الجمعة، 4 مايو 2012

نقد الثورة المصرية




نقد الثورة المصرية

 

 

عادل العمري

4-5-2012

 

 

نُشر هذا المقال في 4 ديسمبر 2011، ونعيد نشره الآن، بعد إضافة نقاط أخرى، وتعديل بعض الأفكار، وإضفاء مزيد من الضوء على بعض ما عرضناه في المرة السابقة

 

 


فهرس:

 

تمهيد

مقدمة

أولًا: تحليل سريع لوضع مصر العام:

1- النظام الاجتماعي - الاقتصادي

2- النظام السياسي

3 - الثقافة المصرية

4- الإنتليجينسيا المصرية

5- نظام التعليم والبحث العلمي

6- الوضع الطائفي

7- النتائج العامة لتحديث مصر والطابع العام للنظام

ثانيًا: تصدع النظام والصراع الاجتماعي – السياسي

ثالثا: ثورة 25 يناير- ديمقراطية صندوق الاقتراع

رابعًا: نظرة عامة على الموقف الحالي

خامسًا: دروس مستفادة

سادسًا: طبيعة التحول الاجتماعي الممكن في مصر

سابعًا: دور القوى الخارجية

ثامنًا: استنتاجات



 


تمهيد:

هذه محاولة لفهم مصر وثوراتها وإمكانياتها كمجتمع وآفاق. هذا المجتمع الشديد التعقيد والعراقة.

نقصد هنا بالنقد: التقييم وتحديد الإمكانيات والآفاق، وليس النقض، ولا إظهار نقاط الضعف، ولا تحديد "الأخطاء"؛ فهذا غير كاف. بل أزعم أنَّ قصورات الثورة و"أخطاءها" مرتبطة أشد الارتباط بطبيعة القوى المشاركة فيها، والوسط الذي جرت فيه أحداثها، وهذا لا ينفي وجود أخطاء بالمعنى الحرفي للكلمة؛ أيْ كان يمكن تداركها، من ذلك ما ارتكبه البعض من "القادة" و"الزعماء"، منهم من بالغ في تأييد العسكر إلى حد العمل في خدمتهم بحماس، ومن استمتع بالظهور في الفضائيات، متصورًا أنه بلغ النجاح المنشود، ومن تقلبت مواقفه بنفس الحدة والحماس والغرور من النقيض إلى النقيض، وخطأ اعتبار ميدان التحرير هو أرض الثورة المحررة وحق لها والمحافظة عليه هو محافظة عليها، والخطأ الذي مازال يتكرر من تسليم البلطجية للشرطة ليعودوا إلى الاعتداء على الثوار بعد ساعات أو أيام. كما بالغ ثوار الميادين في الإكثار من المظاهرات ومحاولات الصدام مع الجيش بدون حسابات المكسب والخسارة؛ مما تسبب في خسائر فادحة من قتلى ومصابين ومعتقلين، ومن انفضاض الجماهير من حولهم.

ورغم أنه لم يمر وقت طويل على اندلاع انتفاضة 25 يناير؛ وهو وقت غير كاف لتحديد النتائج والآثار، إلا أنَّ العقبات الجسيمة التي تواجهها العملية الثورية، وما يشبه الانتكاسات المتوالية، ونجاح النظام في استعادة عافيته، يدفع المرء إلى التساؤل: ماذا حدث ولماذا؟

وسوف نبدأ هنا بتناول الخلفية الاجتماعية – السياسية لمصر المعاصرة التي أدت لانتفاضة 25 يناير ومسارها العام حتى الآن، وإمكانيات التحول والآفاق الأكثر اتساقًا مع هذا وذاك.

 

***********************

مقدمة:

يقول واقع الأمور أنَّ أغلب الشعب المصري الآن يؤيد الثورة المضادة؛ فالملايين يؤيدون السلفيين والإخوان المسلمين، بالإضافة إلى مئات "المفكرين"، والإعلاميين، والدعاة، والكتاب الموالين للنظام، ويتفانون في خدمته؛ بل وهناك الكثير من المسيحيين يدورون في فلك الكنيسة الموالية للنظام المتهاوي. بينما يعيش معظم الفلاحين في الشمال والجنوب، والملايين من سكان المدن الصغيرة في عالمهم البعيد عن الحركة الثورية والسياسة بوجه عام. وتتضاءل القوى السياسية للثورة كل يوم، ولم يعد لميدان التحرير سحره السابق، كما أنَّ الغالبية العظمى من القوى السياسية تنخرط الآن في العملية الانتخابية التي ستعيد مشروعية النظام نفسه، بل وصار الكثيرون يؤيدون الفاشست الإسلاميين ضد العسكر؛ لمجرد أنَّ الطرف الثاني هو "النظام القديم" بينما الطرف الأول هو "النظام الجديد"- زعمًا.

 ومع ذلك تنضم باستمرار عناصر وقوى جديدة للحركة الاحتجاجية التي تتم من أسفل؛ فحركات تهدف إلى تطهير المؤسسات الحكومية مستمرة، والإضرابات التي تطالب بحقوق اجتماعية لأصحابها لا تتوقف. لكل هذا أرى أنه من الضروري الآن أنْ تقف القوى المؤيدة لتغيير النظام لتلتقط أنفاسها وتحدد موضع قدميها وتجيب على السؤال الأبدي: ما العمل؟

 

 

1-     النظام الاجتماعي - الاقتصادي:

قبيل حملة بونابرت دعا الشيخ حسن العطار لإدخال العلوم الحديثة بجانب العلوم الدينية، دون استجابة مجتمعية تذكر. وكانت هذه أول دعوة لتطوير مصر بعد أنْ خربها العثمانيون والمماليك.

وقد وضعت بذرة التحديث فعليًّا حملة نابليون بونابرت، حين بدأت تغرس فكرة الأمة المصرية، وأنشأت شبه حكومة مصرية تحت سيطرة بونابرت، وسنت قوانين وضعية، ودعت لمبدأ المساواة بين المواطنين، وأنشأت جهاز شرطة مصرية صغيرًا، وأنشأت برلمانًا بالتعيين، وأصدرت وثيقة دستورية، وأمرت بضرورة تسجيل الممتلكات العقارية، وأنشأت المجمع العلمي، ووضعت خططًا لتنظيم المدن والطرق وتنظيم وتحديد أماكن دفن الموتى... إلخ([1])، ولم يكن هذا أمرًا غريبًا؛ فالاستعمار الفرنسي استعمار دولة حديثة، لا يشبه بحال الاستعمار العثماني أو المملوكي. وقد سار الإنجليز على الدرب؛ فشجعوا انسلاخ مصر عن الدولة العثمانية من خلال تشجيع فكرة الأمة المصرية..

- وبعد رحيل الفرنسيين اختفت غالبية إصلاحاتهم، ولكن بقت أفكارهم. ثم استأنف محمد علي عملية التحديث بشكل أكثر عمقًا. في ذلك الوقت لم توجد بمصر طبقة راغبة أو قادرة على تحديث البلاد. وقد تولت الدولة بحاكمها الأجنبي هذا الأمر. وكان كل هدف محمد علي هو تأمين وضع عائلته في مصر، وفي نفس الوقت كانت الرأسمالية الأوروبية تسعى لإدخال البلدان قبل الرأسمالية للسوق الدولي. وقد أسفرت المواجهات والتعاون بين محمد علي والغرب عن إدخال مصر تدريجيًّا إلى عالم الحداثة، وإدماجها في السوق الدولي قسرًا وتحقيق أمنية ذلك الوالي في تأمين حكم عائلته.

وقد كان التحديث - من فوق - جزئيًّا عكس التحديث الياباني، الذي تم بشكل كامل([2]).

وقد ظهر نتيجة سياسات محمد علي: نمط استهلاك جديد - تنقيد انتشر تدريجيًّا - استيراد التكنولوجيا - صناعات حديثة - زراعة تجارية – إنشاء جيش حديث وبيروقراطية جديدة - إلغاء السخرة في عهد خلفائه - تحطيم جزئي لرابطة الدم - تحديث محدود للفكر الديني ومنح حقوق مهمة للمسيحيين([3])– تعليم حديث. ومع ذلك ظلت أنماط إنتاج قديمة منتشرة. ورغم التنقيد الشامل لم تصبح مصر بلدًا متقدمًا مثل بلدان الغرب. ورغم إنشاء مدارس ثم جامعات لم تتكون مراكز ذات شأن للبحث العلمي وإنتاج التكنولوجيا، وفي النهاية تكونت مصر الحديثة كمجرد جزء ضعيف ومحطة صغيرة من السوق الدولي، ولم تصبح عضوًا فاعلًا في إنتاج الحضارة الحديثة. إذن لم يتم التحديث في سياق ثورة اجتماعية تنقل البلاد من الإقطاع إلى الرأسمالية، بل في سياق تحويلها إلى مستعمرة مفيدة للرأسمالية الغربية، فتم خلق نظام يتميز بالنمو المتفاوت والمركب؛ حيث توجد قطاعات متقدمة مرتبطة بالسوق الدولي وأخرى متأخرة وتتشابك عناصر تنتمي للمجتمع القديم مع عناصر تنتمي للحداثة، يمكن تسميته: بنية التخلف([4]). بل ترتب على هزيمة محمد علي العسكرية تغير بنية صناعته، من مشروع مستقل إلى حد ما، إلى صناعة تابعة، نشاطها الأساسي هو التعبئة والتركيب.

ويتميز النمو المركب بتجاور قطاعات حديثة مع قطاعات قبل حديثة، فعلى سبيل المثال يوجد تعليم حديث ينتج كادرات، ولا توجد صناعة أو مجالات حديثة كافية لاستيعاب هذه الكادرات، مما يؤدي إلى هجرتها للخارج، ومن يعجز عن الهجرة يضطر للعمل خارج تخصصه، أو مواجهة البطالة. وبينما ظهرت مؤسسات اقتصادية حديثة، لم تصبح الدولة مؤسساتية بالقدر الملائم، وظل التعليم الديني المتخلف والبدائي بجانب التعليم الحديث... إلخ. والخلاصة يؤدي النمو المركب إلى إهدار الإمكانيات وعجز القطاع الحديث عن استيعاب كل السكان، مما أدى إلى ظهور ثم اتساع ظاهرة التهميش؛ فالقطاع الحديث عاجز عن استيعاب نتائج التحديث نفسها، بينما تحلل المجتمع القديم. ومازال الريف يصدر فائض السكان إلى أطراف المدن، ليتحولوا إلى مهمشين؛ فالمدن نفسها هي مصدر لفائض سكاني لا يجد له مكانًا.

أدى التحديث إلى إعادة بناء الدولة المصرية؛ فنشأت مؤسسات مثل الجيش المنظم جيدًا والقضاء وغيرهما. إلا أنها لم تصبح دولة حديثة تمامًا، بل احتفظت بعناصر جوهرية من الدولة القديمة. ويمكننا أنْ نلخص أهم خصائص الدولة الحديثة في: دولة مؤسسات – سيادة القانون – حق المواطنة – العلمنة – قبول استقلال المجتمع المدني – الأمة مصدر السلطات. وقد تحقق كل هذا بشكل جزئي فحسب، وتفاوت تحديث الدولة من فترة لأخرى، فكانت الدولة المصرية نصف حديثة - نصف قديمة، فظل النظام شموليًّا معظم الوقت، وكان المجتمع المدني ضعيفًا بدرجة أو بأخرى، والمؤسسات ضعيفة، واستمرت آثار من الطابع الشخصني للنظام، ولم تتحقق سيادة القانون بشكل كامل أبدًا، بل فُقد حق المواطنة منذ الانقلاب الناصري، الذي أقام ديكتاتورية سافرة. وفي العقود الأخيرة صارت السلطة السياسية في يد عصابة مافوية بمعنى الكلمة الحرفي، تشبه إلى حد ما دولة المماليك، والدولة تضم المجرمين المحترفين كأحد أجهزتها، بدلًا من أنْ تضعهم في السجون، وتمارس الجريمة بدلًا من أنْ تمنعها... إلخ.

 

-          قوى وعلاقات الإنتاج([5]):

شهدت مصر منذ انقلاب 1952 وبعد أنْ سيطرت الدولة على مجمل المجتمع المدني انحدارًا حضاريًّا نسبيًّا مستمرًّا ولم تستطع استئناف مشروعها التحديثي السريع في عصر محمد علي، بل اكتفت ببعض التطوير المحدود للغاية، بل على العكس سببت جمودًا ودمارًا كبيرًا في كثير من جوانب النشاط الاجتماعي. لا يمكن إنكار أنَّ صناعات جديدة قد أنشئت، مثل الأدوات الكهربائية، والسيارات، والألمونيوم، والكيماويات، وغيرها، ولكن بتكلفة أكبر وكفاءة أقل، وطبعًا في إطار نفس نمط النمو المتخلف، وقد تدهور دور البلاد نسبيًّا في الاقتصاد العالمي، وقد فشلت الدولة في صناعة السيارات (أنتجت سيارة حقيرة ماركة رمسيس)، وفي صناعة الطائرات، ثم لجأت للاكتفاء بتركيب هذه المنتجات. وقد تدهورت إدارة المشاريع، ولم تتحسن الإنتاجية بدرجة ملموسة، ولم تعد البلاد تشهد طفرات اقتصادية، كما شهدت مثلًا في عصر محمد علي أو اسماعيل أو بعد الحرب العالمية الأولى والثانية. وقد صفت الناصرية طبقة المنظمين الصناعيين وأحلت محلهم لواءات من الجيش، واعتمدت على تصدير سلع رديئة لدول الكتلة السوفيتية سابقًا وأفريقيا، واستوردت مصانع متخلفة، مثل مصنع حديد حلوان (ماكينات قديمة ومكهنة من شركة ديماج الألمانية). كما توسعت الدولة في إنشاء المدارس والجامعات كميًّا، مع تخريب العملية التعليمية والتربوية بالتدريج، كما تخاذلت عن وضع خطة حقيقية لمحو الأمية، بل ظهرت أمية المتعلمين بعد أنْ كانت شهادة الابتدائية ذات قيمة. ولا يمكن إنكار أنَّ المدن شهدت توسعًا كبيرًا، ولكن تخطيط المدن صار أسوأ، بل تم ترييف المدينة أكثر مما تم تحضير الريف، كما زاد عدد المستشفيات، ولكن الخدمة الطبية صارت أقل مهنية واحترامًا. ولم تعمل الدولة على معالجة مشكلة تخلف الزراعة، بل راح العمران يلتهم الأرض الزراعية، واستمر تفتت الحيازات الزراعية، بل بدأ منذ سنوات استخدام مياه الصرف في ريِّ المزارع، وأصبحت المنتوجات الزراعية أسوأ كيفيًّا، وبعضها ملوث بالمبيدات والأسمدة الضارة. ومازالت الأمراض المتوطنة تفتك بالناس، وحل فيروس الكبد محل البلهارسيا التي اختفت تقريبًا، كما تم تخريب البيئة بشكل فظيع: الهواء، والماء (ونهر النيل)، والتربة الزراعية، والطعام، وحتى أصبحت الضوضاء لا تطاق. وقد ارتفع متوسط العمر بفضل انخفاض وفيات الأطفال أساسًا، الراجع للتوسع في التطعيمات، وتنفيذ تعليمات منظمة الصحة العالمية.

فالناصرية كان همها الأول تأمين نفسها، وخلق وإعادة خلق شرعيتها، وفي إطار ذلك خلقت فئة مغلقة طفيلية وضيقة الأفق تحمل ثقافة محدودة من رجال الدولة سيطرت على السلطة والثروة والمجتمع المدني، ومن أجل ذلك كانت مهمومة بالصراع ضد الشيوعية والليبرالية؛ فاستخدمت طبعة دينية من الاشتراكية، وخربت التعليم، والبحث العلمي، وجندت المثقفين في خدمتها، ونجحت في النهاية في إعادة الثقافة المصرية إلى الوراء. كما دفعتها ضغوط التوجهات القومية في الداخل وفي العالم العربي والتوازن الدولي والحرب الباردة إلى استخدام شعارات العظمة القومية([6]) الزائفة؛ فتورطت في معارك خارجية مكلفة، وارتبطت جزئيًّا باقتصاديات دول الكتلة السوفيتية المتأخرة. وقد استمرت عملية التحديث غير المتوازن بالقصور الذاتي، حتى انتهت بكارثة اقتصادية ثم عسكرية، بفضل السياسة الناصرية ككل([7]).

ومنذ عقود صار النظام يعيق بشدة تقدم قوى الإنتاج (مستوى مهارة العمالة ومعدات العمل والإدارة)، إلا في أضيق الحدود؛ فيضطر المصريين للسفر للخارج للتعلم الحقيقي، ويستورد ما يحتاج من تكنولوجيا، وينتج سلعًا رديئة في مجملها، وكل هذا بفضل انحطاط التعليم والثقافة، وانتشار الفساد، الذي يمنع العمل بمهنية في كافة المجالات، ويعيق التدريب واكتساب المهارات التقنية، ويشجع تطور التقنية في ممارسات الفساد والنهب والسلب والتزوير والتهريب والمضاربة وتسويق السلع الضارة والرديئة، ويجبر مئات الألوف من الفنيين والعمال وخريجي المدارس العليا ضعيفي الكفاءة على العمل كباعة جائلين وعمال يومية وهي أعمال لا تتناسب حتى مع مؤهلاتهم العلمية المحدودة. وتتسم الصناعة المصرية ككل بارتفاع التكلفة وضعف الإنتاجية ورداءة الإنتاج، بما فيها القطاعات الأكثر تقدمًا مثل البترول والصلب، ناهيك عن المنسوجات والملابس الجاهزة والمواد الغذائية، بل كافة الصناعات التركيبية وصناعة البناء التي مازالت شبه بدائية. توجد بالتأكيد صناعات متطورة محدودة للغاية. والمفارقة أنه حدث تقدم كبير في الاستهلاك، بمعنى استهلاك سلع وخدمات أكثر تعقيدًا وتطورًا تقنيًّا، خصوصًا الاتصالات والكمبيوتر، وهذا هو الذي أنتج جيل الشباب الذي نظم نفسه إلكترونيًّا وقاد انتفاضة 25 يناير. وبذا نستطيع أنْ نتحدث عن دور تطور قوى الإنتاج عالميًّا في تأجيج تناقضات النظام المصري وتفجير الصراع الاجتماعي.

ومقابل ذلك يعود بعض من المصريين من الخارج وقد حصلوا على مؤهلات محترمة، أو اكتسبوا مهارات عالية، كما يستطيع بعض الشباب الالتحاق بالجامعات الأجنبية والخاصة داخل البلاد، ويتعلم بعضهم من خلال الإنترنت بعض المهارات، منها مهارت الإنترنت نفسه، بفضل تعاظم شبكة الاتصالات الدولية وتوفر المعلومات على مستوى العالم. ولا يستطيع معظم هؤلاء أنْ يجد مكانًا ملائمًا لمهاراته في سوق العمل. واضطر النظام لقبول تقدم قطاع الاتصالات والإعلام حتى لا يعزل عن العالم، فتكونت مهارات جديدة في مجال الكمبيوتر والإنترنت، والتي لعبت دورًا جوهريًّا في تنظيم حركة المعارضة وتأجيجها خلال السنوات الأخيرة.

 ورغم تطور القطاعين المذكورين وقطاعات أخرى محدودة صارت العمالة المصرية ككل من أقل العمالة كفاءة في العالم، حسب تقارير دولية معتبرة، وصارت الشهادات العليا المصرية موضع شك في الخارج. بل إنَّ الكفاءات عمومًا محدودة للغاية، وتشكو المصانع من نقص الكوادر الفنية الصناعية المدربة، حتى منذ ما قبل 1952، ويزيد الطين بلة ضعف الضمير، وعدم الدقة في العمل، وعدم اتباع الأساليب العلمية الحديثة في كل المجالات، بما فيها مجال الطب، والتعليم، والتجارة، والطرقات، والصرف الصحي، والكهرباء؛ كنتاج لتدهور الثقافة المصرية عمومًا... إلخ. وينطبق الشيء نفسه على الإدارة. وينعكس تأخر المهارات في تخلف استخدام معدات الإنتاج واختيار تقنيات متخلفة أصلًا؛ لقصر نظر المستثمرين والإدارة.

إنَّ إنشاء مصانع حديثة وإنتاج سلع جديدة مثل السيراميك والأسمدة والبتروكيماويات... إلخ لا ينفي أنَّ الصناعة المصرية ككل رديئة وعاجزة عن المنافسة. كما لا ينفي وجود بعض الفنيين المهرة أنَّ العمالة في مجملها غير ماهرة وضعيفة الإنتاجية، وازدادت تدهورًا.

لقد نما الاقتصاد، ونمت الصناعة، وزاد عدد المصانع والمدارس والجامعات... إلخ، ولكن الكيف تدهور.

لقد ترافق ارتفاع إنتاج الكهرباء مع كثرة انقطاع التيار الكهربائي، وزاد عدد الأطباء مع تدهور كفاءتهم، وتحسنت تقنية بعض المنشآت القليلة فقط. وتم استخدام الكمبيوتر، ولكن لم يعمم، ويستخدم بكفاءة محدودة، وضمن استخداماته إنتاج معلومات تروج للخرافات الدينية. هذه أمثلة لما أريد أنْ أقوله: النمو المركب والتدهور الحضاري، ويسعفني هنا اقتباس عبارة للراحل جلال عامر: "المصريون يعيشون في مكان واحد وأزمنة مختلفة".

إنَّ العنصر البشري هو العنصر الجوهري في قوى الإنتاج؛ فإذا حدث تدهور لهذا العنصر لا يمكن تعويضه بزيادة عدد الآلات أو استيراد تقنيات حديثة لا يمكنه استخدامها بشكل فعال. وهذا هو ما حدث في مصر بعد الانقلاب الناصري.

والمسؤول عن ذلك هو الفساد المرتبط بالطابع الدولتي للاقتصاد، حيث تهيمن الدولة، وسيادة الاقتصاد المالي التداولي عمومًا والاحتكار. فالبورصة المصرية هي مجرد سوق للمضاربة، والبنوك هي بشكل أساسي وسيط بين تجار ومضاربين، أما التراكم الرأسمالي في الصناعة والزراعة والخدمات الحديثة فمحدود بالنسبة لمجمل حركة الأموال. ويعاق البحث العلمي بل والتعليم نفسه عمدًا، ليس بفضل الاحتكارت الرأسمالية بل بفضل المستوردين والتجار والسماسرة ووكلاء الشركات الأجنبية، الذين يريدون قتل أيِّ عملية تصنيع متقدم.

كما لم يشهد المجتمع المصري انتقالًا حاسمًا نحو الحداثة، ذلك أنَّ عملية الانتقال من الإقطاع الدولتي إلى الرأسمالية ظلت محتجزة (حالة انتقال محتجز بتعبير سمير أمين)، فالقوى الاجتماعية المسيطرة ظلت منسجمة مع بعضها، وطبعًا هذا لا ينفي وجود خلافات جزئية و صراعات على توزيع الفائض، وفي نفس الوقت لم يفرز نمو التخلف طبقة ثورية جديدة.

هذا التحول من مجتمع آسيوي (إقطاع الدولة) إلى مجتمع متخلف ليس تحولًا ثوريًّا، لأنه وقف في منتصف الطريق بشكل مزمن ومعاق، بل نصف ثورة اجتماعية فحسب، أو ثورة مع وقف التنفيذ. ولن تختلف النتائج إذا تمت تسمية هذا المجتمع "رأسمالية متخلفة"، أو تابعة، أو رأسمالوي... إلخ. إنه في النهاية مجتمع مركب وانتقالي محتجز.

نستطيع إيجاز الموقف في: التناقض بين قوى الإنتاج وطريقة توزيع الثروة من فوق؛ عن طريق السلطة السياسية، التي تعيق تقدم قوى الإنتاج، وتعيق كذلك اقتصاد السوق الحرة، أيْ النمو الرأسمالي. ويترجم هذا التناقض إلى تناقض بين التكنوقراط والفئات المهمشة وشبه المهمشة وصغار أصحاب الأعمال والبرجوازية الصناعية والعمال، وبين الطبقة البيروقراطية – المالية المهيمنة على كل شيء.

 

القوى الاجتماعية:

- لن أتبع هنا فكرة مدرسية تصنف كل السكان كطبقات اجتماعية، ولا تعترف بأيِّ تصنيف آخر، بل تعتبر استخدام تعبيرات فضفاضة وغير محددة مثل "الفقراء" و"الموظفين" تعبيرات تليق بالكتاب البرجوازين أو البرجوازيين الصغار المائعين، خدام الرأسمالية، زعمًا.

في الواقع توجد طبقات اجتماعية - بالمعنى الماركسي للكلمة – ولكن يجب أنْ نعتبر أيضًا أنَّ هناك "طبقات" هجينة متداخلة غير نقية لا يمكن تصنيفها بشكل "ماركسي" نقي، كما توجد فئات أخرى لا يمكن ضمها لأيِّ طبقة، مثل البلطجية، والمتعيشين على النصب، وتجار المخدرات، وهناك العاطلون المزمنون والقائمون بأعمال هامشية وطفيلية والجنود المحترفون، وهناك طبقة بيروقراطية في بعض البلدان، مثل مصر، وهناك جماعات من المهمشين وأشباه عمال وأنصاف برجوازيين... إلخ. ويميل الماركسيون المدرسيون والمتأثرون بهم إلى تصنيف أيِّ جماعة غير محددة الملامح وفقيرة إلى البرجوازية الصغيرة، مثل الموظفين، والكتاب، وصغار الفنانين، بينما تعني كلمة البرجوازية الصغيرة في الأصل أصحاب المشاريع الصغيرة، الذين يعملون بأنفسهم فقط. ويميل البعض إلى اعتبار كل من يعمل بأجر ضمن الطبقة العاملة، ومنهم الأطباء، والموظفون، وهذا لعب بالمفاهيم يخلط العمال بفئات لا تحقق فائض قيمة.

 

- الطبقة المسيطرة:

كانت الدولة المصرية على مدى التاريخ هي التي تعيد إنتاج المجتمع بأسره؛ فهي التي تحدد معدل وآليات التراكم الاقتصادي، وتوزيع الثروة والتفاوتات الاجتماعية، وكل شيء آخر، حتى التعليم والتثقيف. وهي التي بدأت وقادت التحديث، وهي التي شكلت الإنتليجينسيا([8]) الحديثة، وطبقة ملاك الأراضي، وطبقة عمال الصناعة.

 والدولة هنا هي المثل الأعلى للمواطن وسنده الأول. وحتى النخب المثقفة لا تتصور أبدًا الاستقلال عنها. وهذه من أهم ركائز النظام الشمولي. فحتى معظم الثوار لا يفكرون في تصفية دور الدولة، بل في زيادته: إلغاء الخصخصة، تأميم مزيد من المؤسسات، استمرار الدعم للسلع الضرورية، تعيين الخريجين، إنشاء مزيد من المشاريع العامة... إلخ.

ورغم أنَّ الدولة – نظريًّا – هي أحد مكونات البناء الفوقي للمجتمع، كانت دائمًا في مصر جزءًا مهما من البناء التحتي أيضًا من زاويتين: الأولي أنها أحد أهم قوى الإنتاج في مصر، خصوصًا دورها التقني في تنظيم عملية الريِّ والصرف، والثانية أنَّ كبار رجال الدولة يشكلون لب الطبقة المسيطرة: الحكام؛ سواء المركزيين أو الجهويين، وكبار الإداريين، ويضاف إلى هؤلاء كبار رجال الأمن والجيش، ومعهم بالطبع كثير من المثقفين، و"المفكرين" الرسميين، والفنانين، والسياسيين المحترفين والهواة التابعين للدولة بأشكال مختلفة. فالطبقة المسيطرة هي الدولة قبل أيِّ شيء آخر، رغم ضخامة حجم القطاع الخاص. فالدولة هي التي تملك الاقتصاد فعليًّا، بما في ذلك أغلب الملكية الخاصة؛ فهي قادرة على إعادة توزيع الثروة، وتستطيع التحكم في نشاط القطاع الخاص تمامًا؛ فهي تعز من تشاء وتزل من تشاء، سواء من رجال الأعمال أو صغار الملاك أو حتى المعدمين. فرجال الأعمال هم قبل أيِّ شيء مجرد وكلاء للدولة، وهذا لا ينفي أنَّ لهم هامشًا من حقوق الملكية، ولكن لا يمكنهم العمل دون رضا بيروقراطية الدولة، فهي "الرجل الكبير"([9]) دائمًا في السوق، وتستطيع في ساعات أنْ تحول أكبر ملياردير إلى مفلس وسجين، وتتمتع بـ "حق الليلة الأولى"([10]) في أيِّ نشاط مهم في المجتمع.

ويحتل الجيش حاليًّا مكانة أساسية داخل الدولة، ويمتلك نسبة ملموسة من الاقتصاد، ومختلف المزايا، ويضمن لجنرالاته وظائف بأجور خيالية بعد تركهم الخدمة. ويحتل الضباط المتقاعدون مناصب بلا حساب في كافة مؤسسات الدولة، بما فيها وزارة الصحة، ووزارة السياحة، ويسيطرون على مفاصل الإدارة الحكومية، كما يمتلكون مشاريع خاصة ضخمة، تعتمد على الاستفادة من مناصبهم.

وقد اختلف هذا الوضع الفريد للدولة خلال فترة الاحتلال البريطاني، حيث كان جيش الاحتلال هو الحاكم الأول، وتم تحويل البيروقراطية إلى خادم للاحتلال، وفي السياق لرأس المال الخاص الكبير وكبار ملاك الأراضي المتعاونين معه، وبذلك تحققت خطوة في اتجاه مزيد من التحديث، حيث نشطت طبقة من رجال الأعمال الأجانب والمتمصرين والمصريين، لها نفوذها واستقلالها عن الدولة، واكب صعودها انتعاش كبير للعلوم والأدب والفن، وصار الفكر المصري أكثر عقلانية وعلمانية، كما ازدهرت الحياة السياسية، في مناخ نصف ليبرالي في المدن الكبرى.

لكن جاء الانقلاب الناصري ليخلق عقبات للتقدم، ويدمر طبقة رجال الأعمال، ومعها الازدهار الثقافي والفكري، ويعيد بناء الطبقة الحاكمة في صورة طغمة بيروقراطية طفيلية، ويسحق المجتمع المدني ويصادر حق المواطنة، وتفاقم هذا الوضع منذئذ. ومما عزز عودة الدولة للسيطرة على البناء التحتي بعد 1952 مصادرة الصناعات الكبرى؛ فتحول نشاط رجال الأعمال والبيروقراطيين تدريجيًّا إلى نشاط طفيلي ونهبوي فاسد، حيث منعت الناصرية رجال الأعمال من إقامة مصانع كبرى، وتركت لهم النشاط التداولي أساسًا، كما أصبح تكوين الثروة يتم من خلال البيروقراطية، وبأساليب طفيلية فاسدة، مما جعل رجال الأعمال، اللصوص أغلبهم، رهائن في يد الدولة، التي تستطيع وضع من تشاء في السجن بالقانون.

تتشكل الطبقة المسيطرة في الوقت الحالي من البيروقراطية كما أسلفنا، وكتلة ممن يسمون برجال الأعمال وكبار ملاك الأراضي والعقارات. ويمارس هؤلاء نشاطًا اقتصاديًّا يتسم بطابع طفيلي وتداولي، أكثر بكثير من النشاط الإنتاجي الضعيف عمومًا بالمقارنة بالمضاربة والتجارة والسمسرة وأشكال أخرى من "الاستثمار"، مثل تهريب الآثار، وتجارة الأعضاء والمخدرات، وغسيل الأموال.

وقد أدت سياسة النظام الناصري إلى تحويل الغالبية العظمى من رجال الأعمال القدامى تدريجيًّا إلى مجرد لصوص محترفين، ودفع بالقوى الطفيلية بقوة، فقد حول الصناعات الكبرى لملكية حكومية، صارت تكية للنهب، وترك مجال التداول من تجارة وسمسرة ومضاربة للقطاع الخاص، وانتشر الفساد على أوسع نطاق بفضل سيطرة البيروقراطية المطلقة.

 يوجد الآن قلة من أصحاب المصانع المتقدمة، وهؤلاء في منتهى الضعف السياسي، ولا حول لهم ولا قوة، وخاضعون للدولة بشكل غير مباشر. كما توجد "برجوازية" متوسطة؛ أصحاب المصانع الصغيرة، وبعضها حديثة تشكل قاعدة اجتماعية لنمو رأسمالي حقيقي، إلا أنها ضعيفة سياسيًّا إلى أقصى حد، وبلا أيِّ نفوذ سياسي أو أيديولوجي، وأفقها ضيق تمامًا، وهذه تعاني من فساد الدولة وسياستها.

ويمكن وصف الطبقة المسيطرة في مصر بالرأسمالية التداولية؛ مجازًا، لتوضيح الأمر. وهذا النوع من "الرأسمالية" يعيق النمو الرأسمالي والتقدم. وفي الحقيقة إذا أردنا الدقة نجد أنَّ هذا النظام الذي تشكل فيه الدولة لب الطبقة المسيطرة ويشكل رجال الأعمال وكلاء لها أساسًا، هو نظام يحمل بعض ملامح الإقطاع. فالدولة تتصرف كملك إقطاعي يهيمن على مجمل الاقتصاد، بما في ذلك القطاع الخاص والطبقة المسيطرة ككل تعتمد بجانب استغلال العمال، على نهب صغار المنتجين والعاملين في الخارج، وريع القناة، ودخل السياحة، وعائدات البترول، والرشاوى من شركات أجنبية، وحتى يتم نهب جزء من المعونات الخارجية؛ من خلال المضاربات والاحتكار. باختصار يعتمد رجال الطبقة المسيطرة في مصر على آليات غير رأسمالية تقليدية في تحقيق الأرباح، بل تمارس الجريمة الاقتصادية وغير الاقتصادية على نطاق واسع. ويتم توزيع الثروة ليس فقط بآليات السوق، بل أيضًا من خلال السلطة السياسية.

 

- الطبقة العاملة (البروليتاريا)([11]):

نظرًا لضعف الاقتصاد الإنتاجي والنشاط الرأسمالي المعتاد تكونت طبقة عاملة منظمة محدودة الحجم بالنسبة لمجمل العمالة، بينما توجد مقابل الطبقة الرثة من رجال الأعمال فئات ضخمة للغاية من الجماهير شبه البروليتارية؛ المهمشة وشبه المهمشة، التي يتضخم عددها بسبب استمرار الانفجار السكاني، وتفكيك المجتمع القديم دون بناء ناجز لمجتمع جديد.

لم تحاول الطبقة العاملة قط أنْ تقدم نفسها كقوة سياسية مميزة، بل لم تشارك بإضرابات سياسية إلا قليلًا، وشاركت مجموعات وأفراد منها في احتجاجات عفوية، ولم تتعد طموحاتها تحقيق مطالب اقتصادية محدودة، بل أعطتها الدولة الناصرية أكثر مما كانت تطلب. فالعمال في مصر لا يشكلون طبقة عريقة ذات تقاليد خاصة؛ فمنهم كثيرون مرتبطون بأنشطة خاصة، وبعضهم مازال منتميًا للريف، وأغلبيتهم الساحقة هم عمال يومية، أيْ أشباه مهمشين، وهذا جعلهم طبقة غير متماسكة، خصوصًا أنَّ جزءًا منهم تم استيعابه في منظومة الفساد طوال العقود الأخيرة (عمالة زائدة، حصول البعض على أجور لا تتناسب لا مع الإنتاجية ولا ساعات العمل، والعمل المزدوج..) بل لم يكن بلا دلالة اشتراك قطاعات من العمال في مؤامرة مارس 1954 لتثبيت الحكم العسكري ضد الليبراليين واليسار، مقابل رشاوى صغيرة، وكانت هذه بداية لتدجين طبقة العمال. كانت مطالب الطبقة العاملة طوال العقود الماضية محصورة في بعض الحقوق الاقتصادية وعلى مستوى الوحدات فقط تقريبًا. بل لم تكن قادرة حتى على تشكيل اتحاد عمال غير خاضع للسلطة. ومما له دلالة أنَّ بعض المطالب العمالية كان رجعيًّا؛ مثل المطالبة بتوزيع أرباح من شركات لا تربح، أو الاستمرار في تشغيل مصانع متخلفة، أو المطالبة بحق العمال في تعيين أبنائهم في نفس الشركات، منها شركة الألمونيوم، وشركة الكهرباء؛ كأمثلة. وأحيانًا طالب بعض العمال جمال مبارك بالتدخل لتحقيق مطالبهم (مثل عمال الألمونيوم)، وفي كل عمليات الخصخصة تقريبًا اعترض العمال؛ مفضلين ملكية الدولة، الفتوة الكبير، وأكبر فاسد ورأس الرجعية في البلد. وكل هذا يعكس حقيقة أنَّ جزءًا من العمال صار مندمجا في النظام، وخصوصًا منذ انقلاب،1952 الذي قام بتغيير بنية الطبقة العاملة في قطاع الدولة، بتحويل بعض العمال إلى موظفين حكومة، وكثير منهم إلى أشباه عمال.

ونظرًا لقلة فرص الصعود الاجتماعي، وارتباط ذلك بالسلطة أو العلاقة معها، وبالتالي الانتشار الواسع للبطالة؛ أصبح "امتلاك" وظيفة مستقرة حلمًا لكثير من المصريين، وصار بالتالي العاملون بأجر ثابت في وضعية من يمتلك شيئًا يستحق المحافظة عليه، مثل من يمتلك مشروعًا صغيرًا، وبالتالي فعقلية العامل في الظروف الاجتماعية الحالية تشبه عقلية البرجوازي الصغير، وليس البروليتاري المجرد من كل ملكية، وقد شكلت هذه الوضعية أساسًا ماديًّا ملائمًا للنزعة المحافظة للطبقة العاملة المصرية، والتي تتوقف مطالبها عند تحسين شروط العمل ولو بدرجات محدودة.

 

- الفئات الوسطى:

 مثل: المهنيين وصغار أصحاب الأعمال (البرجوازيين الصغار) وصغار الموظفين. وتتباين دخول هذه الفئات، ولكن أغلبها فقيرة، وأحيانًا شديد الفقر؛ مثل الموظفين الصغار، ولكن كثير منهم يعمل لدى الدولة، أيْ يمتلك وظيفة ثابتة ومؤمنة إلى حد كبير، بل ويحرص الملايين على الاستمرار في العمل بالدولة، رغم ضعف الأجور، ورغم أنَّ الكثير منهم يحصل على مداخيل أكبر من العمل الخاص. وخلال العقود الأخيرة صار الدخل أكبر كثيرًا من المرتب؛ العمل الإضافي الوهمي، والحوافز، والمكافآت نظير عمل صوري، واستغلال الوظيفة في التربح بأشكال متنوعة، مثل الرشاوى، والمحسوبيات، والترويج للنشاط الخاص (مثلما يفعل أطباء كثيرون)، والتجارة داخل مؤسسات الدولة... إلخ.

وتوجد إنتليجينسيا (بالمعنى الضيق للكلمة) ضخمة: مفكرون، وكتاب، وفنانون، وباحثون؛ يعمل كثير منهم أيضًا لدى الدولة: الجامعات ومراكز البحوث التي لا ينتج بعضها فعليًّا، والمؤسسات الإعلامية والثقافية الضخمة للغاية، فالدولة تشرف على قصور الثقافة، والصحف الكبرى، والتلفزيون والإذاعة، ومدينة الإنتاج الإعلامي، وبعض أنشطة السينما والمسرح، بل تسيطر على كل النشاط الفني من خلال الرقابة على المصنفات الفنية وهي أيضًا مؤسسة يعمل بها مثقفون. بل إنَّ كثيرًا من المفكرين والعلماء والشعراء والفنانين المحترفين يعلمون كموظفين في جهاز الدولة. يضاف إلى هؤلاء أعداد ضخمة من رجال الدين المحترفين، الذين يعمل أغلبهم كموظفين في الأزهر، والأوقاف، والمساجد، وغيرها، ويمارسون دعايتهم الدينية بتوجيه مباشر أو غير مباشر من أجهزة الأمن، أو جهات رقابية أخرى. بل يمارس الآلاف العمل الخيري تحت إشراف وزارة الشؤون الاجتماعية ورقابتها.

كل هؤلاء ترتبط مصالحهم بالدولة، ولا يتطلعون إلى الاستقلال عنها، بل بالعكس إلى زيادة دورها، ورفع ميزانية مؤسساتهم. فهذه الفئات لا تتطلع أبدًا إلى تصفية احتكار الدولة الاقتصادي، ولا ملكيتها لقطاع الإعلام والثقافة والأنشطة الدينية، وتتلخص مصالحها التي تلمسها جيدًا في زيادة الأجور والامتيازات، مع استمرار ونمو قطاع الدولة، وهيمنة البيروقراطية على المجتمع، وأقصى أمانيها هو إعادة توزيع الأجور لصالحها، على حساب محاسيب البيروقراطية العليا.

 

- المهمشون([12]):

نقصد هنا المهمشين اقتصاديًّا، وهم يشكلون كتلًا هائلة من العاطلين، والعاملين المؤقتين، والباعة الجائلين، وعمال اقتصاد الظل، وأنشطة طفيلية متعددة. والملايين منهم يسكنون العشوائيات، والمقابر، والأكواخ، والرصيف، ومنهم مئات الألوف من أطفال الشوارع يهيمون بلا عائل، ولا دخل، ولا أيِّ أمان.

لم تعد الجماهير شبه البروليتارية مجرد جماعات متناثرة، فلم يعد من المقبول وصفها بحثالة البروليتاريا. فهذه الكتل الضخمة ليست مجرد كائنات طفيلية أو خارجة على القانون، بل إنَّ الملايين من أفرادها يعمل وينتج. وهؤلاء لا يشعرون بأيِّ قدرٍ من الأمان، ويعيشون على هامش المجتمع المنظم، ولذلك فالملايين منهم لا يملكون – تقريبًا - شيئًا يفقدونه، ولذلك يعدون أكثر الفئات مصلحة في إعادة بناء النظام الاجتماعي، حتى يتمتعون بحقوق الإنسان المتعارف عليها.

ويعني وجود هذه الأعداد الهائلة من المهمشين تقيح النظام الاجتماعي وطابعه الرجعي، فإهدار كل هذه الطاقات البشرية يعني عجز النظام عن استخدام إمكانياته، ويعبر بالتالي عن طابعه الطفيلي؛ فقدرته على الإنتاج أقل بكثير من قدرته على تبديد الثروة، ويظهر ذلك بشكل مباشر في الاستهلاك الأسطوري للطبقة المسيطرة، وضعف إنتاجية مشاريعها، ومجالات الاستثمار الأهم: المضاربة (البورصة – العقارات مثلًا).

 إنَّ ضخامة عدد المهمشين يشكل أحد أهم سمات مصر المعاصرة، وهو من أهم أحد عوائق التنوير، ولكنه في نفس الوقت أحد أهم عوامل انفجار الصراع الاجتماعي وشيوع الفوضى، وهذه الفئات قابلة بسهولة للاستخدام لصالح غيرها، ولا تحمل طموحات كبيرة، ولا أفكارًا تقدمية محددة، ولا فكرًا حداثيًّا بشكل عام، حتى الآن، ولكن تحمل شحنات هائلة من الحقد الطبقي، وروح تمرد عالية للغاية. وقد تكون انتفاضاتهم قادرة على إجبار النظام على تقديم التنازلات. وعلى العكس قد تكون ثورتهم سببًا للفوضى غير الخلاقة، وتدمير البناء الاجتماعي المهترئ، وقد تؤدي لحالة انفلات واسعة النطاق وطويلة المدى، والأمر يتوقف على بقية القوى المنظمة. ولم يحول دون ذلك حتى الآن سوى القوة الهائلة للدولة المركزية وضخامة الإنتليجينسيا المتحالفة معها أغلب الوقت. لذلك أرى أنَّ دور انتفاضات المهمشين هنا حاسم تمامًا لإجبار النظام الاجتماعي على التغير، وبالتالي خلق وضعية أنسب للسير على طريق الحداثة.

ضمن فئات المهمشين يوجد مئات الألوف من المتعلمين خريجي المعاهد والجامعات، منهم عاطلون ومنهم يمارس أعمالا طفيلية ومنهم باعة جائلون ومنهم من يقبل وظائف لا تتناسب مع مهاراته مثل العمل في المتاجر والمولات ومجال الحرف اليدوية وغيرها. هؤلاء الأكثر شعورًا بالغبن لأنهم مؤهلون ويعجز النظام عن استيعاب طاقاتهم والقليل منهم يتمكن من الهجرة إلى الخارج والبعض يعمل مؤقتًا في الدول العربية بشروط سيئة وفي مناخ غير آمن ويتعرضون للقهر العنصري بشكل أو بآخر. هذه الفئات تتضخم باستمرار وتزداد حنقًا على الدولة والنظام باحثة لنفسها عن مخرج وأغلبها لا يجد هذا المخرج مما يجعلهم أكثر الفئات الاجتماعية استعدادًا للتمرد والثورة. وهم يجسدون بشكل مباشر التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في مصر.

ولن يستطيع النظام أنْ يستوعب المهمشين إلا إذا أجرى على نفسه عمليات جراحية كبرى وعديدة؛ فلن تصلح أبدًا حلول مثل العمل الخيري، والتكافل الاجتماعي، والصدقات، والإعانات الاجتماعية، في علاج ظاهرة التهميش الواسعة الانتشار. وعلى سبيل المثال لن يمكن إطلاقًا تصفية العشوائيات ومنح مساكن للمشردين إلا بإجراءات جذرية غير تقليدية وتقليل حجم الفساد جذريًّا. فتقديم أراض مجانا، وقروض ميسرة ضخمة، وإزالة العقبات أمام القطاع الخاص الصغير والمتوسط، وتصفية الاحتكارات ورأس المال الطفيلي، شروط لا غنى عنها لحل مشاكل المهمشين. والأهم على الإطلاق: توسيع المشاركة الشعبية في السلطة، وإصلاح جهاز الأمن، وتطبيق القانون على الجميع... إلخ، بحيث يشعر الناس أنَّ الحكومة مخلصة في تمثيل الصالح العام، وبذلك يقبلون بعض الالتزامات، من تخفيض معدل الاستهلاك، والمحافظة على الممتلكات العامة، والإقبال على العمل وإتقانه... إلخ.

وهكذا يستطيع النظام استيعاب المهمشين فقط إذا تغير بشكل جذري إلى نظام أكثر شفافية، وتبني هدف تحديث البلاد، بتغيير وجهة الاستثمار إلى قطاعات الإنتاج كثيف العمالة، وترشيد الاستهلاك، وترشيد الإدارة، لتحقيق معدلات أكبر من القيمة المضافة، وتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية.

لذلك يعتبر استيعاب المهمشين معيارًا لتغير النظام المصري، الذي استطاع أنْ يستوعب جل كبار أصحاب الأعمال ورجال الإدارة أساسًا في منظومة فساد معمم.

 

-          الفلاحون الفقراء:

 يعمل بالزراعة من ربع إلى ثلث قوة العمل الرسمية، أغلبهم يعمل في قطع أرض بالغة الصغر، ويعانون من فقر شديد، كما أنَّ جزءًا كبيرًا منهم مجرد من الملكية، ويعتمد على استئجار قطع صغيرة من الأرض، أو يعمل لدى الغير. وهذه القوة الاجتماعية الضخمة عددًا لا تمتلك نقابات، ولا أيَّ أدوات نضالية منظمة تقريبًا، وتتعرض لاستغلال بشع من جانب الدولة وكبار ملاك الأراضي، وتتميز بإنتاجية شديدة الانخفاض، وهو قطاع طارد للعمالة، التي تهاجر إما للخارج أو للمدن للعمل في أبسط المهن، أو ينضمون إلى جموع العاطلين. وهم مصدر أساسي للفئات المهمشة، ويساهمون بقوة في توسيع العشوائيات حول المدن والقرى. فرغم الطابع المحافظ وضيق أفق طبقة الفلاحين الفقراء، يعدون المصدر الأهم لأشباه البروليتاريا، القوة الأكثر تمردًا وعنفًا في مصر المعاصرة.

 

2-      النظام السياسي:

-     في مصر المعاصرة تسيطر الدولة على المجتمع المدني؛ فمن خلالها يتم تكوين الثروات كما أشرت، وإنتاج الثقافة وحتى ممارسة الألعاب الرياضية، وطبعًا تشرف على التعليم، والبحث العلمي، والإعلام. ومنذ 1952 أصبحت تعتمد نظرية أهل الثقة أفضل من أهل الخبرة، فصارت العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، فيتم الإعدام المدني للأكفاء لصالح الجهلة، ويهرب العلماء إلى الخارج، ويهاجر المثقفون الأكثر جدية، وحتى أكثر رجال الأعمال الحقيقيين يستثمرون في الخارج. وقد أصبحت مصر بلد اللصوص المحترفين والأفاقين. صارت الدولة عبارة عن عصابة مسلحة بشكل شبه معلن وصريح: اللصوص يحكمون والأمن المسلح يحميهم والبلطجية صاروا جزءًا من جهاز الأمن. وفي النهاية يبارك رجال الدين هذا الوضع بالفتاوى. فهذا نظام شمولي شهد قدرًا من التفكك بعد هزيمة محمد علي ثم استرد عافيته منذ الانقلاب الناصري وأصبح أكثر شراسة في العقود الأخيرة.

وعلى مدى تاريخ مصر الحديث كانت السلطة التنفيذية هي السلطة الأقوى باستثناء سنوات قليلة خلال الفترة الليبرالية، ومنذ الانقلاب الناصري صارت السلطة التنفيذية هي – عمليًّا- أجهزة الأمن، ويمكن أنْ نعتبرها بمثابة حكومة سرية تشرف على كل شؤون البلاد.

- جهاز العدالة:

القضاء المصري – من الناحية العملية - ملحق للسلطة التنفيذية، يخضع لها رسميًّا (حيث إنه ليس مستقلًا) وعمليًّا، بترهيب أجهزة الأمن، وكذلك بالإغراءات المادية، بل إنَّ القضاء نفسه لا يختلف عن هذه السلطة من حيث إغراقه في الفساد، مشكلًا جزءًا من البيروقراطية الحاكمة. فالقضاة يعتبرون أنفسهم فئة مميزة، و"يناضلون" لتوريث مناصبهم لأبنائهم، وكثير منهم يصدر الأحكام التي ترضي السلطة التنفيذية، بل إنَّ بعضهم زور الانتخابات. وكثير من القضاة ينتمى فكريًّا للإسلام السياسي والثقافة الفقهية القديمة، وقد أظهروا انحيازًا صريحًا للإسلاميين أثناء انتخابات البرلمان الأخيرة، وساهموا في توجيه الناخبين البسطاء لانتخابهم. لا يوجد في مصر جهاز فعال لمراجعة أحكام القضاء بالكامل، ولا يعاقب بالتالي القاضي المخطئ. كل هذا يؤدي إلى فقدان الثقة في جهاز العدالة، ولا يشجع المواطن على المطالبة بحقوقه بالطرق القانونية أو الإبلاغ عن المخالفات، بل ويشجع على ازدراء القانون. ومن هنا تنتشر البلطجة: ونعني بذلك الخروج العلني على القانون. ومن الملاحظ أنَّ أكبر بلطجي هو الدولة نفسها، التي لا تطبق لا الدستور ولا القوانين في كثير من الأحيان، ولا تنفذ كثيرًا من أحكام القضاء، وتفرض الإتاوات على الناس بحجج غير قانونية، وتبتز المواطنين تحت عناوين شتى.

ويساعد على انتشار البلطجة الفساد الإداري الهائل، وترهل البيروقراطية، والتعقيدات الإدارية، وتراخي أجهزة الأمن، وازدراء الأجهزة لحقوق المواطن.

لقد أصبحت البلطجة جزءًا من نسيج الثقافة العامة ومبررة تمامًا من وجهة نظر رجل الشارع العادي، فهي بمثابة القانون والقضاء الموازي، جهاز عدالة بديل؛ لغياب العدالة الرسمية.

- المجلس التشريعي:

 منذ انقلاب 1952 بدأ البرلمان، الذي تم حله عدة مرات وتعيينه مرة وإلغاؤه لمعظم الفترة الناصرية يتحول من مجلس تشريعي ورقابي إلى مجلس خدمي. فصار المرشح ينتخب مقابل تقديم خدمات شخصية أو محلية للناخبين، بعضها غير قانوني، مثل إيجاد وظائف، وإصلاح شبكة المياه، والتوسط لنقل موظف من منطقة لأخرى، والإفراج عن محبوسين في جرائم، وتقديم رشاوى مباشرة مقابل التصويت، بخلاف التزوير المباشر وإغلاق دوائر بعينها... إلخ. وأصبحت الحكومة تقبل هذه الوظيفة وتتغاضى عن هذه "الخدمات" بل وتساعد الأعضاء الذين ترضى عنهم على تنفيذها، وبالتدريج أصبحت حصانة المنصب ُتستغل لتحقيق ثروات طائلة بممارسات فاسدة وإجرامية أحيانًا. هكذا اندمج البرلمان في منظومة فساد شامل مقابل أنَّ يفصل القوانين التي تريدها السلطة التنفيذية، بل واندمج البرلمانيون في الحزب الحاكم عضويًّا ابتداء من الاتحاد الاشتراكي([13]) وحتى الحزب الوطني، والخلاصة أنَّ الشعب لم يمثل في البرلمان قط إلا في أضيق الحدود. ولأن المعارضة المحدودة كانت تسبب قلقًا للنظام، خصوصًا مع بروز مشروع توريث السلطة لجأت الحكومة في انتخابات 2010 إلى تزوير واسع النطاق كيْ تهيمن على كل المقاعد البرلمانية سوى عدد قليل للغاية، وبذلك أغلقت كل النوافذ أمام القوى المعارضة المتنامية التي لم يعد أمامها مجال للحركة سوى الشارع؛ فبدأ العد التنازلي لانتفاضة 25 يناير.

 

3 - الثقافة المصرية:

تختلف ثقافة الناس من طبقة أو جماعة لأخرى ولكن هناك في العادة سمات عامة لثقافة أمة بعينها، ناتجة عن العيش المشترك.

لم يصل الفكر المصري إلى مرحلة أولية في الفكر الحداثي الغربي: الشك الديكارتي. فعندنا لا يستطيع المرء أنْ يضع كل شيء موضع النقاش والتحليل. وكما توصل محمد عابد الجابري، يسود عندنا منهج البيان والعرفان([14])، دون منهج البرهان، بمعنى التفكير العقلي البحت بدون بديهيات مفترضة مسبقًا. ويوم لجأ طه حسين للشك الديكارتي أحيل إلى النيابة وأهين. فنحن حتى الآن لم نصل إلى العقلانية بالمعنى المفهوم، وأقصى ما بلغناه هو إعمال العقل في إطار النص.

لم يصبح نقد الدين أبدًا موضوعًا مطروقًا بجدية، ونقد الدين – كما ذهب ماركس بحق – هو أساس كل نقد، ولذلك لا يتميز الفكر المصري الحديث بالنزعة النقدية ولا العقلانية، فكل نقد – تقريبًا – يدور في إطار نصٍ ما، أو ثوابت ما، أو هوية ما. فهناك تابوهات مقدسة لا يجرؤ أحد على المساس بها، على رأسها فكرة الله، وما يترتب عليها من النصوص المقدسة وشبه المقدسة وأمور غيبية متعددة، و"ثوابت" الأمة وغيرها.

ومع ذلك لا يمكن نكران أثر الاستعمار الغربي في كسر جزئي للتابوهات، مثلما كان له دور في كسر جبروت الدولة؛ فقد أنتجت البلاد متميزين في العلوم، والأدب، والفن، والسياسة، والفلسفة، قبل 1952، واستمرت آثار من ذلك بعد انقلاب 1952 مباشرة. ولكن ترتب على وواكب هيمنة البيروقراطية العسكرية على المجتمع المدني منذ الانقلاب الناصري وما ترتب عليه من إحلال أهل الثقة مكان أهل الخبرة تدهور حضاري عام في مصر، أصبح بارزًا ومتزايدًا منذ عصر السادات، إذ تراجعت الدولة عن دفع الحداثة، فصودر حق المواطنة منذ 1954، ثم ضعفت النزعة الوطنية لصالح الطائفية الدينية، وصارت السلطة مشخصنة في النهاية، كما كان الحال قبل التحديث. 

وعلى كافة المستويات تراجعت ثقافة مصر عن الحداثة؛ إذ راحت تنتج رجال دين وحفظة قرآن أكثر فأكثر، بل بلغ الحال درجة احتقار عام للمتعلمين والعلم، خصوصًا مع الصعود الاجتماعي السريع والحاد لطبقة من اللصوص وتجار المخدرات في السبعينات. وفي النهاية انتصر البيزينس الطفيلي على العلم، وانهار البحث العلمي تمامًا، كما انتصر الدين على الفلسفة. أصبح المتعلمون أقل أهمية بكثير ولا يتمتعون بالاحترام، بينما صار الأفاقون والمزورون نخبة المجتمع. لم تعد مصر من الأمم الأكثر تحضرًا، بل العكس.

وبعد قدر من العلمنة عادت مصر إلى تحكيم الشريعة إلى حد كبير، إلى حد أنَّ بعض مخرجي الأفلام يفضلون الحصول على موافقة الأزهر على أعمالهم قبل عرضها، وأصبح الأزهر في فترة ما قادرًا على مصادرة الكتب ويستجيب له أمن الدولة... إلخ. فالمصريون يبدون الآن أكثر حاجة من ذي قبل إلى السماء كمُلهم ومصدر للمبادئ، بل إنَّهم أكثر شعوب العالم تدينًا، وفقًا لاستطلاع أجراه معهد جالوب، بل ويسودهم التعصب، بل الهوس الديني. بل من الغريب أنَّ أهم حركة شاركت وقادت ثورة 25 يناير وهي حركة 6 ابريل أعلنت على لسان متحدثها الرسمي أنها لا تقبل الملحدين في صفوفها. بل يتبارى الثوار في إظهار رفضهم للإلحاد، وحتى العلمانية، على الأقل خوفًا من الرأي العام، ويستخدم العلمانيون لفظ "المدنية"، خوفًا من الإسلاميين وجمهورهم، الذي يكفر العلمانية، كما يحاول بعض المستنيرين الكشف عن وجود ما يسمونه "الإسلام الصحيح" الديموقراطي والمتفتح... إلخ، دون جدوى.

هذا الهوس الديني يعبر عما أسماه هيجل بـ "الوعي الشقي"، حين يكون المرء عاجزًا عن الإيمان الحقيقي وعاجزًا عن الحياة بدون هذا الإيمان في نفس الوقت. ففي مصر يتضافر التدين الشكلي مع الكفر الأخلاقي. فالناس تضطر لممارسة الكفر الأخلاقي لكي تواصل حياتها في ظروف قاسية ولكنها في نفس الوقت تسعى لنيل رضا الرب، فلا تعرف إلا اللجوء إلى التدين الشكلي دون التخلي عن الكفر الأخلاقي، وتظل في هذه الدوامة، فتزداد كفرًا أخلاقيًّا وتزداد تدينا شكليًّا؛ فتصل لحالة الهوس الديني المنتشرة.

وبجانب الدين "السماوي" تتجذر أيضًا أيديولوجيات أخرى يقدسها أصحابها، منها النزعة القومية الشوفينية (مازال هنا مثلًا شيء اسمه الناصرية)، ويتجذر في وعي المصريين عداء مطلق للغرب؛ فالاستعمار – رغم إنجازاته دون أنْ ننكر استغلاله للبلاد لمصلحته – مدان بشكل مطلق، وكل نتائجه كانت شرًّا ودمارًا، والغرب عمومًا شرير بالضرورة ودائمًا، بما في ذلك حركات السلام، ومنظمات حقوق الإنسان، والمستشرقون، رغم إسهامات كل هؤلاء المفيدة لبلاد الشرق. ويستوي في ذلك الإسلاميون والعلمانيون، بل وحتى الشيوعيون.

وقد ازدادت التابوهات قوة في عصر ما بعد الاستعمار، مما جعل الثقافة السائدة في مصر معادية للديمقراطية، وصارت الغالبية العظمى من الناس لا تؤمن بحقوق الإنسان المعروفة، خصوصًا حقه في اختيار عقيدته بحرية، وحريته في جسده (أيْ بوضوح حرية اختيار الطعام والملبس والحرية الجنسية)، وحق الزواج المدني، وحقه في النقد الحر، ولا بالمساواة بين المواطنين. وهي تتسم بعدم التسامح مع الرأي الآخر وعقيدة الآخرين، فالتكفير يسير على قدم وساق من جانب كل التيارات، والدعوة إلى قطع رقاب المخالفين في العقيدة أو الرأي قائمة، وادعاء الوصاية على فكر الناس والأخلاق "الحميدة" والقيم مستمر. والناس هنا إنْ كانت تنتقد تعذيب الشرطة للناس عمومًا نظريًّا؛ فهي لا تمانع من تعذيب البلطجية والمجرمين، وقتلهم في الشوارع، كما يتضح من تعليقات قراء الصحف، ويرفض الرأيُ العام إلغاء عقوبة الإعدام. بل إنَّ هناك ما يمكن أنْ نسميه بثقافة التعذيب؛ فالأطفال في المناطق الفقيرة تعذب الحيوانات علنًا بتلذذ واستمتاع، كما يلجأ الأهل كثيرًا إلى تعذيب أطفالهم، بدرجات متفاوتة.

تفسر كثرة التابوهات ضعف الليبرالية المصرية، والتي تضطر دائمًا للاستعانة بالدولة لإنقاذها من أعدائها، متخلية عن شعاراتها الديمقراطية. بل تتصارع الأحزاب الليبرالية - فرضًا- فيما بينها بدون أيِّ نزعة ديمقراطية، بل ويتخذ "الحوار" الداخلي أحيانًا شكل العنف، الذي بلغ حد الحرق، وإطلاق الرصاص، واستئجار بلطجية.. ويصر معظم رؤساء الأحزاب على رئاستها مدى الحياة. وفي الآونة الأخيرة اتضح أنَّ الزخم الليبرالي الذي صحب انتفاضة 25 يناير كان عابرًا؛ فقد اختار الشعب المنظمات الإسلامية لتمثله ولم تستطع الليبرالية حتى أنْ تقدم مرشحًا ذو ثقل للرئاسة، ولجأ بعض أنصارها يستعينون بعمر سليمان حين ترشح لتحجيم الإسلاميين. وقد لفت نظري أنَّ الليبرالي الوحيد ذو الثقل (البرادعي) الذي كان ينوي الترشح في انتخابات الرئاسة قد انسحب (ولم يقرر جل الليبراليين مقاطعة الانتخابات)، بينما كل المرشحين الأقوياء يؤيدون نظاما شموليًّا من نوع ما؛ سواء إسلاميًّا أو اشتراكيًّا أو مافويًّا؛ نفس النظام القائم، مما يعبر عن الضعف البالغ لليبرالية المصرية، وسيادة نزعة عبادة الدولة، وفقر مصر السياسي عمومًا. ولا يمكن ألا يكون بلا مغزى كبير هوس الملايين بشخص يعيش في كهف ميتافيزيقي، هو مرشح الرئاسة حازم أبو اسماعيل، أو التفاف عدد كبير من العلمانيين حول مرشح إخواني هو أبو الفتوح، بل والآن بدأ الآلاف يدخلون حزب "الدستور" لسبب وحيد: إنه حزب البرادعي؛ فالاختيار يتم على أساس شخصي؛ الكاريزما، أو شخصية المرشح، وقدرته على تقديم خطابٍ مُرضٍ، وليس برنامجه العملي. ولكن إذا عمقنا التحليل فسنجد أنَّ الثوار من يسار وليبراليين ونخبة مثقفة عمومًا يجدون أنفسهم الآن أمام أحد خيارين كلاهما مر: مرشح إسلامي، أو مرشح الدولة، مما يدل على عجز تاريخي - بمعنى ما - ومعناه النهائي أنَّ النظام مستمر في المدى المنظور.

ومما له دلالة مهمة أنَّ هناك قبول عام من المجتمع والنخب للمادة الثانية من الدستور، والتي تنص على أنَّ مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وهذا القبول يدل حسب تقديري على أنَّ مصر غير مؤهلة بعد للانتقال إلى الديمقراطية، بل إنَّ ثقافتها مازالت مرتدة إلى عصر ما قبل الحداثة، والأمر يحتاج إلى نضال دؤوب وحركة تنوير مثابرة.

 ومما له دلالة بهذا الخصوص أنَّ الانتخابات تتم دائمًا في حماية الشرطة، وتمت مؤخرًا في حماية الجيش، وهذا لايحدث في البلدان الديمقراطية.

كان الوضع أكثر انفتاحًا قبل 1952 ولكن الانحدار مستمر، ولم يكن دون مغزى أنْ رفعت الجماهير في 1954 شعارات مثل: تسقط الحرية، تسقط الديمقراطية، وسلمت قيادها للعسكر.

 كما تدهور الفن بوجه عام منذ أخضعته الدولة لرقابة صارمة وتدخلت فيه بالكامل، وانهار فعليًّا مع الصعود الاجتماعي للقوى الطفيلية. ورغم انتعاش المسرح والسينما وربما الأدب في العهد الناصري بشكل مؤقت، فقد استخدم كل ذلك في الدعاية للنظام الفاسد، والتشهير بالنظام السابق، فالحلم الذي خلقته الناصرية ألهم المثقفين، وقد كانت الناصرية محترفة في شؤون الدعاية لنفسها، واستخدمت المثقفين لهذا الغرض، بل لقد استخدمت فنانين عظامًا في التغني بإنجازاتها على نحو فج للغاية([15]). لقد فقد مثقفو مصر وعيهم، وأصابتهم الناصرية بالسكر، وكانت بالطبع تميز منهم أهل الثقة قبل غيرهم، ومن رفض الخضوع لم يُسمح له بالعمل بحرية (كمثال وضع نجيب سرور في السجن في الستينات قبل أنْ يذهب إلى مستشفى الأمراض العقلية عام 1971).

- كان صعود الطغمة الساداتية إيزانًا بتدهور حاد وبشع للثقافة المصرية. فالسادات كشخص وقائد أوركسترا من الأفاقين أعلن حربًا صليبية ضد العقل لصالح الدين، وضد كل القيم الوطنية والإنسانية، لصالح أيِّ نوع من البيزنس، وكان عدو المثقفين وصديق لصيق بكبار اللصوص. ففي عهده صعدت بشدة طبقة جديدة من المجرمين المحترفين؛ فصاروا أغنى الأغنياء، وحملوا معهم ثقافتهم الخشنة، فتدهور الذوق العام، وتذوق الجمال، وقد انتشر القبح والقذارة في كل مكان، وبدلًا من نمو الحضر تم ترييف المدن، بما فيها القاهرة، وانتشرت العشوائيات في كل المدن، وتدهور حتى مستوى اللغة؛ فلم تعد اللهجة المصرية هي المحبوبة في العالم العربي بسبب تدهورها وسوقيتها. وفي سياق حربه ضد اليسار أطلق الإسلاميين عليهم، وسلح بعضهم ومنحهم مساحة واسعة في الإعلام، وترك لهم المساجد، بل وتبنى خطابهم، حتى انقلبوا ضده.

- ونتيجة لانتشار الفقر وصعوبة الصعود الاجتماعي وعجز الاقتصاد عن استيعاب الكفاءات؛ صار تحقق الفرد – بالمعنى الفلسفي للكلمة – شديد الصعوبة، وقد أدى ذلك إلى تدهور أخلاقي وسلوكي شديد ومتزايد، وانتشار قيم أنانية فردية شديدة، ولكنها ليست أنانية البرجوازي، بل أنانية اللص؛ فهي ليست في إطار نظام يحكمه قانون السوق وقيم البرجوازية الراسخة، بل في إطار لا نظام؛ نظام مجرد من القيم، يشبه مرحلة التراكم البدائي لرأس المال في إنجلترا. هذه الظروف أنتجت ما أسميه ثقافة الكذب؛ فالصراع الحاد دائمًا حول الثروة وحول متطلبات الحياة أنتج سلوكًا غير مستقيم، فلا يمكن بسهولة الاتفاق مع أحد على شيء، أو حتى موعد ما لأيِّ شيء، سواء من رجال الأعمال أو الأفراد العاديين، وصار الكذب وإخفاء الحقائق شيئًا عاديًّا غير مستفز، وهذا في رأيي مما يفسر عدم استفزاز الجماهير من كذب الإسلاميين الفج، ولا من كذب الإعلام الذي يمارس على مدار الساعة، وكذب المسؤولين جهارًا نهارًا، فهذه عادة مصرية الآن. وكانت الدولة هي المبادر الأول لنشر ثقافة الكذب، فالنظرية غير التطبيق حتى فيما يخص اللوائح والنظم المختلفة في كافة القطاعات والمؤسسات والتعليم النظري يختلف عن الممارسة العملية والواقع يختلف عما في كتب المدارس وفي الإعلام. ونحن شعب يحب من يمدحه، سواء بالحق أو بالباطل، أيْ بالكذب. كما أدت صعوبة تحقق الأفراد وصعوبة الاستمتاع بالعمل، أو بمتع أخرى، بسبب الفقر والبطالة، وانتشار التزمت الديني، إلى انتشار حالة من الهوس الجنسي في الشارع المصري.

-     كما ارتفع معدل الجريمة وظهرت أشكال بشعة من الجرائم([16]). ومع اتساع البطالة وازدياد سطوة أجهزة القمع ومناخ القهر العام وانتشار الإسلام السلفي، عكس الرجال إحباطاتهم على المرأة. فالغالبية العظمى من رجال مصر يحتقرون المرأة، وتحت تأثير السلفية صارت أغلبية النساء تخجل من أنوثتها، والملفت للغاية أنَّ النساء صوتن في انتخابات البرلمان الأخيرة للسلفيين بكثافة، وهم المعروفون بثقافتهم الذكورية المتطرفة.

يضاف إلى ذلك استمرار انتشار عادات وتقاليد ضارة اجتماعيًّا واقتصاديًّا، منها ختان البنات وتعاطي المخدرات. وتسود الهمجية والعشوائية كل شيء، ابتداء من قيادة السيارات والتوك توك الواسع الانتشار الآن، وحتى التعامل مع الأمراض والأوبئة، وانتهاء بالعلاقات الدولية.

وبسبب البطالة الكبيرة والفقر الشديد والتهميش وصعوبة الحراك الاجتماعي إلى أعلى، انتشرت ظاهرة التسول بأشكال متعددة وغريبة، ثم صارت ثقافة واسعة الانتشار في المجتمع. فبلغ الحال إلى إضفاء سمة التسول على علاقة الزبائن بمقدمي الخدمات، فالخدمة خدمة شخصية والمقابل المادي "حسنة"، وصار الاتفاق على الأجر مقابل الخدمات المؤقتة مستحيلًا تقريبًا، لأنه "حسنة"، ويعاني المواطن العادي من تسول الموظفين، أو العاطلين في كل مكان: مواقف السيارات – المحطات – المطارات – وحتى داخل المطاعم والفنادق والمستشفيات. وقد انتشرت الجمعيات الخيرية في كل مكان، وأقبل الأغنياء على دفع الصدقات، واستخدم الإسلاميون فقر السكان في نشر ثقافة التسول على أوسع نطاق، بتشجيع الزكاة، وتبني الفقراء من خلال الجمعيات الخيرية، ومشروع اليتامى... إلخ. كما أنشأت الدولة مشروع "العلاج على نفقة الدولة"؛ فصار المرضى يتسولون حق العلاج.

 

إنَّ الثقافة المصرية السائدة حاليًّا تعيق أيَّ انطلاق محتمل لعملية التحديث، وهي – في مجملها- ثقافة عنصرية ولا ديمقراطية، بل إقصائية لا تحترم الآخر، وهي ثقافة استهلاكية معادية للأبدًاع والعمل عالي الجودة، وهي أيضًا تمجد ادعاء العلم؛ الفهلوة، لا العلم نفسه، وتفضل التواكل والبحث عن الحظ، بدلًا من التخطيط والحسابات العقلية، وتحترم الماضي أكثر من الحاضر، والميت أكثر من الحي، وأخيرًا يسودها الاعتقاد في الخرافات، بل وحبها.

ومع انهيار قيمة العلم انهارت أيضًا قيمة الثقافة؛ فانخفض إقبال المصريين على القراءة، وتدهور سوق الكتاب، وأصبح الإقبال على الكتابات الخفيفة أكثر من الجادة، وعلى كتب الدين والخرافات أكثر بكثير من كتب العلم والفكر.

يدرك المصريون عمومًا كل مظاهر التأخر هذه التي تشكل أساسًا للميل إلى جلد الذات، أحيانًا بقسوة ومبالغة، بجانب الشعور بالدونية تجاه الشعوب المتقدمة، دون تقبل أيِّ نقدٍ من قبل آخرين، فنحن شعب – خاصة النخب- يحب من يمدحه ويغضب ممن ينتقد ثقافته أو تصرفاته، وفي هذا يشبه الشعب حكومته. وفي نفس الوقت يعتقد أغلبنا أنهم أكثر شعوب العالم تحضرًا، وأنهم أفضل البشر، وأنهم شعب "أصيل" لديه قيم "فاضلة وأن "معدنهم" فريد من نوعه، وكثيرًا ما نسمع أو نقرأ تعبيرات مثل: مصر تستحق أفضل من هذا، مصر دولة عظمى، مصر أهم بلد في العالم، مصر غنية، أول بلد فعلت كذا، علمنا العالم، أعظم ثورة في التاريخ، بل لا يتقبل عموم المصريين تعرض حكومتهم لانتقاد غير المصريين، وكأنَّ بلدهم مجرد قبيلة واحدة. وتنفخ وسائل الإعلام الحكومية والخاصة ودعاة المحافظة على الهوية في هذه الأفكار. هذا المركب من الشعور بالنقص والشعور بالعظمة الزائفة هو حالة بارانويا مرضية متقدمة، ينتج عنها شعور بكراهية البلدان الغنية؛ خصوصًا الغرب المتفوق، والتوجس منها اعتقادًا بأن مصر مستهدفة دائمًا، لأنها أهم بلد في الدنيا، وأنها خطر على العالم المتقدم... إلخ. وأحيانًا تأتي فرصة التعبير الفظ عن هذه الحالة، خصوصًا حين يحدث صدام مصري – عربي، فتأخذ وسائل الإعلام والنخبة وتعليقات القراء والمشاهدين تتغنى في عظمة مصر وهجاء التخلف العربي بأبشع الأساليب.

هذه البارانويا تترجم إلى حساسية مفرطة من أيِّ تدخل خارجي في شئون البلاد حتى لو كان لصالح الشعب، وتستخدم هذه الحساسية من قبل السلطة العسكرية لتشويه المعارضين، كما تقوم كل طائفة سياسية باتهام غيرها بتلقي دعم وتمويل خارجي، باعتباره دليلًا على العمالة للخارج.

إنَّ الكلام المكرر والروتيني عن عظمة مصر ينطوي على مشاعر غاية في التعصب والعنصرية، وإذا كانت الثقافة السائدة لا تؤهل الناس للانخراط في عالم الحداثة وما بعد الحداثة، فكيف نتحدث بملء الفم عن العظمة القومية والتفوق الحضاري والقدرات الفذة؟!

أما عن الديمقراطية؛ فالشعب يرفض الثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويفضل الشريعة. صحيح أنَّ الكل يعلن ضرورة احترام صناديق الاقتراع، ولكن لا تؤيد الأغلبية العظمى مثلًا حرية الاعتقاد، أو العلمانية، أو الزواج المدني، كما انتخبت قوى دينية معادية للديمقراطية، ووافقت على التعديلات الدستورية، بما تضمنته من نصوص غير ديمقراطية (مثل المادة 28 الشهيرة). ويرفض الرأي العام مثلًا حق غير المسلمين وحتى الشيعة في الدعوة لأديانهم، ولم يجد أحد غضاضة حين صرح بعض المشايخ والمفكرين المزعومين، مثل سليم العوا، أنهم سيمنعون نشر الفكر الشيعي في مصر، طبعًا بالقوة.

-     كانت تجارب الثورات كلها سيئة للجماهير الفقيرة. فقد ضحت مرارًا عبر التاريخ، ولكن كانت التورتة تقع دائمًا في يد نخبة حاكمة جديدة، فالشعب المصري لم يحكم نفسه أبدًا (أيْ بحكومة شعبية)، وفي المرة التي استطاع أنْ يقرر من يحكمه عين محمد علي؛ الأجنبي والطاغية حاكمًا، راح يذيقه المر والهوان، لتحقيق أطماع عائلته. وهذا ما يفسر جزئيًّا على الأقل إحجام الجماهير عن العمل الثوري الدؤوب. من تجاربها الطويلة لا تثق الجماهير في معظم الأحوال بأىٍّ ممن يدعون قيادتها؛ لأنه في كل مرة سلمت قيادها تعرضت للخيانة. ورغم أنَّ جمال عبد الناصر استطاع أنْ يقدم رشاوى ملموسة لقطاعات شعبية مهمة، شعر الشعب في النهاية بالخداع والخيانة مع هزيمة 1967 المهينة. وهذا ما يفسر تواضع طموحات الشعب المصري، التي تنحصر في استمرار الحياة التقليدية، وقصر نفسه وضيق أفقه، وهذا يدفع الناس للتغاضي عن أمور كثيرة، ويفسر عدم وصول الصراع الاجتماعي أبدًا حتى نهايته، كما يفسر نجاح الرشوة في الانتخابات ولعبة السياسة عمومًا([17]).

- تميل الجماهير والنخب أيضًا إلى نزعة عبادة الفرد، دون العمل الجماعي والمبادرة الشعبية (حتى في لعبة الكرة). ولكن كان اعتصام التحرير الشهير ظاهرة فريدة للغاية؛ فقد استطاع مئات الألوف أنْ يقوموا بعمل جماعي شديد التنظيم والدقة، سبقه تنظيم انترنتي راقٍ للغاية، وهذا يعكس قدرة فائقة على العمل الجماعي، ولكنها معطلة أغلب الوقت. فبعد نهاية الاعتصام لم يتم تجاوز نزعة عبادة الفرد المتأصلة. فانتظر الجميع قائدًا يسير بهم إلى بر الأمان، بل ويلاحظ أنَّ حتى الجمع في التحرير بدأ يبحث عن قيادة منذ 28 يناير، مناديًا الجيش بالتدخل. ويميل الناس إلى السير وراء شخصية كاريزمية. في التاريخ الحديث كان زعماء الحركة الوطنية، ثم سعد زغلول، والنحاس، وعبد الناصر، والآن يؤمن الكثيرون بالبرادعي، وغيرهم سار كالأعمى وراء حازم أبو اسماعيل، والبعض يدافع بشراسة عن عبد المنعم أبو الفتوح. فالكل يبحث عن شخصية المهدي المنتظر، وليس عن قائد مفوض منهم.

- المصريون يقدسون الجيش نتيجة كثرة الحروب الخارجية عبر التاريخ، وتعدد اعتداءات الدول الأخرى، والتهديد الخارجي الدائم تقريبًا. ولأن الجيش قد تبوأ قيادة بعض الحركات الوطنية، مثلما حدث في عهد أحمد عرابي، وبعد ذلك مشاركة بعض الضباط في الحركة الوطنية، ثم انقلاب 1952، الذي دغدغ المشاعر الوطنية بشكل لم يسبق له مثيل. وهذا مما يفسر إلى حد كبير عدم استيعاب ما يحدث الآن من تآمر العسكر ضد الحركة الثورية الحالية. ورغم كل جرائم الجيش التي فاقت جرائم أمن الدولة، مازال الثوار يميزون الجيش عن المجلس العسكري. بل تحدث ماركسيون بعد انتفاضة 25 يناير عن الجيش بتقديس، معتبرينه جيش الشعب، وهي فكرة غريبة تمامًا على أيِّ طبعة من الماركسية.

رغم ما حققه النظام الناصري من استقلال سياسي ومن رفع الشعور بالعظمة القومية، إلا أنه قد صفى في الوقت نفسه الطبقة الأرستقراطية المتعلمة جيدًا والمرتبطة بالغرب، كما طرد الأجانب، واليهود، الذين كانوا حرفيين وتجارًا ممتازين، ويحملون ثقافة حديثة، كما وجه ضربات قاسية للشركات الأجنبية، ذات التقاليد الحداثية في التشغيل والإدارة. كل هذا التمصير حرم المجتمع من عناصر حداثية. ولم يتخذ الناصريون إجراءات ما لإحلال قوى أكثر كفاءة محلها، بل وُضعت محلها عناصر أقل كفاءة بكثير. فكان التمصير بدوافع شوفينية فقط، بجانب تفضيل أهل الثقة على أهل الخبرة، كسياسة عامة من أهم عوامل تدهور الحرف والإدارة والصناعات والتعليم. وحتى اللغة الإنجليزية والفرنسية صارتا تنطقان باللهجة الريفية المصرية، كما صار الوقت لا يحترم، وانخفض إتقان العمل، وسادت الفهلوة، وفي النهاية وجدت الفتاوى الدينية المتعصبة الطريق أمامها سهلًا دون عوائق تذكر. باختصار فتحت الناصرية الباب على مصراعيه للتراجع الحضاري الذي انفجر في عصر السادات، ثم مبارك.

وقد أصبحت الدولة أكثر عجزًا باستمرار على استيعاب المثقفين والمتعلمين في دولابها؛ مما أنتج أعدادًا كبيرة من المتعلمين مهمشين، يعملون في اقتصاد الظل، أو لا يعملون أصلًا، وكذلك مثقفين لا يندمجون في الدولة، ولا يعملون في خدمتها، مما مهد أيضًا لانفجار 25 يناير، الذي فجره أساسًا هذا الشباب المنبوذ من الدولة.

 

4- الإنتليجينسيا المصرية([18]):

قبل الحملة الفرنسية كانت الطبقة النبيلة مكونة من رجال دين ومماليك، تتميز بالجمود وانعدام أفق التحديث، باستثناء ربما شخص واحد هو الشيخ حسن العطار([19]). وكان الفضل للفرنسيين في دفع ثلة من الأشخاص مثل الجبرتي للتفكير بشكل أكثر عقلانية.

لذلك أُنشئت الإنتليجينسيا الحديثة إنشاءً، ولم تتكون بآليات اجتماعية ذاتية. بدأ ذلك عمليًّا في عهد محمد علي؛ شكلتها الدولة، فقدمت الإغراءات المجزية، كما قامت بإجبار بعض الناس على دخول المدارس، ثم السفر للتعلم في أوروبا بغرض أساسي هو إنشاء جيش قوى لتمكين أسرة محمد علي. ولم يكن التحديث الاجتماعي مطلوبًا من قبل الدولة إلا بالقدر الملائم لإنشاء جيش حديث، ولذلك ركزت الدولة وقتها على ترويج العلوم الفيزيائية دون العلوم الاجتماعية، والتي بدأ الاهتمام بها لاحقًا. وقد حملت الإنتليجينسيا المصرية منذ البداية ثقافة مركبة؛ حديثة علمانية وقديمة دينية، فرغم التعليم الحديث جاء هؤلاء المتعلمون من بيئة شديدة الجمود.

لم تقم الطبقات المهمة باحتجاجات جذرية، ولم تقدم مطالب ثورية ملهمة للمثقفين. إذ لم تكن عملية التحديث في مصر حادة تمامًا، مقارنة مثلًا بروسيا القيصرية؛ فلم تنشأ هنا مراكز صناعية متطورة بحق، وتركز التحديث على قطاع الخدمات اللازمة لإقامة اقتصاد تابع وهش، ولإقامة صناعات حالة محل الواردات (بعد تفكك نظام محمد علي)، وكذلك لتقوية قبضة الدولة الحديثة على المجتمع المدني، فهذه الإنتليجينسيا لم تتكون في سياق عملية تحديث جذرية، بل في سياق عملية تحديث جزئية محدودة الأهداف. ولهذا السبب لم تتبن أيديولوجيا حداثية بالكامل، ولم تصبح علمانية بحق، ولم تقد عملية تنوير حقيقية، ولم تشهر سلاح العقل في وجه الأيديولوجيا القديمة([20]). لذلك ظلت الإشكالية المعروفة بمسألة العلاقة بين الأصالة والمعاصرة قائمة طوال تاريخ مصر الحديث. فالنمو المركب على الصعيد المادي قد أنتج نموًا مركبًا على صعيد الوعي كذلك، فنشأت الإنتليجينسيا العلمانية نصف الدينية بجانب الإنتليجينسيا الدينية نصف العلمانية، والفكر العلماني بجانب الفكر الديني، بدون صراع تاريخي، حيث صودر الصراع منذ بداية التحول في البناء التحتي، على صعيد الطبقة المسيطرة، حيث لم يحدث صراع تاريخي بين البرجوازية والإقطاع. كما كان الفصل بين الدين والدولة غير كامل، بل وكان عنصر الوئام بينهما يغلب أحيانًا على عنصر الصراع. فرغم حاجة الدولة المحدثة والطبقة الحاكمة الجديدة إلى فكر جديد، ظل للأيديولوجيا القديمة دور هام للغاية بالنسبة لها، بفضل حالة الانتقال المحتجز بالذات؛ المتضمن لاستمرار التأخر وعدم خضوع قطاعات واسعة من السكان لآليات الحداثة الاجتماعية عمومًا والإنتاجية خصوصًا. ولذلك ظل للأيديولوجيا القديمة مكانة هامة لديها.

 يمكننا أنْ نصف الإنتليجينسيا المصرية عمومًا بأنها مثل المجتمع الذي تنتمي إليه؛ تحمل ثقافة مركبة؛ قبل حداثية وحداثية، بل لقد اتجهت في العقود الأخيرة أكثر نحو اللاعقلانية صراحة: فآلاف المتعلمين الآن هم سلفيون معادون للعلمانية. ولهذا كله شهدت ساحة الأيديولوجيا موقفًا سلبيًّا من ِقبل العقلانية الحديثة في مواجهة الفكر الديني. ولم نرصد في تاريخ مصر الحديث صراعًا أيديولوجيا حاسما وتاريخيًّا. بل ساد الحل الوسط والانتقاء. ومن الملاحظ أنه نتيجة حالة النمو المركب على صعيد الفكر لم تصبح الثقافة المصرية متماهية ولم تشهد انتصارًا نهائيًّا لأحد قطبيها: الإسلام والعلمانية؛ أو الأصالة والمعاصرة. ولنتذكر – للمقارنة- أنَّ البرجوازية في الغرب قد حققت هذا تقريبًا، استنادًا إلى إنجازاتها الاجتماعية - الاقتصادية الكبيرة. وفي المقابل نجد أنَّ "طبقتنا" المسيطرة لم تحقق ثورة برجوازية بالمعنى المفهوم للكلمة، كما أنه لم تتكون طبقة بديلة قادرة على أنْ تحفز ظهور وانتشار ثقافة علمانية - عقلانية. باختصار تفتقد مصر المعاصرة إلى قوة اجتماعية لها مصلحة وقدرة على تحقيق ثورة اجتماعية، ولذلك غابت الحاجة الموضوعية لتصفية الفكر القديم وتحقيق نصر نهائي للعقلانية، فلم يتكون فكر ثوري؛ جذري، معادٍ فعليًّا للدولة الرجعية وللنظام الاجتماعي المتخلف.

وكانت أكثر فترة شهدت ظهور أطروحات فكرية جذرية قياسًا بما قبلها هي فترة محمد علي، والعقود التالية له حتى نهاية عصر اسماعيل، والتي شهدت أعلى معدل للتحديث في تاريخ مصر([21]). فبلوغ الحالة الانتقالية بيسر، والتي لم تقاومها الإنتليجينسيا الدينية نفسها مقاومة تذكر، بل ساهم مفكرون إسلاميون كبار في عملية تكييف الإسلام مع عملية التحديث الجزئي، لم تتطلب إنجازات فكرية ضخمة. لذلك لم تشهد مصر حركة تنوير واسعة، مقارنة بأوروبا وروسيا وغيرها.

وقد مرت الليبرالية المصرية بعصرها الذهبي منذ ثورة 1919 وحتى 1952. وحتى خلال تلك الفترة لم تكن ليبرالية بالمعنى المفهوم في الغرب، بل نصف ليبرالية، ولم تقدم مشروعًا لمقرطة مصر جذريًّا. ومن الملفت أنَّ الأحزاب الأقرب للاحتلال والملك كانت أكثر علمانية من حزب الوفد ممثل الحركة الوطنية، وطبعًا لم يتخيل أيُّ طرف تحويل مصر إلى جمهورية مثلًا.

ومع النمو الواضح للطابع الطفيلي للطبقة المسيطرة خلال العقود الأخيرة شهد الفكر المصري تراجعًا حضاريًّا؛ فقد انتصر الدين على الفلسفة، فبدلًا من زكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا، ومراد وهبة، وعبد الرحمن بدوي، ظهر الشيخ الشعراوي، ومصطفى محمود، وغيرهما، وانتصرت السلفية على الإصلاح الديني؛ فصار الشيخ محمد حسان، والشيخ الحويني، وغيرهما من نجوم المجتمع، بدلًا من الشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد الغزالي، وانتصرت الغيبية على العلم، فالإعجاز العلمي في القرآن والحديث صار يتمتع بشعبية هائلة أكثر من شعبية العلم نفسه؛ فبدلًا من على مصطفى مشرفة، ظهر زغلول النجار، ومقلدوه، وصار لهم جمهور هائل، ودعم مادي رهيب، بينما يعاني العلماء من التجاهل والفقر، ويضطرون إما للهجرة (مثل معظم علماء الذرة وعالم مرموق مثل أحمد زويل)، أو لنشر أبحاثهم في الخارج، وليس في مصر (مثل محمود بهجت، ووفاء حجاج، ومخلص عبد الملاك).

 لقد صار الفكر السلفي الوهابي واسع الانتشار، والسلفيون بوجه عام أكثر محافظة من قيادات الإخوان المسلمين (قواعدهم سلفية أيضًا)، وأكثر كرها للحداثة، وهم يلعبون على مشاعر الفئات الأشد فقرًا والأكثر حرمانًا من ثمار التحديث، ويشجعون ثقافة التسول، وهي وسيلتهم المفضلة في كسب الأنصار وتوسيع قواعدهم. فهم يشجعون الأغنياء على تقديم الصدقات، وينشطون في مجال العمل الخيري، منافسين الإخوان بقوة، كبديل على التمرد والخروج على الحكام والصراع الطبقي الذي يقاومونه.

وتحت ضغط العلمانيين والإعلام الغربي والمسيحيين لجأ الإخوان المسلمون إلى ابتكار "فقه الأولويات"، أيْ ما يمكن وصفه بفقه التلون؛ الخداع الإعلامي، دون إصلاح الأيديولوجيا الفقهية نفسها. فقد استمرت أصول الفكر الإسلامي منذ حسن البنا دون تغيير كبير؛ فظلت فكرة الحاكمية مسيطرة، وأولوية الانتماء الديني على الوطني رغم استخدامهم للخطاب الوطني، والفصل بين الإسلام والمسلمين؛ الفكرة المسيطرة منذ التحديث. باختصار لم يحدث أيُّ إصلاح ديني منذ العشرينات، بل تلون إعلامي فحسب، ولذلك ظلت الحركة الإسلامية تسير في نفس الطريق، وتصاب في كل مرة بالهزيمة، لتقوم وتعيد المحاولة نفسها.

أما اليسار الماركسي فقد كان فيما مضى أكثر "حداثة"، بمقياس عصره، أما اليوم فقد تجمد وتوقف عند أفكار "السلف"، بل السلف المحافظ وليس الثوري، رغم انتهاء وفشل التجارب الاشتراكية في تحقيق الحلم الإنساني المنشود وما يتطلبه ذلك من وقفة جادة وإعادة الحسابات، ورغم تغير تركيب المجتمع المعاصر، ورغم الخصوصية الفريدة للمجتمع المصري الذي تسيطر عليه طبقة لا يمكن اعتبارها مجرد رأسمالية، وتضخم فئات المهمشين وأشباه المهمشين. وهذا الجمود والتسطح للفكر الماركسي في مصر هو مجرد جزء من الظاهرة الأكبر: التدهور الحضاري العام واتجاه الفكر نحو "الأصالة" وضد المعاصرة. وقد ساعد على تدهور الماركسية انحطاط تكوين البروليتاريا ومحدودية "نضالاتها"، وهي الطبقة المفضلة تقليديًّا لدى الماركسيين.

مازال الماركسيون يؤمنون بعمق بفكرة امتلاك الدولة للاقتصاد، والالتزام بتعيين الخريجين، ودعم السلع الضرورية... إلخ مع إضافة حلية يسمونها الرقابة الشعبية، رغم انتهاء عصر هذا النمط من التنمية. ورغم هذا تخلو الأطروحات الماركسية المقدمة للجمهور في الوقت الراهن تقريبًا من أفكار ثورية تقليدية، مثل العنف الثوري، وضرورة تحطيم جهاز الدولة، كشرط لقيام الاشتراكية، والبعض منهم تكلم عن الجيش المصري باعتباره جيش الشعب، وهي فكرة غريبة للغاية عن الفكر الماركسي. ولم يقدم الماركسيون أبدًا تصورًا عينيًّا لصورة المجتمع الذي يريدونه سوى تلك الاشتراكية التعيسة التي انهارت من قبل، والتي يرفضون الاعتراف بأنها كانت اشتراكية، وبذلك يقدمون لنا "شيئًا في ذاته" – بالمعنى الكانتي - يعجزون عن وصفه وإقناع الشعب به. ومازال الكلام التقليدي المكرر حول قيادة الطبقة العاملة الممكن والضروري للثورة بينما لا تستطيع هذه الطبقة حتى أنْ تنخرط في نشاط سياسي.

كما يتسم الماركسيون المصريون بنزعة قومية ضيقة الأفق تمامًا، بل وشوفينية مثل بقية المثقفين، وتسود شعاراتهم هذه الهوية الوهمية بدلًا من أنْ تكون شعارات طبقية صريحة وجاذبة للفقراء، وكان أقصى أمانيهم طول الوقت الحصول على اعتراف المجتمع بشرعية منظماتهم([22]).. كما يتم التعامل مع الماركسية كديانة تقدم الحقيقة (وليس كفكر مفتوح)، بالضبط مثلما يتعامل المؤمنون بالإسلام أو المسيحية. وتكفي نظرة سريعة لأطروحات الطرفين حتى يتبين المرء أنَّ الفرق بينهما لفظيٌّ أساسًا، وأن البناء الداخلي واحد تقريبًا.

يحتاج اليسار الماركسي - حتى يصبح قوة سياسية في الشارع – إلى إصلاح أيديولوجي جذري، يتضمن على الأقل اعتبار الماركسية فكرًا مفتوحًا، وليست النظرية الصحيحة (بالفعل وليس بمجرد ترديد هذه العبارة )، والتخلي عن تناولها كفلسفة شاملة تجيب على كل الأسئلة. لا شك أنَّ الماركسية كانت محطة فكرية شديدة التأثير في التراث الإنساني، ولكن بعد مرور كل هذا الزمن دون أنْ تنهار الرأسمالية أو تنجح الاشتراكية رغم الثورات الكبرى، أصبح من الضروري عمل وقفة جادة. فلم يعد من السهل الآن تقديم حتى تعريف واضح للماركسية، أو الاشتراكية، ولا حتى الطبقة العاملة، وبعد تطور الفكر البشري أصبح من الصعب للغاية تبرير أفكار مثل ديالكتيك الطبيعة أو الحتمية التاريخية للاشتراكية، أو إمكانية الثورة الاشتراكية في مجتمعات متخلفة وغيرها. كما أنَّ تحليل الواقع المصري المختلف تمامًا عن واقع الرأسمالية الأوروبية التي اعتمد عليها ماركس يحتاج لأدوات تحليل مختلفة ونحت مفاهيم خاصة، ومما يجب اعتباره كون الدولة هي الطبقة المسيطرة وضخامة عدد ودور المهمشين ونضالاتهم الأكثر راديكالية. ولا يحل القول بأن الرأسمالية عالمية ولا أنَّ الثورة عالمية هذه المشاكل، بل تزيدها تعقيدًا، فالمطلوب دائمًا من أيِّ تيار سياسي أنْ يقول ما العمل هنا والآن، أو على الأكثر في المدى المنظور، وليس الاكتفاء بطرح آفاق بعيدة المدى.

في الواقع لم يستطع اليسار الاشتراكي أبدًا أنْ يتصور مشروعًا يتجاوز النظام الشمولي، حيث تمتلك الدولة كل شيء بما في ذلك المجتمع المدني.

لكل ذلك أعتبر أنَّ اليسار الاشتراكي قد فشل تاريخيًّا، إلى غير رجعة، وصار جزءًا من الماضي، بالمعنى "التاريخي" للكلمة. وهو في هذا لا يختلف عن السلفية الإسلامية، والتي تريد إحياء شيء ميت، بل أظهرت الأخيرة تطورًا واضحًا في الآونة الأخيرة. ولذلك صار هذا اليسار جزءًا من النظام القائم بمعنى معين؛ كجزء من الديكور الديموقراطي، والمعارضة غير الفعالة، والتي تخدع الشعب بشعارات لا يمكن تنفيذها، وبمشروع أخلاقي أكثر مما هو سياسي. فالاشتراكية التي أقيمت في بلدان عديدة لم تعد تسمى اشتراكية، أما التي يبشرون بها فتشترط رقابة الشعب وإدارته الذاتية، فماذا لو تكاسل الشعب عن الرقابة؟! كما أنَّ رقابة الشعب يمكن أنْ تمارس في المؤسسات الرأسمالية أيضًا، كما يحدث في بلدان عريقة في الرأسمالية، مثل ألمانيا.

وكجزء من التراجع نحو "الأصالة"، تنتشر نظرية المؤامرة وسط الفئات المتعلمة في مصر على نطاق واسع وبدرجة عميقة، شاملة الاقتناع بوجود مؤامرة يهودية، أو ماسونية مزعومة، وحتى تصور وجود تآمر دولي ضد مصر حتى لا تنهض... إلخ. وتستخدم نظرية المؤامرة على كافة المستويات العامة والخاصة لتفسير حتى أصغر الأحداث؛ فالمعاصرة أصبحت تمثل غولا لمعظم المصريين، فمن الطبيعي أنْ تتآلف الطفيلية والنهبوية البشعة مع فكر سلفي "أصيل" يكرس الواقع ويعادي التقدم. وتماشيًا مع نظرية المؤامرة تصر كافة أطياف المثقفين تقريبًا على ادعاء احتكار الحقيقة، رغم الزعم بعكس ذلك، فالكل يمتلك الرؤية الصحيحة والآخر كافر أم متآمر (يستثنى المتأثرون بأفكار مابعد الحداثة وهم قلة). ولذلك يمارس التكفير والتخوين على نطاق واسع بأشكال مختلفة، ويختلط السباب بالحوار. ويؤمن جل أتباع الأيديولوجيات بأن نظرياتهم صحيحة، بغض النظر عن النتائج عبر التاريخ، فالعيب كان دائمًا في التطبيق!

وفي السنوات الأخيرة وتحت تأثير البطالة والتهميش والغضب الشعبي الواسع بدأت تنتشر وسط بعض تجمعات الشباب المتعلم أفكار أكثر تحررًا إلى حد ما وأكثر عداء للطبقة المسيطرة، لعبت الدور الأساسي في التحضير لانتفاضة 25 يناير. وهذه الأفكار تتعلق بالرغبة في رفع مستوى المعيشة وضمان الحريات السياسية، فقد أصبحت الدولة عاجزة عن تقديم المنح الملائمة لجحافل المتعلمين الهائلة الحجم. ومع ذلك لم تصل هذه الأفكار حد الرغبة في تحقيق ثورة شاملة.

فقد ظلت الإنتليجينسيا المصرية على مدى تاريخها حليفًا استراتيجيًّا للدولة، إذ تربت أصلا في حضنها، والدولة هي التي تعيد إنتاجها الموسع، وطالما منحتها كثيرًا من العطايا، وحينما أصبحت عاجزة عن استمرار دفع المرتبات الضخمة لها استمرت في شراء وإعادة شراء النخب المميزة. إنَّ الآلاف اليوم يحصلون على مرتبات خرافية تصل للبعض إلى مليون جنيه شهريًّا، وألاف المفكرين، والكتاب، والأساتذة، والعلماء، والخبراء، والصحفيين، والقضاة، يعملون داخل الأطر التي ترسمها لهم الدولة، ويعمل مئات الألوف من خريجي المدارس العليا في أروقة الحكومة، مما يمثل للإنتليجينسيا أملًا ممكن التحقيق. لكل ذلك لم تطرح هذه الإنتليجينسا أبدًا على نفسها فكرة التخلص من هيمنة الدولة، وتنحصر طموحاتها في تغيير تركيبها، لتعطيها المزيد من المنح والعطايا.

وهذا يفسر لنا موقفها المحافظ من مشاكل الجماهير الفقيرة والمهمشة، بل وخوفها من هذه الجماهير، فلا تريد أنْ تصل في عدائها للدولة مدى بعيدًا، رغم أنَّ هذه النزعة المحافظة تضعف موقفها أمامها، كما هو حادث الآن. إنَّ طرح برنامج اجتماعي عملي وحقيقي الآن لصالح الفقراء يمكن أنْ ينقذ الثورة من التصفية التامة، ومع ذلك لم يتم هذا من قبل المثقفين، إلا كشعارات ديماجوجية، يرفعها حتى النظام نفسه أحيانًا.

وأخيرًا تتسم الإنتليجينسيا المصرية بنزعة قومية متطرفة، ولديها رغبة جامحة في تحقيق الاستقلال الوطنى، حتى بعد جلاء الاستعمار بعقود!، ويسود خطابها عداءٌ شديد للغرب خصوصًا، ولديها حنين قوى للخطاب القومي في عهد الاستعمار وعهد عبد الناصر.

 

5- نظام التعليم والبحث العلمي:

 كان التعليم في مصر الحديثة دائمًا تلقينيًّا، ولكن العملية التعليمية قبل 52 كانت جدية، أيْ كان تعليما حقيقيًّا، والآن صار تعليمًا شكليًّا؛ فهلوة، قدرة على حل الامتحانات لا قدرة على المعرفة. وهو نظام يقوم على حفظ نماذج الامتحانات بشكل أساسي. واستمرت نسبة الأمية مرتفعة حتى بين المتعلمين، وهذه الظاهرة الأخيرة لم تعرفها مصر قبل 1952 وبعدها بسنوات. وتفرض الدولة "رأيها" في أمور يجوز للطالب أنْ يكون له رأيٌ آخر، وهذا نظام يقتل أيَّ نزعة أبدًاعية وتفكير خلاق، ويعيق تأهيل العمالة للقيام بأعمال فنية بالمستوى الذي تتطلبه الصناعة والخدمات الحديثة، وقد مات دور المدرسة لصالح الدروس الخصوصية، وبالتالي انتهى العنصر التربوي في العملية التعليمية، كما صارت الجامعة المصرية مجرد مدرسة لتخريج موظفين، ولا يوجد بها بحث علمي حقيقي، والدراسات الأكاديمية محدودة. ومن الغريب للغاية أنْ طلابًا يضربون لتحويل معاهدهم إلى كليات، كما توجد ما تسمى بلجان "الرأفة" في امتحانات الجامعة والمعاهد العليا... إلخ.

منذ 1952، وفي مواجهة الماركسية والإسلام السياسي، جرى التوسع في التعليم الديني، وجعل الدين مادة أساسية في المدارس، بل وتم تحويل جامعة الأزهر إلى تدريس العلوم العصرية مع الدين. واستمر الفصل بين التعليم النظري والفني، والفصل بين التعليم العلمي والأدبي، وكذلك إهمال التجربة والبحث العلمي والتركيز على التلقين. واتجه التوسع في التعليم إلى التعليم النظري، أساسًا وصار هناك تكالب على دخول الجامعات، وبالتالي اهتمام كبير بالتعليم الثانوي العام دون الفني. إذ كان التوسع في إنشاء الجامعات يهدف لإرضاء الطبقة الوسطى، وليس لتطوير البحث العلمي وإنتاج كوادر مدربة، وقد تم استيعاب جل خريجي الجامعات في الجهاز الإداري للدولة بمرتبات جيدة (صارت صغيرة لدرجة مضحكة بعد ذلك)، بينما تفاقمت أزمة نقص العمالة الماهرة لضعف التعليم الفني. وقد أدى التوسع غير المدروس للجامعات في تدهور مستوى الخريجين، ومنهم المعلمين والأساتذة أنفسهم. وراحت الحكومة الناصرية ترسل البعثات التعليمية لدول شرق أوروبا المتأخرة، بدلًا من البلدان المتقدمة، نتيجة الخلافات مع الغرب وانخفاض التكلفة.

والآن تفاقم كل ذلك بل لم تعد الشهادات المصرية تتمتع بأيِّ احترام في الخارج. بل إنَّ بعض الشهادات العليا (الدكتوراه) تمنح ولا تؤخذ، وهي تُعد مجرد بوابة للترقية والحصول على وظيفة أكبر. لذلك أصبح معظم أساتذة الجامعات المصرية مجرد مدرسين يعطون الدروس الخصوصية، أو يبيعون الملخصات، ويستخدمون مناصبهم أو رتبهم للحصول على وضع أفضل في السوق. وقد لعب الناصريون دورًا متعمدًا في تخريب أجيال من خريجي المدارس، حين قاموا بتسييس التعليم لضمان ولاء الطلاب والخريجين للنظام؛ فغيروا عمدًا موضوعات التاريخ، وزرعوا معلومات مغلوطة حول تاريخ الغرب، وتاريخ مصر نفسها، وحشوا أدمغة جيل كامل بأيديولوجيا قوموية عنصرية. ثم زرعت حكومة السادات بذور الخطاب الديني المتعصب ضيق الأفق، والآن يدرس طلاب المدارس موضوع "الإعجاز العلمي في القرآن والسنة" ([23])!

كان الأمر كله يتعلق برغبة الناصريين في كسب الطبقة الوسطى، وقد صارت السياسة تعلو على كل شيء؛ فكانت النتيجة تخريب التعليم.

 

 6- الوضع الطائفي:

مع انتشار التحديث ضعفت روابط الدم والانتماء الديني لصالح الانتماء الوطني العام، خصوصًا بعد ثورة،1919، وأصبح مفهوم الشعب يعلو على القبيلة والطائفة الدينية. ورغم تكون جماعة الإخوان المسلمين كطائفة مصطنعة، لم ينعكس هذا الاتجاه بشكل حاسم إلا بعد انقلاب 1952.

فمنذ منذ الانقلاب الناصري تكونت فئة مغلقة من الناصريين، شكلت النخبة الحاكمة، كما لعبت الدولة على تحويل المسيحيين إلى طائفة، كأحد آليات مصادرة الصراع الطبقي؛ فحولت تدريجيًّا الكنيسة إلى ممثل للمسيحيين، وكأنهم مجتمع مستقل. ومنذ جاء السادات راحت تُؤجج الصدامات الطائفية العنيفة عمدًا، وباستخدام الإسلام المتشدد. وقد حفز صعود الأخير قيادة الكنيسة على قبول هذا الدور، إما بالاتفاق، أو بالتوافق؛ فصار البابا زعيمًا سياسيًّا يتكلم باسم المسيحيين، ويسعي لفرض مزيد من سيطرة كنيسته عليهم، واستغلال الصدامات الطائفية في توسيع نفوذ الكنيسة، وبناء المزيد من الكنائس لهذا الغرض، وبالتالي الحصول على مساعدات سخية من مسيحيي المهجر، وزيادة أعداد ومزايا الكهنة والرهبان. صار المسيحيون في عمومهم متعصبين دينيًّا مثل معظم المسلمين، وشكلوا طائفة، وتمحورت طموحاتهم حول بناء الكنائس وحرية العبادة، أيْ – عمليًّا – توسيع نفوذ مؤسسة الكنيسة المتحالفة مع النظام، خصوصًا في عهد مبارك، والتي أيدت حتى مشروع توريث السلطة لابنه جمال، متحدية غالبية الشعب المصري.

ولا تعترف الدولة إلا بثلاثة أديان للمصريين، ولا تقر لأصحاب الأديان الأخرى الحق في تدوينها في أوراقهم الرسمية، كما تضطهد غير السنة من المسلمين، ولا تعترف بحق المسلم في تغيير دينه.

وطوال العقود الأخيرة كانت الكنيسة حليفًا وثيقًا للدولة، رغم الأحداث الطائفية التي تمت، إما بتحرض وتخطيط أجهزة الأمن، أو بتواطئها وإهمال القضاء والدولة ككل في معاجتها. فالكنيسة تستفيد من الصدامات الطائفية؛ فتحصل مقابل سكوتها وتهدئتها للمعتدى عليهم على مزيد من تراخيص الكنائس، ومزيد من السيطرة على المسيحيين، وتأكيد اعتراف الدولة بتمثيلها لهم.

كما نشأ تنظيم الإخوان المسلمين منذ البداية كطائفة مسلمة خاصة كما أشرت، وتصرفت طوال تاريخها على هذا الأساس؛ فأنشأت مجتمعًا موازيًا، له اقتصاده، وحكومته، وقضاؤه العرفي، وثقافته، وتفكر الجماعة حاليًّا في إنشاء حتى نوادي رياضية خاصة بها، ومنذ السادات اتسع نفوذ هذه الجماعة، وصارت قوة كبيرة، كما تكونت تجمعات إسلامية أخرى على النحو نفسه. ويتصرف السلفيون والصوفيون بنفس المنطق، وفي حماية الدولة؛ بحيث أصبح المجتمع ينقسم رأسيًّا أكثر مما ينقسم أفقيًّا. ويدور الصراع الطائفي المتزايد التصاعد على حساب الصراع الطبقي والسياسي.

كما توجد طوائف أخرى: الشيعة – القرآنيون – البهائيون.

ويوجد خطاب طائفي قوى؛ فالكثير من رجال الدين وحتى العامة يتحدثون كما لو كانت مصر دولة إسلامية بها أقليات تعيش في كنف المسلمين، وهو خطاب يشبه خطاب غزاة فاتحين وليس مواطنين من نفس البلد. وعلى الطرف الآخر؛ المسيحي، يوجد خطاب مضاد: المسيحيون هم أصل البلد، أما المسلمون فغزاة أجانب وليسوا أصحاب الأرض الأصليين.. ويتضخم حجم الخطابين باستمرار.

ولم ينجح المصريون حتى الآن في تجاوز التكوينات القبلية، وخاصة في الجنوب، وبعض مناطق الشمال، بل ما زالت عادة الثأر القبلي منتشرة، ومازالت رابطة الدم تلعب دورًا مهمًّا في الانتخابات، واليوم بدأنا نسمع عن حركة بدو سيناء، وتمرد أبناء النوبة، وعن أحلام انفصالية لكل منهما، وهي ظاهرة جديدة.

ويشكل هذا الارتداد الطائفي أحد مظاهر التراجع الحضاري لمصر المعاصرة.

 

 7- النتائج العامة لتحديث مصر والطابع العام للنظام:

يمكن تلخيص نتائج تحديث مصر، الجزئي والمحتجز في الآتي:

* تكون بنية اجتماعية هجين: حداثية - قبل حداثية، خاضعة للسوق الدولي وذات طابع تداولي، وراكد وتحتاج لدفع خارجي مستمر لتتقدم.

* نمو متفاوت ومركب، أدى لتضخم شديد لكل من الإنتليجينسيا والفئات شبه البروليتارية.

* تفكك جزئي للقيم القديمة الدينية (والتي عادت مؤخرًا لتنمو من جديد) والإقطاعية، وبعض روابط الدم، وتكسير جزئي لروابط القبيلة.

* وفي السنوات الأخيرة صارت السلطة مشخصنة بشكل واضح، وتعمل لصالح مجموعة ضيقة؛ فتخلت الدولة عن دورها الأبوي إلى حد كبير، مما تسبب في تفاقم الفقر الشديد.

* في النهاية فقدت جماهير الفقراء شعورها بالأمان في كنف دولة كانت مسؤولة عنها على مدى التاريخ، كما فقدت قيمها التقليدية، بينما لم تندمج في عالم الحداثة، حيث الفرص محدودة، والصعود الاجتماعي شديد الصعوبة، إلا لفئات محدودة من أصحاب الحظ والعلاقات المشبوهة برجال الدولة. لقد تفككت بنية القيم التقليدية دون أنْ تقدم القيم الجديدة مزايا لمعظم السكان، مما يفسر الارتداد الثقافي الحالي. وقد تشكل نمط استهلاك غير متسق، لا مع بنية القيم القديمة، ولا مع إمكانيات أغلب السكان، فهم لم يستفيدوا من التحديث استفادة مهمة، فصار أغلبهم مهمشين أو أشباه مهمشين وشديدي الفقر ومعرضين لقهر واحتقار النخب الحاكمة والمميزة.

يمكن وصف المجتمع المصري بأنه مجتمع متخلف؛ نظام رأسمالوي([24])، لا يعمل بالآليات الرأسمالية التقليدية. صحيح أنْ الشركات تستخدم العمل المأجور، ولكن يتسم النظام الاقتصادي ككل بعدد من سمات النظم قبل الرأسمالية:

- تمتلك الدولة – عمليًّا - كل شيء تقريبًا ومن خلالها يتم توزيع الثروة، وبالتالي فتوزيع الثروة يتم بآلية غير اقتصادية، من خلال السلطة السياسية بجانب آليات السوق.

- يسيطر التداول على الإنتاج، وهي من سمات الإقطاع. ففي الرأسمالية يحصل قطاع التداول على جزء من الفائض المنتج، أما في النظم قبل الرأسمالية فتلعب التجارة الخارجية دورًا أكبر في تحقيق الأرباح. فالاقتصاد يتبع السوق العالمية من خلال التجارة، وتنفيذ مشروعات حكومية وخاصة ومنح وقروض، وبتوسط عناصر من البيروقراطية الحكومية ومقاولين أفراد.

-      تعاني البلاد من أزمات مركبة من فائض إنتاج ونقص إنتاج، بينما تكون أزمات الرأسمالية هي أزمات فائض إنتاج.

-     مازالت الدولة تلجأ لتشغيل بعض العمال بالسخرة: في منشآت الجيش المدنية حيث يقدر كثير من المحللين والمتابعين ما يمتلكه الجيش من الاقتصاد بنسب تتراوح بين 12 إلى 45 %، وهي نسب ضخمة للغاية، يتم تشغيل بعض العمال (المجندين منهم) بالسخرة، ولا يخضع للضرائب ولا الرقابة، وفي جهاز المرور ووحدات الأمن المركزي يعمل مجندون بمقابل رمزي، كما يكلف الممرضون على العمل إجباريًّا لمدة سنتين أو أكثر (فترة التكليف) بأجر رمزي([25]).

وعدم قدرة الرأسمالية على فرض آلياتها في مواجهة حلف البيروقراطية ورجال المال يدعمه وجود مصادر مهمة للفائض من خارج الإنتاج الرأسمالي المحلي: انتشار واسع لنمط الإنتاج الصغير – تحويلات خارجية ضخمة.

وقد استطاعت الدولة المهيمنة تمامًا تلويث معظم المستثمرين، وحتى كثير من أبناء الطبقات الشعبية، وتقريبًا كل من يعتمد عليها في تحقيق مصالحه. فالفساد تغلغل في كل مكان، وصار يمس المجتمع الرسمي – على الأقل - بأسره. ومن الواضح أنَّ الكثيرين جدًّا من معارضي النظام لديهم ملفات مشينة لدى السلطة، تجعلهم عاجزين عن ممارسة المعارضة حتى النهاية، كما أنَّ الكثيرين من الكتاب والمفكرين يعملون بالتنسيق مع أجهزة الأمن، أو في الحدود التي ترسمها لهم هذه الأجهزة، وهذا يشمل حتى معظم الأحزاب المعارضة، وكثيرًا من الصحف الخاصة، والمنظمات الإسلامية: جماعة الإخوان المسلمين، والجماعات السلفية، والجماعة الإسلامية. كما تعمل النقابات الرسمية مع النظام بدرجة أو بأخرى. وبكل أسف يعمل كثير من المثقفين في أجهزة الثقافة الحكومية، ويستفيد كثير منهم من الفساد.

 

- أدى مسار النظام المصري، خصوصًا بعد إجلاء الاستعمار وتطبيق الاشتراكية الناصرية، إلى تدهور متزايد العمق في بنيته؛ فصار المجتمع باستمرار مستهلكا أكثر فأكثر، ويصدر أساسًا العمالة وخدمات مثل قناة السويس والسياحة. وبعد ضرب القطاعات الرأسمالية التقليدية من الطبقة المسيطرة فُتح الباب على مصراعيه وإلى أقصى حد للبيروقراطيين، والسماسرة، والنهابين، والمستوردين، والأفاقين من كل صنف، وأدى هذا إلى هيمنة الاقتصاد التداولي أكثر وأكثر؛ مما نتج عنه إفقار شديد لقطاعات واسعة، وإلى تهميش معظم السكان، وسيادة قيم تمجد الفهلوة، والخروج على القانون، والفساد الاقتصادي والأخلاقي، وكسر أيِّ نظام، واحتقار الجمال والعلم والعقل. وفي نفس الوقت انتشر نوع من التدين يبرر كل هذا أو يغطيه، فصارت اللحية والحجاب بمثابة تعويض للفساد، والخروج على القيم المحترمة في العرف الإنساني العام.

- تمكن النظام الناصري من تقديم كثير من الرشاوى لجماهير غفيرة، حتى من أصل رأس المال الاجتماعي أحيانًا([26])، ولكن منذ انهيار مشروعه التنموي أصبحت قدرته على استمرار هذه السياسة أضعف بكثير. وحتى الدعم المتزايد للسلع الضرورية يذهب معظمه لأصحاب الأعمال، ولم يعد يكفي لإرضاء الفقراء. وقد أدى مسار النظام إلى اتساع الهوة بين الطبقات بشكل أسطوري، وإفقار الطبقة الوسطى بشدة، واتساع ظاهرة الفقر المدقع، الذي أدى لانحرافات وفساد معمم طال المجتمع بأسره، بحيث صار الكلام عن الشرف والمبادئ والقيم الأخلاقية مثيرًا للسخرية بين قطاعات من المجتمع. لم يعد هناك قبول أو علاقة سلام بين الطبقات، بل عداوة شديدة، وحقد اجتماعي لم يسبق له مثيل. إنَّ شعور الفقراء بالظلم والقهر صار عميقًا للغاية، ويبرر انتفاضاتهم العنيفة المتكررة، وصار الوضع ينذر بتمردات شديدة الحدة. وبينما كان النظام قادرًا فيما سبق على تقديم الوظائف المضمونة للمتعلمين بدوائر الحكومة ومنحهم أجورًا مجزية، تقلصت هذه القدرة خصوصًا منذ عهد السادات، وأصبحنا نرى مئات الألوف منهم خارج دولاب العمل، وصارت أجورهم ضئيلة للغاية، ومن هنا خلق النظام لنفسه عدوا لدودًا ويائسًا: المتعلم المهمش، وقد لعب هؤلاء دورًا لا ينكر في الجماعات الإسلامية المسلحة، ثم أخيرًا في انتفاضة 25 يناير.

- كما أدى مسار النظام إلى ضعف فرص الحراك الاجتماعي، وأصبح الصعود الاجتماعي مرتبطًا بالقدرة على خدمة السلطة، أو رجال الأعمال اللصوص، أو تنفيذ عملية نهب مباشرة. كما أصبحت ظاهرة التوريث منتشرة في كل الأوساط، ابتداء من رئيس الجمهورية، وحتى الوسط الفني، والجامعي، والقضاء، والشرطة، والجيش، وغيرها. فهي ثقافة مجتمع وليست نزوة حاكم. ومغزاها هو سيطرة ثقافة الفئة المغلقة أوالطائفة، وغياب تكافؤ الفرص، بسبب البطالة، وقلة الفرص أصلًا، وتكاثر السكان بمعدل كبير يتفوق على معدل نمو السوق، وعدم حاجة النظام للكفاءات، بل لأهل الثقة، لأنه نظام تداولي بشكل أساسي وليس معتمدًا على الابتكار والإنتاج. وقد اختفت – تقريبًا المهنية من كافة الأعمال (ربما باستثناء التسول للأسف)، كما تغير معيار الكفاءة: الطبيب المثالي ليس مثاليًّا، الطالب المتفوق ليس بالضرورة هو المتفوق فعلًا، ورغم وجود عشرات القنوات التلفزيونية، فهي لا تقدم ما يبحث عنه الناس في قنوات أجنبية. إنَّ الأكثر ولاء هو الذي يكسب أكثر، المنافق هو العنصر المفضل على العنصر الشريف، والعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة بوجه عام. وتصب ظاهرة توريث المناصب الزيت على النار؛ نار الحقد الطبقي، فهي تبلور غياب الفرص أمام الفقراء والمستضعفين، وحرمانهم من كل طموح، وإغلاق باب أيِّ أملٍ في التغيير.

- وضع مصر الدولي والإقليمي: سعت مصر الناصرية إلى اكتساب شرعية شعبية تبرر بها حكمها، فعملت على تحقيق انتصارات ما. ففي الداخل اضطرت لتقديم رشاوى للفقراء والمتعلمين، وكانت كلما شعرت بضعفها الداخلي تلجأ لمحاولة تحقيق انتصارات خارجية؛ فرفعت شعارات قومية متطرفة. وقد أدت هذه السياسة إلى توقف الاستثمار الأجنبي الخاص، وهروب كفاءات عديدة من الأجانب والمتمصرين، وتورط النظام في معارك خارجية مكلفة للغاية مثل حرب اليمن، وتقديم مساعدات ضخمة لقوى "ثورية" مختلفة، ثم التورط في حرب،1967 مما اضطره لبدء الانكماش. ولقد كان من الأفيد للبلاد إقامة علاقات قوية مع الغرب والتعاون معه بقدر الإمكان، لدفع عملية التحديث بأكبر سرعة وكفاءة ممكنة.

وجاءت الساداتية لتواجه موجة من المعارضة اليسارية الناتجة عن تحطم أحلام المثقفين بهزيمة الشعارات الناصرية، فلجأت إلى شعارات الإسلام السياسي، والمزيد من تخريب التعليم والبحث، وإطلاق القوى الأكثر طفيلية، وملحقةً مصر بالسياسة السعودية والأمريكية، وأصبحت حتى حليفًا لإسرائيل، خصوصًا بعد انتفاضة 1977 العظيمة. ومع الهيمنة الكاملة للأوليجاركية من بيروقراطيين ورجال أعمال – لصوص عديمي الثقافة وضيقي الأفق وأكثر شراهة، أصبح النظام لا يعنيه شيء اسمه الكرامة الوطنية، ولا الدور الإقليمي ولا السمعة الدولية لمصر، بل لا يستطيع حتى الظهور بمظهر الحكومة الوطنية. وأصبحت مصر الرسمية دولة تافهة سياسيًّا على الصعيد الدولي، وبلا دور إقليمي يذكر، وتعرضت للإهانات المتكررة، حتى من دويلات صغيرة، وهذا لا ينفي أنَّ مصر كبلد ستظل لها أهمية ضمنية كبرى، بحكم موقعها، وضخامة مساحتها، وعدد سكانها، وتراثها الطويل، وتأثيرها الثقافي التقليدي المهم في المنطقة. والمثير أنَّ النظام قد قزم دور هذا البلد المهم موضوعيًّا، ومن هنا خُلقت حالة استفزاز شعبي واسعة، وشعور عميق بدونية مفروضة فرضًا على شعب يرى في نفسه أهم وأرقى شعب في المنطقة وربما في العالم، وبالتالي عمق من الشعور بكراهية السلطة بشدة.

النمو الهائل للإسلام السياسي: ظهر مشروع الإحياء الإسلامي منذ بروز فكرة "الجامعة الإسلامية" في القرن التاسع عشر في الشرق الأوسط عمومًا، ونشرها في مصر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، مقدمين أفكارًا إصلاحية يمكن اعتبارها تنتمي لما يسمى بـ "الإسلام الحضاري"، وهو مشروع يدعو للحداثة في السياسة والاقتصاد والتشريع مع الاحتفاظ بالقيم الإنسانية التي أنتجتها الحضارة الإسلامية. إلا أنَّ الفكر المستنير للأفغاني والإمام قد ترك مكانه لفكر أضيق أفقًا، ابتداء من رشيد رضا، ثم حسن البنا، الذي بدأ فعليًّا مشروع الإسلام السياسي الذي يتبنى فكرة إقامة دولة تتبنى نصوص الشريعة الإسلامية في كل المجالات. وأخيرًا ظهرت وانتشرت الجماعات السلفية بطول وعرض مصر، وهي جماعات معادية للحداثة فيما يخص النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولا تميل للاجتهاد الذي يقبل به – في حدود - الإخوان المسلمون، وهم أيضًا سلفيون بدرجة ما.

لم يؤد التحديث - لأنه جزئي - إلى حلول أيديولوجيا عقلانية محل الأيديولوجيا الدينية السائدة، بل تواجدا معًا. ومع كل ظهور لمضاعفات التحديث على الطبقات الشعبية والهزائم المريرة للأنظمة شبه العلمانية أمام الغرب وإسرائيل، حل الإسلام السياسي محل الإسلام الحضاري، وراح أفقه يزداد ضيقًا، حتى صارت الوهابية في أظلم طبعاتها سائدة أكثر مما هي سائدة في السعودية نفسها.

وقد توارى مشروع الإصلاح الديني والسياسي الذي قاده الأفغاني ومحمد عبده، والذي كان له أثر قوى في النخبة وقتها، لصالح المشروع السلفي المعادي للتحديث بمدارسه المختلفة. وتتعرض محاولات الإصلاح الديني، التي يحاول نشرها مفكرون مثل: جمال البنا، وأحمد صبحي منصور، وحسن حنفي، والراحل نصر أبو زيد، وغيرهم، لمقاومة شديدة وناجحة من جانب السلفيين بدعم الدولة. فالأساس المادي لانتشار دعوات الإصلاح المذكورة لم يصبح بعد قويًّا.

ويتبنى الإسلام السياسي المعاصر جماعات اجتماعية متعددة، أهمها قطاعات الطبقة الوسطى من المهنيين وبعض رجال الأعمال، خصوصًا الذين كونوا ثرواتهم من خلال استغلال نشاطهم السياسي، وحصلوا على دعم السعودية وغيرها، واستفادوا من دعم المنظمات الإسلامية ومن هيمنتها على النقابات المهنية([27]). وقد قادت الإسلام السياسي فئات اجتماعية مختلفة من فترة لأخرى، ولكن ظلت القاعدة الشعبية الجاهزة لتأييده موجودة وسط الفئات التي لم تندمج جيدًا في عالم الحداثة، ولم تستفد منه جيدًا، خصوصًا في الريف والأقاليم. ومع ذلك لا نستطيع اعتبار هذا التوجه مجرد بقايا لفكر قديم، بل هو أساسًا نتاج لمضاعفات التحديث الجزئي، ويلائم أساسًا الجماهير المعذبة والعاجزة عن الحصول على نصيب مناسب من الكعكة الحديثة، ويستغله رجال أعمال وعناصر طموحة للسلطة والثروة. ومع تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي إلى حد كبير، ونمو عدد الفقراء والمهمشين، لجأ الإسلاميون إلى لعب دور الدولة الموازية؛ فأنشأوا الجمعيات الخيرية، وخلقوا منظمات عبارة عن طوائف دينية تقدم الحماية والأمان لأعضائها. وهم يختلفون في توجهاتهم، بين جماعات مارست العنف ضد الدولة (ثم تابت)، وجماعة الإخوان الأكثر ذكاء ومرونة والذين رغم ما يبدو أنَّ علاقتهم بالنظام هي علاقة عدائية ليست في الواقع كذلك أبدًا؛ فرغم تعرضهم للقمع، كانوا في معظم الوقت في حالة مودة وتعاون مع السلطة، بخلاف التقارب الأيديولوجي، وقد شكلوا احتياطيًّا استراتيجيًّا للنظام؛ والسلفيين الأكثر تدينًا وصراحة والمعادين للحداثة.

ورغم أنَّ الإسلاميين هم نتاج للحداثة أو – بالأصح - لمضاعفاتها، لم نرهم أبدًا يتزعمون حركات ديمقراطية أو مساواتية، أو يؤيدون حقوق العمال والفقراء عمومًا، أو يدعون لحقوق المرأة أو حقوق الأقليات، أو للتقدم العلمي، وقد كانوا - مثلًا - دائمًا في طليعة مؤيدي الختان وقمع النساء، والعداء لنظرية التطور، وكانوا هم المتحفظين على نقل الأعضاء والعلاج بالجينات والهندسة الوراثية.. وأعداء الحريات الشخصية، مثل حرية الاعتقاد وحرية الجنس... إلخ. فهم يحملون جرثومة الماضي قبل الحداثي، ويستخدمونها كسلاح في وجه النظام. وكما لاحظ شريف يونس تؤكد وثيقة الإصلاح الصادرة عن الإخوان في مارس 2004 رؤيتهم الاستبدادية. فبرغم أنها لا تضع شروطا بشأن تشكيل الأحزاب، فإنها تطرح قيام "نظام برلماني دستوري ديمقراطي في نطاق مبادئ الإسلام"، ونظام تعليم يتفق مع ما تسميه الجماعة "ثوابت الأمة وخصوصيتها الثقافية وميراثها الحضاري"، مع "دعم المعاهد الأزهرية والكليات الشرعية"، و"إحياء نظام الحسبة"، و"تحقيق التدين والربانية في المجتمع"([28]). في الواقع يمثل الإخوان والسلفيون قوة فاشية عاجزة عن النظر للمستقبل بعين تقدمية؛ فهم لا يعترفون بحقوق الشعوب، ولا بحقوق الإنسان، ويحملون أيديولوجيا هوياتية، ومشاعر شوفينية شديدة العداء للآخر وخصوصًا الغرب، ومشروع نظام شمولي إقصائي. وهم أضيق أفقًا وأشد وحشية وشراسة من الدولة. وعلى سبيل المثال يؤيدون حماس وليس غزة (لو كانت غزة تحت حكم الشيوعيين فهل كانوا سيؤيدون رفع الحصار عنها؟!)، ويؤيدون "المجاهدين" وليس الشعب الأفغاني، ويؤيدون مشروعًا إسلاميًّا في أوروبا وليس شعب البوسنة. ورغم أنَّ الخطاب الإسلامي المعاصر يستخدم كلمات مثل المواطنة، الوطن، نحمل الخير لمصر؛ إلا أنه يحتوي في العمق على نزعة مضادة للرابطة القومية، بل تضع الدين معيارًا لأيِّ انتماء، بدءًا من تبني فكرة الخلافة الإسلامية، مرورًا بإعلان العداء لـ "الكفار"، وتشجيع المسلمين في العمل كطابور خامس في بلدانهم للإسلام السياسي نفسه. وقد صدرت تصريحات كثيرة من زعماء إسلاميين كبارًا تفيد ذلك: طظ في مصر – المسلم الباكستاني أقرب إلي من المصري المسيحي – تحريم مشاركة المسيحيين أعيادهم... إلخ. وكل هذه قيم قبل حداثية.

- كما أنَّ قوى "الثورة مستمرة" مفتتة ومفككة، وعجزت عن تشكيل منظمة ثورية، أو حتى تقديم برنامج واضح المعالم، ولم تتوجه إلى تلك القوى التي تستطيع أنْ تغير النظام بالفعل؛ جماهير الفقراء.

- تمكنت الدولة من تدجين الجماعات السياسية الشرعية والنقابات الرسمية بشكل أو بآخر، والتي كانت تنسق مع السلطة علنًا تقريبًا، ولم تبد الأحزاب الرسمية قدرة على تعبئة الجماهير، ولم تقدم مشروعًا مقبولًا من القواعد الشعبية، ولم تستطع أنْ تصبح أحزابًا فاعلة وكان معظمها ينافق حكومة مبارك، والآن معظمها ينافق الإسلاميين، ولا تبدي أيَّ قدر من الشجاعة في مواجهتهم؛ فتتمثل جزئيًّا خطابهم الديني، زاعمة أنها ليست ضد الإسلام "الصحيح". والبعض يتحالف بشكل ذيلي معهم (مثل حزب الوفد). ولم تبد الجماعات الليبرالية أيَّ قدر من التماسك الفكري، بل هي تتخلى عن مبادئها من حين لآخر للحصول على مكاسب تافهة.

بينما لعبت التجمعات عير الرسمية، مثل حركة كفاية، والجمعية الوطنية للتغيير، دورًا لا يمكن إنكاره في تعبئة الجماهير ضد النظام، ومن ثم كان لها دور كبير في تهيئة الأجواء لانتفاضة يناير 2011.

- في كل الثورات التي نجحت في تحقيق إنجازات تاريخية كان المجتمع يفرز قوى اجتماعية تقود التقدم العلمي والتقني، وفي تنظيم الإنتاج وأهدافه، تصطدم بالثقافة السائدة والفكر السياسي السائد وسلطات الدولة؛ فتبدأ في إنتاج ثقافتها، وأبدًاعاتها، وشعاراتها، وفكرها، وتأخذ في النمو والانتشار، وتدخل في صراعات مع الطبقة السائدة، ولأن الطبقة الجديدة تقدم للشعب فرصًا أفضل، تتمكن في النهاية من الإطاحة بالقوى التي تعيق نموها. باختصار تحدث ثورة اجتماعية، قد تأخذ وقتًا طويلًا للغاية، وتتوج بثورة سياسية.

وفي مصر المعاصرة لم تحدث أصلًا ثورة اجتماعية، بل نصف أو ربع ثورة مترنحة على مدى قرنين، تارة تسير إلى الأمام وأحيانًا تتراجع، بل اتخذت وضعًا انتقاليًّا مركبًا، كما شرحنا من قبل، شبه مستقر (نقصد ابتداء –عمليًّا - من محمد علي). وقد توالت الحركات الاحتجاجية دون أنْ تتمكن من تحقيق نقلة جذرية في النظام الاجتماعي والسياسي. وكما أشرت سابقًا لم توجد قوة أكثر تقدما من الطبقة المسيطرة سوى الشباب الأكثر تعليمًا (بفضل انتشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المنتجة في الغرب بالكامل)، والذي لا يجد لنفسه مكانًا ملائما ووضعًا مجزيًا في المجتمع. هذا الشباب لا يملك ولا يحوز اقتصادًا يقدم نموذجًا أرقى من الموجود بالفعل، ولكنه يحمل أفقًا أوسع من النظام، وتطلعات تتجاوز حدود البيروقراطية المهيمنة. وهو يتطلع إلى كسر احتكار البيروقراطية ورجال الأعمال للثروة، ويهدف إلى فتح باب الصعود الاجتماعي، وتوسيع الفرص حتى يحصل على وضع أفضل. لم يقدم هؤلاء مشروعًا سياسيًّا كاملًا، ولا حتى واضح المعالم، ولا يحملون فكرًا اجتماعيًّا ولا سياسيًّا ناضجًا يمكن مناقشته، ولكنهم يحملون أحلامًا بغد أفضل: تكافؤ فرص – هيكل أفضل للأجور – إلغاء الفساد – ديمقراطية سياسية. ولا يملكون مشروعًا جذابًا لأكبر القطاعات الفقيرة: المهمشين وأشباه المهمشين.

ولقد لعبت تكنولوجيا الاتصالات التي أدخلت إلى مصر بحكم ارتباطها بالسوق العالمية دورًا هائلًا في خلق جيل من الشباب الذي يجيد استخدام هذه التكنولوجيا (ولكن لا يستطيع إنتاجها )، مما وسع آفاقه وجعله مطلعًا على أحوال العالم؛ مما فاقم من شعوره بوطأة النظام الفاسد والرجعي.

هذه التكنولوجيا لعبت دورًا جوهريًّا في كسر النظام في ثورة 25 يناير.

 

 

بلغت قوى النظام قمة الانحدار خلال الأعوام الأخيرة؛ فصارت في منتهى الشراهة، لدرجة إقدام بعض رجالها على تجارة البشر والأعضاء، بل حاولت تصدير المصريات للعمل كخادمات (وطبعًا مومسات)، وحاولت تصدير جثث المصريين إلى ليبيا، وشخصنت السلطة، وتوجته بمشروع التوريث لشخص سيِّئ السمعة، كما ظهرت فضائح فساد أسطوري مثل مشروع "مدينتي"، عمليات تعذيب وقتل بشعة مثل قتل خالد سعيد، فتن طائفية تشارك فيها أو تخطط لها الدولة، ارتفاع مستمر في الأسعار، إهانات قومية متعددة من جانب دول عديدة، إجراءات متصاعدة لتكبيل المعارضة مثل إغلاق قنوات فضائية، تزوير فج للانتخابات البرلمانية بمباركة معلنة من رئيس الدولة، افتضاح فساد القضاء وتواطئه مع السلطة التنفيذية، اعتداءات متواصلة على المهمشين والاستيلاء على أراضيهم، قمع الأمن بوحشية للاعتصامات أمام مجلس الشعب بعد أنْ سمح بها لشهور عدة، تواطؤ الأحزاب الرسمية مع النظام... إلخ.

وفي مواجهة كل هذا لجأ الشباب المعارض إلى تنظيم صفوفه في مجموعات على الإنترنت راحت تنزل الشارع وتواجه الأمن.. وبعد أنْ فاض الكيل جاءت الدعوة للنزول إلى الميادين يوم 25 يناير فكانت المفاجأة للعالم كله: استجابت الجماهير وبدأت الثورة.

وبسبب عدم وجود مشروع ثوري واضح أو قيادة وجبهة متحدة للقوى المشاركة في الثورة لم تُطرح أصلًا فكرة الاستيلاء على السلطة، وقد لعب الوعي الجمعي دورًا جوهريًّا؛ فقد كان مجرد طرح الفكرة كفيلًا بطرح السؤال المشروع: من الذي يستولي على السلطة؟ وكان من المؤكد أنْ ترفع وقتها الرايات المختلفة للإسلاميين والليبراليين والاشتراكيين وتتفتت القوى المناهضة لمبارك فيضعف مشروع الإطاحة به تمامًا. لم تكن هناك قوى رئيسية في هذه الثورة قادرة على جر الجميع ورائها ولذلك سيطرت بقوة شعارات الهوية القومية على الوعي الجمعي، قبل أيِّ تفكير في الحاكم القادم، وهذا ما يفسر أيضًا الحساسية البالغة ضد أيِّ محاولة لرفع شعارات حزبية أثناء الانتفاضة، وإصرار الجميع على رفع علم مصر، مما يؤكد فكرة وحدة قوى الانتفاضة حول شيء غامض، فأيُّ مصر يجب أنْ تكسب؟ لم يكن يوجد اتفاق ولو ضمني على البديل المطلوب، ولم توجد قوة أو جبهة معارضة قادرة بمفردها على فرض أهدافها.

منذ بداية الانتفاضة كان أفقها محصورًا في طرد عائلة مبارك ورجاله المقربين، فرغم أنَّ الشعار المركزي للانتفاضة كان: الشعب يريد إسقاط النظام، ظل الهدف الأسمى هو: ارحل: أيْ مبارك. ولم تكن الثورة الاجتماعية على جدول الأعمال بجدية ومازالت، واكتفى الثوار برفع شعارات مثل: عيش – حرية – عدالة اجتماعية، وفيما بعد أصبح أقصى المطلوب هو حد أدنى وحد أقصى للأجور. لم يطرح أحد تقريبًا فكرة تصفية الطبقة المسيطرة، مصادرة الأموال المنهوبة، وكان أقصى المطروح في هذا الصدد استعادة الشركات التي بيعت بالمخالفة بالقانون.

لم تكن فكرة تحدي القانون وتجاوز الشرعية الرسمية موجودة بقوة إلا وسط المهمشين، الذين دمروا جهاز الأمن فعليًّا بالعنف. ومما له دلالة أنَّ العنف كان وظل مدانًا بشكل عميق من قبل القوة القائدة للانتفاضة، واعتبر تدمير جهاز الشرطة وكأنه تم بفضل الثورة السلمية، أما عمليات حرق مراكز الأمن، وآلاف من سياراته، ومقار الحزب الوطني، وقتل بعض الضباط، فتم اعتبارها عملًا ثانويًّا، وظلت النظرة السائدة للقائمين به كعناصر إجرامية خارجة على القانون أو مندسة. وتم الاتفاق – تلقائيًّا – بين الأجهزة الرسمية وقادة الثورة المثقفين على هذه الفكرة. وقد رفع المتمردون منذ البداية شعار: سلمية سلمية، رافضين لأيِّ عنف، فلما حدث العنف يوم 28 يناير لم يُشر إليه إلا كعنصر ثانوي في الانتفاضة؛ مجرَّم وغير مقبول. أما الصورة التي أحب الثوار تقديمها للعالم فكانت صورة ميدان التحرير النظيف والمنظم، والذي أدير فيه الاعتصام بشكل شديد التحضر، بينما كان العنف الهمجي من قبل النظام فحسب. وقد أصر الثوار على إبراز احترامهم للقانون وجهاز العدالة، باختصار: للشرعية، منتقدين العنف والاعتداء على مؤسسات الدولة. ولم تكن صدفة أنهم لم يشكلوا محكمة ثورية، ولم يعاقبوا البلطجية من رجال النظام، بل كانوا يسلمونهم للجيش.

كل هذا يعني لنا أنها كانت ثورة سياسية محدودة الأفق، ولو أنَّ الجماهير شبه البروليتارية قد خرجت بكامل عدتها لربما تغير وجه تاريخ مصر تمامًا، ولكن كانت القيادة والمبادرة في يد الشباب المتعلم المحافظ. ومع ذلك لعب من خرج من هذه الجماهير دورًا أساسيًّا في حماية الشباب في موقعة الجمل، ودمرت كثيرًا من مراكز الأمن، ولقنت الشرطة درسًا قاسيًا.

ومن الظواهر الفريدة أنَّ هذه الثورة الديمقراطية شاركت فيها بفعالية قوى فاشية ضخمة، وملايين كثيرة معادية للثقافة الديمقراطية، وقامت بدون طليعة تحمل مشروعًا ثوريًّا، بل وقادها في نهاية المطاف الجيش الرجعي، وربما شاركت عناصر من النظام في تأجيجها، بغرض إلغاء مشروع توريث السلطة. لقد شكل الجسم الرئيسي للثورة قوى غير ثورية أصلًا، وتفتقد بشدة للفكر الثوري وبلا قيادة ثورية. ذلك أنَّ الثورة هدفت إلى تحقيق ديمقراطية صندوق الاقتراع، وليس إلى مقرطة المجتمع ككل.

والغريب أنَّ العناصر المسيسة سواء ماركسية أو ليبرالية ظلت تتحدث عن "استمرار الثورة" دون أنْ تحدد لها أفقًا معينًا، وظلوا ينادون بما يسمونه: الدولة المدنية، وهو شعار بلا معنى واضح في ذهن أيِّ شخص، والمعنى المباشر هو نظام لا يحكمه العسكر، ولكن المعنى المقصود هو دولة ليست دينية، ويتفق الإخوان مع نفس الطرح (بمعنى مختلف)، فهل دولة مبارك كانت دينية؟؟ أم معادية للدين؟؟ لا هذا ولا ذاك بالتأكيد.

حققت هذه الثورة هدفها الأول: طرد مجموعة جمال مبارك من السلطة. ولم تتطلع لأكثر من سيطرة الجيش، فقط أطلقت بعد 3 أيام من بدئها شعارًا ينادي الجيش بالتدخل (واحد اتنين الجيش المصري فين، الجيش والشعب إيد واحدة)، وقد وجد العسكر الفرصة سانحة أمامهم لإلغاء مشروع التوريث العائلي، فنزلوا وراحوا يلعبون على التناقض بين السلطة الرسمية والمتمردين، حتى حانت لحظة طرد مبارك واستيلاء الجيش على السلطة بمباركة محمومة من الثوار.

 فهذه حتى الآن هي ثورة سياسية محدودة تمامًا، تمت في شكل انتفاضة عفوية دون أفق بعيد المدى، ولم يتم طرح مشروع لتغيير جوهري في العلاقات الاجتماعية أو توزيع الثروة ولم تسقط حتى النظام السياسي، ولم ترفع شعارات ديمقراطية تتجاوز حرية التصويت. وفي السياق تحرر الشعب من الخوف، وتعلم كيف يواجه السلطة، التي أُضعفت، كما أصبح اهتمام المصريين بالسياسة أكثر بكثير، و ارتفع الوعي الطبقي والسياسي للملايين، وانطلقت الحركة العمالية. كما ترتب على قيام الثورة نموٌ كبير نسبيًّا للجماعات الليبرالية والعلمانية، بينما خرج الإسلاميون من السرية إلى العلن ليشاهدهم الشعب على الطبيعة ويتعرف بمشروعهم السياسي، ولتعلن الأغلبية تأييدها للفاشية الدينية، مؤقتًا في الغالب. لقد أخرجت الثورة أحشاء مصر كلها.

كان ضمن عوامل نجاح الثورة في البداية التوحد الكامل وغياب الشعارات الفئوية والحزبية وغياب القيادة، إلا أنَّ نفس هذه العوامل تعيق الآن حركة القوى الثورية، بينما تتحرك القوى المنظمة بشكل أكثر فعالية، وهي في مجملها قوى تسعي لوقف العملية الثورية، والاكتفاء بما تحقق، والحلول جزئيًّا أو كليًّا محل شلة جمال مبارك.

ومع بدء تقسيم الغنائم لاح الانقسام، وتميزت الرايات، وقرر الجيش الاستفادة من انقسام المشاركين في الانتفاضة في إضعافهم جميعًا، فأطلق الإسلاميين من عقالهم، وابتكر فكرة التعديلات الدستورية، وراح يقرب بعض "الشباب" ويستبعد بعضهم، وكلما شعر بقوة قبضته لجأ أكثر فأكثر إلى تصفية العناصر الأكثر راديكالية من الشباب الليبرالي، حتى وجد أنَّ العفريت الذي أطلقه من عقاله؛ الإسلاميين قد توحش وأصبح يطالب بالكعكة كلها.

في كل اللحظات عمل معسكر الثورة: اليسار واليسار الليبرالي والشباب غير المسيس، لصالح أعدائه: ففي الانتفاضة طالب بالجيش حاميًا وتنحية مبارك تحت شعار: إيد واحدة، وكان مستعدًّا لسحل كل من ينتقد الجيش ومجلسه، محققًا – دون قصد - هدف الجيش والمخابرات أساسًا، وبعد أنْ اتضح له أنه لن يحقق حتى إصلاحات كبيرة في النظام السياسي، بدأ يناضل ضده، مطالبًا إياه مؤخرًا بتسليم السلطة للمدنيين وتحديد موعد انتخاب الرئيس، أيْ – عمليًّا - للقوى المنظمة، وأهمها الإسلاميين والأحزاب الرسمية المضادة للثورة، ذلك أنَّ قوى الثورة مشتتة وغير مندمجة مع الشارع وغير منظمة وبلا مشروع واضح، فتذهب كل تضحياتها لصالح غيرها. الآن ينخرط الجميع تقريبًا – عدا قلائل- في لعبة الانتخابات، التي تعيد الشرعية للنظام الشمولي نفسه، بل هناك من العلمانيين وحتى اليسار من يبدي الاستعداد للتحالف مع الإسلاميين من جديد ضد الجيش.

لقد كانت الثورة بلا هدف جذري، وانحصرت آمالها في طرد مجموعة مبارك دون وضع مشروع مستقبلي، وبذلك يمكن اعتبارها ثورة سياسية محدودة بحدود النظام الشمولي المتخلف - الرأسمالوي نفسه، ثورة داخل النظام؛ ثورة بين قوسين. وقد حققت هدفها ثم توارت قواها الأكثر جذرية إلى الخلف. بينما صعدت على السطح كل من كتلة العسكر ومن يحالفونهم من البيروقراطيين وتابعيهم من رجال الأعمال، والإسلاميين الذين ينحون منحى فاشيًّا ويقودهم مجموعة من رجال الأعمال لا يملكون نفوذًا دولتيًّا ملموسًا. فخلاصة "الثورة" أنَّ النظام قام بتعديل نفسه مستخدما الكتل التي خرجت إلى الشوارع في يناير وفبراير 2011. والآن يحتل المشهد المصري ثلاث كتل أساسية: النظام الشمولي بدون لحية، والقوى الفاشية، والأقل قوة وتنظيمًا: القوى التي تسعى لاستمرار العملية الثورية، والتي يعمل النظام على تصفيتها، ونجح في ذلك إلى حد ملموس.

والشيء الفريد جدًّا أنَّ أكثر المنادين بديمقراطية الصناديق منذ استفتاء 19 مارس 2011 وحتى أيام مضت هم الإسلاميون؛ ذلك أنَّ قوتهم كانت مضمونة في صناديق الاقتراع، وهم مع ذلك لم ينسوا التشهير بأسس الديمقراطية: الليبرالية والعلمانية والثقافة الديمقراطية عمومًا. بينما اضطر الليبراليون والعلمانيون إلى الانتقال بين مطالبة الجيش بالرحيل والاحتماء به. وبعد معارك 19 نوفمبر أصبحوا في مواجهة كل من معسكري الثورة المضادة، وكذلك الأغلبية الصامتة ضمنًا. فديمقراطية صندوق الاقتراع، التي مات في سبيلها المئات، أدت لصعود الفاشية والعسكر، الذين يحظون بتقديس شعبي واسع.

-     بعد 11 فبراير يوم تنحية مبارك عاد الملايين من المنتفضين إلى بيوتهم، منضمين للأغلبية الصامتة ومشكلين أكبر حزب في البلاد، يسمى بـ "حزب الكنبة"؛ الجالس متفرجًا وناقمًا على كل شيء، خصوصًا الثورة وما ترتب عليها من وضع مضطرب دون أفق واضح، خصوصًا أنَّ الشعب لم يستفد شيئًا ماديًّا حتى الآن، والغالبية حققت خسائر ملموسة. وفي الوقت نفسه يستمر العمال وبعض الفقراء عمومًا وقليل جدًّا من الفلاحين، وحتى أمناء الشرطة أحيانًا، والمهمشون، في الاحتجاج من أجل مطالب اجتماعية، ولتطهير مؤسسات حكومية من أنصار النظام، كما يشكلون نقابات مستقلة.. وهؤلاء هم الذين يشكلون حركة ثورية مستمرة ضد النظام فعلًا، وهذا هو العامل الذي قد يكون إيزانًا ببعض التحولات الأعمق إلى هذا الحد أو ذاك.

- لا يبدو في الأفق أنَّ تغيرًا ثوريًّا محتملًا في المدى القريب، خصوصًا بعد إضعاف معسكر الثورة بشدة، ونجاح العسكر في ترميم النظام، وفرض السيطرة على الشارع. فهكذا يكون السيناريو الأقرب هو استمرار النظام بدون مافيا مبارك وإرضاء الجماهير ببعض الإصلاحات.

 

إنَّ التراجع المتواصل لقوى الثورة بعد أنْ حققت هدفها المباشر وظهور عدم كفايته لتطلعات الثوار والشعب ككل ليفرض على المهتمين التوقف لإعادة تقييم الموقف. لم تعد القوى الثورية قادرة على الحشد الواسع كما استطاعت من قبل، خصوصًا بعد خيانة الفاشست، وانسحاب الجمهور الكبير من الميادين، وانتقال قطاع كبير من الطبقة الوسطى من الاهتمام بالميادين إلى الاهتمام بالانتخابات. فلم يعد من الممكن طرح مشاريع جذرية للتنفيذ الفوري، من قبيل الاستيلاء على السلطة أو دعوة الجماهير لانتفاضة واسعة جديدة. وللأسف لم يبد ذلك القطاع من الطبقة الوسطى الذي قاد انتفاضة يناير اهتمامًا مهمًّا بتقديم برنامج اجتماعي جذري، وركز جل جهوده من أجل تغيير النظام السياسي ليستوعبه، ولذلك لم ينجح في حشد الملايين، كما فعل من قبل، وهو الآن يواجه النظام متحالفًا مع أقلية من العمال والمهمشين، ولذلك يواجه وضعًا شديد الصعوبة، ويتعرض لقمع متواصل، ولا يستطيع القيام بالرد الملائم. فالواضح من ملاحظة مجريات الأمور الآن وبعد أقل من عام على الانتفاضة أنَّ النظام مستمر، مالم تحدث ثورة جياع كبرى، وإن كان من المؤكد أنَّ زلزال 25 يناير سوف يترك بصمات قوية ومازالت توابعه تتوالى.

من الضروري الآن ولإنقاذ ما تبقى من معسكر الثورة، وهو ليس شديد الضعف على العموم، تجاوز حالة التشرزم الحالية والعمل على تشكيل جبهة راديكالية، وتقديم برنامج شامل ومحدد، والبدء في حشد الجماهير الفقيرة والعمل طويل النفس. ومن الواضح أنَّ الثوار سيظلون في المعارضة في المدى المنظور. لقد أمكن تنحية مجموعة جمال مبارك باحتشاد 10 مليون من الجماهير واستغلال الجيش للموقف، ولطرد العسكر من السلطة فعليًّا يحتاج الأمر لحشد أكبر، ولصدام عنيف، ولا يبدو أنْ قوى الثورة قادرة الآن على تحقيقه أو حتى الحلول محل الجيش في السلطة. فمن الأنسب الآن العمل بطريقة مختلفة. ليس أمام العناصر والقوى الأكثر استنارة إلا طريقين: إما أنْ تعمل بنفس طويل في اتجاه حفز الانتفاضات الشعبية وتحويل الفوضى الناتجة عنها إلى بناء، أو العمل على أرضية النظام مع ممارسة أقصى الضغوط لإعادة ترميمه بأفضل الشروط ملاءمة لطموحاتها.

وفي ظل موازين القوى الحالية ليس من المتصور أنَّ مجرد تشكيل حكومة من البرلمان أو حتى رئيس جمهورية ثوري سيجبر السلطة على الاستسلام، فالجيش ومجمل النظام يفضل حتمًا استخدام الدبابات وحتى الحرب الأهلية على الاستسلام أمام ضغوط معنوية أو مجرد اعتصام وبعض المظاهرات السلمية. فطالما أنَّ مؤسسات الدولة محكومة بشبكة من عناصر رجعية (أو ما تسمى بالدولة العميقة([29])) فلن يتمكن أيُّ رئيس من تغيير الموقف، مالم يكن مدعومًا بحركة شعبية قوية ومستعدة للصدام مع مؤسسات الدولة. ومن المؤكد أنَّ الجيش لن ينسحب وسيظل يحكم من الخلف بعد انتخاب رئيس جديد، مالم يتعرض لضغوط عنيفة، إما من الشعب أو من الخارج، وسيحتفظ لنفسه ببعض المزايا.

وبالتأكيد لن يعيد العسكر مافيا مبارك وسيعملون على إعادة بناء النظام على أساس أقل شخصنة وأقل قمعية لضمان استمراره.

لقد حفز النظام صعود الإسلاميين لإرهاب الثوار وتفكيك معسكر المعارضة وأيضًا لكشف قوتهم، كما اتبع سياسات تؤدي إلى تخريب الاقتصاد لإرهاق الجماهير وإجبارها على الاستسلام، بينما يعد العدة جيدًا لسحق التمرد المحتمل: غسيل مخ لرجال الجيش والشرطة، ورفع رواتبهم، وتجنيد مئات الألوف من البلطجية و"المواطنين الشرفاء وتشويه لسمعة الثورة والثوار، وقتل واعتقال عدد منهم.

وبعد أنْ وجهت ضربات موجعة لثوار الميادين بدأت عملية "ضبط" الإسلام السياسي بآليات متعددة منها: تقسيم صفوفه، بحفز السلفيين ضد الإخوان – السماح له بدخول البرلمان من أوسع الأبواب لإدخاله دهاليز السياسة الواقعية، مما أدى إلى بدء الانفصال بين النهج السياسي والقاعدة الأيديولوجية للمنظمات الإسلامية – إغرائه وإجباره على إعلان رغبته في "التعاون" مع الولايات المتحدة والخضوع لسياستها وقبول دولة إسرائيل والتنسيق معها ضد الفلسطينيين. ولكن تجاوز الإسلاميون الحدود المرسومة لهم بالنسبة للنظام، ولم يقدموا أنفسهم كتنظيم يمكن الاعتماد عليه في قيادة النظام، فهم ضيقوا الأفق، ومخادعون، ويصرون على تحقيق أهداف مستحيلة في هذا الزمان والمكان. وبالتالي صار تحجيمهم هو الهدف التالي للجيش. ومن الطريف أنَّ التعديلات الدستورية قد صارت سيفًا مسلطًا عليهم([30])، وبدأوا يتظاهرون ضدها، ولم تعد صناديق التصويت مضمونة بعد أنْ ترشح رجال العسكر لرئاسة الجمهورية وتفتت الإسلاميون إلى كتل عدة، ولهذا بدأوا يحاولون من جديد استعادة التحالف مع الثوار، بعد فوات الأوان.

 

1-    معنى إسقاط النظام: تتضمن شروط إلغاء النظام الشمولي المصري تحرير المجتمع المدني والأفراد من هيمنة الدولة، بإلغاء سيطرة الدولة على الاقتصاد، وتفكيك اقتصاد الجيش، وإطلاق اقتصاد السوق، وتحرير النقابات والجمعيات الأهلية تمامًا، وجعل تكوين الأحزاب بمجرد الإخطار فعلًا لا قولًا، وحل وزارتي الثقافة والإعلام وتحويل مؤسساتها إلى مؤسسات أهلية مستقلة تمامًا عن الدولة ماليًّا وإداريًّا شاملة الصحف والتلفزيون، وإلحاق قصور الثقافة بالمحليات المنتخبة، ونفس الشيء للمؤسسات الدينية، وتحويل الجامعات والمعاهد العليا والمتوسطة إلى مؤسسات أهلية مستقلة ماليًّا وإداريًّا عن الدولة، مع إلغاء دعم الدولة لها جميعًا، وإطلاق الحريات الشخصية على أوسع نطاق، مثل إقرار الزواج المدني، وجعل المحافظين والعمد بالانتخاب، وجعل وزارة الداخلية جهازًا مدنيًّا، بحل تشكيلاته العسكرية مثل الأمن المركزي وتفكيك أمن الدولة فعليًّا، ووضع دستور ديموقراطي واعتماد النظام البرلماني أو الرئاسي - البرلماني.

2-    لا يكفي العمل على إسقاط النظام دون وجود مشروع بديل وقوى ثورية منظمة. لم يكن يكفي تنحية مبارك ثم النضال ضد حكم العسكر بدون بدائل ثورية، لأن هذا الجهد يصب في صالح القوى المنظمة والجاهزة.

3-    لا يوجد أبدًا شيء اسمه ثورة سلمية، هذا إذا تكلمنا عن ثورة شاملة، فمن شروط أيِّ ثورة شاملة الاستيلاء على السلطة. وقد أثبتت أحداث الثورة المصرية أنَّ الجيش والأمن والجهاز الإداري بقياداته وأنظمته ولوائحه، كلها مرتبطة أشد الارتباط بالقوى الاجتماعية المسيطرة، بل إنَّ الدولة المصرية هي تقريبًا الطبقة المسيطرة، أو لبها. وكل هذا غير ممكن بالمظاهرات أو حتى العصيان المدني. فالثورة ليست مباراة ودية، بل حرب طبقية تتعلق بمصالح ضخمة، والطبقة المسيطرة المصرية لديها مصالح هائلة، وكعكتها ضخمة للغاية؛ فلن تتخلي عنها بأيِّ ضغوط ماعدا القوة. وهنا أتذكر تساؤلًا كثيرًا ما يتكرر في الإعلام المعارض: أليست هذه ثورة؟ فلماذا لا تفعل السلطة كذا وكذا؟؟؟ إنه تساؤل يدل بوضوح على طريقة نهج شديد البراءة؛ فالسلطة تريد قتل الثورة لا تحقيق ما تريد، والثورات تحقق ما تريد بنفسها. ولا يمكن إغفال دور العنف الجماهيري في إضعاف النظام يوم 28 يناير، كما يمكن التصدي للبلطجية بعنف شديد بدلًا من تسليمهم للجيش كما حدث في موقعة الجمل وغيرها. وإن استمالة الجنود والضباط لهو ممكن أيضًا، وكان محتملًا لولا انسحاب الثوار يوم 8 ابريل؛ يوم اعتصام 22 ضابط جيش. وليس من المعقول اعتبار العنف الثوري (الجماهيري بالطبع) شيئًا همجيًّا أو معيبًا، فالثورة هي خروج على القانون، ولكي تتم يجب أنْ تتجاوز القانون وتصنع قانونها الخاص. لا يمكن للثورات أنْ تكتمل دون تجاوز القانون والدستور والقضاء وكل مؤسسات النظام وخلق مؤسساتها الخاصة، ولا يمكن لثورة أنْ تكتمل دون إقصاء أعدائها وليس التحاور معهم، ودون تصفية عناصر النظام بالكامل تصفية عضوية، بمن فيهم رجال القضاء والجيش والأمن وكبار الموظفين... إلخ.

للأسف اعتاد المثقفون والمؤدلجون عندنا إدانة العنف الجماهيري، بل وإلصاقه بعناصر مندسة من بلطجية أو أمنية (مثل: حريق القاهرة – انتفاضة 1977 – عنف المهمشين في يناير 2011). بينما تمثل الفئات الفقيرة العنيفة بطبعها الجسد الرئيسي لأيِّ ثورة مصرية حقيقية. تعبر هذه الإدانة كما أظن عن قبول عموم المثقفين، وهم أبناء الدولة على العموم، للنظام بشرط تعديله.

4-    إقامة سلطة شعبية في الشارع مقدمة ضرورية للاستيلاء على مؤسسات الدولة، بتشجيع الجماهير على الاستقلال بنقاباتها وجمعياتها الأهلية وإنشاء لجان شعبية للسيطرة على حالة الأمن وحماية السكان من بطش البلطجية والسلطات.

5-    لتحقيق طموحات الجماهير العريضة في مصر في الرخاء والعدالة، يجب أنْ تكون الثورة اجتماعية وليست سياسية فقط. كما أنَّ تبني المطالب الاجتماعية للجماهير هو السلاح السحري لقوى الثورة الذي يمكن به مواجهة الفاشية الدينية المعادية لمصالح الشعب، وهذا السلاح لم يتم استخدامه للأسف من قبل ثوار الميادين.

5- لا يمكن أنْ تقام الديمقراطية السياسية بدون ثقافة ديمقراطية. وهذه مفتقدة حاليًّا في مصر إلى حد كبير، فالشعب لا يؤمن بحقوق مثل حرية الاعتقاد، ومساواة المرأة بالرجل، والزواج المدني، ومختلف الحريات الشخصية، مثل اللبس والحرية الجنسية... إلخ، وهذا يفسر جزئيًّا على الأقل لماذا حصل الإسلاميون الفاشست على نسبة عالية من الأصوات في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.

وليس من الممكن أنْ يحصل الإنسان على "حقوق الإنسان" مالم يكن مؤمنًا بها. كما لا يمكن أنْ تكون هناك انتخابات ديمقراطية فعلًا في مجتمع مازالت به وجود ملموس لرابطة الدم، مثل الصعيد والريف المصري، وفي مجتمع به تناقضات اجتماعية رهيبة، ونصف سكانه جياع، فممارسة الديمقراطية تتطلب وجود قدر ما من التوافق بين قوى المجتمع، وقبول مشترك لقواعد ما في التقسيم الاجتماعي للعمل، وفي توزيع الثروة، وآليات الحراك الاجتماعي. فحتى الطبقات المتناقضة في المصالح تحتاج إلى الالتزام بما يشبه العقد الاجتماعي حتى تمارس الديمقراطية، وهذا يشترط إعادة توزيع الثروة بشكل مرض لكل الطبقات. أما حين يكون هناك ملايين البشر مهمشين وشبه جوعى ويشعرون بظلم فادح مقابل حفنة ممن ينهبون أقواتهم بطرق خارجة عن العقد الاجتماعي المفترض ويمارسون سلطة شديدة القمعية بدون أيِّ سند من الشرعية، أيْ باختصار حين لا تكون هناك شرعية للنظام الاجتماعي – السياسي لا يمكن أنْ تكون هناك ديمقراطية، بل صراع خارج العقد الاجتماعي المفترض نفسه؛ عنف وتمرد على القانون وبلطجة وإرهاب. هذا هو الوضع المصري المعاصر. فالثقافة الحالية تحتاج إلى ثورة، وهذا يتطلب تغييرًا ثوريًّا في العلاقة بين القوى الاجتماعية، وهذا يشترط توجيه ضربة كبرى لبيروقراطية الدولة، التي تشكل لب الطبقة المسيطرة، بتفكيك ملكيتها للاقتصاد والإعلام والمؤسسات الثقافية والتعليمية، وهذا يشمل: تصفية النشاط المدني والاقتصادي للجيش، وتقليل حجم الجهاز البيروقراطي، وتحقيق لا مركزية الإدارة، وخصخصة الخدمات بقدر الإمكان؛ إعادة توزيع الثروة، وإزالة عوامل التمرد بما يشمل تصفية الفساد وما جاء منه، ورد "الحقوق" المتفق عليها عرفيًّا وقانونيًّا لأصحابها.

كما لا يمكن أنْ تكون هناك سيادة قانون بدون رأيٍ عام قويٍ وديموقراطي لا يسمح باستغلال النفوذ والكيل بمكيالين أمام القانون.

باختصار تحتاج الديمقراطية إلى حركة ثورة اجتماعية أولا.

6- الثورة الاجتماعية عملية تتم على مدى طويل، وهي تشمل تحولًا جذريًّا في نمط الإنتاج السائد ومجمل العلاقات الاجتماعية، ومثالها الأقرب التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية. وتتم هذه الثورات في صورة نقلات تتفاوت حدتها من صيرورة بطيئة إلى نقلات بالغة الحدة، وقد تتم على حلقات، وتعمل الصراعات الاجتماعية دورًا جوهريًّا في إنجازها، وقد يكون للعنف والحروب الأهلية دور في الإسراع بها.

7- في البلدان التي شهدت ثورات اجتماعية كبرى، مثل فرنسا وروسيا، كانت هناك عملية نمو اقتصادي سريعة، وتطور للقوى المنتجة، وزيادة سريعة في الإنتاجية ارتبط بها تطور الفن والأدب، وازدهار البحث العلمي، وانتشار قيم حداثية؛ وبلوغ نقد الفكر القديم درجة عالية تمثل في انتشار العقلانية وعلمانية النخب المثقفة وازدهار الفكر السياسي الثوري ونقد الدين، بل لقد هزم الدين في فرنسا قبيل ثورة 1789 هزيمة نهائية لصالح الفلسفة.

وكل هذا مفتقد في مصر الحالية، التي شهدت هذا الازدهار بشكل محدود قبل 1952، ولكن انقلب الحال منذ الحكم العسكري فشهدت تراجعًا حضاريًّا متزايدًا يشمل انتشارًا واسعًا للفكر الرجعي. ولا يمكن رصد قوة اجتماعية تعكس هذا الاتجاه حاليًّا. فلا توجد عملية تطور اقتصادي اجتماعي ثورية تتناقض مع النظام الاجتماعي، بل ما يحدث من تطور في الاقتصاد محدود وبعضه يتم في بؤر صغيرة، والتقدم الأهم يتعلق بالتكنولوجيا المستوردة. أما قوة العمل التي تعتبر أهم عنصر في قوى الإنتاج؛ فتتراجع كفاءتها وإنتاجيتها بالنسبة للعالم المحيط، بل حتى في نواح كثيرة بالنسبة لقدراتها من قبل، عدا قطاعات محدودة للغاية. وكما ذكرنا من قبل تستثى عناصر تعود من الخارج بخبرات جيدة، أو تتعلم في الداخل في جامعات أجنبية، أو تكتسب خبرات من خلال الإنترنت، وهذه العناصر المتقدمة نسبيًّا لاتجد لها مكانًا في النظام الاجتماعي، وهي أكثر العناصر تمردًا على النظام.

هذا الوضع المتسم بالتراجع الحضاري وضعف الفكر الثوري وضخامة الفئات شبه البروليتارية يعني أنَّ مصر لا تمر بحالة ثورة اجتماعية، لغياب قوة اجتماعية ثورية ذات وزن في البناء التحتي للمجتمع، ولا حتى تشهد تحولًا ديموقراطيًّا في ظل السيادة الملموسة للفاشية. وهي مستعدة ومؤهلة لانفجارات عفوية (قد تكون ثورية الطابع مثل هبة 25 يناير)، خصوصًا من قبل المهمشين والجياع، والتي تستطيع أنْ تؤدي إلى إضعاف الدولة والنظام الشمولي وتقليل الفساد على حلقات، مما يدفع إلى تحرير الاقتصاد من هيمنة البيروقراطية وبالتالي إطلاق قوى السوق، مما يساعد على حدوث تقدم اقتصادي وتكنولوجي، وزيادة الاستثمارات وتقليل البطالة. ومن المحتمل بالطبع أنْ تحدث هبة شاملة، تضم جحافل المتعلمين العاطلين والجنود وصغار الضباط الفقراء وحتى جنود الأمن المركزي، وهذه تحتاج لظروف كارثية حتى تنجح في تدمير جهاز الأمن ومؤسسات الدولة الرجعية. والتي قد تكون في منتهى العنف وقد تؤدي إلى حالة من الفوضى التي يتوقف مسارها على تشكل تنظيم قادر على قيادتها لتحقيق الأماني الشعبية، أما إذا استمر افتقاد هذا التنظيم فلا يمكن أنْ تكون النهاية سعيدة.

8- الثورة هي عمل تقدمي؛ فمن شروطها أنْ تحمل قواها مشروعًا أكثر تقدمًا من مشروع النظام القائم، بمعنى أكثر قدرة على دفع التقدم العلمي والاقتصادي. والمعارضة المصرية للأسف تملك هذا بشكل جنيني فحسب. فقط شباب الميادين هو الذي يحلم بشيء أكثر ديمقراطية من النظام. لا توجد في مصر قوة اجتماعية تحمل مشروعًا ثوريًّا واضحًا، أو تملك إرادة ثورية واضحة كما استعرضنا من قبل. لهذا السبب أرى أنَّ البلاد تحمل حاليًّا إمكانية انتفاضات عفوية وليس مشروع ثورة منظمة. فاليسار يؤيد هيمنة البيروقراطية، والليبرالية ضعيفة ومفككة وخائفة، والسائد هو اليمين الفاشستي.

كانت الإنتليجينسيا طوال العقود الأخيرة هي التي تنخرط في العمل السياسي في صراع مع السلطة، بغرض الحصول على أكبر قدر من المكاسب، وأثبتت الأحداث أنَّ جناحها العلماني هو مجرد نخب معزولة عن الشعب، وتتذكره فقط حين تحتاجه كوقود في معاركها مع السلطة؛ معارك تهدف إلى الحصول على مكاسب لنفسها لا تتجاوز حدود نفس النظام القائم، فحتى اليسار الماركسي لم يقدم مشروع ثورة اجتماعية شاملة، واستطاع النظام الناصري أنْ يقدم مشروعًا إصلاحيًّا أكثر جذرية، بحيث هضم ذلك اليسار وتجاوزه. وعلى العكس كان الإسلاميون وأكثرهم رجعية أقرب لقلوب الجماهير الفقيرة، رغم أنهم لم يتبنوا مطالب تحقق لها حياة كريمة، وإنما لجأوا لرشوتها من خلال الجمعيات الخيرية، وجمع وتوزيع الزكاة، وتقديم مختلف الخدمات بسعر بسيط. ولهذا كانوا دائمًا أكثر شعبية. وهذه القوى الإسلامية لا تقدم أيَّ مشروع ثوري أو حداثي.

وهذا ليس قدحًا في أحد بل تشخيص للطاقات المتاحة، وآفاق الإنتليجينسيا المصرية المعاصرة.

9- مصر المتراجعة حضاريًّا تحتاج إلى جهد كبير من جانب مثقفيها الأكثر استنارة المدركين جيدًا لظروفها وإمكانياتها، من أجل العقلنة والتنوير، ومناهضة الخرافة، والدعوة للعلمانية بطريقة مستقيمة وواضحة. ويساعد نشر المعرفة العلمية بين الناس على جعلهم أكثر قدرة على قبول أفكار الحداثة. والفكرة هنا أنه إذا كانت الدولة قد قضت على التعليم الجاد فيكون على المثقفين المستنيرين إقامة تعليمٍ موازٍ، وبدلًا من التعليم الموازي في مساجد السلفيين والإرهابيين، يمكن تكوين مجموعات لمحو الأمية ونشر العلم بين الفقراء والمهمشين، ونشر العلوم الحديثة بوسائل مبسطة على الإنترنت، أو القنوات الفضائية التي يمكن الوصول إليها أو حتى إنشائها، وفي مجلات وصحف خاصة، وفي كتيبات ونشرات قليلة التكلفة.

وإن لم تنجح مثل هذه الجهود في تحقيق نقلة نوعية فربما تكون عاملا في إنقاذ البلاد من مزيد من الانهيار.

10- النخبة والجماهير – الطائفية السياسية:

الفكرة التي تقول بأن الجماهير غير واعية أو أنَّ وعيها مشوه وأن المثقفين ينقلون لها الوعي من الخارج؛ أولًا تصور الجماهير على أنها مجرد مفعول به، وثانيًا تدعو لعلاقة تبعية بين النخبة والشعب، وثالثًا تروج لشيء وهميٍّ: أنَّ هناك فكرًا صحيحًا وفكرًا خاطئا. أنا أفهم أنه يمكن نشر معلومات أو وقائع غير صحيحة للخداع والعكس صحيح، أما نشر أيديولوجيا "خاطئة" أو "صحيحة" فهذا نفسه تفكير أيديولوجي غير بريء. فالشعب ليس مجرد متلقٍ، بل يتفاعل مع الفكر، ويختار حسب تجاربه الخاصة. أما النخب فلا تمثل أحدًا أبدًا، بل تمثل نفسها فقط، وقد تتلاقى نخبة ما مع جموع شعبية أو تقودها ولكن دون أنْ تمثلها، لأن كل جماعة تعبر عن نفسها. والنخب لا تعرف مصالح الجماهير أكثر منها، لأن المصالح نسبية؛ فكل امرئ هو الذي يحدد ما هي مصلحته حسب رغباته وأهدافه في الحياة.

لذلك لم تستطع النخب المثقفة أنْ تنخرط وسط الجماهير بشكل فعال و(تنقل إليها الوعي) كما أرادت دائمًا، وهذا ليس عيبًا أخلاقيًّا أو حتى بنيويًّا في النخب، بل إنَّ هذه هي طبيعة الأمور؛ ففي الدنيا كلها تفرز الجماهير قيادتها بنفسها، وفي مصر لم تفرز الجماهير قيادات ثورية تقريبًا، لأن طموحاتها لم تكن جذرية، وكذلك لم تكن النخب نفسها ثورية، لأنها لم تُلهم من قبل حركة شعبية ثورية.. لم يوجد مناخ تحول ثوري على صعيد البناء التحتي.. لم توجد طبقة ثورية.

وهذا ما يفسر أنَّ النخب المثقفة قد شكلت تجمعات ثقافية أكثر مما يمكن تسميتها بتيارات سياسية، فحتى المنظمات التي قررت أنْ تعبر عن العمال والفلاحين لم تشكل تيارًا سياسيًّا له شعبية، بل إنَّ الجماعات الضخمة مثل الإخوان المسلمين والتنظيمات الإسلامية الأخرى قد شكلت مجتمعات موازية ضخمة؛ طوائف وليس أحزابًا سياسية، ومن يؤيدها من خارجها لا يؤيد برنامجها السياسي بل طائفتها. بل إنَّ حزب الوفد الليبرالي قبل 1952 لم يخلق تيارًا ليبراليًّا شعبيًّا، بل كون زعامات شعبوية.

والآن توجد أحزاب عديدة تتسم بنفس السمة الطائفية ذات المظهر السياسي. فمعظمها تتكون حول أيديولوجيا وليس حول مشروع برنامج سياسي. وبعضها يتشكل حول شخصية معينة أو تراث، وتدور المنافسة والصراع بينها أساسًا بأساليب عصبوية لا سياسية، أيْ لا تتعلق بتقديم سياسة للجمهور، بل بجذب الأنصار بوسائل أخرى تمامًا، مثل تقديم الخدمات أو الوعود بها، بل تستخدم ضد بعضها التشهير وادعاء وجود فضائح وليس الدعاية السياسية.

 

 

إنَّ الجماهير شديدة الفقر لا تريد مجرد تحقيق "العدالة"، بل إنَّ الهدف الأهم هو الرفاهية، والمساواة أمام القانون. ولا يمكن تحقيق هذا وذاك في بلد كمصر دون التحديث، لتوفير دخل قومي مرتفع، وتحقيق قدر من التراضي بين الطبقات الاجتماعية، يصلح أساسًا ماديًّا للمساواة القانونية. ولن يمكن تحقيق التحديث والتقدم دون قدر من "العدالة" والشفافية، فالظلم الشديد والفساد بالطبع يعيقان التقدم.

وقد صارت الدولة هي أكبر مصدر للفساد، وأكبر عائق أمام التحديث، بعد أنْ كانت تقوده، ذلك أنَّ البيروقراطية العليا صارت مع رجال الأعمال طبقة شديدة الطفيلية والفساد، بحيث لم يعد من المتصور أنْ تقود عملية التحديث من جديد.

ولا يمكن تصفية منظومة الفساد في مصر إلا بتصفية ملكية الدولة، وملكية رجال الأعمال اللصوص، لصالح توسيع قاعدة الملكية، وإدماج الجماهير شبه البروليتارية في الاقتصاد، بإعادة توزيع الثروة.

والبديل الممكن في المدى المنظور للطبقة المسيطرة الطفيلية المذكورة هو اقتصاد السوق مع دور كبير للتعاونيات والملكيات الصغيرة والمؤسسات الأهلية، أيْ غير الباحثة عن الربح (تشمل المؤسسات التعليمية والإعلامية الكبرى). كما يمكن الاستفادة من الاستثمارات الأجنبية في القطاعات فائقة التطور، ومن غير المتصور ألا تقوم الدولة بدور مساعد للبحث العلمي، وتشجيع نمو القطاع التعاوني والصغير بالحوافز والتسهيلات. وهذا النظام هو اقتصاد سوق حرة ومفتوحة.

أما تنفيذ هذا المشروع فيتطلب قبل أيِّ شيء قيام سلطة شعبية يشارك فيها الفقراء وصغار ومتوسطو الملاك والرأسمالية الحقيقية؛ في صورة حكومة ديمقراطية، تجمع بين المركزية وسلطة مجالس محلية منتخبة ونظام قضائي يجمع بين القضاء المحترف والمحلفين، وإقصاء كل رجالات النظام وجل الطبقة المسيطرة الحالية من أيِّ سلطة. ومثل هذه السلطة تشترط هبة شعبية، أو سلسلة هبات متوالية واسعة النطاق وشديدة العنف، لاقتلاع النظام من جذوره، وتصفية عناصره تصفية عضوية، شاملًا كل أجهزة الدولة، بما فيها القضاء والأمن، وكافة رجال الأعمال اللصوص، وكل النخب الجالسة على حجر الدولة من إعلاميين وكتاب رسميين أو معبرين عن النظام. هذا إنْ أمكن لجماعات ثورية ومنظمة أنْ تستطيع تحويل الفوضى الناتجة إلى بناء جديد.

 

لا شك أنَّ مصر بلد مهم من الناحية الجيو- سياسية، أهدرت طاقتها نخبة مبارك. وهي مكان تتشابك فيه مصالح القوى الكبرى، ومعها إسرائيل بالطبع، وكذلك أصحاب البترودولار الخليجيين. وفي العالم المعاصر لا يستطيع بلد فقير ومتخلف أنْ يتصرف بحرية، خصوصًا أنَّ الحرب الباردة قد انتهت. لذلك سيكون – كما كان - في المدى المنظور هناك دور أساسي للقوى الكبرى، وخصوصًا أمريكا على الساحة المصرية.

 

وتدل تصريحات ووقائع عديدة أنَّ الغرب وخصوصًا الولايات المتحدة لم تكن سعيدة بنظام مبارك المافوي؛ فاستمراره كان يهدد بانفجارات شعبية عنيفة قد تنتج نظاما معاديًا للغرب ومثيرًا للقلاقل في المنطقة، مما دفعها للتدخل في نشاط المجتمع المدني وفتح قنوات مع مختلف قوى المعارضة. ولا يمكن تصور أنَّ ما حدث خلال انتفاضة 25 يناير قد تم بدون تدخلات أمريكية، منها تهديد الجيش المصري أثناء الانتفاضة والضغط عليه لطرد مبارك. ومن المؤكد أنَّ هذه التدخلات ستستمر بشكل أو بآخر لصياغة النظام المصري، ومن المؤكد أنَّ لهؤلاء خطوط حمراء وخضراء مختلفة، وهم قادرون على التأثير حسب طبيعة وإمكانيات ومصالح القوى الداخلية.

ولنفس الأسباب لن يكون مقبولًا دوليًّا أنْ يتولى أمر مصر نظام أيديولوجي متشدد يثير الاضطرابات في المنطقة.

ليس من المتصور أنْ يتم تحديث مصر بوضعها الحالي من خلال إعلان العداء للقوى المهيمنة في العالم أو استفزازها، بل من خلال التعاون معها، مع المحافظة بقدر الإمكان على استقلال القرار. ولن يُسمح لنا بالتقدم ونحن فقراء ومتخلفون، دون أبدًاء الاحترام والتفاهم مع الآخرين. لذلك يجب نبذ الخطاب الشوفيني المتعالي، ونزعة العظمة القومية الفارغة، والتفاعل مع ثقافات الشعوب الأخرى، وإظهار القدرة والرغبة في التعاون معها، وإقامة مصالح مشتركة. لن يفيدنا تقسيم العالم إلى شرق وغرب، أو أصيل وحديث؛ فالحداثة ليست مجرد إنتاج الغرب بما هو كذلك، بل إنَّتاج الرأسمالية. ولكي يتم تحديث بلادنا لابد من التعامل مع الحداثة "الغربية" باعتبارها إنتاجًا إنسانيًّا وليست إنتاجًا غربيًّا. ولن تستطيع مصر أنْ تتقدم دون ارتباط وثيق بالبلدان المتقدمة والتفاعل معها، ونبذ الأيديولوجيا القديمة والاتجاه إلى المعاصرة، أما العنترية وتقليد تجربة الستينيات فلن تؤتي سوى الفشل واستمرار النظام الاجتماعي الحالي.

إنَّ مستقبل مصر المنظور غير قابل للتوقع ولا تحكمه حتمية ما، ولكن المؤكد أنَّ العوامل الخارجية سيكون لها دور حاسم.

 

-          النظام المصري الشمولي صار عائقًا منيعًا لأي تقدم.

-     لا توجد قوى اجتماعية كبيرة ثورية متحققة فعليًّا في مصر حاليًّا، وحتى المهمشون؛ الفئات الأكثر عداء للنظام هي الأكثر تمردًا، ولكنها لا تحمل جنين مشروع معين، ولم تقدم نفسها بعد كقوة ثورية، فهي ثورية ضمنيًّا فقط، أيْ لديها طاقات ثورية كامنة. ويشكل بعض شباب الميادين جنينا لحركة ثورية ممكنة. وهم لا يقدمون حاليًّا مشروعًا عمليًّا يتجاوز النظام الشمولي، بل يرفعون شعارات شديدة العمومية، من قبيل إسقاط النظام، حرية عدالة... إلخ، دون وجود مشروع بديل محدد الملامح. والواضح أنَّ أهم ما استفزهم هو الديكتاتورية المفرطة، والفساد الواسع الانتشار، ومشروع توريث الحكم، وتدهور دور مصر الإقليمي. وموقفهم السلبي من الجياع والعمال ليس ناتجًا عن عدم الفهم، بقدر ماهو ناتج عن ضيق أفقهم ومحدودية تطلعاتهم.

-     لا تمر مصر بمرحلة ثورة اجتماعية، فقد حقق التحديث نصف ثورة، ثم حدث تراجع حضاري بدأ منذ الانقلاب الناصري؛ فتدهور مستوى العمالة، وانهار التعليم، والبحث العلمي، وساد الطابع النهبوي للنظام، المعيق لاقتصاد السوق، وصارت ثقافة المصريين أقل ملائمة للحداثة.

-     لا يمكن تحقيق ديمقراطية على النمط البرجوازي أو غيره سوى بتحقيق ثورة اجتماعية تحقق قدرًا من الرضا والقبول بين الطبقات الاجتماعية والقوى السياسية المتعددة، وتضع أساسًا لثورة ثقافية شاملة. فالمصريون بوجه عام يفهمون الديمقراطية على أنها خاصة بالانتخابات، وعلى العكس يرفضون الديمقراطية كسلوك عام. وهذه الثقافة لا تؤهل البلاد للتحول الديموقراطي، إلا في حدود حرية التصويت.

-     الفكر الثوري في مصر محدود الانتشار والعمق للغاية، بل إنَّ آخر ما في جعبة اليسار الماركسي (الأكثر ثورية فرضًا) هو إعادة إقطاع الدولة، أما غالبية شباب الثورة الحاليين فطموحاتهم سياسية محدودة الأفق غير مسنودة بأيديولوجيا عقلانية علمانية حقًّا. ويشكل الأناركيون الاستثناء الذي يؤكد القاعدة؛ فلديهم مشروع يتجاوز النظام بالكامل ولكنه فكر يعبر عن الأزمة العالمية للنظام الرأسمالي، خصوصًا في الغرب المتقدم ولا ينسجم لا مع الثقافة القومية، ولا إمكانيات الواقع المحلي، كما أنه مشروع ثبت فشله على مدى تاريخ البشرية، وهو مشروع استراتيجي، بدون تكتيكات، وبالتالي لا يصلح كمشروع سياسي.

-     مع ذلك قد تشكل انتفاضات المهمشين وثوار الميادين الحادة وغير المنظمة والعدائية للسلطة بشدة أساسًا لتكون توجهات أكثر ثورية في الفكر المصري. ومن غير المحتمل أنَّ إعادة ترميم النظام ستؤدي إلى انتهاء توابع زلزال 25 يناير؛ فالجماهير قد تعلمت وتخلصت من الخوف وعرفت كيف تنتزع ما تعتبره حقوقها، كما أنها لا تستطيع أنْ تواصل الحياة بنفس الطريقة وفي نفس الظروف الاقتصادية، ولذلك ستستمر في الاحتجاج وستطالب بالمزيد.

يتطلب تحويل مصر ثوريًّا العمل الدؤوب على نشر فكر أكثر استنارة، والعمل على توجيه الحركات العفوية بصبر ودأب. فعلى صعيد الفكر أصبح نقد الأيديولوجيا والبديهيات والدين خاصة شيئًا ملحًّا. فلن تتحرر العقول بينما يعشش فيها الفكر الديني الدوجمائي والمغلق. ويحفز نقد الدين بصرامة محاولات الإصلاح الديني، فكل ضغط على المتعصبين دينيًّا يدفعهم للتنازل وإعادة بناء أفكارهم، بحيث تستوعب الحداثة. كما أصبح من الضروري التضحية بالأيديولوجية القومية المتعصبة والتركيز على مشروع التقدم بأيِّ ثمن وبأيِّ تحالفات دولية أو محلية. وتقدم الثورة العلمية والتكنولوجية العالمية أساسًا يسند عملية النقد هذه في مواجهة القوى المحافظة.

- بناء على تحديد العدو الرئيسي للتقدم؛ الطبقة البيروقراطية، يصبح على الثوريين حفز النضال ضدها، والدعوة لتفكيك ملكيات الدولة، وإلغاء العقبات أمام نمو اقتصاد السوق، وتحرير الإعلام والمؤسسات الثقافية والتعليمية من سيطرة الدولة، وتفكيك الجهاز الأمني.

-لا يمكن أنْ تنجح ثورة إلا إذا استولت قواها على السلطة السياسية. وتبدو الآن فكرة استيلاء قوى الثورة على السلطة السياسية بعيدة للغاية بعد أنْ فقدت تأييد كثير من الجماهير، وأظهرت حتى عزوفًا عن هذا الهدف. وتدور الآن المعارك بين النظام (العسكر والدولة العميقة) والإسلام السياسي، بينما تنخرط قوى الثورة في معارك تصب كلها لصالح المعسكر الثاني، والواضح أنَّ المعركة ستنتهي بانتصار المعسكر الأول. لم يعد أمام الثورة إلا التركيز على بناء كتلة معارضة ثورية والنضال طويل الأمد.

 

 



([1]) التفاصيل في كتاب لويس عوض: تاريخ الفكر المصري الحديث، الجزء الأول،

http: //www.al-mostafa.info/data/arabic/depot3/gap.php?file=018319.pdf

، عبد الرحمن الرافعي: تاريخ الحركة القومية، والجبرتي (الذي تناول تفاصيل كثيرة عن إصلاحات الفرنسيين وأظهر ترحيبًا بكثير منها ونقمة على بعض قيمهم وبالذات ما يخص منها مظاهر تحرر المرأة): عجائب الآثار في التراجم والأخبار، http: //www.al-eman.com/Islamlib/viewtoc.asp?B176

([2]) قد يكون مفيدًا الاطلاع على الدراسة المقارنة التي قدمها شارل عيسوي بين التحديث المصري والياباني كفصل في كتابه: تأملات في التاريخ العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1991، http://www.4shared.com/office/Xx0rZib9/.html، ص 197 وما بعدها.

وهناك دراسة أخرى مقارنة قدمها مسعود ضاهر: النهضة العربية والنهضة اليابانية، سلسلة عالم المعرفة، 252.

([3]) ألغى الزي الذي كان مفروضًا عليهم وألغى القيود التي كانت مفروضة على ممارسة طقوسهم الدينية ولم يعق بناء الكنائس وعين مسيحيين في وظائف عليا وحساسة، واستمر وضعهم في التحسن في عصر ما بعد محمد علي، فتم إلغاء الجزية وبُدء في تجنيدهم إجباريًّا عام 1857 وبدأ يسمح لهم بدخول المجالس النيابية والقضاء والإدارة الحكومية العليا على نطاق واسع. سليم نجيب، أوضاع الأقباط قبل وبعد ثورة يوليو 1952، http: //www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=8257

([4]) قدمنا (بالاشتراك مع شريف يونس) دراسة بعنوان: بنية التخلف، منشورة على: http: //www.modernization-adil.blogspot.com/2011/10/blog-post_5738.html

([5]) تشمل قوى الإنتاج قوة العمل البشري ومعدات الإنتاج، أما علاقات الإنتاج فهيَ ببساطة العلاقات الاجتماعية فيما يخص عملية الإنتاج، أيْ علاقات الملكية والعمل وتوزيع الثروات والطبقات الاجتماعية والسلطة الاقتصادية عمومًا.

([6]) استعرناانريف يونس   هذا التعبير من محمود حسين، كتاب: الصراع الطبقي في مصر، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، أبريل 1971

([7]) قدمنا دراسة كبيرة حول الناصرية تناولت هذه الأمور بالتفصيل بعنوان: الناصرية في الثورة المضادة، www.ahewar.org/debat/files/3925.doc

([8]) نقصد بالإنتليجينسيا الأفراد الذين يتخصصون في العمل الذهني؛ أيْ المتعلمين: الأطباء – المهندسين – المحامين – المديرين – المحاسبين – الصحفيين – العلماء – الباحثين – الكتاب – الفنانين – الأدباء – رجال السياسة – رجال الإعلام – الضباط – رجال الدين..إلخ.

([9]) استعرنا هذا التعبير من الدراما المصرية التي تبرز دائمًا تقريبًا هذه العلاقة بين رجل الدولة ورجال الأعمال.

([10]) حق الليلة الأولى كان موجودًا في فرنسا في عصر الإقطاع في فترة ما، حيث يحق للنبيل أنْ يفض بكارة أيِّ عروس من رقيقه ليلة زفافها.

 ([11]) نعتبر هنا العامل هو من يعتمد فقط على بيع قوة عمله وينتج فائض القيمة، بالضبط كما ذهب ماركس، وبوضوح أكثر: العمال المأجورين في قطاعات الإنتاج السلعي.

([12]) تناولنا دور المهمشين الثوري المحتمل في مقال بعنوان: المهمشون هم الأكثر ثورية، http: //modernization-adil.blogspot.com/2011/10/blog-post.html

([13]) فرض الناصريون شرطًا للترشح في البرلمان أنْ يوافق الاتحاد القومي (ُسميَ الاشتراكي فيما بعد) على ترشيحه.

([14]) البيان هو اعتماد نص مقدس كمرجعية فكرية معيارية والعرفان هو التوصل للحقيقة – زعمًا – بطريقة (الكشف) أو ما يسميه المصريون انكشاف الحجاب.

([15]) لقد لحن وغنى الأسطورة محمد عبد الوهاب نشيد: ناصر كلنا بنحبك.

([16]) تناول بعض هذه الجوانب إلهامي الميرغني في دراسته: ماذا حدث لمصر والمصريين؟!

http: //www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=184476

([17]) كانت كل ثورات المصريين القدماء تقريبًا انتفاضات عفوية كثيرًا ما أدت لتدمير آلة الدولة دون أنْ يتمكن الشعب من إقامة دولة جديدة بنفسه بل كانت تتمكن قبيلة ما من إقامة دولة جديدة. وفي عصور الحكم الروماني والعربي والعثماني ظلت الانتفاضات عفوية أو محلية لا تسفر عن إقامة سلطة شعبية إلا نادرًا مثل دولة همام في الصعيد التي استمرت 4 سنوات من 1765 حتى 1769 حسب ما ذكر لويس عوض في كتابه سابق الذكر.

([18]) سبق أنْ تناولنا هذا الموضوع في مقال بعنوان: وضع الإنتليجينسيا في البناء الاجتماعي المصري الحديث، http: //www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=8315

([19]) حاول لويس عوض في كتابه: تاريخ الفكر المصري الحديث، تصوير الجنرال يعقوب حليف الفرنسيين أثناء حملتهم على مصر كشخص مستنير وداعية لاستقلال مصر، دون تقديم أيِّ أدلة مقنعة على ذلك.

([20]) شهدت مصر منذ القرن التاسع عشر ثلاثة تيارات رئيسية: التيار الديني المحافظ، المعادي للحداثة وهو يشبه التيار السلفي المعاصر. والتيارالعلماني وهو محدود، وكان التيار الغالب يشمل المجددين الإسلاميين، الذين حاولوا تطويع الإسلام التقليدي للمتغيرات الحديثة ومزجه بالعقلانية الأوروبية. وفي رأيي لم تعبر التيارات الثلاثة عن حركة تنوير حقيقية، فالأول معاد للتنوير مباشرة كما هو واضح، والثاني؛ التنويري (بالمعنى الأوروبي ) لم يتعرض إطلاقًا للأيديولوجيا السائدة ولم يمسها تقريبًا واكتفى بنقل بعض الأفكارالعلمانية والعقلانية من أوروبا كما هيَ، ولم يجد استجابة ملموسة من جمهور الإنتليجينسيا. أما الاتجاه الثالث، الرئيسي؛ النهضوي - بالمعنى الأوروبي- فقد جذب غالبية الإنتليجينسيا وكان مهتما بتطويع الفكر الإسلامي مع عملية التحديث مع الاحتفاظ بنفس الأسس المعرفية. ومن الملاحظ أنَّ العلمانيين والمجددين قد ركزوا جل اهتمامهم لا على الفكر النظري بل على الفكر الاجتماعي- السياسي، فاهتموا بقضية المرأة والحريات الشخصية وفوق ذلك اهتموا أكثر مااهتموا بإقامة نظام برلماني وحكم دستوري ونظام قضاء حديث، دون تجاوز الشريعة الإسلامية. مقابل هذا لم نلاحظ اتجاهًا واضحًا لنقد الإبستمولوجيا القديمة.

 وقد عبر الاتجاه الثالث عن أقصى طموحات الطبقة المسيطرة. ورغم الخلافات والصدامات المحدودة التي جرت بين الدولة وبين بعض عناصر المجددين ظل هو الاتجاه الرسمي للدولة دون أيِّ نبذ أو تصفية للاتجاه الأول بالطبع، المتركز في الأزهر والذي لجأ هو الآخر إلى تجديد جزئي. والآن صار التيار المحافظ هو الأكثر انتشارًا.

([21]) شهدت هذه الفترة ظهور رفاعة الطهطاوي المستنير للغاية بالنسبة لعصره، ثم بدأ الإصلاح الديني على يد الأفغاني ومحمد عبده، وفي الثورة العرابية تم وضع دستور عام 1979 وعدل عام 1882 وكان علمانيًّا (دستور 1882 منشور على: http: //soutelramla.own0.com/t3907-topic)

([22]) قدمت دراسة بعنوان: تحليل عام للحركة الشيوعية المصرية،

http: //modernization-adil.blogspot.com/2008/09/blog-post_18.html

  ([23]) يوجد كتاب بهذا العنوان للشيخ الشعراوي يدرسه طلاب المدارس الثانوية.

([24]) هذا تعبير مكسيم رودنسون وصفًا للبلدان المتخلفة.

([25]) يعتبر البعض أنَّ الاقتصاد الرأسمالي هو اقتصاد عالمي وأن الاقتصاديات المحلية هيَ مجرد أفرع له بغض النظر عن آليات عملها الداخلية. وهذه النظرة تلغي بجرة قلم كل الخصوصيات المحلية، فالإقطاع يصبح رأسمالية بمجرد خضوعه للسوق الدولي. إن سيطرة الرأسمالية على العالم لا تنفي خصوصية مختلف البلدان بل حتى الشركات متعددة الجنسية مازالت قومية الطابع وما زال الصراع بين البلدان الرأسمالية كبلدان مستعرًا ولم تنته بعد الدولة القومية ومازال تقسيم وإعادة تقسيم العالم بين البلدان الكبرى - كبلدان – مستمرًّا.

([26]) خلال الخطة الخمسية خصوصًا كان معدل نمو الاستهلاك أعلى من معدل نمو الإنتاج نتيجة سياسة الرشوة متمثلة أساسًا في تعيين عمالة زائدة بالجملة.

([27]) يجب فورًا نبذ تلك الفكرة التي تعتبر الإسلاميين وخصوصًا الإخوان ممثلين لقطاع من الرأسمالية الكبيرة يخدعون جمهورهم العريض، جريًا على عادة اليسار بتفسير كل الظواهر تفسيرًا اقتصاديًّا مباشرًا. ولنلاحظ أنَّ رجال الأعمال من الإخوان قد كونوا ثروات كبيرة بفضل نشاطهم في جماعات الإسلام السياسي أيْ أنَّ السياسة كانت هيَ البداية في أغلب الحالات، كما أنَّ رؤوس أموالهم تستخدم في خدمة المشروع السياسي بشكل فعال، فبقدر ما يستخدم رجال الأعمال الإسلاميين الإسلام السياسي يستخدم هذا الأخير أموال رجال أعماله أيضًا. وتشير وقائع الحياة إلى أنَّ الفكر ينتج عن تفاعل عوامل متعددة ويعبر عن فئات متداخلة. ولنتذكر أنَّ الرجل الثاني في عالم الماركسية (إنجلز) كان رأسماليًّا.

([28]) ماذا يفعل الديمقراطيون المصريون مع الإخوان؟

 http: //www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=39668

([29]) تعبير تركي الأصل يقصد به  القوى المتنفذة في جهاز الدولة وملحقاته ولا تظهر على السطح كقيادات رسمية أو علنية.

([30]) حسب التعديلات الدستورية لا يحق للبرلمان لا تشكيل الوزارة ولا سحب الثقة منها ولا حتى وضع الدستور، وتنص المادة 28 الشهيرة على أنه لا يجوز الطعن في قرارات لجنة انتخابات رئاسة الجمهورية، مما يضع صندوق الاقتراع في يد للعسكر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق