمانية، وكنتيجة - في رأينا- لطبيعة الطبقة المسيطرة الجديدة – القديمة التي سبقت الإشارة إليها، إذ لم تتطلع هذه أبدًا إلى إنهاء نفوذ الدين على المجتمع المدني والدولة وتحويله إلى مسألة شخصية وفردية. ولنتذكر – للمقارنة - أنَّ البورجوازية في الغرب قد حققت هذا تقريبًا، استنادًا إلى إنجازاتها الاجتماعية -الاقتصادية الكبيرة. وفي المقابل نجد أنَّ "طبقتنا" المذكورة لم تحقق أيَّ ثورة بورجوازية بالمعنى المفهوم للكلمة، كما أنه لم تتكون طبقة بديلة يمكن أنْ تحفز ظهور وانتشار ثقافة علمانية - عقلانية.
في ظل هذه الوضعية تحركت الإنتليجينسيا جيدة التعليم (وقت كتابة ونشر المقال كانت الإنتليجينسيا المصرية جيدة التعليم بالفعل).
ونظرًا لغياب الحاجة الموضوعية لتصفية الفكر القديم وتحقيق نصر نهائي للعقلانية فإن الإبداع الفكري لم يبرز في مصر أبدًا. فبلوغ الحالة الانتقالية بيسر، والتي لم يقاومها الفكر الإسلامي نفسه مقاومة حادة، لم تتطلب إنجازات فكرية ضخمة، بل ساهم مفكرون إسلاميون كبار في عملية تكييف الإسلام مع عملية التحديث الجزئي: محمد عبده ورشيد رضا مثلًا. لذلك لم تشهد مصر حركة تنوير واسعة، مقارنة بأوروبا الغربية وروسيا أو حتى الصين الشعبية.
 وضمن السمات الرئيسية للبنية الاجتماعية لمصر الحديثة تقف التبعية، و التي نُعدها جوهر هذه البنية، سواء بعنصرها البورجوازي أو قبل البورجوازي ، وقد ساعدت التبعية الاقتصادية على حفز أشكال من التبعية الثقافية العامة، وحتى الأيديولوجية. وقد ساهمت هذه النزعة في عرقلة، وليس منع، الإبداع الفكري في مصر. ومن الضروري في رأينا ملاحظة أنَّ عملية إنتاج وإعادة إنتاج التخلف في مصر لم تتم وفقًا لآليات داخلية محضة، بل لعبت وتلعب الضغوط والحواجز والحوافز الخارجية الدور الرئيسي، وهذا الحفز الخارجي يترك بصماته على تحولات الثقافة، سواء بشكل مباشر (تأثير مباشر في الثقافة السائدة) أو غير مباشر (خلق وإعادة خلق البناء التحتي). وربما يفسر لنا هذا التأثير الكبير للفكر الأوروبي الحديث على نشوء وتطور الفكر المصري الحديث، بدءًا من تأثير أعضاء بعثات محمد علي؛ الطهطاوي خاصة. وهذا لا ينفي أيضًا أهمية الإبداع المحلي. إلا أنَّ هذا الإبداع نفسه، علاوة على أنه لم يكن دوره حاسمًا في تطور الفكر المصري الحديث، كان كذلك يتم في إطار الثقافة الواردة من الخارج بشكل أساسي. وحتى "الإبداع" داخل الفكر الديني قد مثل رد فعل عابر، وليس تطورًا ذاتيًّا، في مواجهة ما اعتبره الإسلاميون غزوًا فكريًّا من الغرب، تمثل في الأفكار الليبرالية، والقومية، والاشتراكية. وما نقصده هنا هو أنَّ الفكر المصري الحديث لم يكن نتيجة حركة واسعة لإنتاج الفكر بقدر ما مثل استجابة محلية لدور أجنبي مباشر وغير مباشر. فالليبرالية والقومية والاشتراكية لم تظهر كنتيجة لتناقضات الفكر المحلي القديم، بل كانت قبولًا محليًّا لفكر نُقل نقلًا من الغرب، مع تكييف ما. وهذا لا يعني أنه لم توجد أسس محلية لانتشار مثل هذه المبادئ، بل وُجدت بالتأكيد هذه الأسس وبقوة. فتناقض الفكر القديم مع الواقع هو حقيقة برزت بوضوح في عجزه عن التصرف في مشكلة التبعية - التخلف.. واتضاح قلة حيلته أمام الفكر المدجج بالسلاح والقوة الاقتصادية والنموذج المؤسساتي الأوروبي. ولكن تلك الأسس المحلية تتضمن كذلك عوامل ذاتية مثل نزعة تقليد الغرب والإعجاب بالسادة الأوروبيين وبقيمهم، تلك العوامل الناتجة عن قوة ونجاحات التنظيم الرأسمالي - الأوروبي للمجتمع ووضوح تفوقه على الأنظمة الشرقية التقليدية، هذا التفوق الذي ساندته القيم الأوروبية الحديثة في مجملها. وإن هذا كله يعني أنَّ نشوء الفكر المصري الحديث لم يكن نابعًا- كعملية تحول- من الذات. فمثلما كان نشوء بنية التخلف في مصر عملية قصرية إلى هذا الحد أو ذاك، أو على الأقل ُمحفزة بشدة من الخارج، كان كذلك نشوء الفكر المصري الحديث. إذ لم يوجد إطلاقًا عنصر انتقال في مصر القرن التاسع عشر يبرر التحول الذاتي من القنانة، سواء المعممة أوغير المعممة، إلى نظام السوق والتطور المركب، ولا من الإسلام السلفي إلى الإسلام المعقلن والفكر العلماني. فالعامل الخارجي هنا حاسم تمامًا، فلا يُتصور أنْ ينشأ نظام تابع بدون وجود وفعالية الطرف الخارجي إلى أقصى حد.
  ونحن لا نشير إلى دور التأثير الخارجي السائد لإظهار النقائص، بل لإبراز عدم تماهي الفكر المصري الحديث، والتباين القائم بين الفكر الموجود بالفعل والإمكانيات المحلية لإنتاج الفكر.
ونود أنْ نشير إلى ظاهرة جد بارزة تخص الإنتليجينسيا المصرية. فلقد تميز نمو التخلف في مصر بتضخم حجم الإنتليجينسيا باستمرار بمعدل كبير، بحيث باتت تشكل منذ منتصف هذا القرن قطاعًا عريضًا في المجتمع. وهيَ الحقل الأهم على الإطلاق إنْ لم يكن الوحيد لإنتاج وتلقي وانتشار الفكر النظري بالمعنى المفهوم. وقد قابل هذا الحجم الضخم ضعف بالغ لكل الطبقات كتكوين. فالطبقة المسيطرة من رجال أعمال وكبار ملاك هشة للغاية وعاجزة عن إحداث تغيرات جذرية سريعة وتقدمية بحيث تقيم بناء اجتماعيًّا مُحدثًا بشكل ناجز. أما "الطبقة العاملة" فهيَ ليست طبقة حقيقية بأيِّ حال، فعلاوة على صغر حجمها بالنسبة لمجمل السكان وتبعثرها، يرتبط كثير من أفرادها بأنشطة أخرى بخلاف العمل المأجور، وهيَ لا تملك أدوات نضالية فعالة ولا تقاليد متماسكة في النضال حتى الاقتصادي، ويضاف لذلك غيابها السياسي بالكامل باستثناء فترات بالغة القصر في تاريخ مصر الحديث. وبخصوص طبقة الفلاحين؛ فقد ظلت طوال تاريخ مصر الحديث غير واعية بمصالحها الجماعية، ولم تشكل قط جماعة ضغط فاعلة، وهيَ على العموم لا تملك آفاقًا تقدمية. لهذا وذاك وجدنا الإنتليجينسيا تملك دائمًا المبادرة إزاء النظام القائم، عدا لحظات نادرة، وتقود نظريًّا وعمليًّا كل "الطبقات" الأدنى، بما فيها عمال الصناعة. فكافة الأشكال السياسية غير المعبرة عن الطبقات المسيطرة قد تكونت من مثقفين بشكل أساسي: المنظمات الشيوعية- حزب مصر الفتاة- الإخوان المسلمين- الطليعة الوفدية- الناصريون بعد سقوط الناصرية- أحزاب العمل والتجمع.. إلخ. ومن الطبيعي أنْ يقود المثقفون، بالمعنى الضيق للكلمة، الطبقات المختلفة، ولكننا لا نقصد هنا القادة الأفراد، بل المثقفين بالمعنى العريض؛ المتعلمين ككتلة اجتماعية.. أيْ جمهورهم العريض ككل. وعلى هذا يمكننا تحديد أن الصراع السياسي في مصر الحديثة قد تركز بين الدولة والطبقة المسيطرة، والإنتليجينسيا، التي وقف وراءها أحيانًا بعض العمال وقلة من الفلاحين، سواء قبل 1952 أو أثناء العهد الناصري أو بعده وحتى اليوم. بل ولعبت الدور الأكبر في الكفاح الوطني أثناء الاحتلال. ونلفت النظر إلى أن دورًا جوهريًا قد قامت به الجماهير المهمشة في الصراع الاجتماعي، يتلوهم العمال والفلاحون، ولكن في لحظات محددة، من أهمها انتفاضة يناير 1977. بخلاف ذلك كانت المعارضة دائمًا في أيدي الإنتليجينسيا وكانت فعاليتها هيَ الأكثر تأثيرًا في مسار الصراع الاجتماعي والسياسي.
ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أنَّ الإنتليجينسيا المصرية في مجملها والمعارضة منها بالأخص قد حثت دائمًا على زيادة دور الدولة وتغلغلها في حياة المجتمع المدني وتنظيمه سواء في اتجاه مزيد من التحديث أو تطبيق الشريعة أو التنظيم بوجه عام. وكل هذه المسائل تحتاج إلى مواهب الإنتليجينسيا، مما يمنحها فرصة للهيمنة وتحقيق النفوذ، كما أنه أمر يُشبع تطلعاتها النخبوية. لذلك ظلت العلاقة بين الإنتليجينسيا والدولة قوية للغاية رغم الخلافات والصراعات وحتى العنف المتبادل أحيانًا.
ونحن نقصد بإثارة هذه النقاط التنبيه إلى عقم تلك الطريقة الشائعة في تحليل الصراع الاجتماعي والتي تعد كل حزب معبرًا عن طبقة اجتماعية محددة: عمال – فلاحون- بورجوازية كبيرة- بورجوازية صغيرة.. إلخ. فلا يمكن مثلًا اعتبار "الإخوان المسلمين" مجرد معبرين عن البورجوازية الصغيرة([5])، تلك الطبقة الهزيلة جدًّا في مصر، كما لا يمكن اعتبار الحزب الشيوعي المصري معبرًا عن عمال الصناعة بحال من الأحوال. فكل منهما يتشكل أساسًا من متعلمين ويعمل وسطهم وبطريقة تلائمهم.
  وأخيرًا نود أنْ نلقي بعض الضوء على التكوين الداخلي للإنتليجينسيا المصرية:
  تحتكر هذه الفئات شيئا بالغ الأهمية وهو العلم، سواء العلم الفيزيائي أو العلوم الاجتماعية النظرية والتطبيقية، وكذلك الفكر وفهم الأيديولوجيا، شاملة الفكر الديني. ويتشكل قطاعها العريض من إنتليجينسيا حديثة، أما الإنتليجينسيا الدينية فلا تشكل سوى كسر بسيط من جمهورها الغفير.
تحمل إذن هذه الفئات سلاح العلم الحديث وهيَ تتلقى العلم من الخارج مباشرة: كل العلوم الفيزيائية، وحتى العلوم الاجتماعية. فإذا كان للإبداع المحلي دور في إنتاج الأيديولوجيا فإن دوره الفعلي في إنتاج العلم لا يذكر. ولنمد هذا ا لكلام على استقامته: هناك تناقض معين بين العلم الوارد من الخارج، أو على الأقل بين منهج هذا العلم وبين الأيديولوجيات السائدة، نصف العقلانية في أحسن الأحوال. ويضيف هذا التناقض مزيدًا من العمق لازدواجية الفكر المصري الحديث، والتمزق بين "الأصالة" و"المعاصرة".
 إذن قطعت الإنتليجينسيا المصرية خطوات ملموسة على صعيد العلم، فهيَ متعلمة بشكل متماسك إلى حد ما، ولكنها لم تقطع الشوط نفسه على صعيد عقلنة الفكر. فالتحديث في مجال العلم كان كاملًا، ولكن على صعيد الفكر لم يصل إلا إلى منتصف الطريق في أحسن الأحوال. ويضاف إلى عامل التمزق هذا عامل آخر؛ فالتعليم النظري يصل إلى قمته، ولكن تطبيقه، بمعنى عقلنة النظام الاجتماعي قد توقفت عند منتصف الطريق أوأقل. وتخلق هذه الوضعية إشكالات كثيرة للمثقفين. ولنتخيل ماذا يتيح المجتمع المصري لعالم فيزياء كبير أو لمهندس كيميائي نابغ أو لطبيب متفوق... فقط يتيح لهم مأزقًا خطيرًا، وهذا أحد دوافع هجرة العقول. وكثير من هذه النماذج يُنتج في مصر بالجملة. وبالتالي يكون ضمن مشاكل المثقفين عدم الانسجام بين طاقاتهم وبين ما يستطيع النظام الاجتماعي أنْ يستوعبه منها. هذه نقطة، وهناك قضية أخرى: فهذه الإنتليجينسيا المتعلمة جيدًا تجد نفسها عاجزة عن تجاوز الفكر اللاعقلاني الموروث. فقد تكونت في إطار ثقافي مزدوج، ولا يوجد أساس اجتماعي مادي لتجاوزه، مما يضعها أمام إشكالات عديدة، تتلخص في التناقض بين منطق العلم ومنطق الأيديولوجيا الازدواجية التي تحملها، وحتى بين هذا كله مجتمعًا وبين قيم وتقاليد المجتمع السائدة؛ القديمة - الجديدة. ولنتصور وضع باحثة في الفيزياء لا يعطيها المجتمع حق الانتخاب (قبل 1956) أو حريتها في الملبس والإقامة بمفردها وحق الطلاق أو الانفصال عن زوجها؛ فهناك مشكلة إذا هيَ تطلعت إلى هذه الحقوق، اما إذا لم تفكر فيها فهذا يدل على وجود مشكلة أعمق.
المفاهيم والنزعات المتأصلة لدى أفراد الإنتليجينسيا المصرية هيَ إذن بين الفكر التقليدي القديم المرتبط أساس بالدين، خصوصًا الإسلام والفكر العقلاني الحديث. ووفقا للتباينات العديدة داخل كافة مكونات البنية الاجتماعية تختلف درجة هذا الخليط لدى أفراد وجماعات الإنتليجينسيا المصرية اختلافًا شديدًا.
ونأتي الآن إلى المصالح المادية للمثقفين. لقد تربت الإنتليجينسيا المصرية في حضن الدولة منذ محمد علي: تعليم مجاني أو رخيص- وظائف حكومية مضمونة للغالبية العظمى، حتى للكتاب، والأدباء، والمفكرين، والباحثين. وقد استطاعت الدولة أنْ تشتري بشكل نهائي عددًا محدودًا من المفكرين والكتاب، من خلال دمجهم تمامًا في مصالحها وآليات عملها. ولكنها لا تستطيع قط أنْ تشتري الجميع، إلا أنها تضطر إلى إنتاجهم بالجملة، كحد أدنى من الرشوة، في صورة عملية التعليم نفسها لأبناء الطبقات الأدنى، وهذه الظاهرة واضحة تمامًا منذ ثلاثينيات هذا القرن. ورغم الضمانات المذكورة فإن المصالح المادية للمثقفين لا تتحقق في ظل النظام القائم بشكل متماثل، بل توجد درجات عديدة من الارتباط المصلحي بينهم وبين الدولة وبين الطبقة المسيطرة، بل إنَّ البعض قد نُقل من طبقته أو فئته الأصلية إلى مصاف المتعلمين دون أنْ يحصل على أيِّ ميزة مادية إضافية. فالإنتليجينسيا لا تنتمي في مجملها إلى الصفوة، بل إنها تعرف البطالة والفقر والإفقار أيضًا مثلما تعرف امتيازات متعددة بالإضافة إلى الوجاهة الاجتماعية طبعًا. كذلك تتفاوت مصالح الأفراد حسب موقعهم في عملية التحديث المستمرة ومعدلها المتغير.
كذلك تأتي مسألة النظام السياسي ضمن المسائل التي تهم الإنتليجينسيا. فقد تطلع دائمًا هؤلاء المتعلمون إلى دور خاص في إدارة البلاد، بحكم شعورهم بكفاءتهم وتفوقهم. فإن لهم طموحات نابعة من تكوينهم كمثقفين في بلد غير مثقف ككل، كما أنَّ لهم مصالح مادية ومعنوية مرتبطة بطريقة ومعدل عملية التحديث القائمة. ولنتذكر أنهم يتطلعون عادة إلى وضع نظرائهم في أوروبا، كما لا ُيغفل الوضع المميز لنظرائهم السابقين على التحديث في مصر؛ رجال الدين أساسًا. ورغم أنه قد بُدء في تحديث جهاز الدولة منذ محمد علي وقُطعت خطوات فعالة على هذا الطريق، فإن النظام السياسي بما هو كذلك لم يتغير إلا تغيرًا شكليًّا بشكل أساسي، فالطغيان والحكم الفردي والإدارة الغاشمة ظلت موجودة. ولنتأمل كيف يكون شعور مئات الألوف من المدرسين والمحامين والأطباء وهم يستمعون إلى قرار بإلغاء الدستور أو بحل البرلمان، دون مشورتهم، أو بنقل الصحفيين إلى إدارات الدولة، وإلى طرد القضاة.. إلخ. وهذا لا علاقة له بكون الإنتليجينسيا المصرية ليبرالية أم لا، بل هيَ تريد أنْ تشارك في إدارة النظام بشكل أو بآخر. فمشاركتها تمنحها ضمانات ما بتحقيق أوضاع تنسجم بقدر أو آخر مع ثقافتها ومصالحها المادية. ولا شك أنَّ عددًا من المثقفين يشكل النخبة السياسية كتابعين مباشرة للنظام السياسي والطبقة المسيطرة بالطبع، إلا أنَّ الجمهور العريض من هؤلاء لا يتمتع بوضع مناسب إزاء النظام السياسي. ولا شك أنَّ الأخير قد أصبح أكثر مرونة مع سقوط نظام محمد علي، إلا أنه لم يصبح مرنا للدرجة التي تستوعب تطلعات الإنتليجينسيا، بل ويشهد فترات طويلة من التصلب والشراسة.. لذلك ظلت الإنتليجينسيا تنتج حركات المعارضة.
ويمكننا إيجاز المصالح المشتركة لأفراد الإنتليجينسيا المصرية فيما يلي:
1- خلق مناخ اجتماعي- اقتصادي يلائم مهاراتهم العلمية والعملية العالية.
2- تعديل النظام السياسي بحيث يمنحهم فرصة كافية للمشاركة في إدارة النظام الاجتماعي بحيث يصبح بالصورة الملائمة لاستخدام طاقاتهم مع تقديم قدر ملموس من الامتيازات المادية لهم.
وهذا لا يعني أنَّ الإنتليجينسيا تشكل طبقة اجتماعية، فهيَ لا تشارك في نمط إنتاج معين، بل إنَّ مصالح أفرادها ليست واحدة تمامًا إلا في الإطار العام للغاية المذكور أعلاه. وقد وجدنا المثقفين المصريين يختلفون بشدة حول طبيعة التغيير المطلوب في النظام القائم. وقد أشرنا من قبل- ونؤكد هنا- أنَّ المثقفين يندمجون في النظام المذكور بدرجات متباينة، فمصالحهم؛ الاقتصادية والثقافية، وإن كانت تتفق في النقطتين المذكورتين، تتباين بشدة داخل هذا الإطار، وإلى الحد الذي أدى إلى تبنيهم لأيديولوجيات وشعارات سياسية متعددة بل ومتناقضة؛ نظريًّا على الأقل.
  والإنتليجينسيا لا تملك مشروعًا سياسيًا يخصها على وجه التحديد لإعادة بناء المجتمع، وهيَ لا تتطلع - بما هيَ كذلك - إلى مصادرة النظام لحسابها. فالجماعات المختلفة من المثقفين لم تتحدث على الصعيد الأيديولوجي أو السياسي باسم المثقفين، بل باسم الشعب، أو الكادحين، أو العمال، أو المسلمين، أو مصر.. إلخ. أيْ أنها احتاجت دائمًا إلى قوة من خارجها تصلح لتمثيل الإطار الكلي الذي يلائمها. فهيَ لا تحمل- موضوعيًّا- نظامًا اجتماعيًّا كاملًا، مثلما تحمل البورجوازية – مثلا – النظام الرأسمالي، ولكنها تتطلع إلى هيكل عام يخص قوة اجتماعية أساسية أو على الأقل تفترض هيَ أو تتخيل هذه العلاقة، ولكن لها فيه موضع قدم مناسب. ولأن عملها الذهني منفصل إلى حد كبير ومتميز وغير متلائم كإمكانية مع البناء الاجتماعي المتخلف، ترى في نفسها العقل الأوحد في المجتمع.. أيْ أنها تراه جسدًا يجب إصلاحه؛ فعلاقتها به – من وجهة نظرها- هيَ علاقة ذات بموضوع. ومن ثم تجد في نفسها صاحبة رسالة؛ فليس المهم هو الإمكانيات الكامنة في الجسد الاجتماعي ككل – شاملًا الإنتليجينسيا نفسها - بل ترى أنَّ المهم هو موقفها هيَ.. رأيها الخاص.. ومن هنا تأتي مشاريعها: الليبرالية – الاشتراكية - الدولة الإسلامية.. إلخ، معبرة عن رغبتها وطموحاتها الخاصة، لا عن مصالح موضوعية حقيقية لقوى اجتماعية قادرة على التغيير الجذري. لذلك تتعامل مع الأيديولوجيا والمشاريع السياسية باعتبارها اختيارًا محضًا؛ الرأيَ الأصوب عمومًا، أو المبدأ الصحيح، محاولةً تكييف الواقع معه دون محاولة حقيقية لتكييفه مع الإمكانيات الموضوعية، باحثة في الوقت نفسه عن قوة اجتماعية تصلح – من وجهة نظرها - لتبني ذلك المذهب، بل وقد تعلن أنَّ هذا المذهب يخص الله نفسه.
ولنلاحظ أنَّ الطبقة التي كانت طوال تاريخ مصر الحديث أقوى وأقدر- نظريًّا على الأقل - على تبني مشروع اجتماعي شامل، هيَ الطبقة المسيطرة نفسها، أو أحزابها على الأقل؛ الوفد مثلًا قبل 1952. مما يفسر لنا جزئيًّا على الأقل تفكك وهزال حركات المعارضة، الجذرية بالذات.
ورغم وجود مصالح عامة للإنتليجينسيا الحديثة في مصر، إلا أنها قد تشرزمت سياسيا وأيديولوجيًا طوال تاريخها. ويمكن تحديد عدة عوامل لعبت أدوارًا متباينة في هذا التشرزم:
1- اختلاف الأصول الاجتماعية للمثقفين؛ فهناك أبناء مثقفين، وأبناء فلاحين، ومدينيين من طبقات مختلفة.
2- انقسام المثقفين أنفسهم إلى شرائح اجتماعية عديدة.
3- وجود اختلافات في درجات الاندماج في كل من النظام السياسي والنظام الاجتماعي.
4- اختلاف المهن: تكنوقراط – ضباط - باحثون- علماء- كتبة.. إلخ. وبالتالي اختلاف مناهج التفكير، في حدود تأثير المهنة في منهج التفكير.
5- تباين المصالح الجزئية تجاه حالة التبعية.
لهذه الأسباب، وربما لأسباب إضافية، تباينت الطرق التي تبنتها جماعات الإنتليجينسيا المصرية لتحقيق تطلعاتها العامة المذكورة.

**********************
       




([1]) نقصد بالإنتلجينسيا الأفراد الذين يتخصصون في العمل الذهني؛ أيْ المتعلمين: الأطباء – المهندسين – المحامين – المديرين – المحاسبين – الصحفيين – العلماء – الباحثين – الكتاب – الفنانين – الأدباء – رجال السياسة – رجال الإعلام – الضباط – رجال الدين .. إلخ.
([2]) ألقينا الضوء على هذه الظاهرة في : الراية العربية، كتاب غير دوري، الكتاب الأول والكتاب الثاني، نوفمبر 1986، سبتمبر 1988.
([3]) بالاطلاع على ما يسمى بعصر التنوير العربي (القرن التاسع عشر) نجد ثلاثة تيارات رئيسية: التيار الديني المحافظ، المتمسك بالثقافة التقليدية والمعادي لأية نزعة تغريبية أو تبدو كذلك. والتيارالعلماني المتأورب، مثله أساسًا المفكرون المسيحيون الشوام والذين انتقل بعضهم إلى مصر. أما الاتجاه الثالث وهو الغالب، فيشمل المجددين الإسلاميين، الذين حاولوا تطويع الإسلام التقليدي للمتغيرات الحديثة ومزجه بالعقلانية الأوروبية. وفي رأينا لم تعبر التيارات الثلاثة عن حركة تنوير حقيقية، فالأول معاد للتنوير مباشرة كما هو واضح، والثاني؛ التنويري (بالمعنى الأوروبي) لم يتعرض إطلاقًا للأيديولوجيا السائدة ولم يمسها تقريبًا واكتفى بنقل بعض الأفكارالعلمانية والعقلانية من أوروبا كما هي، ولم يجد استجابة ملموسة من جمهور الإنتليجينسيا. أما الاتجاه الثالث، الرئيسي؛ النهضوي - بالمعنى الأوروبي- فقد جذب أغلبية الإنتليجينسيا وكان مهتما بتطويع الفكر الإسلامي مع عملية التحديث مع الاحتفاظ بنفس الأسس المعرفية. ومن الملاحظ أنَّ العلمانيين والمجددين قد ركزوا جل اهتمامهم لا على الفكر النظري بل على الفكر الاجتماعي- السياسي، فاهتموا بقضية المرأة والحريات الشخصية، وفوق ذلك اهتموا أكثر ما اهتموا بإقامة نظام برلماني وحكم دستوري ونظام قضاء حديث، دون تجاوز الشريعة الإسلامية. مقابل هذا لم نلاحظ اتجاهًا واضحًا لنقد الإبستمولوجيا القديمة.
  وقد عبر الاتجاه الثالث عن أقصى طموحات الطبقة المسيطرة. ورغم الخلافات والصدامات المحدودة التي جرت بين الدولة وبين بعض عناصر المجددين ظل هو الاتجاه الرسمي للدولة، دون أيِّ نبذ أو تصفية للاتجاه الأول بالطبع، المتركز في الأزهر والذي لجأ هو الآخر إلى تجديد جزئي.
([4]) من الملاحظ أنه في فترة متأخرة من نمو التخلف في مصر أضيف للفئات المهمشة بعض عناصر الإنتليجينسيا نفسها، خصوصًا في أربعينيات ثم في سبعينيات هذا القرن، فصار هناك متعلمون عاطلون تمامًا، كذلك تحول بعض المتعلمين إلى الأعمال الرثة (حثالة بروليتاريا) ولكننا نفصل هنا بين الإنتليجينسيا والفئات المهمشة على أساس أنَّ عنصر الاندماج بينهما محدود للغاية، وتظل حثالة البروليتاريا تشمل نسبة صغيرة للغاية من المتعلمين وترادف – تقريبًا – بالتالي مفهوم الفئات المهمشة.
([5]) يستخدم أغلب الكتاب المصريين تعبير "البورجوازية الصغيرة" للدلالة على الفئات الوسطى عمومًا، شاملين حتى صغار الضباط، والمثقفين، وأصحاب الدكاكين الصغيرة، وتجار الشنطة.. إلخ. ونحن نرى أنَّ هناك فرقًا جوهريًّا بين صغار المنتجين السلعيين، أيْ البورجوازية الصغيرة بحق وبين الفئات الوسطى (الإنتليجينسيا وصغار التجار. إلخ ..). فالبورجوازية الصغيرة لها نمط إنتاج بورجوازي صغير، وهذه هي سمتها الجوهرية، وهو نمط الإنتاج العائلي في حالته المفككة. أما الفئات الوسطى فليس لها نمط إنتاج أصلًا، لذلك لا تدخل ضمن طبقات المجتمع. وهذا التميييز ضروري للمحافظة على دقة التحليل. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق