الخميس، 4 نوفمبر 2010

ما وراء مأساة كاميليا شحاتة

4 نوفمبر 2010
عادل العمرى

المشهد الطائفي في مصر المعاصرة:
 - لم يؤد التحديث في مصر - لأسباب معقدة ليس هنا مجال تناولها - إلى حصول الطبقات الشعبية والوسطى على نصيب مناسب من نتائجه، بل أدى في النهاية إلى تهميش واسع النطاق، وإلى بطالة المثقفين، وتفاوت اجتماعي هائل، جُمد مؤقتًا في العهد الناصري، وفي النهاية ظهر فشل الفئات المسيطرة في جعل مصر "الحديثة" مساوية للبلدان التي تم تحديثها بالفعل: تقدم علمي وصناعي وتعليم متطور وتكافل اجتماعي بدرجة معقولة وسلام اجتماعي حقيقي والمساواة أمام القانون وشفافية وديموقراطية ودولة حديثة: مؤسسات وقانون... إلخ؛ مما أدى إلى نفور الجماهير من الأيديولوجيات والنخب التي رفعت راية التحديث: التوجهات الليبرالية والقومية والاشتراكية، فحدث استدعاء تلقائي للأيديولوجيا الدينية القديمة التي لم يتم تجاوزها أبدًا؛ فكان صعود الإسلام السياسي، ثم المسيحية السياسية فيما بعد. هذه الأيديولوجيا تعبر عن قوى اجتماعية ناتجة عن التحديث، كما أنها تواجه مشكلات ناتجة عن الحداثة لا مشكلات الفقهاء القدامى. إلا أنها أيديولوجيا تفتقد الأساس المعرفي الذي يمكن أنْ يتناول قضايا المجتمع المعاصر ولذلك ظلت في أزمة دائمة وعجز فاضح عن إنتاج مشروع محدد وقابل للتنفيذ، ولذلك فشلت على مدى التاريخ رغم ضخامة جماهيرها ومنظماتها.

بفضل هذا العجز الجوهري، وبالتالي افتقاد توجه واضح، شكَّل الإسلام السياسي مصدرًا لإزعاج المجتمع أكثر مما شكَّل مشروعًا اجتماعيًّا؛ فراح يضرب في اتجاهات متباينة، وتستخدمته قوى معادية له في الأساس لصالحها، ويستخدم قادته جمهوره العريض لصالحهم. ولأنه مصاب بالعمى تقريبًا، فبدلًا من أنْ يكون بديلًا ناجحًا للتيارات العلمانية التي فشلت، كان مجرد تيار غير محدد الملامح وغامض ومناوئ للحداثة دون أنْ يستطيع رفضها بوضوح. كما تسببت المسيحية السياسية في خلق توتر طائفي بالغ وحالة استفزاز لعامة وخاصة المسلمين، لأنها تميزت بقوة نزعتها الطائفية، وكثرة القوى التي تعاديها، وافتقادها لمشروع تحديثي بديل، واصطدامها بقضايا حديثة لا تستطيع التعامل معها.

وقد ساهم هذا المد الديني بقوة في خلق مشاكل عديدة للمجتمع تضاف لمشاكله الكبري، وضمن ذلك كان تفاقم المشاكل الطائفية. فلا يوجد دين "سماوي" يعترف بمشروعية الأديان الأخرى، بل الكل يكفر الآخرين، ومع نمو المد الديني وظهور طبعات متشددة من الفكر الديني برز التكفير على السطح أكثر، يضاف إلى ذلك أنَّ الجماهير المأزومة راحت تنفس عن نفسها باضطهاد الأقليات، مثلما يحدث في أيِّ مكان. وهذا الاضطهاد لا يمكن إنكاره؛ حيث تدل عليه مئات الأحداث، من حرق كنائس، وقتل على الهوية أحيانًا، واعتداء على من يصلون في بيوتهم صلاة جماعية، بخلاف الخطب التحريضية في المساجد، والمقاطعة الفردية في أماكن العمل، وسوء المعاملة الشخصية في الدوائر الحكومية، بل ومذابح حقيقية أبرزها المذبحة البشعة في حي الزاوية الحمراء بالقاهرة عام 1979، حيث قتل 81 من المسيحىين بمختلف الأساليب، وتتشابه معها مذبحة قرية الكشح عام 2000، حيث قتل 21 شخصًا منهم 20 مسيحيًّا وأصيب عشرات آخرون، تحت حماية الشرطة للقتلة، وتقارن المذبحتان مع مذبحة صابرا وشاتيلا من حيث بشاعتهما وتشابه دور الأمن مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، ومذبحتي كنيسة أبوقرقاص بالمنيا في مارس 1997، وكنيسة قرية الفكرية بالمنيا عام 1997، حيث قامت جماعات بإطلاق النار على المصلين واغتيالهم وهم يقومون بالصلاة، مما أدى إلى قتل عشرة مصلين داخل الكنيسة، ومذبحة نجع حمادي ليلة عيد الميلاد؛ وغيرها الكثير. ولا يُنسى حرق منازل البهائيين في إحدى البلدات، وأشكال متعددة من اضطهادهم الرسمي والشعبي، بالإضافة إلى قمع الدولة للشيعة والقرآنيين.
 - في الواقع لم تخل مصر منذ الغزو العربي من مشاكل طائفية ولم تكن في يوم من الأيام العلاقة بين أصحاب الأديان المختلفة قائمة على الانسجام والتوافق، وقد ظل التمييز بين المسلمين وغيرهم واضحًا عرفيًّا وقانونيًّا حتى بدأ يتقلص منذ محمد علي، الذي ألغى الزيَّ الذي كان مفروضًا على المسيحيين، وألغى القيود التي كانت مفروضة على ممارسة طقوسهم الدينية، ولم يعق بناء الكنائس، وعين مسيحيين في وظائف عليا وحساسة. واستمر وضع المسيحيين في التحسن في عصر ما بعد محمد علي؛ فتم إلغاء الجزية وبُدء في تجنيدهم إجباريًّا عام 1857 وبدأ يُسمح لهم بدخول المجالس النيابية والقضاء والإدارة الحكومية العليا على نطاق واسع([1]). وقد شهدت العلاقة بين المسلمين والمسيحيين فترات شد وجذب، حتى بعد التغيرات المذكورة، وكانت الفترة من 1919 حتى الانقلاب الناصري من أكثرها هدوءًا، ولكن منذ العهد الناصري زاد تهميش دور المسيحيين في العمل العام بشكل متزايد، ولكن لم تشهد الفترة حدوث اضطرابات طائفية، باستثناء الاعتداء على كنيسة بضواحي الأقصرعام 1968([2])، نظرًا لقوة وجبروت الدولة وقدرتها ورغبتها في تأميم الصراعات الاجتماعية، وبعد مجيء السادات تصاعدت هذه الاضطرابات، ثم تفاقمت لحد حدوث مذابح حقيقية في عصره وعصر مبارك.
 - أنتجت الناصرية أيديولوجيا اشتراكية دينية تزعم أنْ أساسها هو الإسلام، وقدمت خطابًا قوميًّا مركبًا: اشتراكيًّا، وكذلك دينيًّا إسلاميًّا، كسلاح ضد الشيوعية والتي كانت دائمًا هيَ البعبع الأهم للنظام؛ فتوسعت في التعليم الديني، ووسعت جامعة الأزهر وأدخلت إليها العلوم غير الدينية وقصرت الالتحاق والعمل بها على المسلمين، كما جعلت التربية الدينية مادة أساسية في مناهج التعليم العام، وتبنت الجماعات الصوفية، وأنشأت إذاعة للقرآن، واستخدمت تهمة الإلحاد ضد اليسار الماركسي.. وحدت أكثر من وجود المسيحيين في المراتب العليا في أجهزة الأمن والجيش وكذلك في الوظائف الحكومية العليا، سواء عمدًا أو بسبب طابع النخبة الناصرية التي شكلت "شلة" أو ما يشبه الفئة المغلقة cast، كانت كلها من المسلمين، تشبه المماليك إلى حد كبير. وقد ساهم كل هذا في عزل المسيحيين سياسيًّا، بينما سُمح لهم بحرية النشاط الاقتصادي في حدود القوانين المسماة بالاشتراكية، وقد ساهم هذا كله في دفع المسيحيين إلى الالتفاف بشدة حول الكنيسة، مما مهد لتحولها تدريجيًّا إلى ممثل سياسي لهم حين ظهر الشخص القادر والطامح للعب هذا الدور (البابا شنودة).
 - حين جاء السادات صار الخطاب الديني أعلى صوتًا بكثير، وقد شجع السادات ذلك بشدة في سياق صراعه مع التيارات اليسارية والقومية؛ فنعت نفسه بالرئيس المؤمن، وأعلن أنه سيقيم دولة العلم والإيمان، وأخرج الإخوان من السجون ومنحهم حرية حركة واسعة، وشجع ودعم المنظمات الإسلامية الأكثر تشددًا لاستخدامها في حربه المقدسة ضد الشيوعية والاشتراكية الناصرية أيضًا. وقد أضاف السادات للدستور عام 1971 مادة تنص على أنَّ “مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وصارت الدولة تتصرف كدولة للمسلمين وليست دولة لكل المواطنين، وبلغ الأمر أنْ أعلن السادات صراحة أنه رئيس مسلم لدولة إسلامية، مما أعاد إلى الأذهان نمط العلاقة بين دولة المسلمين بعد الغزو العربي كغزاة والشعب المسيحي المقهور. وكان هذا كله هو الأساس الحقيقي لموجة الصراع الطائفي الحاد التي بدأت في عهده.
وكان من نتائج عزل المسيحيين عن العمل العام إلى حد كبير أنْ راح النظام الناصري يتعامل مع الكنيسة كممثل سياسي للمسيحيين مقابل أنْ تضمن له ولاءهم للنظام، واستمرت هذه الصفقة حتى الآن. وفي العقود الأخيرة راح المسيحيون يتقوقعون على أنفسهم دون أنْ يشكلوا طائفة حقيقية؛ فهم منقسمون إلى مذاهب شتى بعضها يكفر بعض ولا يجمعهم اتجاه سياسي عام ولا يتفقون على مطالب سياسية أو اجتماعية عامة، بل يصعب كثيرًا الزواج بين مللهم المختلفة ولكل ملة كنيسة خاصة، وكل ما حدث هو تقوقعهم معًا والتفافهم حول الكنيسة في مواجهة الاضطهاد الديني الذي تمارسه الدولة وقطاعات من الجمهور المسلم، ولأنَّ هذا الاضطهاد لا يميز بين الملل المسيحية أو بين شخص وآخر فقد التفت الأغلبية العظمى حول الكنيسة الأكبر؛ الأرثوذكسية، وكان العامل الأكبر الذي عزز هذه الظاهرة هو تعامل الدولة مع هذه الكنيسة كممثل للمسيحيين ككل. فصار البابا قائدًا لهم بكل طوائفهم. وقد عبر عن الموقف بوضوح كامل السيد بطرس فلتاؤس رئيس الطائفة المعمدانية بعد لقاء له مع البابا بالقول: “لقد ناقشنا في اللقاء الكثير من الأمور منها تأييدنا الكامل لكل قرارات قداسة البابا شنودة، وخاصة فيما يتعلق بمشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد، وكذلك ما يحدث في الساحة السياسية خلال الفترة الأخيرة، وذلك لأنَّ قداسة البابا هو رمز لكل مسيحيي مصر.([3])"
 - أما في عصر مبارك فلم يعد اليسار يخيف النظام، وقد صار الإسلام السياسي قوة يحسب حسابها، ورغم قدرة النظام على مواجهة تلك القوة، راح يستخدمها في عدة أغراض: أولها لجم تطور الحركات الديموقراطية، وثانيًا تخويف الغرب موحيًا له أنَّ بديل النظام الفاسد هو نظام إسلامي متشدد ومعاد للغرب، وثالثًا في تخويف العلمانيين والمنظمات المنادية بالديموقراطية، والتي تحالف بعضها فعلًا مع النظام، منها حزب التجمع اليساري وحزب الوفد الليبرالي، في مواجهة الإسلاميين؛ زعمًا، ورابعًا تخويف الكنيسة وأتباعها لضمان ولائها لنظامه. ويلجأ نظام مبارك للسيطرة على الإسلام السياسي بعدة آليات: توجيه ضربات أمنية ساحقة للمنظمات الإسلامية المسلحة، ترك مساحة حركة واسعة لجماعة الإخوان المسلمين رغم عدم شرعيتها القانونية، مع توجيه ضربات محدودة لها ولأنصارها من حين لآخر لوضعها تحت السيطرة، ومنافستها بالترويج لأفكار دينية متشددة، وادعاء إيمان النظام بالشريعة الإسلامية وغيرته على الإسلام([4])، كما يشجع نظام مبارك الصدامات الطائفية – في حدود بالطبع - بل ويتواطأ جهاز الأمن في أحيان كثيرة مع اعتداءات بعض الجمهور المسلم ضد المسيحيين، وقد كان حادث الكشح مثالًا حيًّا على ذلك التواطؤ([5])، ذلك أنَّ النظام يعتقد أنَّ المعارك الطائفية تشغل الجماهير عن مشاكلها مع النظام نفسه، وهذا أمر واقعي إلى حد كبير. ومما يعزز هذا القول تعمد النظام إضفاء الغموض على الصدامات الطائفية أو التي تبدو كذلك وعلى أحداث يمكن أنْ تزيد النار اشتعالًا. وعلى سبيل المثال لم تهتم الدولة بالإعلان عن حقيقة موضوع السفينة المحملة بألعاب الأطفال المستوردة من الصين، والتي يمتلكها ابن وكيل مطرانية بورسعيد، والتي قيل إنها محملة بالأسلحة من اسرائيل، ولم تقدم وزارة الداخلية أيَّ تفسير لتسليم السيدات زوجات الكهنة للكنيسة.. إلخ.
 - من المؤكد أنَّ صعود الخطاب الإسلامي المتعصب قد ساهم في حفز الخطاب المسيحي ضيق الأفق والمتعصب أيضًا، إلا أنه لا يمكن اعتبار المسيحيين في مصر مجرد طرف مفعول به، بل يتحمل هذا الطرف نصيبًا ما من المسؤولية عما يحدث؛ فظهور المسيحية المتشددة لم تكن مجرد رد فعل لنمو الإسلام المتشدد؛ فقد ظهرت لنفس أسباب ظهور الأخير، بالإضافة إلى دور صعوده وأسلمة الدولة والمجتمع ككل؛ فجزء فقط من التشدد المسيحي هو رد فعل لتصاعد الخطاب الإسلامي المتعصب. ومع ذلك نعتبر أنَّ رد الفعل هذا يعبر عما هو كامن في ثقافة المسيحيين المصريين بوجه عام؛ النزعة المحافظة، وضيق الأفق، والانغلاق والتوجس من الآخر، وهيَ نفس سمات ثقافة عموم المسلمين المصريين. فبدلًا من رد الفعل بتزعم الحركات الديموقراطية العلمانية والتقدمية عمومًا، نجد أنه على العكس اتخذ معظم مسيحيي مصر موقفًا محافظًا للغاية من العمل العام، وفي العقود الأخيرة راحوا يمارسون نشاطهم بشكل متزايد داخل جماعاتهم. فوجدنا التقوقع حول الكنيسة، ورفع الانتماء الديني فوق الانتماء الوطني، وتبني مطالب طائفية لا ديموقراطية. ويساعدنا هنا المقارنة مع ما قام به يهود أوروبا – وكانوا أقلية مضطهدة أيضًا - من نشاط ديموقراطي واسع وانخراط فعال بل وقيادة حركات يسارية وديموقراطية، فكان الكثير جدًّا وربما معظم القيادات اليسارية في أوروبا من اليهود، وقد ساهمت بشدة في تطور أوروبا ثقافيًّا وسياسيًّا، بينما نجد هنا دورالمسيحيين غير قيادي؛ فلا يمكن القول أنهم كانوا قادة فعالين في عملية التحديث والتنوير. ورغم أنه لا يمكن طبعًا إنكار دور مخرج كبير مثل يوسف شاهين ومفكر مثل غالي شكري ودور أبي سيف يوسف في الحركة الشيوعية، وعدد من قادة وكوادر وفد سعد زغلول، ولكن لا يمكن اعتبارهم قادة أساسيين في ما يمكن أنْ نسميه حركة التنوير. بل كان دور المسيحيين الشوام في الثقافة المصرية واضحًا ولا يقارن بحجم دور مسيحيي مصر، الذين ظل حتى معظم ملحديهم القلائل يتعلقون بالكنيسة ومرتبطين بجماعاتهم الدينية. صحيح أنه لا يجب أنْ ندين رد الفعل قبل أنْ ندين الفعل؛ وهو هنا الخطاب الإسلامي المتعصب، ولكن لا يمكن أيضًا إعفاء الطرف المضطهد من المسؤولية بالكامل، خصوصًا أنه يوجد كثير من الليبراليين والعلمانيين الذين ناضلوا ضد التعصب الديني ودفع كثير منهم ثمنًا باهظًا من السجن والتعذيب والنفي من البلاد والاغتيال، وجل هؤلاء من المسلمين. و ليس مما يمكن إنكاره أنَّ هناك بعض العلمانيين المسيحيين ولكنهم قلة صغيرة للغاية وضعيفة التأثير حتى الآن بين الجمهور المسيحي. رغم هذا كله - وإحقاقًا للحق - لا يمكن إنكار أنَّ المناخ الثقافي العام المحافظ لم يكن ليسمح بدور فعال وقيادي للمسيحيين في الحركات الديموقراطية، بل يجب ملاحظة أنَّ مصر ليست أوروبا؛ فالتحديث كان محدودًا وغير جذري، ولم تنشأ طبقات اجتماعية قادرة على استيعاب ثقافة عقلانية. لقد وقف المسيحيون المصريون بالفعل في مأزق تاريخي.
 - وفي إطار الميل المتزايد لتنشيط الوعي الطائفي أصبح عديد من المسلمين والمسيحيين يميل إلى خلع سمة طائفية على صراعات ليست طائفية، أو المبالغة في شأنها؛ فالبعض من المسيحيين (ونادرًا من المسلمين) يستغل هويته الدينية لتحقيق مكاسب شخصية مدعيًّا تعرضه لاضطهاد طائفي وقد طرحت الصحف بعض هذه الحالات مؤخرًا، خصوصًا ماقدمه الأستاذ حلمي النمنم([6])، والبعض يزعم تعرضه لاضطهاد ديني في مصر ليحصل على حق اللجوء السياسي في الغرب، وبعض الصحف الخاصة، التي تزعم أنها معارضة ديموقراطية درجت على نشر أخبار لأحداث عادية على أنها أحداث طائفية؛ مثل: قبطي يغتصب طفلة مسلمة.. مسلم يقتل قبطيًّا..معركة بين عائلة مسلمة وعائلة قبطية بسبب خلافات بين الأطفال، تصوير معركة بالسلاح بين الرهبان والعربان حول أرض على أنها طائفية... إلخ.
كما ارتفعت حدة النقد المتبادل للعقيدة الدينية، ومع انتشار وسائل الإعلام الحديثة،  صارت المعارك الأيديولوجية بين الطرفين أكثر سخونة واستفزازًا، مما أدى إلى مزيد من الاحتقان الطائفي. فمن جهة تُهاجم باستمرار العقيدة المسيحية والمتهمة إسلاميًّا دائمًا بالتحريف، ومن جهة أخرى قدمت برامج إعلامية معادية للإسلام وكتابات وأفكار متشددة ضد عموم المسلمين، مثل اعتبارهم غزاة ومستوطنين، والدعوة أحيانًا لطردهم من مصر أو حتى إبادتهم...كل هذا تقدمه قلة محدودة من النشطاء المسيحيين المتشددين، خصوصًا في المهجر.
 وفي السنوات الأخيرة كثرت حالات التحول بين أصحاب الديانتين، مسلمون يتحولون للمسيحية، ولكن بأعداد قليلة وسرًّا في الغالب، بينما يتحول للإسلام آلاف المسيحيين سنويًّا، كثرتهم من النساء، وأصبح اختفاء النساء المسيحيات ظاهرة مقلقة للغاية لعموم المسيحيين، مما دفع الكنيسة والمتعصبين منهم إلى إطلاق شائعات عن اختطاف المسلمين لنسائهم وأسلمتهم بالقوة، وهو أمر لم يثبت أبدًا ولم تشر إليه أيُّ مصادر جادة.
ومع تصاعد الاعتداءات وتراخي الدولة، أصبحت احتجاجات المسيحيين التي تنظمها الكنيسة ظاهرة في السنوات الأخيرة ضد أحداث القتل والاستيلاء على الممتلكات وأشكال الاضطهاد الأخرى، شاملة ما يعتبرونه خطف للسيدات وأسلمتهم بالقوة وهو موضوع يبدو حساسًا للغاية لدى المسيحيين، وتزداد هذه الاحتجاجات حدة وغضبًا باستمرار.
وأخيرًا صارت هناك فوبيا لدى الطرفين من الآخر: الأقلية تعتقد أنَّ الأغلبية المسلمة تعمل على القضاء عليها، وتفسر كل ما حولها تفسيرًا طائفيًّا، وتعتقد أنَّ الدولة تشجع المتطرفين المسلمين والعامة على إبادة المسيحيين، وتتوهم أنَّ كل اختفاء لفتاة مسيحية هو عملية خطف بغرض الأسلمة بالقوة، والأغلبية تشك في تكدس الكنائس والأديرة بالأسلحة، وأنه يجري تدريب الشباب المسيحي عسكريًّا تمهيدًا لمذبحة كبرى للمسلمين، رغم أنَّ كل دور العبادة تحت يد أمن الدولة، وكلها مكتظة بالمخبرين السريين، والكل يعتقد أنه مضطهد من الطرف الآخر، وأنه الأكثر تسامحًا ومحبة له. وتستغل بعض وسائل الإعلام، الخاصة خصوصًا، الموقف لصب الزيت على النار لزيادة عدد القراء والمشاهدين لتحقيق الأرباح، وربما لإرضاء جهات معينة في الداخل والخارج. بينما تقف قلة محدودة من العلمانيين من الطرفين عاجزة عن التأثير الفعال.
المشهد عبثي تمامًا والجماهير تعيش في غيبوبة وتستخدمها القيادات. هكذا تصاعد الاحتقان الطائفي، مما يهدد بحدوث مذابح متبادلة في المرحلة القادمة بين الطرفين ربما يتلوها رفع شعارات متطرفة من الجانبين. وقد بدأت بشائر ذلك بمذبحة في كنيسة ببغداد في 29 أكتوبر 2010 وتهديد تنظيم القاعدة للكنيسة المصرية([7]).
اختراق الوهابية للكنيسة المصرية:
تبنت الكنيسة وعموم المسيحيين المصريين على مدى التاريخ الحديث مطالب علمانية كطريق ملائم لتحررهم من التمييز الممارس ضدهم. إلا أنَّ نمو التيارات الدينية المتشددة قد شمل البعض منهم أيضًا، مثلما حدث في الجانب المسلم.
وراحت الوهابية تنتقل إلى الفكر المسيحي المصري مثلما توغلت في الفكر الإسلامي على أيدي جماعة حسن البنا.
وقد تكونت منظمة مسيحية متشددة في 1952 تسمى جماعة الأمة القبطية كان شعارها: الإنجيل دستورنا والموت في سبيل المسيح أسمى أمانينا - الله ملكنا ومصر بلادنا والعنخ علامتنا والشهادة في سبيل الرب غايتنا([8]) (العنخ هو علامة من علامات الكتابة الهيروغليفية تعني الحياة أو مفتاح الحياة)، وهذا الشعار يشبه شعار جماعة حسن البنا: الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا. وهي التي ابتكرت مفهوم الأمة القبطية لتجاوز الحدود التقليدية للكنيسة الأرثوذكسية. وكان ضمن أهدافها تعليم تاريخ الكنيسة واللغة القبطية وإحلالها محل اللغات الأخرى والتمسك بعادات وتقاليد الأمة القبطية و نشر تعاليم الكتاب المقدس والتمسك بجميع أحكامه، كما رأت أنه على المسيحيين أنْ يحصلوا على ما تعتبره حقوقهم بالقوة، ومارست نشاطًا اجتماعيًّا واستخدمت العنف، وهيَ التي اختطفت الأب يوساب بطريرك المسيحيين الأرثوذكس في 1954، فسبقت اختطاف جماعة "التكفير والهجرة" للشيخ الذهبي فيما بعد. وقد حلت السلطة الناصرية هذه الجماعة ونكلت بها. ورغم تشابه الشعارات لا يمكن مقارنة هذه الجماعة بجماعة حسن البنا لا من حيث الحجم ولا من حيث التأثير والاستمرارية.
وفي الأعوام الأخيرة راحت الكنيسة ورجالها يتمثلون مفاهيم وأفكار ومصطلحات إسلامية تدل على اتجاه الكنيسة نحو التشدد الديني، مثل تعبير "الشريعة المسيحية" وهو تعبير يتشبه بتعبير "الشريعة الإسلامية" بينما لا يوجد في الواقع شريعة مسيحية بالمعنى الإسلامي للفظ؛ وتحريم البابا شنودة لفن النحت وصناعة التماثيل([9])، وتحريمه تداول وتجارة الخمر ونقله، نظرًا لأنه من المسكرات حسب تعبيره([10])، واعتباره أنَّ كل ما يتعلق بالخمر المُسكر حرام، حتى أنَّ الخمر التي لا تسكر إذا أكثر الإنسان منها مُمكن أيضاً أنْ تضره وتكون مُسكراً، مشيراً إلى أنَّ الكتاب المُقدس يُفرق بين الخمر العادية والخمر المُسكر، وأنَّ هناك آيات كثيرة ضد الخمر([11])، كما أطلق الرجل الثاني في الكنيسة مرارًا اتهامات بتكفير ملل مسيحية غير أرثوذكسية وعلمانيين مسيحيين([12])، وراح البعض من العامة خصوصًا يستخدم تعبير "الموت من أجل المسيح" وهو يناقض جوهر العقيدة المسيحية القائل بموت المسيح من أجل الإنسان.
ومؤخرًا بدأت ظاهرة جديدة: محاولة قتل تاركي المسيحية وأزواجهم، و"الاستتابة" في الكنيسة أو الأديرة أو "الأماكن الأمينة". هذه بعض نتائج "الإحياء الديني" المسيحي، الذي هو ابن الكنيسة وفي نفس الوقت يشكل ضغطًا فعالًا عليها.
ويطالب بعض النشطاء من المسيحيين للكنيسة بحقوق تشبه "حقوق" الوهابيين في قمع المخالفين في العقيدة. فهذا محامي الكنيسة ومدعي النضال من أجل حقوق الإنسان شكر رجال الأمن على اعتقالهم كاميليا شحاتة وناشد البابا أنْ يرفع رواتب الكهنة ويمنع زوجاتهم من العمل، لأنَّ عمل زوجات الكهنة في رأيه من شأنه تعريضهن لزعزعة عقيدتهن، كما ارتفعت الأصوات التي تكفر الإنجيليين وبقية الطوائف المسيحية المخالفة للأرثوذكسية وتتهمهم بالعمالة للغرب، وظل الزواج بين الطوائف محرمًا من الناحية العملية.
تعترض الكنيسة بشدة على المادة الثانية من الدستور: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". وفي نفس الوقت ترفض القوانين الوضعية - التي يسميها البابا مستوردة - المخالفة للإنجيل وقد رأيناه يرفض بتأييد أغلبية رجال الكنيسة تطبيق حكم المحكمة الإدارية العليا بالسماح بالزواج للمسيحيين المطلقين، متعللًا بالكتاب المقدس، ومتجاوزًا لائحة 1938، بل ولم يترك الباب مفتوحًا لحل مشاكل عشرات الآلاف بالزواج المدني، بل نعته بالزنا([13]) وهدد بحرمان من يتزوج مدنيًّا خارج الكنيسة من العودة إليها([14])، مطالبًا بتطبيق الشريعة الإسلامية، في هذه الجزئية، التي تسمح لغير المسلمين بتطبيق شريعتهم في مسائل الأحوال الشخصية([15])، كما صرح أحد كبار الكهنة([16]): "إنَّ حكم المحكمة المذكور لا يتفق مع الشريعة الإسلامية ولا المسيحية"، هكذا نصب نفسه – دون أنْ يدري - مدافعًا عن الشريعة الإسلامية! بل استشهد البابا بآيات من القرآن: {لكم دينكم وليَ دين}، وهو ما فعله مرارًا من قبل. وقد تبنى موقف الكنيسة الرافض للحكم قطاع من الجمهور المسيحي الملتف حول البابا. وهذا تراجع صريح عن النزعة العلمانية التقليدية للمسيحيين المصريين؛ فقد أصبحت الكنيسة وأتباعها يريدون علمانية انتقائية؛ فيما يتعلق بما بينهم وبين الدولة والجمهور المسلم دون أنْ تمس حياتهم من الداخل، أيْ المطلوب هو العلمانية للآخرين فحسب، بينما تريد تطبيق الشريعة الإسلامية حين يكون هذا في صالح تسلط الكنيسة على أتباعها. وهيَ بالطبع رؤية طائفية وهيَ لا واقعية ولا عملية؛ فكيف ستقبل الأغلبية والدولة القائمة هذه الازدواجية وذلك التناقض؟
أصبح الموقف الآن: بدلًا من شعارات حرية الاعتقاد والزواج المدني ودعوة المسلمين لتبني العلمانية، أصبحت الكنيسة وأتباعها الكثيرون الملتفون حولها تطالب بالمساواة بالوهابيين، كما أنَّ أغلب الناشطين المسيحيين بدلًا من أنْ يكونوا دعاة لليبرالية والمساواة في الحقوق والواجبات (مثلما فعل يهود أوروبا من قبل) صاروا دعاة للطائفية، بل طرحت المظاهرات المسيحية المنظمة من قبل الكنيسة شعارات مثل :"الدستور هو الإنجيل وأيُّ حاجة غيره تغور"، "كل الطوائف المسيحية.. عايزين قوانين إنجيلية) وهو ما يذكرنا بفكرة "الحاكمية" التي يتبناها الإسلام السياسي. وفوق ذلك طالب رجال الكنيسة من الحكومة قمع المظاهرات المنددة بها.
ورغم الضعف البالغ للمؤسسة الكنيسة سياسيًّا صدرت في الآونة الأخيرة تصريحات مثيرة، مثل رفض تنفيذ حكم المحكمة في موضوع الزواج الثاني للمسيحيين المطلقين، ثم جاءت تصريحات الأنبا بيشويْ التي وصف المسلمين فيها بالضيوف على مصر.. إلخ([17])، وتصريحاته التي انتقد فيها القرآن([18])، دون أيِّ محاولة منه للتراجع أو الاعتذار لتهدئة المسلمين الغاضبين، وكل ما فعله البابا شنودة هو المراوغة؛ فقد راح يشكك في نية الصحافة التي نشرت كلام الأنبا بيشويْ واتهمها بتصعيد الأزمة، نافيًا علمه بما قال وعدم تصوره أنْ يقول هذا الكلام، مقدمًا اعتذارًا شكليًّا غير مباشر بنفي فكرة أنَّ المسلمين ضيوف في مصر ومعلنًا العكس؛ فالمسيحيون حسب قوله هم الضيوف على المسلمين لأنهم الأغلبية، وهو كلام أولًا طائفي النزعة؛ فمصر ليست طائفتين والمفترض أنَّ شعبها شعب واحد ينتمي لملل مختلفة وليس منهم ضيوف، ولكن البابا تكلم باسم المسيحيين المصريين ككل، محاولًا عدم إدانة بيشويْ بالزعم بسوء فهم كلامه، وثانيًا ديماجوجي؛ لا موضوعي وليس به أيُّ جدية. وبينما أدان مظاهرات المسلمين والتي سبته شخصيًّا صَّور مظاهرات الكنيسة كعمل بريء متناسيًا ما حدث من توجيه أقذع الألفاظ للدستور والقضاء في المظاهرات التي تلت حكم المحكمة الإدارية العليا سابق الذكر والتي نظمتها كنيسته([19]).
هذا المد الوهابي لفكر قادة الكنيسة يتمثل الإسلام المتشدد، مما يعني أنه جاء في مواجهته أساسًا. ولكن هل هذا هو السلاح المناسب للمسيحيين المصريين في مواجهة الاضطهاد؟ الواضح أنَّ الكنيسة ليست حذرة بما فيه الكفاية من إمكانية تصاعد المشاكل الطائفية، وتبدو ظاهريًّا على الأقل وكأنها تسعى إلى خلق معارك دموية سيخسر فيها طبعًا المسيحيون العاديون. ربما يراهن بعض رجالات الكنيسة على تدخل غربي قوى في حالة حدوث مذابح واسعة للمسيحيين، وهو مجرد تصور خيالي يقع فيه بعض مسيحيي المهجر الذين يحرضون الغرب وإسرائيل ضد عموم المصريين المسلمين، دون أي جدوى.
والواضح أنَّ مؤسسة الكنيسة تستفيد من مد مسيحي طائفي، ساهمت هيَ في خلقه، ولكنها لا تتحكم فيه تمامًا، وتضطر لأنْ تتعايش معه. تمامًا مثلما أطلق السادات المارد الإسلامي من القمقم وتعايش معه ونافسه في الشعارات، لينتهي الأمر إلى تكفيره ثم قتله. ويبدو أنَّ البابا مضطر حاليًّا، وبصرف النظر عن قناعته الشخصية، للظهور بمظهر التشدد، بوصفه زعيم الطائفة السياسي، بضغط الجمهور المسيحي نفسه. أما الضغط الخارجي فقد يكون ورقة مفيدة للكنيسة ولكن في حدود. كذلك يسعى البابا للسيطرة على حركة مسيحيي المهجر، لأنَّ مبدأه هو لا حركة خارج الكنيسة، وذلك دون نجاح كبير؛ فهؤلاء مستقلون لأنهم في بلاد لا يحكمها، ولها تقاليد أخرى.
ربما تتخيل قيادات الكنيسة أنَّ الغرب يمكن أنْ تقدم لها يد العون. ولذلك، ورغم أنها تؤيد النظام، تستعين بالغرب للضغط عليه من خلال أقباط الخارج، مما يزيد من كراهية المسلمين لها ولأتباعها بالتالي. وفي الوقت نفسه تقف الكنيسة معادية لما تعتبره تدخلًا أجنبيًّا في شئونها الخاصة، خصوصًا التبشير المسيحي، متمثلًا في نشر البروتستانتية وسط أتباعها، وهو أمر يثير خوف الباباوات الأرثوذكس بشدة([20])؛ فالتدخل الأجنبي مرحب به فقط إذا كان لصالح المشروع الطائفي وعلى حساب أيِّ شيء آخر؛ وهو تخلٍ صريح عن فكرة المواطنة وعن الانتماء للوطن، وبالتالي لن يحقق أيَّ مكاسب حقيقية للمسيحيين.
الدور السياسي الفعلي للكنيسة الأرثوذكسية:
يتحدث رجال الكنيسة الأرثوذكسية كما لو كانت هذه المؤسسة تشكل دولة للمسيحيين المصريين؛ فيتكلمون كممثلين لعموم المسيحيين سياسيًّا، بينما يقوم بعضهم بتكفير أقسام كبيرة منهم؛خاصة البروتستانت. فيعتبر بعض كبار رجال الكنيسة المتشددين أنَّ هناك شئونًا غير دينية خاصة بالمسيحيين لا يجوز لغيرهم تناولها، وأنَّ الكنيسة فوق القانون، وأنَّ البابا خط أحمر، ويطالبون المسيحيين بتأييد مبارك وابنه.. إلخ.
وفي مقابل حماية الدولة، لا توجه الكنيسة جزءًا من اهتماماتها السياسية أبدًا إلى قضايا مثل تزوير الانتخابات أو التعذيب، أو قانون الطوارئ، أو أيِّ انتهاك من قبل الدولة لحقوق الإنسان، أو ظاهرة الفساد وتحلل المجتمع المصري، وتكتفي بتحقيق امتيازات طائفية للمسيحيين فقط، ويسير مسيحيو المهجر على النحو نفسه. ويسعفنا هنا المقارنة بين كنيستنا والكنيسة الكاثوليكية في دول في أمريكا اللاتينية والتي تحالفت مع الحركات اليسارية ضد الحكومات القمعية هناك، مسترشدة بما أسمته لاهوت التحرير([21]).
وتبدو الكنيسة في السنوات الأخيرة ظاهريًّا كدولة دينية مسيحية داخل الدولة. ولكن هذا هو ظاهر الأمور فحسب. فقد أوكلت الدولة للكنيسة التصرف في الأمور الشخصية للمسيحيين طبقًا لتعليمات الديانة المسيحية، وذلك الحق تمنحه قواعد الشريعة الإسلامية التي أقر بها الدستور؛ فهيَ تمارس سلطة بتوكيل من الدولة أو في حدود ما يسمح به الدستور. وقد ألغى البابا شنودة لائحة 1938 الخاصة بالأحوال الشخصية للمسيحيين فيما يتعلق بالزواج والطلاق، دون تدخل أو اعتراض من الدولة، ثم أصر على رفض حكم المحكمة بخصوص الزواج الثاني، متعللًا بالكتاب المقدس، ووافقته الدولة أيضًا – عمليًّا - مقررة حل المشكلة بإصدار قانون موحد للزواج للطوائف المسيحية([22]). هذه الحقوق الممنوحة للكنيسة لم تغير وضعها القانوني كمؤسسة خاضعة في النهاية لسلطان الدولة؛ فللأخيرة الحق حتى في عزل وسجن البابا. وعمليًّا لم تستطع الكنيسة الأرثوذكسية ممارسة دور الدولة لأتباعها؛ فلم تستطع انتزاع مكاسب حقيقية لهم؛ فحتى الآن لا تستطيع بناء كنيسة بدون مشاكل وأحيانًا مذبحة ما، بل لا تستطيع حماية رعاياها من سب دينهم والدعاء عليهم في المساجد، بل ومن تعرضهم لأشكال عديدة من التمييز، بل ومن المذابح التي تحدث من حين لآخر، ولم تستطع حتى إجبار الدولة على معاقبة المعتدين عليهم حسب القانون في معظم الحالات. بالعكس، تقوم قوة الكنيسة حاليًّا على قدرتها على قهر رعاياها دينيًّا، وبصفة خاصة فيما يتعلق بمسألة الطلاق والزواج. كما أنها تربط خدماتها بالصلة المنتظمة بالكنيسة واضطرار معظم الرعايا لقبول شروط الكنيسة، بل الدفاع عنها، وهذا دال في حد ذاته على النزعة الطائفية القوية من جانب، وعلى قيامها على القهر من جانب، مثلها مثل أيِّ منظمة تقوم على هوية ثقافية. ربما لذلك تلجأ إلى تضخيم المكاسب الوهمية مثل احتجاز بعض المسيحيات المتحولات للإسلام، وتقديم خدمات صحية بسعر منخفض، وخدمات أخرى تشبه ما تقدمه المنظمات الإسلامية، لزيادة نفوذها على أتباعها. كما تحاول أنْ تبدو كدولة عن طريق تصرفات تدل فعليًّا على التحول إلى لوبي خاص: إجراء تعداد لعدد المسيحيين – الاهتمام بأنْ يحصل المسيحيون على بطاقة انتخابية في بعض الدوائر لتكوين كتلة انتخابية مؤثرة - توسع الأديرة بالاستيلاء على أرض الدولة بنظام وضع اليد - ممارسة دور القضاء في بعض المشاكل بين رواد الكنيسة - دعم بعض المرشحين للمجلس التشريعي وحشد المؤيدين من رواد الكنيسة.. إلخ.
وهيَ تظهر كأنها دولة داخل الدولة، ولكنها في الحقيقة مجرد مؤسسة متحالفة – في النهاية – مع الدولة الرسمية، ليست جزءًا من جهاز الدولة وليست أحد مرافقها، مثل كل المؤسسات الدينية في مصر المعاصرة، ومؤسسات الإعلام الخاصة، والأحزاب المسماة بالمعارضة، وغالبية الجمعيات الحقوقية. وهيَ لا تحمي المسيحيين، بل تقمعهم لصالح النظام أساسًا، مقابل فتات يحصل عليها رجال الكهنوت في صورة وظائف دينية وسلطة معرفية وأموال؛ تشمل تبرعات ونذور ودعم أقباط المهجر. فرغم أنَّ عصر مبارك هو أكثر عصور الاضطهاد الطائفي لمسيحيي مصر في التاريخ الحديث، باستثناء أثريائهم، فالكنيسة تؤيده، وتؤيد مشروع توريث ابنه للسلطة، وتجر وراءها كثيرًا من أتباعها. وفي هذه النقطة بالذات يظهر تواطؤ رجال الكنيسة مع النظام، فيخيفون المسيحيين من الإخوان، بالضبط مثلما تفعل الدولة مع البلدان الغربية، لدفعهم لتأييد نظام مبارك باعتباره بديلًا أفضل. رغم أنَّ غالبية الإخوان والتيار المسيطر في الجماعة غير راغب ولا هيَ قادرة على استلام السلطة([23]) ولا هم قادرين ولا راغبين في ممارسة مزيد من الاضطهاد الطائفي. بل من الواضح أنَّ مجرد انطلاق إشاعة عن استلامهم للحكم – فرضًا – سيؤدي إلى انهيار النظام والمجتمع كله في أيام. والمؤكد أنَّ تأييد الكنيسة لعائلة مبارك وللتوريث يزيد الفتنة الطائفية اشتعالًا لأنه يمثل تحديًّا لجموع الشعب المصري الرافض للنظام. في الواقع منحت الدولة للكنيسة دور تمثيل المسيحيين سياسيًّا ليس رغمًا عنها، بل لتفتيت المعارضة الشعبية، ولضمان وضع نسبة من السكان في حظيرة النظام.
وإذا كان الأمن يعتقل ويعذب ويقتل أعداءه، فيمكن مواجهة ذلك بالطرق القانونية المختلفة، أما حين تمارس الكنيسة نشاطًا بوليسيًّا وتحت حماية الدولة فمن يواجهها وكيف؟ فهيَ سلطة أشد جبروتًا من جهاز الأمن لأنها غير مقننة، ولذلك تشكل هذه الظاهرة تراجعًا خطيرًا عن نظام الدولة الحديثة، ولأنَّ السلطات الرسمية تحميها يجد المعارضون لسياستها من المسلمين والمسيحيين صعوبة في مواجهتها؛ فيلجأ المسلمون للمظاهرات الغاضبة والتي لا تجدي شيئا، بينما يتزايد عدد المسيحيين الذين يتخلون عن العقيدة المسيحية متحولين للإسلام، والبعض من الأرثوذكسية يتحولون للبروتستانتية.
مشكلة كاميليا تفجر المشهد الطائفي :
جاءت حادثة كاميليا شحاتة لتفجر المشهد الطائفي والذي صار يقف على مفترق طرق:
تركت المواطنة كاميليا شحاتة، وهيَ زوجة كاهن منزلها واختفت، فقامت الكنيسة بتنظيم مظاهرات كبيرة تطالب الأمن بالبحث عنها على أساس أنها قد خطفت من قبل بعض المسلمين لأسلمتها. وبعد أيام اعتقلتها مباحث أمن الدولة وسلمتها للكنيسة التي تتحفظ عليها في مكان ما، ثم صدرت من الكنيسة تصريحات مثيرة؛ فُنسب إلى الأنبا أغابيوس القول بأنَّ كاميليا تخضع للتأهيل النفسي لـ"غسل مخها المغسول"([24]) وصرحت قيادات كنسية أخرى أنَّ حالتها الصحية شبه ميئوس منها([25])، وأعلن البابا شنودة أنه لن يسمح بظهورها حتى لو حدثت مظاهرة كل يوم، ولن يرضخ لضغوط أحد([26])، وصرح مصدر كنسي أنها شأن كنسي خالص وليس لأحد الحق أنْ يراها([27])، وصرح أحد مسؤولي الكنيسة بأنَّ "مشكلة كاميليا أزمة مركبة واتخاذ قرار في شأنها أمر معقد ويحتاج لحسابات متعددة"([28])، دون أنْ يشرح لماذا هي كذلك.
انطلقت بعد أيام شائعات بأنَّ السيدة قد أرادت أنْ تعلن إسلامها وأنَّ الأزهر رفض استقبالها، ويبدو من سياق الأحداث أنَّ هذا هو ما حدث فعلًا، فلا يوجد مبرر آخر لاحتجاز الكنيسة لهذه المواطنة و"غسل مخها". وعلى أثر نشر هذه المعلومات تحرك بعض المسلمين وراء قيادات إسلامية سلفية في مظاهرات متكررة من أجل الإفراج عن كاميليا، بحجة أنها مسلمة وليست مواطنة مصرية، بل نادى البعض بمقاطعة المسيحيين اقتصاديًّا، وكأنَّ كل المسيحيين مشاركون في الجريمة، بينما كثير منهم ضد الكنيسة في هذا الموضوع.
وراح بعض المسيحيين يدافع عن موقف الكنيسة واعتقال كاميليا بعد أنْ كانوا يطالبون بحرية الاعتقاد، أيْ من وجهة نظرهم حق المسلمين في التحول للمسيحية. وإزاء صعوبة ذلك راحوا يتقبلون قيام الكنيسة بقمع المتحولين للإسلام، أسوة بقمع المجتمع المسلم للمسلمين المتحولين للمسيحية: المساواة في "الظلم" وليس في "العدل". أما الكنيسة فتلجأ لاعتقال زوجات الكهنة – بمساعدة جهاز أمن الدولة - درءا لما قد تعتبره فضيحة تحولهن للإسلام، عكس إسلام بقية النساء وهو موقف تمييزي.
وقد وجدت الدولة والكنيسة نفسيهما في مأزق خطير بعد المظاهرات واحتجاجات بعض المسلمين. ولمعالجة الفضيحة صرحت الدولة أنَّ السيدة تركت بيتها بسبب خلافات زوجية، كما أنكرت الكنيسة إسلامها، ثم نشر شريط فيديو مجهول المصدر للسيدة وربما لشخصية تشبهها (؟) تنكر فيه إسلامها، ثم جاءت معركة تبدو مصطنعة بين الأنبا بيشويْ ومحمد سليم العوا حول القرآن والعلاقة بين المسلمين والمسيحيين.. وقد قال العوا على قناة الجزيرة أشياء كثيرة تتضمن أكاذيب صريحة لا تليق بشخص في مناصبه المهمة؛ منها اكتظاظ الكنائس بالأسلحة، وجلب أسلحة من إسرائيل للكنيسة، ولكنه أنكر إسلام كاميليا، وأنكر أنَّ الأمن قد سلمها للكنيسة، ثم جاء على قناة دريم 2 ورفض ذكر مصادره، وهو ما يثير الشك في نيته، والظاهر أنَّ هذا هو هدفه الأساسي من معركته مع بيشويْ، كمساهمة في تهدئة الرأي العام المسلم. ومؤخرًا نشر الصحفي عادل حمودة قصة وفاء قسطنطين وكاميليا بطريقة تبرئ الكنيسة تمامًا([29])، مناقضًا لكل تصريحات رجال الكنيسة أنفسهم، والتي اعترفوا فيها باحتجاز وفاء، وكاميليا وبأنَّ أمرها شأن كنسي... إلخ.
رغم الصخب الشديد الذي ترتب على ظهور مشكلة كاميليا تتعمد الكنيسة الغموض فيما يبدو، على أمل أنْ يُنسى الأمر كله، وهذا يعكس ضعف موقفها؛ فبأيِّ حق تحتجز مواطنة سواء اختلفت مع زوجها أو غيرت عقيدتها أو لأيِّ سبب آخر؟ أما غموض الدولة فليس إلا مجاملة للكنيسة، التي تستمر في تأييد عائلة مبارك وتدعو أتباعها لانتخابها، وربما لاستمرار سخونة الموقف لإشغال الناس عن أمور أخرى مثل انتخابات مجلس الشعب.
 كذلك كشفت مشكلة السيدة كاميليا حدود المنظمات الحقوقية، ودعاة حقوق الإنسان والمرأة في الداخل والخارج، وأحزاب المعارضة والمنظمات الديموقراطية، والجمعية الوطنية للتغيير، وأنصار البرادعي، وبقية دعاة التغيير ومرشحي الرئاسة. وكان الفضل في ذلك للمتظاهرين المسلمين، الطائفيين للأسف. فأين هذه المنظمات من أزمة كادت تعصف بالمجتمع كله؟ الغريب أنَّ أغلب المنظمات الحقوقية العلمانية شبه صامتة صمتًا يصعب تبريره. وقد اتصلت (الكاتب) بنفسي بالمنظمة المصرية لحقوق الإنسان وبـ HRW بخصوص موضوع كاميليا دون أيِّ رد فعل! وقد اقتصر موقف مؤسسات المجتمع المدني عمومًا على إصدار قليل من البيانات أو بلاغات للنائب العام، تتميز بالحذر من تبني المشكلة مثلما حدث في مشاكل أخرى، مثل حادث مقتل خالد سعيد، مثلًا فأدان المدير التنفيذي للمبادرة المصرية لحقوق الإنسان تصرف الحكومة، كما ذهب مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان مدى أبعد،  فوصف اختفاء السيدة بأنه اختطاف من قبل الكنيسة وألقى باللوم على الحكومة لسماحها للكنيسة بالقيام بدور الدولة. كما طالبت جماعة "مصريون ضد التمييز الديني" النائب العام بالتحقيق في مزاعم خطف أجهزة أمن الدولة للمواطنة كاميليا شحاتة وتسليمها لقيادات كنسية للتحفظ عليها واحتجازها دون رغبة منها في مكان غير معلوم، وإعلان جميع الحقائق على الشعب، و محاكمة كل من يثبت مشاركته في تضليل الجماهير ونشر الشائعات والتحريض على الكراهية، بما يهدد أمن الوطن وسلامته، على ألا يستثنى من ذلك أي شخص، سواء قيادات دينية إسلامية أو مسيحية، أو إعلاميون في الصحف والفضائيات. وقد جاءت أغلب هذه المواقف متأخرة وبعد تصاعد المظاهرات الطائفية للمسلمين، ولم تقم المنظمات المذكرة بعمل أيِّ وقفات احتجاجية أو مظاهرات بينما فعلت ذلك في مناسبات أقل أهمية.
ولم يكن الموقف الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين شاذًّا، بل ظلت تحلق داخل السرب؛ فهيَ صامتة تمامًا تقريبًا، مخالفة لمبادئها المعلنة، ومتضامنة – عمليًّا – مع الدولة والكنيسة، وقد تقدم برلماني إخواني بمجرد سؤال للحكومة عن موقف وفاء قسطنطين وكاميليا، وربما شارك بعض أفراد الجماعة متطوعين في الوقفات الاحتجاجية.
والظاهر أنَّ المنظمات الديموقراطية تجد حساسية من الدخول في مواجهة مع الكنيسة، وهذا اعتراف ضمني بتمثيل الكنيسة للمسيحيين المضطهدين، واعتبارها تناضل لتحريرهم، ومن المحتمل أنها تتحاشى غضب مسيحيي المهجر وحساسية مسيحيي الداخل. وتتحاشى جماعة الإخوان الصدام مع الباباوات لتقليل عدد أعدائها ولتفادي عداء جمهور المسيحيين الملتف حول الكنيسة.
كذلك لم نسمع أنَّ البرلمان الأوربي، ولا الخارجية الأمريكية، ولا الكونجرس الأمريكي، أو غيرهما من مؤسسات الغرب "الديموقراطية"، أصدرت بيانات تدين الحكومة المصرية أو الكنيسة مثلما حدث في قضايا أقل تأثيرًا في الرأي العام؛ قضية سعد الدين ابراهيم مثلًا.
ورغم كل شيء حفزت حادثة كاميليا فكرة حرية الاعتقاد بين بعض المسلمين؛ فرغم المظاهرات الطائفية للسلفيين المسلمين وتصاعد النعرة الطائفية، ظهرت اتجاهات من بين المسلمين، ومنهم رجال دين، تنادي بحرية الاعتقاد لكل المواطنين،  وبدأ الإعلام يتناول "حكم الردة" في الفقه الإسلامي المتشدد بالنقد.
كما ارتفعت أصوات ناشطين مسيحيين مناهضة للكنيسة بالنقد الحاد لمواقف الأخيرة وسياستها الطائفية التي تشكل خطرًا على الجمهور المسيحي الذي تزعم أنها تحميه. فقد نظم عدد منهم تجمعاً على فيس بوك للمطالبة بمحاكمة الأنبا بيشويْ؛ فيما أعلنوا نيتهم تنظيم محاكمة رمزية له في باحة الكاتدرائية عقب عظة البابا. واتهموه بدفع إشعال نيران الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، مطالبين البابا بعزله من منصبه كسكرتير عام للمجمع المقدس، ومن جميع رتبه الكهنوتية وإعادته إلى الدير.
وتأتي أهمية موضوع كاميليا أنه أعاد إلى الأذهان حادثًا كان يبدو فرديًّا ولن يتكرر، وهو تحفظ الكنيسة على المواطنة وفاء قسطنطين منذ 2005، ولكن مع تكرار السيناريو أصبح واضحًا أنَّ هذه ستكون سياسة الدولة والكنيسة مع زوجات الكهنة، مما استفز الكثيرين من الطائفيين وغيرهم. وهذه السياسة فجرت قضية الدور السياسي للكنيسة. وقد كان تصرف الكنيسة في هذه القضية قصير النظر ومستفزًّا لقطاعات واسعة تشمل كثيرًا من المسيحيين العاديين، خصوصًا أنه تضمن تمييزًا بين زوجات الكهنة وبقية المسيحيات، كما كان مناقضًا لمطلب حرية الاعتقاد الحيوي للغاية لدى عموم الأقليات الدينية في مصر؛ فكان من الغريب أنْ ترفع الكنيسة مبدءًا ثم تنقضه بهذه الطريقة الفجة. أما موقف الدولة فكان أكثر استفزازًا، لأنها هيَ التي خلقت هذا المشهد الدرامي، وبدت وكأنها تتعامل مع الكنيسة كدولة مستقلة. وجاءت الواقعة مصحوبة بتصريحات مستفزة من جانب الكنيسة ومهددة ضمنيًّا للمسلمين، لتثير الجماهير التي لم تنته بعد من قضية قتل خالد سعيد وغيره على أيدي الشرطة، والتي عانت مؤخرًا من ارتفاع غير مسبوق في الأسعار، ومواقف مستفزة من جانب الدولة، مثل حكم قضية "مدينتي" ثم الالتفاف حول الحكم، وتخفيف الحكم على هشام طلعت مصطفى بدون مبرر مقنع، والقمع العنيف للناشطين السياسيين، خصوصًا من الإخوان المسلمين، وحادث سرقة لوحة زهرة الخشخاش وإفلات وزير الثقافة من المسؤولية كالعادة، والحرائق المتوالية في عدد من المؤسسات الهامة. وبينما سلم الأمن كاميليا للكنيسة أغلقت الحكومة قنوات فضائية إسلامية، وألغت برنامجًا يكشف عن فضائحها، وتآمرت للقضاء على صحيفة الدستور. كل هذه التعبئة أدت لاستمرار موجة الاحتجاج ضد الكنيسة وتصاعدها؛ فلقد فاض الكيل بالجماهير، ومن المحتمل ألا تقف الموجة عند قضية كاميليا، بل قد تمتد لقضايا أخرى أكثر حيوية، وعلى رأسها نظام الحكم نفسه.
إنَّ شبح انتفاضة 18 يناير 1977 يبدو في الأفق.
موقف السلطة الرسمية :
تستطيع الدولة أنْ تقضي على "الفتنة". فمن السهل أنْ يُطبق القانون على الجميع وأنْ يطبق الدستور الذي ينص على حرية الاعتقاد على جميع المواطنين، ومن السهل إنهاء المشكلة الكبرى المزمنة للكنيسة: قانون موحد لبناء دور العبادة، مناقشته مؤجلة منذ سنوات، ولن تحدث مضاعفات مهمة إذا تم تنحية الموضوعات الدينية من كتب اللغة العربية في المدارس. ولكن النخبة لا تملك تصورًا ولا إرادة حقيقية لحل المشكلة؛ فهيَ تتكون من كتل متناحرة ومهتمة أكثر بتحقيق مصالح ضيقة، والأهم أنها تفتقد لمشروع تحديثي حقيقي. فالطبقة الحاكمة تتكون أساسًا من رجال أعمال فاسدين وتتحالف النخبة السياسية الحاكمة معهم، كما صار جهاز الدولة بسلطاته الثلاث وكل أجهزته أداة في أيدي هذا التحالف؛ فالدولة كثيرًا ما تحمي الفساد وتقننه، بكل الأساليب: تفصيل قوانين، أحكام قضائية غير قانونية، وتواجه بعض عناصره من حين لآخر، وتلتزم بالدستور أحيانًا وتخالفه كثيرًا، ولاتنفذ أحكام القضاء الغير ملائمة لمصالح النخبة الحاكمة، وتستخدم بعض البلطجية كرديف للشرطة، وفي الوقت نفسه تقبض على كثير منهم وتسجنهم وتعذبهم بقسوة..إلخ. ولهذا كله تعجز الدولة عن اتخاذ إجراءات جذرية لمواجهة مشاكل البلاد؛ فهيَ تلعب بكل المتناقضات لصالح الطبقة المسيطرة؛ فتضرب وتتحالف في نفس الوقت أو تترك الساحة جزئيًّا لكافة قوى المجتمع الفاعلة، ويأتي استخدام الصراع الطائفي لامتصاص طاقة الناس في ضرب بعضهم البعض لإفساح المجال أمام النخبة لممارسة نشاطها في هدوء، وتقسيم المكاسب فيما بين أفرادها بعيدًا عن الاحتجاجات الشعبية. ومن الجدير بالملاحظة أنَّ النخبة المسيطرة تشمل عددًا لابأس به من رجال الأعمال المسيحيين بالغي الثراء، ويملكون نسبة لا بأس بها من الاقتصاد، والمندمجين قلبًا وقالبًا مع رجال الأعمال المسلمين، وتربطهم مصالح مشتركة معًا. ولأنَّ الصدامات الطائفية – رغم فوائدها للنظام - قد تسبب له أضرارًا منها مس سمعته في الخارج والداخل، يحاول الأخير وضعها تحت السيطرة دون أنْ يستطيع أو يحاول جديًّا في التصدي لأسبابها المعروفة جيدًا.
أما رجال الكنيسة فأهم ما يعنيهم هو المحافظة على سلطتهم وامتيازاتهم. والواقع أنَّ كبارهم أصبحوا أغنياء، ومنهم حتى رهبان. وهذا يتطلب منهم المحافظة على ما يعتبرونه وطنهم؛ الكنيسة الأرثوذكسية نفسها، ولكنهم عاجزون عن هذا رغم جهودهم؛ فقد بلغ مثلًا عدد المتحولين إلى الإسلام سنويًّا أرقامًا ضخمة، قدرت بـ 5 و 10 آلاف سنويًّا وقدرها البابا مكسيموس، المنشق على كنيسة البابا شنودة بـ 50 ألف شخص([30])، بخلاف المتحولين لملل مسيحية أخرى، خاصة البروتستانتية([31]). فقدرة الكنيسة على المحافظة على "شعبها" تضعف بسبب قمعها لهذا الشعب وتشددها، مثلما الحال في موضوع الطلاق والزواج الثاني على سبيل المثال.
في الواقع مازالت الدولة تحاول السيطرة على الموقف: تستغل الإسلاميين لإرهاب الغرب والمسيحيين والعلمانيين، وتترك لقادتهم قدرًا من النفوذ ووهم القوة، وتستغل الكنيسة للسيطرة على عامة المسيحيين، بينما تترك لرجالات الكنيسة بعض المكاسب لقاء هذه المهمة، وتستخدم الصراعات الطائفية لامتصاص بعض الغضب الشعبي من سياساتها. ولكن هل ينقلب السحر على الساحر؟
 دعوة:
ليس هناك أيُّ مفر من تعايش أصحاب كل الأديان في مصر، والبديل الوحيد للتعايش هو المعارك الطائفية التي يخسر فيها الجمهور العادي أكثر مما قد تخسر الطبقة المسيطرة وأعوانها من نخب مختلفة ورجال دين وإعلاميين، بل ربما يكسبون. وبناء على القراءة السابقة للواقع المصري لا يمكن توقع أنْ تقوم الدولة المصرية بحل المشكلة الطائفية من تلقاء نفسها.
إذا أراد مسيحيو مصر أنْ يتحرروا من الاضطهاد الديني فعلًا فليس أمامهم إلا الانخراط في الحركات الديموقراطية بصفتهم مواطنين مصريين وليس مواطنين تابعين للبابا، ومن المهم أنْ يتحرروا من سلطان الكنيسة نفسها ومن سلطة الكهنة وخداعهم، وأنْ يتبنوا مع بقية السكان مطالب وطنية عامة على رأسها تغيير النظام القائم، وإعادة توزيع الثروة الوطنية، والتنمية والتحديث الحقيقي شاملًا العلمنة، خصوصًا أنَّ هناك أصواتًا من المسلمين تنادي بنفس الشيء، وكثير من المسلمين ليسوا معادين لهم.
من الصعب مطالبة الآخرين بالعلمانية دون أنْ يتبناها من يطالب بها. وليس من المتصور أنْ تعلو أصوات المنادين بالتخلص من المسلمين، وهو مستحيل حسب موازين القوى، دون رد فعل عنيف من جانب الأخيرين خصوصًا مع وجود جو التعصب والتحفز الحالي. كما أنَّ تأييد النظام الفاسد المكروه من مجمل الشعب المصري يضع المؤيدين في معسكر الأعداء.
من الطبيعي جدًّا أنْ يكون الطرف المضطهد والضعيف أكثر اهتمامًا بحل مشكلته، أما التقوقع والانعزال عن المجتمع فيزيد المشكلة ويحفز التعصب لدى الطرفين. وليس من المتصور أنْ يتحرر المسيحيون من التمييز والاضطهاد ما لم يتحركوا من أجل الصالح العام للشعب المصري ككل، وأنْ يتبوءوا مركز القيادة في العلمنة والتي لا تقتصر على تجاوز الطائفية وإنهاء اضطهاد المسيحيين.
وسيستطيع المنادون بالديموقراطية وحقوق الإنسان أنْ يثبتوا وجودهم ويحققوا أهدافهم فقط حين يتخلصوا من علاقتهم بالدولة والمؤسسات الغربية المانحة؛ فمن المستحيل أنْ يستطيع مفكرون وأدباء وليبراليون حكوميون يعملون في مؤسسات تابعة لدولة مستبدة ويسعون للترقيات والمنح الحكومية، أو في منظمات تعيش على دعم مؤسسات غربية أغلبها مسيسة الدخول في مواجهة حاسمة مع أصحاب الفكر الديني المتعصب وقوى التخلف. وحين يتحررون من هذا وذاك سيصبحون أكثر قدرة على ذلك.




([1]) سليم نجيب، أوضاع الأقباط قبل وبعد ثورة يوليو 1952،

 http://www. ahewar. org/debat/show. art. asp?aid=8257

([2]) وذكر البابا شنودة أنَّ هناك أحداثًا عنف غير معلنة.
([4]) على سبيل المثال كانت الخارجية المصرية هيَ أول من أثار مسألة الرسوم المسيئة لنبي الإسلام بينما لم يعر الإخوان المسلمون الأمر أهمية تذكر، وتركز الدولة على التعليم الديني كمادة أساسية وتقدم مادة دراسية محافظة للغاية بل متشددة.
([5]) بخصوص هذا الحادث رفضت محكمة النقض طعن النيابة العامة على الحكم بحبس 4 متهمين وبراءة 92 متهما، وقالت المحكمة في حيثيات حكمها أنها حكمت بالبراءة على المتهمين بسبب تناقض أقوال الشهود مع المجني عليهم، وعدم تطابق الأقوال مع الأدلة المقدمة في الدعوى فضلًا عن شيوع الاتهام، فضلًا عن عدم جدية تحريات الشرطة وعدم الدقة في تقدير الخسائر التي لحقت بالممتلكات والمبالغة فيها، وعدم ضبط أيٍّ من المتهمين حال ارتكابهم جرائم القتل، وبناء الاتهامات على مجرد الظن والاحتمال، واستبعاد أعداد كبيرة من المتهمين اثناء التحقيقات لعدم اطمئنان النيابة لارتكابهم هذه الجرائم. وأشار رئيس المحكمة الى أنَّ رجال الشرطة أدوا واجبهم، لكنه لفت الى تقاعس بعض رجال الدين عن التدخل والقيام بدورهم مما أدى الى اشتعال الموقف وتفجر الأحداث الدامية،
([6]) منها مقال: الوحدة الوطنية ليست بالسرقة العلمية،
([7]) نشر ذلك في عدد من الصحف ووسائل الإعلام الأخرى بتاريخ 1 نوفمبر 2010، منها: http://youm7. com/News. asp?NewsID=298591
([8]) عزت أندراوس، جماعة الأمة القبطية وأمل الشباب القبطي لمستقبل أفضل للأقباط عن طريق خلط السياسة بالدين، http://www. coptichistory. org/new_page_441. htm

([9]) سعد هجرس، وهابيون.. حتى في الكنيسة القبطية، http://www. ahewar. org/debat/show. art. asp?aid=170034

([11]) نقلًا عن صحيفة اليوم السابع،
([15]) استشهد البابا في هذا الصدد بقرارات صادرة عن المؤتمر الإسلامي المنعقد في القاهرة عام 1971 وبالخط الهيمايوني  للتأكيد علي أحقية المسيحيين في الاحتكام الي الشريعة المسيحية، كما استشهد بالشريعة الإسلامية نفسها في إقرارها لحق المسيحيين للاحتكام الي شريعتهم فيما يتعلق بأحوال الزواج والطلاق.
([16]) القمص عبد المسيح أستاذ اللاهوت الدفاعي وكاهن كنيسة العذراء بمسطرد.
([17]) حوار مع صحيفة المصري اليوم، http://www.almasry-alyoum.com/article2. aspx?ArticleID=269653&IssueID=1894.
([19]) صرح بيشوي لصحيفة الشروق: "البابا لم يطلب منى أنْ أفعل شيئا على الإطلاق ولم يضغط علىّ، ووافق فقط على أنْ أصدر بيانًا اقترحه علىّ أحد الصحفيين الأقباط لتوضيح موقفي"،
 ([20])كثيرًا ما اتهم رجال الكنيسة الأرثوذكسية الغرب بتمويل ما يعتبرونه مؤامرة نشر البروتستانتية في مصر خصوصًا بين أتباعهم، فهذا كمثال الأنبا موسى، أسقف الشباب بالكنيسة الأرثوذكسية، يتهم مدارس السلام الأمريكية بالضلوع فيما أسماه المؤامرة الإنجيلية للتبشير بالبروتستانتية بين الأرثوذوكس المصريين وتحدث عما أسماه بمخطط إنجيلي... وهو يذكرنا بخطاب الحكومة حين تقرر تشويه معارضيها. http://www. coptreal. com/WShowSubject. aspx?SID=25321
([21]) لاهوت التحرير،
http://ar.wikipedia. org/wiki/%D9%84%D8%A7%D9%87%D9%88%D8%AA_%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1
([22]) ضمن حيثيات حكم المحكمة الإدارية العليا: "إن قرار التصريح بالجواز والطلاق قرار إداري يخضع لرقابة القضاء الإداري.. فـالكنيسة الأرثوذكسية تقوم - بحسب الأصل - على رعاية الأقباط الأرثوذكس كافة، وهي في سبيل ذلك خول لها القانون السلطات اللازمة وتقديم الخدمات اللازمة لهم، وهذه المهمة من مهام الدولة ومن ثم فإنَّ ممارسة الكنيسة في هذا الخصوص إنما هو نشاط إداري دعت إليه اعتبارات الصالح العام، وتغدو القرارات الصادرة منها علي هذا النحو قرارات إدارية تتعلق بتنفيذ القوانين واللوائح، وتخضع لرقابة القضاء من حيث مدى مشروعيتها، ولذلك فإنَّ التصريح بالزواج ثانية كنسيًّا حسبما ورد النص عليه في المادة 69 من لائحة الأقباط الأرثوذكس الصادرة عام 1938 لا يعدو في حقيقته إلا أنْ يكون قراراً إداريًّا يخضع لرقابة القضاء الإداري".
([23]) اتفقت الجماعة مع الحكومة على ترشيح 150 شخصًا فقط في الانتخابات البرلمانية، وهذا ليس تصرف منظمة تخطط للاستيلاء على السلطة.
([24]) أعلن ذلك خلال تسجيل بثته قناة "الكرمة" القبطية فقال إنَّ كاميليا تخضع لتأهيل نفسي؛ لمداواة ما تعرّضت له من تأثير من أطراف مسلمة، وقال "هما عملوا لها غسيل مخ، وإحنا هنغسل المغسول"، نافيًا أنْ تكون قد أشهرت إسلامها. وقد نشر هذا التصريح في عديد من وسائل الإعلام ولم تنف الكنيسة هذا ولم تنكره وسائل الإعلام المسيحية ولا الأنبا أغابيوس نفسه.
([25]) تناقلت هذا مواقع الكترونية عديدة دون أيِّ نفي من جانب الكنيسة.
([28])
 http://www.almasryalyoum. com/news/%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%BA-%D9%84%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%A6%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%84%D8%A8-%D8%A8%D8%AA%D9%81%D8%AA%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%B9%D9%86-%C2%AB%D9%83%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A7%C2%BB
((آن في سياق الإصلاح وهو "أمر "
([29]) ليست فتنة طائفية وإنما محنة ديمقراطية،
([30]) حوار على قناة الجزيرة، برنامج بلا حدود، 11 مايو2008؛ فيديو منشور على:
([31]) ذكرت مصادر إعلامية عديدة خبرًا يقول بتحول الأنبا دانيال البراموسي ومعه أكثر من 10 آلاف أرثوذكسي إلى البروتستانتية عام 1994 ولكن لم نجد مصادر موثوقة لهذه المعلومة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق