الثلاثاء، 12 أغسطس 2008

ماذا يقول القرآنيون؟




نموذج من النزعة اللامركزية في الإسلام
قراءة في فكر أحمد صبحي منصور
عادل العمري
5 أغسطس 2008


 مقدمة: القرآنيون:
ظهر هذا الاتجاه في الهند منذ نحو قرن وانتشر منها في أنحاء العالم. يتركز القرآنيون حاليًّا في مصر والسودان والهند.
وهم يعتبرون أنفسهم المسلمين الحقيقيين بينما يعتبرون غيرهم من الفرق الإسلامية أصحاب أديانٍ أرضية غير سماوية. فالإسلام السماوي هو القرآن، أما ما أضافه الناس من أفكار ومبادئ بخلاف الوحي القرآني، منها ما يعرف بالأحاديث النبوية، والفقه وكتب السيرة النبوية وأقوال منسوبة للصحابة، وتفسيرات للقرآن اعتمادًا على مصادر من خارجه.. إلخ، بينما ادعى أصحابها أنها من كلام الله أو من وحيه أو على الأقل جزءا من الدين، أو "من المعلوم من الدين بالضرورة"؛ فهيَ ابتكارات بشرية لا علاقة لها بالإسلام الحقيقي وقد خالفت القرآن في كثير من الجوانب، وكانت أساس ظهور عقائد مثل السنَّة والشيعة والصوفية وغيرها يعتبر كل منها نفسه الإسلام الذي جاء من عند الله. ولأن هذه العقائد ليست من عند الله بل من ابتكار البشر وتخالف القرآن أيضًا كما يرى القرآنيون تعتبر عقائد أو أديان أرضية مخالفة للدين السماوي.
أعرض تعريف للقرآنيين أنهم أصحاب اتجاه يكتفي بالقرآن مصدرًا للتشريع مصداقًا لما جاء في القرآن نفسه: {ذلك الكتاب لاريب فيه، هدى للمتقين} (البقرة: 2)، و{أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} (العنكبوت:51)، نابذين كل المصادرالأخرى كالحديث و السيرة النبوية و تفاسير القرآن و القياس و الاجتهاد وفتاوى الأئمة وحتى ينظرون بشك كبير إلى كتب التاريخ الإسلامي وما بها من وقائع تتناقض مع ما جاء به القرآن.
وهم يسمون أنفسهم أهل القرآن، بينما قال أحمد صبحي منصور إنَّ لقب "القرآنيون" أطلقه عليهم الأمن المصري حين اعتقلهم لأول مرة عام 1987.
والهدف الذي يعلنونه هو الإصلاح السلمي من داخل الإسلام دون الاستعانة بالخارج. كما أنهم ليسوا تنظيما ولا هدف سياسي لهم حسب ما يقولون. بل يتبرأ صبحي منصور من كل صاحب طموح سياسي لأنه – حسب قوله - يسىء إلى الإسلام باتخاذه مطية لحطام دنيوي: "والإسلام عندنا أرفع وأعز من أنْ يتخذه البعض وسيلة مواصلات يركبها للحكم والسيطرة والثروة والسلطة. كل طموحنا هو في الآخرة. ويتركز في أننا نرجو أنْ نكون أشهادًا على قومنا يوم القيامة". يؤمن القرآنيون أنَّ الله أرسل محمدًا بالقرآن ليكون رحمة للعالمين وليس لإرهاب العالمين.
 وهم في تفسيرهم للقرآن يرفضون تفسيره من خارجه، مكتفين بما يسمى تفسير القرآن بالقرآن وفقًا لمدلول الكلمات وقت "التنزيل" دون لجوء إلى الأحاديث والإخباريات. بل ويعتبرون أنَّ للقرآن لغته الخاصة المختلفة عن اللغة العربية المعروفة. بل يتحفظون على مصطلح التفسير نفسه الذي لا يناسب أنْ يرتبط بالقرآن لأنه ليس بحاجة لتفسير؛ فالتفسير إنما يكون للكلام الغامض صعب الفهم، أما القرآن فهو كتاب مبين حسب كلماته هو؛ فآيات القرآن هيَ أحسن تفسير لآيات القرآن، والباحث فيه لا يفسره وإنما يتدبر الآيات في الموضوع الذي يبحثه بمنهج عقلي غير منحاز، وكذلك يجمع الآيات ويستعين ببعضها على البعض ليتوصل إلى حقائق جديدة وليس ذلك بالتفسير، وإنما هو التعقل والتدبر.
والقرآني يقدس الله و القرآن ويؤمن بنبوة ورسالة محمد ويؤمن بالملائكة والرسل السابقين وكتبهم واليوم الآخر والقدر ويقيم الصلاة ويؤدي الزكاة ويصوم رمضان ويحج، ولكنه يخالف باقي الفرق الإسلامية في تفاصيل بعض العبادات.
وقد درجت الدولة المصرية على اضطهاد القرآنيين، بل وإقامة محاكم تفتيش حقيقية لهم وإيداعهم السجن.
ويعد أحمد صبحي منصور هو إمام القرآنيين في مصر. تخرج من الأزهر وحصل على الدكتوراه ولكنه طُرد منه وتعرض للسجن وألوان مختلفة من الاضطهاد، بسبب تمسكه بفكرة أنَّ القرآن هو كتاب الإسلام الوحيد ورفضه للأحاديث والتفسيرات والتراث الإسلامي الذي– حسب رأيه - شوه التعاليم الأصلية للقرآن، حسب مصالح وأهواء السلطة على مر العصور. وقد انتهى الأمر بمنصور للهجرة إلى الولايات المتحدة هربًا من الاضطهاد في بلده مصر. وهو ينشر حاليًّا أعماله على موقع: http://www.ahl -alquran.com/arabic/main.php. وهيَ مصادر هذا المقال.
من أهم أعمال أحمد صبحي منصور كتاب: القرآن وكفى، وفيه راح يبرهن على أنَّ الأحاديث النبوية في مجملها موضوعة وليست أحاديث حقيقية لنبي الإسلام. وتناول بشرح مستفيض فكرة أنَّ القرآن هو المصدر الوحيد للإسلام وهو الكتاب الوحيد للمسلم وأنه كتاب كامل ما فرط في شىء. كما فند نسبة الأحاديث للنبي، مقصرًا مهمته على توصيل رسالة القرآن للناس دون أنْ يكون له حق التشريع. كما كتب عشرات الكتب والأبحاث لشرح أفكاره ونقد الفقه السني والشيعي وفقهاء الإسلام وكتب التاريخ الإسلامي وسياسات الدولة الإسلامية عبر العصور بما فيها عصر عمر بن الخطاب وعثمان..
يتميز صبحي منصور بأنه مصلح للإسلام من داخله تمامًا؛ فهو مسلم فعلًا وليس ملحدًا يتقمص دور الفقيه المحدث مثل بعض الإصلاحيين، وهو يستخدم مصطلحات ولغة الإسلام المعتادة،،َِون أيةض كليا لأيةةولا إلي أية ولا يلجأ إلى مصطلحات فلسفية معقدة ولا يخلط الإسلام بالفلسفة، وبالتالي يقدم أطروحات مفهومة من الشخص العادي والمسلم البسيط، دون تورط في اللف والدوران لتجاوز النصوص المقدسة، بل يصر على تقديس النص القرآني وعلي صلاحيته لكل زمان ومكان وعلي أنه كلام الله نفسه وأنه غير مخلوق وملزم تمامًا للمسلم. كل ما هنالك أنه يقرأه بطريقة تنسجم مع العلمانية وأطروحات حقوق الإنسان والديموقراطية الليبرالية.
وسوف نقدم فيما يلي عرضًا موجزًا لأفكار التيار القرآني ممثلًا في أحمد صبحي منصور،
َ                        ************************** مؤسس هذا التيار في مصر وزعيمه بلا منازع.

********************
1-    تعريف جديد للإسلام والكفر:
 - تجاوز صبحي منصور التعريف التقليدي للإسلام وقام بتقسيمه إلى تعريف مزدوج:
فالإسلام - كما يرى - هو في معناه الظاهري في التعامل مع البشر هو السلام والسلم. وتحية الإسلام هيَ السلام.. واسم الله هو السلام.. وكل ذلك مما يعبر عن تأكيد الإسلام على وجهه السلمي.
أما المعني الباطني للإسلام فهو قلبي اعتقادي، معناه علاقة الإنسان بربه وهو الانقياد لله وحده. أيْ أنْ يسلم الإنسان نفسه طاعة لله وحده، والإسلام بهذا المعنى نزل في جميع رسالات السماء على جميع الأنبياء وبكل اللغات، إلى أنْ نزل باللغة العربية وصار ينطق بكلمة "الإسلام" التي تعني في الاعتقاد إسلام الوجه والقلب والجوارح لله. وهذا هو معنى الإسلام الذي سيحكم الله عليه يوم القيامة، والله لن يقبل يوم القيامة دينًا آخر غير الخضوع أو الاستسلام له وطاعته وحده؛ فالإسلام هو الخضوع لله بكل اللغات وفي كل زمان ومكان وفي كل الرسالات؛ استسلام لله وحده بلغة القلوب، وهيَ لغة عالمية يتفق فيها البشر جميعًا مهما اختلف الزمان والمكان واللسان..
 - أما الإيمان في معناه الظاهري هو الأمن والأمان في التعامل مع الناس. أما في معناه الباطني فهو الاعتقاد في الله وحده إلها لا شريك له. والحكم على هذا الاعتقاد - الذي يختلف فيه الناس - مرجعه لله وحده يوم القيامة، وبالتالي فإن المهم في تعامل الناس فيما بينهم أنْ تسود بينهم الثقة والأمن والأمان. وعلي ذلك فالمؤمن هو كل من تأمنه ويكون مأمون الجانب، أما عقيدته فهذا شأن خاص بعلاقته بالله الذي يحكم على الجميع يوم القيامة.
 - ويرى صبحي منصور أنَّ الأقباط المصريين بالذات أكثر المصريين إيثارًا للسلام والمسالمة والأمن والأمان وهم بذلك أحق البشر جميعًا بوصف الإسلام بمعنى السلام والمسالمة وبوصف الإيمان بمعنى الأمن والأمان. وبالتالي يكون المعتدي عليهم بنفس القدر أبعد الناس عن الإيمان بمعناه الظاهري فهم يتحملون الاضطهاد ما استطاعوا، وإنَّ صبرهم حتى الآن على المكاره يدفعهم إلى المزيد من السلبية والسكون والمغالاة في الحذر وتوقع الخطر وطلب الأمن والأمان بأيِّ وسيلة.
كذلك هناك تعريفان للكفر:
الكفر السلوكي والذي عبر عنه القرآن بأنه إخراج الرسول والمؤمنين من ديارهم بسبب إيمانهم. وعليه يعني الكفر السلوكي الإكراه في الدين والاضطهاد خصوصًا عندما يصل إلى حد الإخراج من الديار والأوطان ثم القتال. وهكذا يعتبر كل إرهابي وكل سفاك للدماء وكل قاتل ظالم وكل مستبد يقهر شعبه كافرًا بسلوكه ومشركًا بغض النظر عن دينه الرسمي أو العقيدي.
 - الكفر العقيدي وهو يعني عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والحكم عليه موكول إلى الله يوم القيامة والقرآن يؤكد على تأجيل الحكم على الناس في اختلافاتهم العقيدية إلى يوم القيامة والي الله وحده. وليس لبشر أنْ يحكم على آخر بالكفر العقيدي. وعلي ذلك يرفض الاتهام بالكفر العقيدي إجمالًا فليس لأحد من البشر أنْ يحاسب إنسانًا بشأن عقيدته، وإلا كان مدعيًا للألوهية، أيْ يكون هو نفسه كافرًا.
بل يرى أنه ليس من حق النبي محمد نفسه أنْ يتهم من يجادله في ذلك الموضوع بالكفر، وعلي ذلك فليس من حق أحد بعده أنْ يتهم غيره من البشر بالكفر بل عليه أنْ يحاور بالحكمة والموعظة الحسنة.
بل أضاف صبحي منصور أنَّ الشرائع والمناسك قد تختلف في الرسالات السماوية ولكن هذا الاختلاف هو للتنافس في الخيرات، مستندًا للقرآن: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} (المائدة: 48).
ـ وبخصوص من لا يعترفون بدين الإسلام فلا شأن لمسلم بمناقشة عقائدهم، بل يجب أنْ يقول لهم: لكم دينكم وليَ دين. وطالما هم مسالمون فهم مسلمون حسب تعريف الإسلام في معناه السلوكي الذي يعني السلام بين البشر، بغض النظر عن عقائدهم الدينية أو غير الدينية؛ فمن يمارس الإسلام السلوكي في تعامله مع الناس يكون مسلمًا بغض النظر عن عقيدته؛ فذلك هو المعيار الظاهري للمسلم في القرآن، ويتم التعرف عليه كمسلم بحسب سلوكه السلمي ويتم التعامل معه كمسلم سواء كان في عقيدته وعبادته مسيحيًّا يهوديًّا أو كان بوذيًّا أو بهائيًّا، أو حتى ملحدًا.
وبالتالي لا يحق للمسلم العقيدي أنْ يكفر غيره أو أنْ يقيم له محاكم تفتيش بل إنَّ القرآن يؤكد على حرية البشر في أنْ يؤمنوا أو أنْ يكفروا: {من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف: 29). كما أنَّ الله ليس منحازًا لأحد: {إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (البقرة: 62). وقد فرض القرآن صيغة معينة للحوار بين المسلمين عقيديًّا وغيرهم: {وجادلهم بالتي هيَ أحسن} (النحل: 125)، {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلـهنا وإلـهكم واحد ونحن له مسلمون} (العنكبوت: 46)، أيْ نؤمن معًا بالله الواحد ونؤمن بما أنزل إليكم وما أنزل إلينا، ونحن له مسلمون، ولم يقل مثلًا: "وأنتم كافرون"، لأنه لا يجوز اتهام المسلم لغيره بالكفر.
وأصل الاضطهاد الديني في العالم الإسلامي أنَّ الإسلام قد تحول إلى أديان أرضية مثل السنَّة والشيعة وغيرها، ولذلك تتصارع هذه الأديان على النفوذ والسلطة والمصالح. أما الإسلام الحقيقي حسب القرآن فلا يدعو لذلك بل يقول لكم دينكم ولي دين.
أما كلام القرآن عن بعض أهل الكتاب: {لقد كفر الذين قالوا إنَّ الله هو المسيح ابن مريم} (المائدة:17)، فهو حق لله وحده ولم يمنحه لأحد غيره.
إنَّ حرية الاعتقاد في الإسلام مطلقة ولا يوجد في القرآن عقوبة دنيوية للمرتد عن الإسلام بل إنَّ قتل المرتد يدخل ضمن قتل النفس بغير الحق وهو يستوجب العقوبة الدنيوية (القصاص) وفي الآخرة. وليس القتل ما حدد الله للنبي كتصرف تجاه المنافقين المرتدين، بل الإعراض عنهم فحسب: {أولـئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولًا بليغًا} (النساء: 63).
وهذا يتناقض مع محاكم التفتيش التي يدعو إليها أصحاب الديانات الأرضية باسم الإسلام.
 - والخلاصة أنَّ معنى الإيمان حسب القرآنيين وقراءتهم للقرآن هو الأمن في التعامل بين الناس، وكل إنسان يأمنه الناس ويثقون فيه يكون مؤمنًا، ومعناه في التعامل مع الله هو عدم الشرك به، ولكن الحكم على هذا الاعتقاد مرجعه لله وحده يوم القيامة، وبالتالي فإن المهم في تعامل الناس فيما بينهم أنْ تسود بينهم الثقة والأمن والأمان.. أو السلام.. أيْ أنَّ الإيمان في الإسلام هو قرين السلام في التعامل بين الناس.
هكذا ينقسم الناس إلى مسلمين؛ أيْ مسالمين، ومعتدين، وهو تقسيم اجتماعي بحت، أما الاعتقاد فلا يعني البشر في شيء بل يؤجل الحكم فيه ليوم القيامة ويكون لله فحسب. وبذا يتم تجاوز التقسيم الديني للناس واستبداله بتقسيم اجتماعي – سياسي مما يضع أساسًا واقعيًّا لتفسير التحالفات والصراعات الاجتماعية. والإسلام بذلك يصبح فكرًا دنيويًّا ومشروعًا اجتماعيًّا، كما يصير علمانيًّا دون التخلي عن الاعتقاد بمصدره الإلهي ودون تجاوز النصوص؛ فتعريف صبحي منصور مستمد – حسب كلامه - من القرآن نفسه وقد استشهد بالكثير من كلمات القرآن في هذا الشأن.
**********
2 - الآخر في الإسلام:
الآخر في الإسلام حسب التعريفات السابقة هو الكافر والمشرك أيْ كل معتد ظالم وإرهابي، يقتل الأبرياء والمسالمين. فالشرك ـ والكفر ـ بمعناه السلوكي الذي يهمنا كبشر هو حسب ما جاء بالقرآن الاعتداء والظلم والبغي والطغيان والإجرام.
أما تقسيم البشر كما ذهب الفقهاء إلى معسكر الإسلام ومعسكر الكفار أو دار الإسلام ودار الحرب على أساس عقيدي فليس من الإسلام في شيء. وأصل هذا التقسيم المخالف للقرآن هو تفضيل النبي محمد على سائر البشر واعتباره سيد المرسلين وسيد الخلق بل وتأليهه.
و القرآنيون لا يفضلون محمدًا على من سبقه من الأنبياء، إلا أنَّ السنيين جعلوه إلها آخر في عقيدتهم؛ فقد جعلوه شريكًا لله في عبادتهم؛ فأضافوا للصلوات الخمس المفروضة صلوات (السنن)، بل وغيروا التشهد في الصلاة فبدلًا من تلاوة لآية التشهد: {شهد الله أنه لا إلـه إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط لا إلـه إلا هو العزيز الحكيم} (آل عمران:18)، نجدهم قد اخترعوا التحيات ليجعلوا محمدًا شريكًا لله في الصلاة، وبدلًا من أنْ تكون الصلاة لذكر الله وحده أصبحت صلواتهم لذكر الله ولذكر النبي معه. وجعلوا النبي محمد أيضًا شريكًا في أذان الصلاة و في شهادة الإسلام المكتوبة على كل مسجد، متجاهلين القرآن: {وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا} (الجن: 18). وبدلًا من أنْ يكون الحج إلى البيت الحرام في مكة، أضافوا الحج لقبر الرسول في المدينة وجعلوا مسجد المدينة حرمًا ثانيًا.
وهذا التقديس والتأليه للنبي مخالف للقرآن تمامًا وهو الأساس الذي تم عليه تقسيم العالم إلى أمة محمد وغيرها ممن اعتبروا من الكفار واعتبار أمة محمد هيَ الأفضل.
 إنَّ مصطلح "أمة محمد" يناقض القرآن والإسلام ويجعله دينًا لبعض الناس أو لمعسكر ضد معسكر آخر، كما يناقض فكرة وحدانية الله. وفي الإسلام توجد أمة الإسلام وليس أمة محمد، وأمة الإسلام هيَ قيم الإسلام في العقيدة والسلوك. وهيَ قيم مطروحة أمام البشر جميعًا للتمسك بها باختلاف الزمان والمكان وكافة الظروف الاجتماعية والثقافية فهيَ قيم عالمية إنسانية أنزلها الله لكل البشر في كل الرسالات السماوية، وقالها كل الأنبياء، وتمناها كل المصلحين الحقيقيين، ويتبعها كل الأبرار من البشر في كل زمان ومكان بغض النظر عن عقائدهم.
أما التقسيم الآخر فناتج عن الحكم بالعكس تمامًا. من ينطق بشهادة الإسلام يصير مسلمًا مهما ارتكب من جرائم. وقد يكون هناك مصلحون مسالمون يخدمون البشرية ويرفعون مبادئ إنسانية ينتمون لعقائد غير عقيدة الإسلام أو حتى ملحدين يتم تكفيرهم. ولكن وفقًا للقرآن أولئك مسلمون حسب معنى الإسلام السلوكي سابق الذكر.
ليس من الإسلام تقسيم العالم إلى معسكرين، وليس من الإسلام الاعتداء على الآخرين واحتلال أراضيهم مثلما فعلت قريش في عصور الخلفاء الراشدين وغير الراشدين.

3 - الولاء والبراء في الإسلام:
اتساقًا مع تعريف أحمد صبحي منصور سابق الذكر للإسلام والآخر ذهب إلى أنَّ الموالاة والتبرؤ في الإسلام تتعامل مع صفات وليس مع أشخاص؛ فالتبرؤ يتوقف حين يتخلى الشخص عن السلوك الكافر؛ أما الخلاف في الدين فلا يستوجب عداء؛ فطالما لا يقاتل أصحاب العقائد الأخرى المسلمين ظلمًا ولا يخرجونهم من ديارهم فلابد من التعامل معهم بالود والبر والعدل والإحسان، وهذا يشمل حتى من ينكر الله تمامًا ولكنه مسالم مأمون الجانب. كما أنَّ هناك شخص كافر في عقيدته ولكنه في سلوكه يقتصر على الاستهزاء بالدين دون الاعتداء الجسدي على المؤمنين. هنا تأتي الخصومة معه في حدود الاعتداء الذي يقوم به، و التشريع هنا ينهي المؤمنين عن الجلوس معه حين يستهزئ بالله وآياته؛ فإذا تحدث في موضوع آخر فلا بأس بالجلوس معه. أما الكافر في عقيدته و يسفك دماء المؤمنين ويطاردهم ويقاتلهم ويستمر في هذا فيجب التبرؤ منه والدفاع عن النفس ضده. وهناك مسلم بعقيدته ولكنه يعصى ويقترف الإجرام والعصيان، هذا أيضًا يجب التبرؤ منه. وقد أمر الله بالتبرؤ ليس من أولئك العصاة وإنما من أفعالهم الإجرامية فقط.
أما كلام القرآن عن عدم اتخاذ اليهود والنصارى أولياء.. إلخ، فيختص بظروف معينة حدثت في العصر المبكر للإسلام، حين كانت هناك تحالفات معينة ومؤامرات قامت بها قبائل من اليهود مع المشركين وهذا ما يفهم من سياق الآيات. فالحكم هنا يتعلق بحالات بعينها وليس حكمًا مطلقًا، بدليل أنَّ القرآن نفسه قد أحل التزاوج بين المسلمين وغيرهم وأكل طعامهم، وذكر أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. إلخ.

**********************
4 - مصدر الإسلام:
 - يرفض صبحي منصور السنَّة النظرية؛ الأحاديث المسماة بالنبوية، أما فيما يخص ما تسمى بالسنَّة النبوية العملية فهو لا يعتبرها سنة محمدية و يقبلها على أساس أنها سنة الله المتواترة من الأديان السابقة، خصوصًا من دين ابراهيم، والتي مارسها الناس قبل النبي محمد، ومارسها هو باعتبارها شرع الله الذي سار بعض الناس عليه. أيْ ليست سنة محمدية، لأن نبيَّ الإسلام حمل القرآن فقط؛ فحتى الصلاة معروفة من قبله. وتقتصر السنَّة العملية على العبادات من صلاة وزكاة وحج وصيام. وفي كل ذلك فان الله هو صاحب التشريع الذي نزل في القرآن، والنبيُّ هو القدوة لنا في تطبيق ذلك التشريع. أما السنَّة القولية الحقيقية للنبي فليست المسماة بالأحاديث النبوية بل هيَ ما ورد في القرآن في كلمة "قل"، أيْ أنها كلام الله موجها لرسوله ليوصله للناس؛ أيْ القرآن.
يقرر صبحي منصور أنَّ القرآن هو الكتاب الوحيد للمسلم، وهو كتاب الله؛ وبالتالي يكون الله هو المشرع الوحيد في الإسلام وما محمد إلا حامل رسالته للناس دون أنْ يكون له حق التشريع. والقرآن كتاب كامل به كل شيء ولا يحتاج المرء لكي يفهمه إلى شروحات من خارجه بل يمكن أنْ يفهمه مباشرة لأنه يفسر نفسه بنفسه وبلغته الخاصة التي تختلف عن اللغة العربية التي نستعملها والتي هيَ مثل أيِّ لغة أخرى كائن متحرك، تتغير مصطلحاته ومدلولات الكلمات حسب الظروف التاريخية والاجتماعية. أما اللغة القرآنية فلها مدلولاتها الخاصة بها والتي لا تتأثر بالزمان والمكان؛ فعلى من يريد أنْ يفهم القرآن أنْ يبدأ بدون أدنى فكرة مسبقة في تتبع الموضوع المراد بحثه من خلال كل آيات القرآن فحسب، سواء المحكم منها أو المتشابه، وهذه هيَ "الرؤية القرآنية" للإسلام كما يسميها. فلا ضرورة أبدًا لما يسمى مناسبات النزول ولا إلى الأحاديث المنسوبة للنبي محمد ولا أيضًا لتفاسير المفسرين الذين استعانوا بمصادر غير قرآنية لتفسير القرآن؛ فالقرآن ما فرط في شىء ونزل تبيانًا لكل شىء وجاء مفصلًا لكل شىء. وهو يرفض القول أنَّ القرآن كتاب "حمال أوجه" بل كتاب أحكمت آياته حسب التعبير القرآني نفسه.
وفي محاولة إبراز ميزة منهجه يضرب مثلًا؛ فالرؤية البشرية الذاتية للمسلمين، أيْ رؤية أديانهم الأرضية من سنة وشيعة وغيرها لا تقدم الإسلام إلا كدين للعنف والإرهاب، أما إذا رجعنا للقرآن فحسب بمفاهيمه الخاصة، فسنفاجأ بأن الإسلام هو دين السلام والتسامح الذي لا مثيل له حسب ما يرى.
فتدوين التاريخ الإسلامي بدأ واستقر في عصر الإمبراطوريات التي شيدها المسلمون، وبذلك تلون التاريخ في كتابته بمفاهيم القوة والتسلط والتعصب، وبذلك اتسعت الفجوة بين القرآن والتراث في مجالات التاريخ والتشريع، بل والعقائد أيضًا.
فبسبب المصالح السياسية والإمبراطورية الجديدة والمتغيرة وقع المسلمون في تناقض مع تشريعات القرآن، وعولج هذا باختراع أحاديث مزورة نسبوها لله (تسمى بالأحاديث القدسية) وللنبي تحت اسم السنَّة وجعلوها وحيًا من السماء، وبدأوا كتابتها بأثر رجعي بعد موت النبي بقرنين أو أكثر.
ففي ظل الاستبداد في العصر العباسي تم تدوين التراث ليعبر عن الواقع العقيدي والفكري والاجتماعي للمسلمين، وليعبر على وجود فجوة بين القرآن و الواقع العملي للمسلمين دينيًّا وفكريًّا وعقيديًّا وسياسيًّا. فكان أنْ تم اختراع الأحاديث وإعادة صياغة السيرة النبوية وكتابة التاريخ الإسلامي بطريقة معينة، واختراع الفقه لتبرير تجاوز المسلمين للقرآن ومخالفة تعاليمه حسب مصالح الفئات المتسلطة على المجتمع وحلفائها. بالإضافة إلى دور بعض الموالي (من أسلموا من غير العرب) المعادين للإسلام والذين تعمدوا الإساءة إليه بهذه الطرق، وهو يتهم البخاري بالذات بهذه التهمة.
ويتضح هذا من وجود فجوة بين كلام القرآن عن المسلمين الأوائل في عهد النبي وغزواته، وبين السيرة النبوية التي كتبت بعده بقرنين؛ فكلام ابن هشام وابن اسحق وغيرهما يقدم المسلمين في صورة أناس ذوي بأس شديد وتؤكد بين سطورها أنَّ الإسلام انتشر بالسيف وذلك لتبرير الفتوحات والغزوات. هذا بينما يتحدث القرآن عن خوفهم مثلًا قبل بدء معركة بدر وغيرها.
ومن خلال اختراع الحديث والتفسير وغيرهما كان علاج الفجوة بين ما يقوله القرآن وبين ما يؤمن به المسلمون الجدد في العصر العباسي؛ فما لا يتفق في القرآن مع هواهم كانوا يعطلون حكمه بدعوى أنه "منسوخ"، وما يريدون إضافته للإسلام كانوا يخترعون له حديثًا ينسبونه للنبي، أو يقوم "التفسير" أو "التأويل" بذلك حين يضعون آراءهم ليغيروا بها معاني الآيات.
 - وبما أنَّ القرآن كتاب كامل وصحيح تمامًا ومفسر، فليس هناك ما يُسمى بالناسخ والمنسوخ؛ بمعنى آيات ألغيت واستبدلت بغيرها؛ فلا يعقل أنَّ الله يغير كلامه من حين لآخر، ولا يعقل أنَّ النبي يتجاوز نصوص القرآن بأحاديثه؛ فكلام الله مقدس ولا تبديل له. فالنسخ – حسب ما يقول - في القرآن يعني الكتابة والإثبات وليس الحذف والإلغاء. أما المقصود بكلمة آية في القرآن: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها} (البقرة: 106)، هيَ المعجزة التي ينزلها الله على الأنبياء. والمهم أنَّ كلمة ننسخ في الآية السابقة هو بمعنى الإثبات والكتابة وليس الحذف. وأنَّ الآية المقصودة هنا هيَ المعجزة التي يأتي بها كل نبيٍّ، وقد كانت معجزة النبي خير الآيات، ولأن الحديث هنا عن معجزات يتلو بعضها بعضًا في تاريخ الأنبياء كان تذييل الآية بتقرير قدرة الله على كل شىء: {ألم تعلم أنَّ الله على كل شيءٍ قدير} (البقرة: 106). وابتكار فكرة النسخ بمعنى الإلغاء خدمت أصحاب المصالح في تجاوز أحكام القرآن دون الإعلان عن الكفر العقيدي بصراحة؛ فكان هذا التفافًا حول الإسلام وتحايلًا على الشرع([1]).
تحدث صبحي منصور بالتفصيل عن النسخ وضرب كثيرًا من الأمثلة عن الآيات التي قيل إنها ألغيت لصالح غيرها. ويبدو كلامه منطقيًّا للغاية، خصوصًا إذا تذكرنا ما قيل من أنَّ هناك آيات نسخت - بمعنى ألغيت - نصًّا ولم تنسخ حكمًا، مثل آية الرجم([2])، وهو شيء غير منطقي أبدًا، وكذلك آيات نسخت حكمًا ولم تنسخ نصًّا فلماذا أبقى عليها الله؟ وكيف لإلهٍ يوصف بأنه مطلق القدرة أنْ يغير أحكامه.
وبناء على رفض فكرة الناسخ والمنسوخ يعتبر القرآنيون أنَّ الآيات التي تنادي بالتسامح واحترام الآخر وتقبل حرية الاعتقاد.. إلخ، ملزمة للمسلمين وليست ملغاة، ويفسرون الآيات التي تدعو للقتال بالتوافق مع آيات التسامح. ففكرة الاعتداء على الآخرين مرفوضة تمامًا، وبالتالي تفسر آية السيف مثلًا أنها تستهدف قتال المعتدين فقط([3]).
ويتسق القول بأن القرآن كامل مع نفي الأحاديث؛ فاكتمال القرآن يعني أنه لا يحتاج إلى تفسيره بالأحاديث ولا إلى أيِّ شروح، التي منها تفاسير القرآن العديدة والتي فيما يرى القرآنيون قد خدمت السلطات في العصور المختلفة. كما أنَّ الإسلام اكتمل باكتمال القرآن: {اليوم أتممت عليكم نعمتي} (المائدة: 3). وصبحي منصور يتمسك بقوة بهذه الآية نافيًا أنْ يكون للحديث أو أقوال الصحابة أو الفقهاء أيُّ دور في التشريع.
كل هذا يعرضه مستشهدًا بالقرآن نفسه الذي جاء به أنه {لا ريب فيه}، {وما فرطنا في الكتاب من شيء}، {فبأيِّ حديث بعد الله وآياته يؤمنون}.
والقرآن - وفقًا للقرآنيين - هو الوحي الوحيد الذي نزل على محمد ولم يتم أيُّ وحي بالأحاديث والمسلم مطالب بالعمل بما في القرآن فقط لهذا السبب. وهو الصراط المستقيم وهو الحكمة التي لا حكمة غيرها.
أما كلام الصحابة فيشبه "الأحاديث النبوية" في عدم مشروعيته؛ فإذا كان النبي لا يملك حق التشريع دون الله فلا يحق لأيِّ شخص آخر أنْ يمارس التشريع، وينطبق هذا أيضًا على الفقه الذي يهاجمه بشدة أحمد صبحي، ممتدحًا فقط أبا حنيفة لاجتهاده وعدم أخذه بالأحاديث في فقهه.
 - كذلك تناول أحمد صبحي موضوع التأويل تفصيلًا:
فحسب كلامه يعني التأويل في لغة القرآن التحقيق والتطبيق أو التحقيق والتجسيد؛ أيْ الإخبار بالمعنى الحقيقي. أما في التراث فيعني التأويل التفسير بما يناسب الظن والهوى. مثل التأويل الشيعي والسني والصوفي.
كان تأويل المعتزلة عقليًّا؛ استخدم المصطلحات اليونانية لتأويل القرآن في الآيات التي تتعلق بذات الله وصفاته وأفعاله والمشيئة والقضاء والقدر، وهم لم يستخدموا مرجعية دينية لتأويلهم، ولذلك لم يصنعوا دينًا أرضيًّا، بل اعتبروا كلامهم مجرد وجهة نظر بشرية وليس من الدين في شيء.
وهو يرى أنَّ كلامهم مثلًا عن أنَّ الله قديم خطأ لأن الله تكلم عن نفسه فقال إنه الأول وليس كمثله شيء. وحتى في تأويلهم للآيات التي يفيد ظاهرها التشابه بين الله ومخلوقاته؛ مثل {الرحمن على العرش استوى} (طه: 5)؛ فإنهم أغفلوا المنهج القرآني بسبب اتباعهم للمنهج الفلسفي اليوناني([4]). فالمنهج القرآني هو أنْ تفهم القرآن بالقرآن؛ فالله هو كما وصف ذاته: {ليس كمثله شىء} (الشورى:11)، وهيَ آية محكمة في هذا السياق. إذن فكل آية في القرآن يفيد ظاهرها تشابها بين الله ومخلوقاته لابد أنْ يكون ذلك على سبيل المجاز وليس الحقيقة.
واتساقًا مع اعتقاده أنَّ القرآن واضح تمامًا ليس به غموض ذهب إلى أنَّ الآيات المتشابهات يمكن فهمها من خلال المحكمات التي هي واضحة بذاتها تمامًا ومن السياق. فمثلًا راح يفسر آية {على العرش استوى} كالتالي: لو قرأ المعتزلة الآيات التالية مباشرة لقوله {الرحمن على العرش استوى} لوجدوها تحدد المعنى المقصود بالاستواء على العرش وهو تمام التحكم في الملكوت: {له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإنْ تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، الله لا اله إلا هو له الأسماء الحسنى} (طه: 5 -6).
وبينما انصب تأويل المعتزلة على ما يخص الذات الإلهية وصفاتها في محاولة لتنزيه الله عن التشابه مع البشر، ذهب السنَّة إلى مشابهة الله بالبشر واتجهوا – عكس المعتزلة – لتأويل التشريعات. فكان تأويل المعتزلة للأصول وتأويل السنَّة للفروع. وقد انحرف في رأيه تأويل السنَّة عن معاني القرآن في التشريعات حتى المحكم. من ذلك: تأويل مصطلح أهل السنَّة نفسه؛ فالسنَّة تعني في القرآن الشرع وليس الأحاديث النبوية، وجاء الفقه السني بتأويل وتعديل للمدار التشريعي، إذ أضاف إليه درجتين في التشريع انتزعهما من المباح الحلال، هما المكروه والمندوب أو المسنون. فالمكروه هو مباح ينبغي تركه أو درجة أقل من الحرام، والمندوب أو المسنون هو مباح ينبغي فعله وان لم يكن واجبًا لأنه أقل من الفرض الواجب. هذا بينما تدور التشريعات في القرآن حول ثلاث درجات: الفرض المكتوب أو الأوامر، ثم النواهي أو المحرمات، ثم ما بينهما وهو المباح. وترتب على هذا التأويل والتعديل للمدار التشريعي الإسلامي القرآني نتيجتان: الأولى: إضافة مصطلحات جديدة تخالف القرآن، وهيَ المكروه والمندوب، والثانية هيَ التضييق من دائرة الحلال المباح وتحويل المباح الحلال إلى مكروه لا ينبغي العمل به، وهذا يعني التدخل في تشريع الله من حيث الدرجة ومن حيث التفصيلات. وقد قاد التأويل السني إلى إهمال قواعد التشريع ومقاصده العظمى (وقد تأتي المقاصد – حسب كلام صبحي منصور - في خلال الآية نفسها أو في خلال السياق أو تأتي منفصلة).
يقسم أحمد صبحي مقاصد التشريع القرآني إلى نوعين: النوع الأول ويتمثل في مصطلح التقوى، أيْ خشية الله، أو بتعبيرنا المعاصر: الضمير الحيّ الذي لا يكتفي بالتأنيب على الخطأ والعزم على عدم العودة إليه، ولكن قبل ذلك يمنع الإنسان من الوقوع في الخطأ. والنوع الثاني هوالمقاصد التشريعية الأخرى من حفظ تماسك الأسرة ورعايتها، والتخفيف ورفع الحرج والتسهيل، والعفة الجنسية. وقد أضاع الفقه السلفي الحنبلي بتشدده وتزمته المقصد التشريعي بالتيسير ورفع الحرج.
قد غير هذا الفقه مغزى العبادات؛ وهيَ حسب مفهوم القرآن مجرد أوامر واجب علينا أداؤها لبلوغ الهدف الأسمى وهو التقوى أو هيَ مجرد وسائل للتقوى نستطيع بها الابتعاد عن الفحشاء والمنكر وهذا هو المعنى الحقيقي لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، أيْ التزكي والسمو الخلقي بالتقوى. أما التأويل السلفي فقد غير هذا المقصود حين جعل الصلاة والزكاة والحج أهدافًا بذاتها؛ فإذا أديت الصلاة فلا عليك إنْ عصيت وستقوم صلاتك بمسح ذنوبك، وإذا تبرعت لبناء مسجد مهما كان صغيرًا تمتعت بقصر في الجنة، وإذا أديت الحج رجعت منه بلا ذنوب. أما علاقتنا بالآخرين فقد حولها الفقه السلفي من السلام إلى العنف والارهاب والعدوان لأنه ركز على الأمر وأهمل القاعدة والمقصد التشريعي. فالأمر بالقتال "قاتلوا"، "جاهدوا"، "انفروا"، له قاعدة تشريعية وهو أنْ يكون للدفاع عن النفس ورد الاعتداء بمثله، أو بتعبير القرآن: في سبيل الله، ثم يكون الهدف النهائي للقتال هو تقرير الحرية الدينية ومنع الاضطهاد في الدين، كي يختار كل إنسان ما يشاء من عقيدة، وهو يعيش في سلام وأمان حتى يكون مسئولًا عن اختياره الحر يوم القيامة بدون إكراه في الدين، حتى لا تكون لأيِّ بشر حجة أمام الله يوم الدين. فالدعوة الإسلامية الحقيقية هيَ الدعوة لـ "التقوى" فقط، وليست السعيُ إلى السلطة والثروة. والتقوى هيَ علاقة مباشرة بين المرء وربه، تعني خشية الله وحده في السر والعلن بحيث تنعكس على عقيدة وسلوك الفرد؛ فيتعامل مع الناس بأسمى مكارم الخلق مبتغيًا وجه الله وحده آملًا في الفوز في يوم الحساب.
والدافع وراء ظهور التأويل لدى المسلمين هو دافع سياسي، إذ حاولت كل فرقة أنْ تدعم وجهة نظرها السياسية بالتأويل، أيْ بتطويع نصوص القرآن واختراع نصوص مقدسة ينسبونها لله (المسماة بالأحاديث القدسية) أو للنبي. وبهذه الالتفافات على النص القرآني اخترع السلف من السنَّة والشيعة وغيرهم من الفرق أديانًا أرضية أسموها بالإسلام وهو منها بريء.
ويمكن تلخيص منهج أحمد صبحي منصور في فهم القرآن فيما يلي:
 - للقرآن مصطلحاته الخاصة ولغته العربية الخاصة التي لا تتأثر بالزمان والمكان ويجب تدبره وليس تفسيره لاكتشاف معانيه الواضحة والنهائية التي لا تتغير بالزمن. فللنص القرآني معنى واحد صحيح ولا مجال لقراءات مختلفة حسب الثقافات المتباينة للبشر. وبالتالي لا يعترف بحق الاختلاف في تفسير القرآن.
 - تفاعل النص القرآني مع حوادث أرضية بعينها ولكنه حولها إلى عظات عامة صالحة للتطبيق في كل مكان وزمان.
 - تفسر الآيات المتشابهات على ضوء الآيات المحكمات. أما الآيات المحكمات فهيَ الواضحة بذاتها. فيفسر القرآن بالقرآن فقط دون الاستعانة لا بالتراث (الأثر) ولا بالرأي (التأويل)، وهو يقبل بالتأويل بمعنى محدد؛ الكشف عن المعنى الحقيقي للنص القرآني، وهو معنى التأويل في القرآن نفسه حسب ما يقول.
 - لألفاظ القرآن دلالات متعددة واضحة من النص نفسه ولا علاقة لها باستخدامات التراث. ومن أمثلة ذلك المعاني المختلفة لكلمات مثل: الرسول – الأرض – أعمى، وغيرها الكثير.
 - يأخذ بحرفية القصص القرآني بل يستنتج وقائع التاريخ من النص نفسه معتبرًا إياه مرجعًا تاريخيًّا موثوقًا.
 - يقبل بالمجاز في القرآن.
**********************
5 - دور النبي – الرسول:
 - إذن ما دور محمد؟ أهو مجرد حامل للرسالة؟ يرى منصور أنَّ محمدًا هو نبيٌّ ورسول: النبي هو شخص محمد في حياته وشئونه الخاصة وعلاقاته الإنسانية بمن حوله، وتصرفاته البشرية. وأنَّ من تصرفاته البشرية ما استحق اللوم من الله والعتاب؛ فهو ليس معصومًا من الخطأ كما يدعي مجمل رجال الدين الإسلامي، بل أخطأ وعاتبه الله في القرآن مرارًا: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين} (الأحزاب: 1)، {يا أَيها النبِي لم تحرم ما أحل الله لك} (التحريم: 1)، موضوع أسرى بدر وعدم قتلهم، وحين استغفر لبعض أقاربه عاتبه القرآن، وفي موضوع زواجه بزينب بنت جحش كان ينبغي عليه أنْ يقول لزيد "طلق زوجتك" ولكنه تحرج وقال العكس تمامًا فنزل القرآن يؤنبه: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله} (الأحزاب: 37). ويؤمن القرآنيون بأن العصمة المطلقة من الوقوع في الخطأ هيَ لله وحده. وإذا كان محمد قد أخطأ وعاتبه الله فإنه لا يجسد الإسلام، مع أنه نبيُّ الإسلام والذي قام بتبليغ رسالته، وبالتالي فلا يوجد أيُّ بشر بعده يكون تجسيدًا للإسلام. والنبي ليس شخصًا مقدسًا فالمقدس الوحيد في الإسلام هو الله فحسب. وحتى الوادي المقدس المذكور في القرآن فهو جبل الطور بسيناء والله حسب القرآن أيضًا قد {جعله دكًا} (الأعراف: 143)، ولم يعد موجودًا، أما الموجود حاليًّا فجبل غير مقدس.
وهذا عكس مذهب من يسميهم صبحي منصور بالبخاريين، أيْ أهل السنَّة. فالقرآنيون يؤمنون أنَّ الله واحد لا شريك له ولم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ولكن البخاريين يؤمنون ظاهريًّا فحسب بهذا، ولكن عقائدهم التراثية والواقعية تناقض هذا الإيمان. فهم يؤمنون بأن محمدًا مخلوق من نور الله؛ فضمن ما يروونه من أحاديث: أول من خلق الله نور نبيك يا جابر. ويؤمنون بأن النور المحمدي المقتبس من نور الله قد استوى في نبوة محمد قبل خلق آدم طبقًا لحديث يروونه يقول: "كنت نبيًّا وأدم بين الماء والطين وكنت نبيًّا وأدم لا ماء ولا طين"، وهذا شرك صريح.. فكأنَّ عرش الرحمن كان مظلمًا فأضاءه نور محمد. كما يصفون محمد بـ "سيد الكونين" وقد أسندوا إليه علم الغيب في الماضي والحاضر والمستقبل، حتى في الآخرة.
وحسب القرآن لا علم للنبي بالغيب، وقد ذكر أحمد صبحي منصوركثيرًا من آيات القرآن التي تفيد بذلك. وهو طبعًا ينبذ الأحاديث التي تتناول الغيبيات، مذكرًا القارئ أنَّ النبي لا يعرف الغيب، ولكنه نجح في دعوته وفي إقامة دولته بالتدبير البشري والاستعداد العسكري والأخذ بالأسباب والتدريب والتعليم واستشارة أصحابه؛ فلا مجال في الإسلام للخرافات أو الإيمان بمعجزات البشر أو السوبرمان، وطبعًا لا توجد أيُّ "كرامات) لأحد من البشر عدا أنبياء سابقين على محمد، الذي قدم معجزة واحدة هي القرآن كمعجزة عقلية وعامة ومستمرة للبشر. وضمن الخرافات التي نفاها: المعراج؛ لأنه لم يذكر في القرآن، بل جاء ما يفيد أنَّ محمدًا لم يصعد قط للسماء. أما الإسراء فقد كان - حسب كلامه - خصوصية للنبي لذا قال القرآن عنه: {لنريه من آياتنا} (طه: 23)، أيْ هذا خاص به وحده، بل اعتبر القرآن حادث الإسراء فتنة للناس (الإسراء: 60).
ويؤمن القرآنيون حسب نص القرآن أنَّ كل نفس ذائقة الموت، حتى النبي محمد الذي تحدث القرآن عن حتمية موته.. ولكن أهل السنَّة أو البخاريون كما يسميهم أحمد صبحي يؤمنون بأن محمدًا حيٌّ في قبره، وتعرض عليه أعمال أمته، ولذلك يزورون قبره يتوسلون به وهم واثقون أنه يسمعهم وأنه يراجع أعمالهم ليشفع لهم، أيْ يسندون له حياة أبدية لتكتمل له ملامح الألوهية. وينكر القرآنيون مسألة شفاعة النبي للمسلمين يوم القيامة التي تتناقض مع 150 آية قرآنية حسب ما يقولون، وتتنافى مع عدالة الله يوم القيامة؛ فكل امرئ سيحاسب على أعماله ويتحمل المسئولية.
أما الرسول فهو النبي محمد حين ينطق بالرسالة وحين يبلغ الوحي؛ فما على الرسول إلا البلاغ، وتبليغ الرسالة معناه توصيلها كما هيَ دون زيادة أو نقص. وقد جاء الرسول بالقرآن وعلينا التمسك به، وأما ما نهانا عنه {وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر:7)، فهو كتابة غير القرآن ومحو كل مكتوب في الدين خارج القرآن. ومن الملاحظ أنه ضمن الأحاديث التي يعتبرها التراثيون صحيحة حديث للنبي ينهي عن الكتابة عنه([5]).
على ذلك يؤمن القرآنيون برسالة محمد ويعتبرونه مجرد حامل للرسالة. وبالعكس يؤمن "البخاريون" بشخص محمد لا برسالته، ويقدسونه ويشركونه مع الله كمشرع وكسيد الكونين ويعدونه مخلوقًا من نور الله.
ويشكك أحمد منصور في وقائع السيرة النبوية المروية، لأنها تصور النبي مخالفًا للقرآن. من ذلك أنه ينكر قيام محمد باغتيال خصومه الفكريين من أمثال كعب بن الأشرف، على أساس أنَّ هذا العمل مخالف للقرآن، وتصرفات أخرى عديدة جاءت في كتب السيرة، التي صورته كشخص شهواني وعدواني، وهو عكس الحقيقة المدونة في القرآن كما يرى. فقد قام المؤرخون بتسجيل سيرة النبي بعد موته بقرون – وبأثر رجعي - ووضعوا فيها كل ملامح عصرهم من قتال هجومي واغتيال سياسي وإرهابي وانحراف خلقي. ثم قامت الأحاديث بنسبة تللك الصورة عبر الإسناد المزيف للنبي، ثم جعلوه دينًا سموه السنَّة وزعموا أنها جاءت وحيًا من الله. وقد كتبت السيرة النبوية في العصر العباسي ولذلك جاءت معبرة عن ذلك العصر.
 - آية {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}:
المطاع واحد هو الله فقط في أوامره التي ينطق بها الرسول أو من يحكم المسلمين بعد موته. وهناك قاعدة شرعية مأخوذة من القرآن تقول: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقد كانت طاعة النبي - وهو في حياته - في إطار طاعة الله فقط. قال القرآن: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (النساء: 59)، ولم يأت مطلقًا في القرآن أنْ أطيعوا الله وأطيعوا النبي، لأن الطاعة ليست لشخص النبي وإنما للرسالة، أيْ للرسول. إذن فالنبي هو شخص محمد في حياته الخاصة والعامة، أما الرسول فهو النبي حين ينطق القرآن وحين يبلغ الوحي. ولم يأت مطلقًا: ما على النبي إلا البلاغ، وإنما جاء: {ما على الرسول إلا البلاغ} (المائدة:99)؛ فالبلاغ مرتبط بالرسالة، كما أنَّ معنى "النبي" مرتبط ببشرية الرسول وظروفه وعصره وعلاقاته.
أما خارج نطاق الرسالة فقد كانت للنبي أقوال وتصرفات في حدود بشريته ومختصة بظروف مجتمعه وعصره. فكانت له في تحركاته وعلاقاته المتعددة أقوال وأحاديث، وهذه الأحاديث كانت مرتبطة بظروفها الزمانية والمكانية التي قيلت فيها، والتي يستحيل أنْ تتكرر في أيِّ عصر لاحق بنفس الأحداث والأشخاص والظروف، لأنه تاريخ مضى وانتهى بانتهاء أبطاله وموتهم، ولم يبق منه إلا العبرة والعظة. أما أقوال النبي خارج الوحي والتي أوردها القرآن فهيَ قصص للعبرة يؤمن بها القرآنيون كجزء مما جاء في القرآن. ولكن أقواله خارج الوحي القرآني والتي كتبها رواة السيرة بعد وفاته بعقود طويلة فتتضمن الحق مع الباطل وليست جزءا من الدين.
إنَّ أقوال الرسول (وليس النبي) هيَ القرآن لا غيره، وقد أبلغ رسالته بالكامل، وفيه الكفاية و التفصيل التي يحتاجها الناس، وكان النبي أول الناس طاعة لهذا الوحي وعملًا بما جاء فيه.
إذن فطاعة الرسول هي طاعة الرسالة، أيْ القرآن.
باختصار، الإيمان هو بالله فقط وليس بمحمد أيضًا؛ فهو حامل رسالة ومطبق لها فقط، ولكنه بشر يخطئ ويصيب ولا يعلم الغيب ولا يشفع لأحد.. إلخ. وفي سبيل إبراز ذلك ذلك فسر أحمد صبحي منصور كلمة الرسول في القرآن تفسيرات شتي، منها أنها تعني في بعض الآيات: القرآن.
 - الاجتهاد في التشريع: كان النبي يجتهد في تطبيق الشريعة، ولكن حتى في ذلك أمره الله أنْ يشاور المؤمنين في الأمر. ولكن اجتهاده في التطبيق للنصوص كان يخضع لإمكاناته البشرية وظروف مجتمعه؛ وهيَ مختلفة عن ظروفنا، وبالتالي ليست اجتهاداته ملزمة للناس في العصور التالية له. والاجتهاد أو ما يسميه "تدبر القرآن" ضروري دائمًا رغم وجود النص. ويرفض صبحي منصور على هذا الأساس القاعدة الفقهية القائلة: لا اجتهاد مع وجود النص، معتبرًا أنَّ الاجتهاد يتعلق بالتطبيق وليس بالتشريع نفسه؛ ومن ثم يرفض فكرة القياس الفقهي باعتبارها تحايلًا على النص القرآني([6]). فالقرآن – على سبيل المثال - فرض النفقة للمطلقة ولكنه لم يحدد كميتها وهذا متروك للناس حسب ظروف المجتمع وأحواله الاقتصادية، كما أنَّ هناك مجالات أباح فيها الاحتكام للعرف..
 - وإذا كان نبيُّ الإسلام لا يملك حق التشريع فأولى ألا يكون للصحابة والتابعين والفقهاء وأيِّ إنسانٍ حق التشريع، ولا يجب على المسلم أنْ يأخذ بأقوال الصحابة كمصدر للإسلام.
**********************************
6 - ما يعرف بالأحاديث النبوية:
حسب القرآنيين تعتبر أغلب الأحاديث المنسوبة للنبي محمد مخالفة للقرآن، وكثير بها يعج بالخرافات ويتكلم في أمور غيبية لا يفترض أنَّ نبيَّ الإسلام يعلمها حسب نصوص القرآن. وقد تم اختراع الأحاديث تباعًا ولم تكتب في فترة واحدة، بل تضخم عددها باستمرار مع الوقت. القرآن من عند الله.. هذا أمر محسوم في الإسلام ولكن الأحاديث اختلفوا فيها من حيث القوة والضعف والإسناد.. إلخ. فحتى مسلم لم يأخذ بكل ما ذكره البخاري، وأحمد بن حنبل ذكر أحاديث أخرى. ولا يمكن تصور أنَّ الإسناد عن فلان وفلان عبر قرون يضمن صحة نقل الحديث أبدًا، لأنه لم يدون إلا في عصر متقدم بعد النبي بقرنين. ومهما كان السند، فالخطأ وارد ونسبة الحديث زورًا وبهتانًا لشخص يتمتع بالثقة ممكن للغاية. كما أنَّ الغالبية العظمى من الأحاديث توصف بأنها آحاد (رأيُ أحمد منصور الشخصي أنَّ كلها أحاديث آحاد)، أيْ أخذت عن شخص واحد ونسبت لناقلين عبر العصور، أما المتواتر فقليل للغاية وقد اختلفوا فيها وذكروا أنها واحد أو ثلاثة، أو خمسة.. إلخ. أما لماذا لم يسجل نبيُّ الإسلام الأحاديث فهذا هو السؤال الصعب الذي لم يقدم عليه السنَّة والشيعة أيَّ إجابة مقنعة.
وقد قسم السلفيون الأحاديث الآحاد إلى درجات من حيث الصحة من حسن وغريب وضعيف إلخ... وهو تقسيم يعني بالنسبة للسند للنبي أنه قد قال هذا الحديث بنسبة 70 % أو بنسبة 50 %أو 10 % وذلك لا يستقيم مع المنهج العلمي، لأنه إما أنْ يكون النبي قد قال ذلك الكلام، فتكون نسبة إسناده للنبي هي 100 %، وإما أنْ يكون النبي لم يقل هذا الحديث فتكون نسبة إسناده للنبي هي صفر في المائة.
وحسب رصد صبحي منصور كان النبي يحكم بالقرآن وحده، ولدى حدوث واقعة ما كان ينتظر نزول الوحي حكمًا فيها، ولم يجتهد في شيء من التشريع. وكان اجتهاده البشري في الأمور الدنيوية البحتة، مثل الخطط الحربية وإدارة الشئون اليومية للدولة. وهذا ينفي أهمية الأحاديث المنسوبة إليه، بل ينفي صحة معظمها المخالف للقرآن. ووصف الله القرآن بأنه بصائر للناس، أيْ دعوة لهم لأن يتبصروه وأوضح لهم أنه لا شأن للنبي بهم بعد أنْ أدى مهمته في التبليغ. وحسب رأيه أنَّ النبي بعقليته كان أصلح الناس للاجتهاد، وكان منتظرًا أنْ يبادر بالإجابة على من يسأله ويستفتيه في أمور الدين، ولكن الواقع القرآني يؤكد أنه كان إذا سئل في شىء ينتظر نزول الوحي ليأتي بالإجابة حتى لا يتجاوز حدوده ويمارس التشريع رغم قدراته الخاصة. ولو كان للنبي حق التشريع والاجتهاد، لأصبح للدين مصدران، وكان لابد حينئذ أنْ يحظى ذلك المصدر الثاني بحفظ الله شأنه شأن المصدر الأول، ولكن ذلك لم يحدث فلم يسجل حتى السلفيون أنَّ محمدًا قد أمر بكتابة ما اعتبروه أحاديثه بل قالوا العكس.
فإسناد قول ما للنبي وجعله حقيقة دينية هو اتهام له بأنه فرط في تبليغ الرسالة، ولم يبلغ بنفسه تلك الأحاديث المنسوبة إليه، ولم يقم بتدوينها وكتابتها كما حدث مع القرآن. لأن تلك الأحاديث لو كانت جزءا من الدين ولم يبلغه الرسول للناس ولم يقم بتدوينه فان النبي ـ على ذلك ـ لم يبلغ كل الرسالة، وأنه ترك جزءا منها يتناقله الناس ويختلفون فيه إلى أنْ تم تدوينه بعد قرون. ومثلما تروي الأسانيد والأحاديث نفسها أنَّ النبي نهى عن كتابة أيِّ شيء غير القرآن. روى السلفيون أنَّ كل من الخلفاء الراشدين الأربعة قد نهى عن رواية وكتابة أيِّ حديث منسوب للنبي، ولذلك امتنع تدوين ما سمى بالأحاديث إلى أنْ جاءت الدولة العباسية وعصور الفتن والاضطراب المذهبي فتم تدوين أحاديث نسبوها للنبي.
وقد جاء في القرآن أنه هو الحديث الوحيد في الإسلام: {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأيِّ حديث بعد الله وآياته يؤمنون، ويل لكل أفاك أثيم، يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرًا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم} (الجاثية: 6 -8).
أما معنى السنَّة في القرآن فهو المنهج و الطريقة وذلك فيما يخص تعامل الله مع البشر سواء المؤمنين أو المشركين. كما أنَّ معناها هو التشريع الإلهي، وبالمعنيين فان السنَّة في القرآن تأتي منسوبة لله ولشرعه ولطريقته في التعامل مع البشر؛ أيْ أنها سنة الله.
وكانت بداية اختراع الأحاديث هي إشتعال الصراع بين المتشيعين لعلي بن أبي طالب وأبنائه والدولة الأموية. تلون هذا الصراع بحرب كلامية بدأ فيها اختراع الأحاديث كحرب دعائية. وقد اشتهر أبو هريرة بانحيازه للأمويين واختراعه أحاديث في فضل معاوية ومن معه وفي التقليل من شأن على بينما رد العلويون باختراع أحاديث تقول بالعكس.
ومن أمثلة الأحاديث التي تخالف القرآن ما ُذكر من أنَّ محمدًا كان يباشر نساءه في المحيض؛ أما القرآن فقد قال: {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} (البقرة:222). وهناك حديث يقول: "لا وصية لوارث" بينما قال القرآن: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إنْ ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًا على المتقين} (البقرة: 180). والوالدان ضمن الورثة، إلا أن الفقه السني ألغى الوصية للوارث طبقًا للحديث المذكور زعمًا أنَّ هذه الكذبة المخالفة للقرآن قد نسخت الآيات المخالفة لها. بالوصية مثلًا يمكن لك أنْ تعطي ابنتك نصيبًا مساويًا لابنك طالما كانت تستحق ويطمئن ضميرك والمجتمع لذلك، وهذا ضمن ما حرم الفقه السني على المسلمين.
تصب الأحاديث كلها حسب كلام أحمد منصور في ثلاثة موضوعات رئيسية، وهيَ: 1 - الغيبيات -2 - التشريعيات -3 - الأخلاقيات أو الترغيب والترهيب:
في الغيبيات: أسندوا للنبي أحاديث يخبر فيها عن غيوب الماضي و المستقبل في الدنيا، و علامات الساعة ووقائع القيامة وما بعدها وأحوال الجنة والنار.. إلخ. وكلها أكاذيب، لأن القرآن يؤكد على أنَّ النبي لا يعلم الغيب.
وفي التشريعات: أسندوا له أنه كان يفتي في أمور التشريع، وهذا يناقض حقيقة قرآنية أساسية وهيَ أنه ليس له حق التشريع؛ بل كان إذا سئل عن شيء ينتظر الإجابة من الوحي: يسألونك عن كذا فقل لهم كذا.
وفي الأخلاقيات: نسبوا للنبي أحاديث في الترغيب والترهيب أفسدت أخلاق المسلمين؛ إذ كانت ترتب الجزاء العظيم على مجرد كلمة أو قراءة سورة أو صلاة ركعتين، وبمجرد أنْ يقول الإنسان ذلك أو يفعله فقد ضمن الجنة مهما ارتكب من ذنوب وآثام أو تغفر له خطاياه جميعًا في لحظة واحدة.. وهذا يخالف منهج القرآن الأخلاقي، الذي يجعل الجنة من نصيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أيْ حفلت حياتهم بالإيمان والعمل الصالح النافع، وليس مجرد كلمة أو عمل واحد، مثل بناء مسجد مثلًا أو حتى القيام بفريضة الحج.
وضمن دوافع اختراع الأحاديث أنَّ الصحابة قد راحوا يحتلون بلادًا لم تعتد على المسلمين وفي سبيل تبرير هذه الغزوات قاموا باختراع أحاديث واعتبروها وحيًا سماويًّا، فتأسس دين السنَّة على أساس الأحاديث المنسوبة للنبي، ثم أضافوا وحيًا إلهيًّا مزعومًا آخر أسموه الأحاديث القدسية.
وفي ظل الدين الجديد تحول الصحابة الغزاة إلى آلهة معصومة من الخطأ، ورغم معاركهم الدموية فيما بينهم يحظر الدين السني مناقشة هذا الصراع بموضوعية، وعلي ضوء قواعد الإسلام كما جاءت في القرآن، محافظًا على تقديس وعصمة هؤلاء الغزاة. بل واخترعوا أحاديث تحرم من يناقش سلوكياتهم أو تدينهم، وتؤكد على عصمتهم، وتعتبر كل أطرافهم المتحاربة على صواب! وفي جبهة المعارضة راح من أسموا بالشيعة يخترعون أحاديث نبوية تخصهم.
في كل الحروب بين العلويين والعباسيين اشتعلت الحرب الدعائية التي تعتمد أساسًا على الأحاديث. وهنا استدعى العباسيون اسم أبي هريرة ـ بعد موته بقرنين وأكثر ـ وأكثروا من صنع الأحاديث وإسنادها إليه؛ فأصبح أكبر راوية في الدين السني، وأضافوا إليه جدهم عبد الله بن عباس. ومع أنهما معًا ـ أبوهريرة وابن عباس ـ أقل الصحابة صحبة للنبي، إلا أنَّ العباسيين جعلوهما أكبر رواة الأحاديث في الدين السني، والأكثر شهرة وعلمًا بين الصحابة.
ومن ضمن تفسيرات صبحي منصور لاختراع الأحاديث: دور الشعوبيين؛ فقد ظهر في وقت واحد؛ العصر العباسي الثاني، معظم أئمة الحديث، وكلهم من الفرس، قاموا بتزييف الإسلام بتأليف الأحاديث ونسبتها للنبي، ردًّا على إخماد حركاتهم الثورية المسلحة في خراسان، ونجحت في نشر أحاديث كاذبة عديدة. وقد تفوق أحدهم وأصبح متمتعًا بالقداسة لدى السنَّة حتى الآن، مع انه مات سنة 256 هجرية، اسمه ابن برزويه، المسمى بـ "البخاري"، نسبة إلى إقليم بخاري في خراسان وكان أشد مناطق فارس تعصبًا ضد العروبة والإسلام.
وقد وجه صبحي منصور انتقادات قاسية للبخاري، متهمًا إياه بتعمد وضع الأحاديث التي تشوه النبي والإسلام:
فقال إنه صور النبي محمد كرجل شهواني لا هم له إلا ممارسة الجنس، وتناول علاقته بزوجاته بشيء من التفاصيل التي لا يمكن معرفتها أصلًا، منها مص لسان عائشة وهو صائم واستحمامه مع نسائه من إناء واحد، وهي أمور شخصية لا يرضى أيُّ رجل أنْ تعلن على الملأ، وليس من المتصور أنْ يعلنها النبي أو زوجاته أو أنْ يراها أحد بالطبع. كما صوره على أنه يأتي بأفعال مخالفة للقرآن، مثل اغتصاب النساء([7])، أو عمل علاقات غير مشروعة مع نساء بعض أصحابه ودخوله بيوتهم في غيابهم.. إلخ. كما صوره على أنه شخص يعطي تعليمات ثم ينقضها، أو لا يلتزم بالقرآن. وراح يخترع أحاديث مخالفة للقرآن بشكل صريح، مثل أحاديث تنص على عقوبة الرجم (انتقد صبحي منصور في مقال خاص أحاديث الرجم في تناقضها مع القرآن وانتقد آية الرجم – انظر هامش 2). وضمن مزاعمه – أيْ البخاري - أنَّ محمدًا، عكسما ذكر القرآن، يعلم الغيب. كذلك قدم وقائع لا تتسق مع ماذكر في القرآن أو مع وقائع التاريخ المعروفة جيدًا (مثل زعمه أنَّ النبيَّ قد رهن درعه عند يهودي ومات وهو مرهون بينما كان دخله السنوي كبيرًا وبيته مفتوحًا لإطعام الناس وكان كل اليهود قد طردوا من المدينة). وتضمن كتاب البخاري أحاديث متناقضة مع بعضها. يضاف لذلك الأحاديث المليئة بالخرافات، مثل خرافات التبرك ببول النبي.
7 - الدولة الإسلامية:
 - الإسلام لدى القرآنيين دين ودولة، إلا أنَّ دولة الإسلام - كما يرون - ليست دولة دينية بل دولة مدنية هدفها الأول إقامة العدل. أما الدولة الدينية فهدفها إدخال الناس الجنة بالإكراه وفرض حد الردة وتغيير المنكر بالقوة. لا يوجد في الإسلام كهنوت أو رجال دين أو مؤسسات دينية، لأن العلاقة مباشرة بين الإنسان وربه دون واسطة، ولا مجال لتدخل سلطة بشرية في هذه العلاقة سواء كانت علاقة الفرد بربه إيجابية أو سلبية. والدولة الإسلامية الحقيقية هيَ دولة علمانية تفصل بين الدين وشئون الحكم والسياسة، وتتركز مهمتها على تأكيد حرية المعتقد وحرية الإعلان عنه وتأكيد العدل والقسط وحقوق الإنسان وحقوق المواطنة.
وفي هذه الدولة المدنية تكون الأمة مصدر السلطات؛ أيْ أنَّ الحاكم لا يستمد سلطته من الله، وإنما يستمدها من الشعب؛ بل ليس فيها حاكم بأيِّ معني من المعاني المألوفة سياسيًّا؛ سواء كان الحاكم مستبدًا، فهذا يناقض شريعة الإسلام وعقيدته، أو كان الحاكم مختارًا بمفهوم العقد الاجتماعي الغربي الذي بموجبه يتنازل الشعب عن السلطة لمن يقوم بانتخابهم ومن يمثلونه وينوبون عنه في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. فلا تمثيل في الإسلام؛ فالدولة هي الشعب، بمعني أنَّ الشعب هو الذي يحكم نفسه بنفسه في نظام يقوم بإدارة الحكم فيه أولو الأمر، وأولو الأمر بالمصطلح القرآني، أيْ أصحاب الشأن والخبرة والاختصاص في الموضوع المطروح بحثه وتنفيذه حيث يتعذر على جمهور المسلمين أنْ يتخصصوا في كل شىء وطاعتهم واجبة ولكنها مقيدة في حدود تخصصهم وفي إطار طاعة الله ورسوله، أيْ الرسالة؛ القرآن. وبينما جاء مصطلح أولي الأمر بهذا المعنى مرتين فقط في القرآن (النساء 59، 83) جاء التراث العباسي ليجعل أولي الأمر هم الحكام ويجعل طاعتهم مطلقة.
المقصود هو الديمقراطية المباشرة في كل حي وفي كل قرية ومدينة، وحضورها فريضة عينية على كل إنسان ذكر أو أنثى، ولا يجوز التسلل منها أو الاعتذار عنها إلا بعذر قهري. ومفهوم البيعة في القرآن وفي ثقافة عصر النبي لا يعني البيعة لحاكم، وانما البيعة على التمسك بالإسلام أو الجهاد في سبيل الله حين التعرض للخطر. ويشبه صبحي منصور الديموقراطية الإسلامية المباشرة بنظام الدولة السويسرية المعاصرة.
وفي عصر النبي لم يكن الأخير– كما يرى القرآنيون - حاكمًا بمعنى الكلمة؛ فقد كان الخطاب يأتي مباشرة للمؤمنين فيما يجب أنْ يفعلوه باعتبارهم هم الحكام الذين يحكمون أنفسهم بأنفسهم. لم يأت التشريع القرآني للمسلمين يخاطب حاكمًا فردًا وإنما جاء يخاطب عموم المؤمنين بأوامر تشريعية عقيدية وأخلاقية وسياسية وحربية، على اعتبار انهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم:
{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص} (البقرة: 178)، {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنَّ الله لا يحب المعتدين} (البقرة: 190)، ولم يذكر القرآن مطلقًا كلمة حاكم في أيٍّ من تفصيلاته التشريعية، بل إنَّ لفظ "يحكم" أو "حكم" جاءت بمعنى التقاضي بين الناس في الدنيا، وليس الحكم السياسي؛ أيْ الحكم بين الناس وليس حكم الناس كقوله: {وإذا حكمتم بين الناس أنْ تحكموا بالعدل} (النساء: 58).
 - العلمانية: يقرر صبحي منصور أنَّ هذه الدولة هي دولة علمانية؛ فالقرآن يقترب من العلمانية بقدر تناقضه مع تراث المسلمين، وقد سبق الإسلام الغرب في تقرير العلمانية المؤمنة التي لا مجال فيها لكهنوت أو تقديس للبشر أو استغلال الدين في تحقيق مطامح بشرية وسياسية. وما أتى الإسلام إلا للقضاء على الدولة الدينية وكهنوتها، لذا كانت دولة محمد دولة علمانية ديمقراطية لا تزال ملامحها في القرآن. صحيح أنه توجد اختلافات بين علمانية الإسلام وعلمانية الغرب التي تأثر بها العلمانيون العرب؛ وهكذا فمن الطبيعي أنْ توجد خلافات بين علمانية الإسلام وعلمانيات البشر المختلفة فيما بينها. فالدولة الإسلامية علمانية لأنها ليست دينية ولكنها في الوقت نفسه تلتزم بالقرآن الذي يضمن حرية مطلقة في الاعتقاد وممارسة العبادة ويضمن العدل والمساواة في الحقوق بين الأفراد بغض النظر عن دينهم وجنسهم ولونهم.. إلخ. وما جاء الإسلام إلا للقضاء على الكهنوت الديني والسياسي. ومن هنا فان دولة الإسلام هي دولة الديمقراطية المباشرة و حقوق الإنسان و حقوق المواطنة. ويمكن تعريف الديمقراطية الإسلامية أو الشورى بأنها هيَ العدل السياسي، بينما الظلم هو أساس الاستبداد المناقض للإسلام حين ينفرد شخص واحد أو أسرة أو حزب أو قبيلة باحتكار السلطة والثروة دون بقية الشعب.
كل ذلك يؤكد على أنَّ الاستبداد قرين الكفر والظلم، كما أنَّ الديمقراطية الإسلامية لها جذور في عقيدة التوحيد الإسلامية، وهيَ إحدى فرائض الإسلام. ووفقًا لصبحي منصور استمرت الشورى بالمعنى السابق في عهدي أبي بكر وعمر، بينما اكتفى عثمان باستشارة سكرتيره وقريبه، ثم جاء تدوين التراث في العصر العباسي، حيث تحول الحكم من الاستبداد الأموي العسكري القبلي إلى حكم استبدادي كهنوتي في العصر العباسي، فأغفل التدوين العباسي في كتب السيرة والسنن والتفاسير الإشارة والتعليق على تلك المجالس التي كان يعقدها النبيُّ وتتم فيها المناقشة العلنية لكل الأمور وفق آليات الشورى المباشرة.
 - ولا يمكن تطبيق الشورى الإسلامية بمعزل عن شروط أخرى: السلام والحرية المطلقة للعقيدة والفكر والتعبير عنهما.
 الديمقراطية الإسلامية المباشرة تساوي بين أفراد المجتمع بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية والجنس والعقيدة و العنصر و اللغة والعرق.. إلخ. فكما أنَّ للفرد حريته المطلقة في الإيمان بالله أو الكفر به والتنقل بين أيِّ دين كيف شاء وترك الإيمان متى أراد وهو مسئول أمام الله فقط يوم الدين عما اختار، له أيضًا حقه المطلق في حريته السياسية، بمعنى التساوي التام بين كل المواطنين، والعدل المطلق في المواطنة.
 - في هذه الدولة - حسب كلام صبحي منصور - يكون المسلم هو المسالم، والمؤمن هو المأمون الجانب. فكل من يعيش مسالما هو مسلم مهما كانت عقيدته.. لأن الذي يحكم في العقائد – كما قلنا - هو الله يوم القيامة، وليس لأحد التدخل في العقائد. باختصار، الدين لله و الوطن للجميع. وبتقرير الحرية الدينية ومنع الفتنة أو الاضطهاد الديني يكون الدين كله لله يحكم فيه وحده يوم القيامة دون أنْ يغتصب أحدهم سلطة الله في محاكم التفتيش واضطهاد المخالفين في الرأي. ففي الدولة الإسلامية وكما قرر القرآن تكون حرية الاعتقاد مطلقة؛ وهذا المبدأ طبقه الرسول وبعض الخلفاء الراشدين؛ ثم صودرت هذه الحرية بقوة السيف في الدولة الأموية، ثم جاءت الدولة العباسية بمفهوم ثيوقراطي للحكم وظهر ما يسمى بعقوبة المرتد التي يرفضها الإسلام.
وفي الدولة الإسلامية كل إنسان حر في ممارسة أو عدم التقيد بالعبادات؛ فـ {لا إكراه في الدين} (البقرة: 256). والمعنى الواضح في هذه الآية أنه لا إكراه في أيِّ دين؛ أيْ لا ينبغي أنْ يكون هناك إكراه في الإيمان أو في الكفر، من إقامة الشعائر أو عدم إقامتها. وقد اعتبر السلفيون أنَّ المقصود لا إكراه في دخول الدين بينما يُكره المرء على ممارسة الشعائر. يسخر منهم أحمد منصور ويقول ان الله لم يذكر "دخول" وهو لم يسهو عن ذلك، فلا عقوبة لتارك الصلاة مثلًا بخلاف ما ذهب السلفيون.
لا يقوم الإسلام على الصراع، بل على السلام والإحسان والعفو والمغفرة والحب والتسامح والصبر على الأذى والظلم. ففي الدولة الإسلامية القاعدة هي السلام و عدم الاعتداء، والحرب لا تكون إلا لرد الاعتداء بمثله. وقد تحدث أحمد صبحي منصور بإسهاب عن علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى، منتقدًا بقسوة التاريخ الإسلامي، بما يتضمنه من غزوات للدول الأخرى، ابتداء من أخطاء الخلفاء الراشدين ثم جرائم من تلوهم، متهمهم بالابتعاد عن ديموقراطية دولة الرسول المباشرة، وبالتالي الابتعاد عن الإسلام. ويعتبر الوهابية هي التي أحيت النظم الإسلامية التي سادت أثناء العصر العباسي وغيره.
ويرى أنه لو اكتفى المسلمون بعد النبي بما فعله من إرسال الكتب للحكام المجاورين تدعوهم سلميًّا للإسلام وتحملهم المسئولية أمام الله، دون الفتوحات التي حملت اسم الإسلام بينما أشاعت سفك الدماء واستغلال شعوب البلاد المفتوحة لدخل الناس في الإسلام – دين السلام – أفواجًا. وفي مقال طويل بعنوان: (المسكوت عنه من سيرة عمر) انتقد معاملة عمر بن الخطاب لسكان المستعمرات الإسلامية، متهمًا إياه بظلمهم واضطهادهم، بينما كان من الأفضل أنْ يكتفي بحرب الملوك المستبدين، وبعد إسقاط عروشهم يعامل السكان بالعدل ويحقق المساواة، ويمنحهم حرية الاعتقاد؛ معتبرًا أنه لو كان قد فعل ذلك لتجنب المسلمون وغيرهم فظائع كثيرة. وفي رأيه أنَّ خرق حقوق الإنسان التي قال بها القرآن، بدأ في عصر عمر الذي أعاد تشريع السبي والاسترقاق من خلال الفتوحات، ثم جاء تراث المسلمين ليقيم تشريعًا يجيز هذا وذاك، بينما في الحقيقة لا يجوز استرقاق الأسرى، لأن القرآن يقول {فشدوا الوثاق، فإما منَّا بعد وإما فداء} (محمد: 4)([8]). ولا يجوز للدولة الإسلامية أنْ تحول الأسرى إلى رقيق، ويكون المصدر الوحيد لوجود الرقيق في الدولة الإسلامية هو الفيء الذي يأتي من الخارج بدون قتال؛ كأن تقوم جماعات معينة بتقديم الرقيق لدولة الإسلام ضمن مدفوعات مادية متفق عليها. واعتبر أنَّ فرض الجزية ونهب المستعمرات ليس من الإسلام، وهذا يعني أنَّ عمر بن الخطاب لم يلتزم بالإسلام، وقد ُقتل لأنه لم ينصف أبا لؤلؤة – العبد الفارسي الذي قتله - كشخص مظلوم، ولأنه اضطهد قومه واستغل أهل البلاد المفتوحة، وأنَّ أبا لؤلؤة قتله انتقامًا لأهله ونفسه. وحتى أبو بكر الذي وجه العرب المرتدين إلى فتح البلاد الأخرى للتخلص من شوكتهم الحربية تصرف بدافع دنيوي واضح لا علاقة له بالدين.
تشريعات الجهاد و القتال في الإسلام: يعتقد صبحي منصور أنَّ السلام هو الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم؛ أما الجهاد فينفي عنه بالمطلق معني الغزو، وهو المعنى السائد في كتب التراث. فالجهاد يعني بذل الجهد في سبيل الله، ابتغاء مرضاته؛ قد يكون بذل الجهد هجرة، وقد يكون بالدعوة السلمية بالقرآن وهو الجهاد الكبير، كما جاء في القرآن وهو من أهم ملامح الجهاد الإسلامي، وقد يكون بذل الجهد ببذل المال وبذل النفس في الدفاع ضد المعتدين. وهنا تتولى تشريعات القرآن وضع أحكامه وقواعده وأهدافه أو مقاصده. ثم يكون الهدف النهائي للقتال هو تقرير الحرية الدينية ومنع الاضطهاد في الدين، كيْ يختار كل إنسان ما يشاء من عقيدة وهو يعيش في سلام وأمان، حتى يكون مسئولًا عن اختياره أمام الله يوم القيامة. وبتقرير الحرية الدينية ومنع الفتنة أو الاضطهاد الديني يكون الدين كله لله، يحكمه فيه وحده يوم القيامة دون أنْ يغتصب أحدهم سلطة الله في محاكم التفتيش واضطهاد المخالفين في الرأي، وذلك معنى قوله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} (الأنفال: 39). لذا كان الجهاد موجها ضد الكهنوت الذي يضطهد الخصوم ويعتمد الإكراه في الدين وفرض آرائه على الناس ومصادرة حقهم في التفكير وفي الاختيار. فالهدف من القتال هو منع المشركين من استمرار اضطهادهم للمسلمين أو بالتعبير القرآني كف المشركين عن فتنة الناس في دينهم.
فالصراع بين الفريقين هو صراع بين مبدأين، مبدأ يقوم على الإكراه في الدين واضطهاد الخصوم، ومبدأ آخر يقوم على ضمان الحرية في الفكر والعقيدة وأنْ يكون الدين لله وهو الذي يحاسب عليه يوم القيامة. وذلك يعني باختصار أنَّ هدف الجهاد في سبيل الله هو تقرير الحرية الدينية. ويضرب أحمد صبحي أمثلة من عصر النبي على إقراره لحرية الرأي؛ فهو لم يعاقب المرتدين والمنافقين والكفار حتى حين كانوا يتندرون على القرآن ويسبونه.. إلخ، وكان يجادل الكفار واليهود ولم يذبحهم (ينكر مذبحة بني قريظة ويعتبرها فرية من السلفيين ضد الإسلام). فالجهاد أنْ تضحي بالمال والنفس دفاعًا عن حرية العقيدة لكل الناس، و ليس بأن تقتحم البلاد لتجبرأهلها على الإسلام أو دفع الجزية أو القتل كما تقول كتب التراث.
. والواضح أنَّ هذه التشريعات عن القتال في الإسلام تتفق مع مفهوم الإسلام والإيمان والمسلم والمؤمن كما يقدمها القرآنيون، وهيَ تشريعات تؤكد على السلام وتحميه من دعاة العدوان، وتؤكد على حرية العقيدة وتفويض الأمر فيها لله يوم القيامة، وتحميها من القهر الديني وغيره.
أما الجزية فتفرض على الدول المعتدية وليس على الأفراد.
على عكس القرآنيين، يذهب السلفيون إلى أنَّ الله قد أمر محمدًا أنْ يقاتل الناس حتى يرغمهم أنْ يدخلوا في الإسلام حسب الأحاديث المنسوبة له مثل: أمرت أنْ أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.. إلخ.
الذي حدث – حسب كلام أحمد صبحي منصور - أنَّ فقهاء السنَّة ركزوا فقط على الأمر بالجهاد والقتال (قاتلوا) وأهملوا القاعدة التشريعية للقتال أو المسوغ الوحيد لاباحته، وهو أنْ يكون القتال دفاعيًّا فقط؛ فلم يربطوا ربطًا مطلقًا بين الجهاد والدفاع.
واتساقًا مع رؤيته للجهاد يقول صبحي منصور إنَّ ما كتب في السيرة النبوية يؤكد على الطبيعة الدفاعية لغزوات النبي، بالرغم من كثرة الأكاذيب في الروايات التي تناقض رواية القرآن عن تلك الغزوات. لا مجال في الدعوة الإسلامية للإكراه في الدين أو العنف، بل على العكس فإنَّ الداعية مطالب باحتمال الأذى والعفو والصفح والإعراض عمن يؤذيه. فالنبي والمسلمين في عهده كانوا دائمًا في حالة دفاع عن النفس، بما في ذلك غزوة بدر الكبرى. فيقول إنَّ المسلمين حين خرجوا لأخذ القافلة القرشية لم يكن ذلك قطعًا للطريق واستحلالًا لأموال الغير، بل كان للحصول على حقوقهم المالية الضائعة التي نهبتها منهم قريش ظلمًا وعدوانًا، وأنَّ تلك القافلة كانت من استثمارات أموالهم النقدية التي صادرتها قريش من أسهمهم في الإيلاف؛ وكانت أيضًا حصيلة ممتلكات المسلمين العينية والعقارية والديون التي كانت لهم وتركوها في مكة. أيْ أنهم كانوا يستردون حقهم المسلوب الذي كانت تتاجر به قريش منذ الهجرة إلى وقت غزوة بدر. هذا إلى جانب أنه كان ردًّا على اعتداءات سابقة كانت فيها قريش تطارد المسلمين وتهاجمهم وتسلب أموالهم وهم لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، لأن الإذن بالقتال لم يكن قد نزل وحيًا من السماء بعد.
8 - المرأة والزواج في الإسلام:
 - في الإسلام - حسب ما يرى القرآنيون - الرجال قوامون على النساء بما أنفقوا؛ فهيَ – أيْ القوامة - عمومًا مشروطة في القرآن بالإنفاق من قبل الزوج، ولا قوامة للرجل على زوجته إذا اشترطت الزوجة ذلك في عقد الزواج، والقوامة لا تعني التسلط الزوجي وإنما الرعاية والمسئولية بالإنفاق عليها، وبدون ذلك لا تكون للرجل قوامة على الزوجة إلا برضاها واختيارها. كما أنَّ للزوجة أنْ تشترط أنْ تكون العصمة بيدها، أو أنْ تكون لها القوامة على الرجل.
 - بإمكان الزوجة إذا أرادت أنْ تترك زوجها وأنْ تفتدي منه بأن ترد إليه المهر أو جزءا منه حسبما يقع عليه الاتفاق، وهو ما يعرف عند الفقهاء بالخلع. فكما أنَّ الطلاق من حق الرجل فان الافتداء بالمصطلح القرآني أو الخلع بالمفهوم الفقهي من حق المرأة.
 - أما ضرب الزوج لزوجته فقد جاء في القرآن في سياق الإصلاح وهو "أمر استثنائي مرتبط بظروفه؛ إذ يخضع لقاعدة تشريعية واجبة ومستمرة تؤكد على معاملة الزوجة بالمعروف حتى لو كان الزوج كارها لها. فهو وسيلة للتأديب ونوع من الرعاية والاهتمام وليس للكراهية أو الانتقام".
 -لا طلاق إلا بشهود على أنْ تظل الزوجة في بيت الزوجية طيلة مدة العدة، ويحرص القرآن على التأكيد على أنَّ الزوجة المطلقة تقيم في بيتها، وينسب ملكية البيت لها حتى مع وقوع الطلاق و بعد العدة إذا تعذر الصلح تخرج من البيت الذي لم يعد بيتها في وجود الشاهدين. ينتقد صبحي منصور الفقه السني في الطلاق الذي لا يشترط له الإشهاد ويؤكد أنه لا طلاق في الإسلام بدون شهود.
 - زواج المتعة: يرى صبحي منصور أنه من يمكن الاتفاق على زواج محدد المدة ولكن بمهر وشهود وكل مقومات الزواج الأخرى استنادًا للقرآن: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} (النساء:24)، وعليه فإن اتفاق الزوجين على تحديد مدة للزواج لا يقدح في صحة الزواج شرط الالتزام بالمهر والشهود والعدة وحق النفقة وكل الشروط الأخرى في الزواج.
 - جاء في القرآن: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} (البقرة:221)، {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} (المائدة: 5).
يرى القرآنيون أنه – وفقًا للآيات السابقة - يصح للمسلمة أنْ تتزوج من المسلم فقط حسب تعريف الإسلام السلوكي، أيْ تتزوج أيَّ إنسان مسالم بغض النظر عن دينه الأرضي أو السماوي، طالما تمسك بالسلم والسلام والأمن والأمان. كما أنه يحرم على المسلمة أنْ تتزوج المشرك الكافر، أيْ الإرهابي الباغي القاتل للأبرياء، حتى لو كان مسلمًا بالعقيدة. هذا يأتي وفقًا للمعنى السلوكي للإسلام والإيمان والكفر والشرك.
وحلال للرجل المسلم أنْ يتزوج من امرأة مسلمة بنفس المعني بغض النظر عن عقيدتها الدينية.
و إنَّ الشخص الكافر المشرك بالسلوك الإجرامي هو الذي يحرم تزويجه أو الزواج منه.
وقد منع القرآن أنْ يتزوج مشرك بمؤمنة حتى يتوب عن اعتدائه ويرجع عنه، وأنْ يتزوج مؤمن بمشركة حتى تمتنع عن الاعتداء. والملاحظ هنا هو قول القرآن: {حتى يؤمنوا}، وبالطبع لا يمكن هنا الحكم على العقائد حيث إنَّ محلها القلب إنما لنا الحكم على السلوك الظاهري، فإذا آمن أحدهم بالمعنى السلوكي فقد صار مؤمنًا، وحينئذ يمكن له أنْ يتزوج مؤمنة مسالمة مثله، ويمكن لها أنْ تتزوج من مؤمن مسالم مثلها.
 - زيُّ المرأة: إنَّ النقاب بدعة لم يعرفها عصرالرسول، إذ كان وجه المرأة وقتها مكشوفًا معروفًا، فالله يقول للنبي {لايحل لك النساء من بعد ولا أنْ تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن} (الأحزاب: 52). والحسن يكون في الوجه. ويرى صبحي منصور أنَّ النقاب فيه مزايدة على شرع الله، وقد حرم الله أنْ يزايد أحد على شرعه بل يرى أنَّ "تعبئة" المرأة في النقاب ليس إهدارًا فقط لكرامتها الإنسانية ومحوا لشخصيتها البشرية التي تتحدد بالوجه الذي به تعرف وتتميز عن غيرها، ولكنه أيضًا تضييع لإقامة الشريعة الإسلامية الحقيقية التي ترتكز على الشاهد والجاني والمجني عليه. فإذا كانت المرأة جانيًا أو مجنيًّا عليها أو شاهدًا فلا يمكن التعرف عليها وهيَ في النقاب.
 - ليس في الإسلام ختان للذكر أو الأنثى ولم يقل القرآن بذلك أبدًا.
– يساوي الإسلام بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات؛ حيث لها حقوق المواطنة كالرجل، ويحق لها ممارسة أيِّ نوع من العمل الحلال مثل الرجل تمامًا، بما في ذلك المشاركة السياسية والاجتماعية، وقد ذكر القرآن الأعذار المبيحة لعدم التكليف ببعض الواجبات والمهام، إذ ليس منها على الإطلاق الأنوثة؛ بينما ذهب الفقه السني مذهبًا مضادًا، حيث يشترط الذكورة في أشياء كثيرة. وضمن حقوق المرأة في الإسلام أنْ تؤم الرجال في الصلاة. فالإسلام لم يحرم على المرأة أيُّ عمل حلال يقوم به الرجل، والإمام في الصلاة يجب أنْ يكون الأفضل في قراءة القرآن، والأكثر التزامًا بالخلق القويم، وهذه شروط موضوعية في إمامة المصلين وليست شروطًا نوعية جنسية. وقد ذهب الفقه السني مذهبًا آخر تمامًا؛ فقال الحنفية إنَّ الأفضل للمرأة أنْ تصلي في بيتها الظهر بدل الجمعة لأن الجمعة لم تشرع في حقها. بينما أمر القرآن بصلاة الجمعة ولم يقصرها على الرجال. أما الحنابلة فقالوا يباح حضورها صلاة الجمعة بشرط أنْ تكون غير حسناء وإذا كان الحسن نسبيًّا فمن يحكم؟ كما أنَّ كل امرأة لا تخلو من جمال!
هذا الفقه الذكوري كان انعكاسًا للعصر العباسي في القرنين الثالث والرابع الهجريين، حيث نشأ وضع اجتماعي غريب للمرأة وقتها؛ حيث اتسع نفوذ الجواري بشكل كبير، ولم يستطع الفقهاء الاحتجاج على ذلك النفوذ، فلم يجدوا إلا تلك الفتاوى يكتبونها لتعبر عن إحباطهم ونقمتهم. هذه هيَ الأرضية التاريخية للفقه السني الذكوري في عصره الذهبي، وليس الإسلام مسئولًا عنها بالطبع.
وبنفس المنطق يحق للمرأة أنْ تترأس الدولة طالما كانت قادرة على القيام بمهمة الرئاسة وتم انتخابها، ولا يوجد في القرآن ما يفيد منع المرأة من رئاسة الدولة أو أخذ أيِّ منصب قيادي.
 - ويسرى ذلك على أشياء أخرى كثيرة مثل الجهاد؛ فلم يقصر القرآن الجهاد على الرجال بل كلف به المسلمين عمومًا. كذلك للمرأة الحق أنْ تهاجر إذا شاءت. وبالتالي فان من حقها السفر العادي بمفردها، وليس لزوجها الحق في منعها، إلا إذا كان هذا الحق منصوصًا عليه في عقد الزواج.

*****************************
9 – الخرافات:
 - انتقد القرآنيون الخرافات المستندة للأحاديث وتفسيرات للقرآن مثل المس الشيطاني بالمعني المادي للكلمة، وتزوج الإنس من الجن، ونكاح الجن للزوجة إذا أتاها زوجها دون ستر عورتها أو جامعها في المحيض، ومثل عذاب القبر، والثعبان الأقرع... إلخ.
ورغم الاهتمام بالكلام عن العقل والعقلانية في الإسلام في سياق نبذ الخرافات الواسعة الانتشار وسط المسلمين بفضل الفقهاء وأصحاب الحديث، لم يتخل صبحي منصور عما يُعرف في الإسلام بالغيبيات: "الواقع أنه لا يمكن لأيِّ بشر أنْ يرى أو يدرك هذا الغيب المطلق وهو حيٌّ في هذه الدنيا، والعلم به يأتي من الله في دينه السماوي و رسالاته السماوية. وهنا يجب على الإنسان أنْ يؤمن بهذا الغيب المطلق الذي ذكره الله في دينه السماوي".
ولكنه يرى – عكس السلفيين – أنَّ هذا الغيب لا يمكن أنْ نعرفه، ولذلك يجب أنْ نؤمن به فقط ولا نخوض فيه. بل يعتبر أنه من الكفر بالقرآن
أنْ يؤمن المسلم بالخرافات الغيبية الموجودة في كتب التراث.
وهو يحصر الإيمان بالغيوب في مجالات محددة، هيَ ذات الله، الملائكة، الجن والشياطين، غيب المستقبل والقيامة واليوم الآخر، وكل هذه الغيوب خارج نطاق الحس البشري. كما يحصر الإيمان بها على ما جاء في القرآن فقط، وما عدا ذلك فهو خرافة. مثال ذلك كلام القرآن عن المس الشيطاني الذي عنى به فقط محاولته الوسوسة والإضلال للبشر، وحديث القرآن عن الشفاء يعني أيضًا الهداية. ويعتبر ضمن الخرافات الدجل بالسحر الأبيض والأسود، مع أنَّ السحر في مفهوم القرآن لا يعني سوى الخداع البصري والتأثير على بعض الناس، ويدخل في ذلك أيضًا الاعتقاد بأنَّ الحسد يوقع الضرر بالمحسود، مع أنَّ معنى الحسد في القرآن هو الحقد الذي لا يضر إلا الحاسد نفسه؛ ثم هناك خرافات دينية كالاعتقاد في الأضرحة والشيوخ وكراماتهم، وادعائهم المنامات والوحي والعلم اللدني وعلم الغيب. وهذا كله يرفضه القرآن ويعتبره ضمن المتاجرة بالدين.

**********************
10 – ملاحظات للقرآنيين على العبادات:
 - ليس للحجر الأسود أيَّ مكانة في الإسلام، وليس في الإسلام تقديس لبشر أو حجر. الحجر الأسود هو مجرد حجر مختلف اللون عن بقية أحجار الكعبة لتحديد بداية الطواف لكل الطائفين حتى لا يطوف بعضهم من اليمين والآخر من اليسار فتصبح هناك فوضى. والكعبة مجرد بناء حجري غير مقدس لتحديد مركز الكرة الأرضية وما حوله وما يحيط به جعله الله حرمًا مكانيًّا له.
 - الحج يمكن أنْ يتم خلال الأشهر الحرم في أيِّ وقت منها ولمدة أيام قليلة حسب كلام القرآن. وقد أقر الفقهاء الكبار مثل الشافعي وأبي حنيفة هذا الكلام ولكن المسلمون حرفوه وجعلوا الحج في أيام محددة وذلك لأسباب أمنية وسياسية.
 - من مشاكل القرآنيين أنَّ القرآن لم يحدد تفاصيل الصلاة. وقد أصدر أحمد صبحي كتابًا بعنوان: الصلاة في القرآن، شرح فيه بالتفصيل ما يدل من وجهة نظره على أنَّ الصلاة بتفاصيل مواعيدها وعدد ركعاتها كانت معروفة للعرب قبل محمد من الأديان السابقة، وأنَّ القرآن لهذا السبب لم يتناول ذلك لأنه معروف للناس، ولكنه تناول أمورًا أخرى، مثل ضرورة الخشوع في الصلاة والحرص على إقامتها.. إلخ. وهكذا تأتي تفصيلات القرآن تشرح التشريع الجديد وتنبه على ما يحدث من خلل في أداء الصلاة. أما ما هو واضح من ركعات الصلاة وأوقاتها فمن الهزل تشريعه لمن يعرفونه ويؤدونه. وهذه الأمور من السنَّة العملية؛ سنة الله التي توارثها الناس من عهود الأنبياء القدامى.
11 – آراء متفرقة لأهل القرآن:
 - ليس حرامًا ظهور شخصيات الأنبياء في الأعمال الدرامية.
 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو مجرد أمر قولي ونهيٌ قولي يتواصى به كل مسلم ولا تنفرد به طائفة وهذا الأمر القولي لا يترتب عليه سلطة لأحدهم كيْ يرغم الآخرين على فعل الصالحات، والدليل الحاسم هو قول القرآن: {وأنذر عشيرتك الأقربين. واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين. فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون} (الشعراء: 214 - 216). ولم يقل إنَّ عصوك فاضربهم، ولم يقل فإن عصوك فقل إني بريءٌ منكم، وإنما قال إني بريءٌ من أعمالكم وليس من أشخاصكم.
 - الأصنام: نزل القرآن يؤكد على اجتناب تلك الأصنام و الأنصاب، لم يقل بهدمها أو تدميرها، و إنما مجرد اجتنابها و الابتعاد عنها. ومعنى اجتناب الأصنام والأزلام أنْ تظل قائمة، ولكن بدون قدسية، بل من أوامر القرآن أنْ نسير في الأرض، وضمن ذلك أنْ نكتشف آثار وتاريخ الأقدمين: {سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} (العنكبوت: 20)، أيْ أنَّ زيارة الآثار وبحثها علميًّا هو فريضة إسلامية منسية، وهذه الآثار هيَ معابد وتماثيل كانت معبودة ومقدسة في عصرها ثم أصبحت مجرد آثار أو أحجار؛ فالتمثال ليس حرامًا أو حلالًا، وليس رجسًا من عمل الشيطان في حد ذاته، وإنما الحرام هو عبادته أو تقديسه، واتخاذه حبًّا في الفن والجمال أو بغرض التجارة مباح وحلال.
 - هناك أحاديث كاذبة منسوبة للنبي، تجعل الملائكة (لا تدخل بيتًا فيه صورة أو فيه كلب) وتحرم التصوير، ليس فقط الفن التشكيلي، بل والتصوير الفوتوغرافي. أما القرآن فقد قال في قصة سليمان حين كانت الجن تصنع له تماثيل: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل} (سبأ: 13).
 - الربا والفائدة: الربا الممنوع في الإسلام هو المال المقرض لشخص يستحق الصدقة. وذلك التلازم بين الحث على إعطاء المحتاج الصدقة بديلا عن إعطائه قرضًا بالربا يوضح لنا ذلك؛ فالقرآن يدعو للكف عن أكل الربا، وأنْ يأخذ المرابي أصل ماله فقط، وأنْ يعطي الصدقة بدلًا من الربا. وقد ألمحت الآيات من خلال الحث على الصدقة بديلًا عن إقراض المحتاج بالربا، إلا أنَّ هناك استثناء بالنسبة لنوع آخر من الربا حين يكون المحتاج له ليس فقيرًا جائعًا، وإنما تاجرًا مستثمرًا. وجاء ذلك الاستثناء صريحًا في قوله {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون} (آل عمران: 130). فالفوائد المركبة حرام وهيَ عادة ما تكون في ربا التجارة حيث يكون الأمل كبيرًا في الربح وتعويض الفائدة المرتفعة.
ويقول {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أنْ تكون تجارة عن تراضٍ منكم} (النساء: 29). والربا في التجارة يدخل ضمن أكل أموال الناس بالباطل المنهي عنه، إلا أنَّ الاستثناء جاء بتحليله إذا كان عن تراض. ومن الآيتين نعرف أنَّ القرآن استثنى من تحريم الربا ربا التجارة إذا كان عن تراض ولم يكن أضعافًا مضاعفة بفوائد مركبة.
فإذا كان المسلم الذي يملك مالًا لا يستطيع استثماره بنفسه ولا يجد شخصًا أمينًا يشاركه في استثمار ماله فليس عليه حرج إذا أودعه في البنك بفوائد. حيث لا إجبار ولا إكراه بل تراضٍ بين الطرفين.
 - الروح والجسد: يوضح القرآن أنَّ الروح هو الروح القدس وهو جبريل وأنَّ الإنسان ليس روح وجسد بل نفس وجسد، فالقرآن يتكلم عن البشر في جميع أطوارهم بأنهم أنفس، وليسوا أرواحًا. فعن خلق الإنسان يقول في آيات متفرقة: {ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} - {ماخلقكم ولابعثكم إلا كنفس واحدة} - {الله يتوفى الأنفس حين موتها} - {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}.
إنَّ كلمة "الروح" من كلمات القرآن التي أسىء فهمها وقد أكدت بعض كتب التراث على عكس القرآن أنَّ في الإنسان قبسًا إلهيًّا وجزءا ربانيًّا، استنادًا لقوله عن آدم {ونفخت فيه من روحي} (الحجر: 29).
 - لا توجد عقوبة الرجم في الإسلام، وآية الرجم المنسوب ذكرها إلى عمر بن الخطاب ملفقة ولا تتسق مع القرآن لغة ومضمونًا، وهيَ تقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". والشيخ يمكن أنْ يكون متزوجًا أو غير متزوج، فكيف يرجم في الحالتين، بينما الفقه السني يطالب برجم المحصن فقط؟ وقد فند صبحي منصور سند حديث عمر بن الخطاب جيدًا وبالتفصيل في مقال له بعنوان: أكذوبة الرجم في الحديث. والأمر الغريب حقًّا هو كيف يمكن أنْ تنسخ - بمعنى تُمحى - آية من القرآن بينما لا ينسخ حكمها، بل وأنْ ينسخ هذا الحكم آيات أخرى مكتوبة تنص على جلد الزاني وليس رجمه! فهل يمكن أنْ يعقل هذا؟

 *********************************
تعليقات على أطروحات القرآنيين:
حققت قراءة أحمد صبحي منصور للقرآن المقدمة متناثرة في مئات من كتاباته نقلات كبرى للفكر الإسلامي في عدة اتجاهات:
1 - تجاوز – جزئيًّا - النزعة المركزية في الإسلام السلفي؛ بمعنى الاعتراف بحق الآخر في الاختلاف وعدم تكفير المختلفين؛ خصوصًا أنه وضع تعريفًا إنسانيًّا للإسلام (بجانب التعريف العقيدي) مع تجميد التعريف العقيدي وترك أمره لله يوم القيامة. وهي أيضًا خطوة ضخمة إلى الأمام على صعيد أنسنة الإسلام وجعله مفهومًا عالميًّا بحق؛ فالإسلام هو السلام والسلم في التعامل بين البشر، أما الكفر فقد أصبح أيضًا نقيض ذلك وبذلك أصبح الناس ينقسمون إلى مسالمين ومعتدين، وهو تقسيم اجتماعي وسياسي وليس عقيدي، حول الإسلام إلى فكر أكثر حيوية وعملية بحيث تصير التحالفات بين الجماعات البشرية والصراعات على أسس اجتماعية وليس دينية.
2 - إسلام صبحي منصور أكثر نهضوية وتقدمية بكثير من الإسلام السلفي؛ فقد نبذ كثيرًا من الخرافات، مثل عادة الختان، والطب النبوي وغيرهما. كما نفى كثيرًا من أشكال التميييز الديني؛ فتقبل فكرة الزواج المدني وكافة أفكار حقوق الإنسان المعترف بها عالميًّا، ومنها حق الإنسان في تغيير دينه وممارسة شعائره الدينية دون أيِّ تمييز بين مسلم وغير مسلم في العقيدة.
3 - حقق نقله ضخمة في دمقرطة الفكر الإسلامي؛ فساوى بين الدولة العلمانية والدولة الإسلاميةن وأقر بالديموقراطية الغربية في أحد أكثر صورها مساواة (النظام السويسري) وهو يقترب بشدة من فكرة اللاسلطوية([9]). وهو بذلك حول الفكر الإسلامي إلى أداة للنضال ضد التمييز والديكتاتورية والنزعة القومية الشوفينية والعنصرية.
4 - بنبذ الفقه الإسلامي بالغ التعقيد نقى الإسلام من آلاف التفاصيل التي تحكم حياة الإنسان اليومية، معطيًا مساحة واسعة للفرد في التصرف في شئونه الشخصية ومساحة واسعة للجماعات في وضع الأنظمة التي تلائمها، مما يحقق قدرًا كبيرًا من المرونة تتسق مع تغيرات المجتمع وتطورات العلوم الحديثة. وبذلك أزال التناقض بين الإسلام وما تسمى بالحداثة. ويمكن أنْ نتصور أنَّ مشكلة "الأصالة" و"المعاصرة" يمكن تجاوزها إذا ساد فكر القرآنيين كما قدمه صبحي منصور.
5 - بإعادة تفسيره لمفهوم الجهاد الإسلامي وربطه بتعريفه الخاص للإسلام والكفر أصبح للجهاد الإسلامي معني تقدميًّا تمامًا، هو النضال ضد الديكتاتورية والهيمنة ومن أجل حقوق الإنسان كما يعرفها العالم المعاصر، بدلًا من كونه مفهومًا يكرس الغزو الاستعماري.
6 - بنزع القدسية عن الصحابة والنبي محمد نفسه، ونفي فكرة عصمة الرسول أو غيره من البشر فتح الباب واسعًا لنقد التراث الإسلامي بحرية دون أنْ يتخلى المرء عن إيمانه أو يخشى من هذه التهمة، وبالتالي يمكن مثلًا أنْ يقدم المسلمون اعتذارًا للعالم عما ارتكبه أجدادهم من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية فيما أسميت بالفتوحات، ويصبح من الممكن مثلًا التخلي عن فكرة قبيحة مثل استرداد الأندلس، دون أنْ يشعر الجمهور المسلم أنه يتخلى عن دينه أو يخالف التعليمات الإلهية، بل العكس.
7 - يفصل الإسلام التقليدي بين العبادات والسلوك؛ فمن يحج مثلًا تغفر له خطاياه، ومن يردد كلمات معينة من حين لآخر يضمن الجنة لو مات في نفس اليوم بغض النظر عما قد يكون قد فعله من أعمال مشينة ومحرمة دينيًّا كالكذب والنفاق والسرقة والغش. أما الفكر القرآني فقد نفى هذا الفصل بشدة حين اعتبر الأحاديث النبوية موضوعة، وهيَ المكتظة بمثل هذه الكلام. أصبح المسلم في الفكر القرآني هو المسالم بالمعني العريض للكلمة، وأصبحت العبادات لا تغني عن الأفعال السلمية تجاه البشر؛ فلا يمكن لشخص يرتكب المعاصي أنْ يغفر له لمجرد أنه ذهب للحج مثلًا، بل و لم تعد العبادات نفسها مجرد طقوس كما حدد صبحي منصور، بل هدفها التقوى، أو كما قال الضمير الحيّ، وبدون ذلك لا تكون عبادات حقيقية، كما أضاف القرآنيون أيضًا أفكارًا تنبذ تقديس الأماكن والأحجار وقلصوا شعائر الحج – مثلًا - بقصرها على مكة دون المدينة، ولم يعتبرونها سببًا لغفران الذنوب، وذلك يجعل الشعائر أكثر روحانية، وبالتالي تصبح حافزًا على صحو الضمير وممارسة سلوكيات أكثر رقة ووداعة، عكس الإسلام السلفي الذي يجعل من بعض العبادات مبررًا لغفران الذنوب، مما يشجع على ارتكابها طالما أنَّ محوها أمر سهل.
ومع ذلك يمكن أنْ نقدم ما نعتبره نقاط ضعف في فكر القرآنيين:
 - حاول صبحي منصور عمل ثورة بروتستانتية في الإسلام؛ فنفى سلطة رجال الدين والمؤسسات الدينية ككل، ونفى فكرة الدولة الدينية والإسلام السياسي ككل. ولكنه انقلب 180 درجة حين بدأ يظهر الخلاف بين القرآنيين أنفسهم حول تفسير الإسلام أو القرآن؛ ففسر الاختلاف بما أسماه الخلط بين الهداية العلمية والهداية الإيمانية. فكل من آمن بالقرآن راح يفسره بدون شرط العلم الذي لا يتوفر لأي شخص حسب كلامه. فالراسخون في العلم وأهل الذكر هم حسب كلامه القرآنيون: {فاسأَلُوا أَهل الذكرِ إنْ كنتم لا تعلَمون} (النحل: 43)، والذكر هو هنا القرآن، أيْ أنَّ أهل الذكر هم أهل القرآن، إذا جمعوا بين الهداية العلمية والإيمانية. وأهل الذكر هم أيضًا الذين أوتوا العلم، والعلماء والراسخون في العلم، وأولو العلم، والذين عندهم علم الكتاب، وقد قال أحمد منصور حرفيًّا: "أصحاب الاختصاص وأرباب الخبرة في الاسلام ونظامه الديمقراطي هم أولو الأمر في مجال تخصصهم، ومطلوب طاعتهم في إطار طاعة الله تعالى ورسوله. وهذا هو المعنى القرآني المراد من قوله تعالى للذين آمنوا {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم..}. هذا يعود بنا مرة أخرى إلى الخلف.. إلى كهنوت جديد، ويصبح هو شخصيًّا المفسر المعياري للقرآن، وتصبح له السلطة المعرفية المطلقة على أتباعه، بل ويصبح الأتباع مؤمنون بالقرآن دون فهمه جيدًا، وهذا تراجع كامل عن العقلانية الإسلامية التي دعا إليها في كثير من كتاباته. وبدلًا من الأحاديث والتفاسير وكتب الفقه والتاريخ الإسلامي التي نبذها يصبح هناك "الفهم الصحيح" للنص القرآني بواسطة القرآنيين، وبالتالي يبدأ كل قرآني في الزعم بأن فهمه هو الصحيح.. ونعود من جديد إلى اللعب بالنص المقدس واستخدامه في خدمة مصالح ضيقة، ويصبح القرآنيون أصحاب دين خاص مثل الذي نبذوه من قبل؛ هذا الدين هو فهم كل منهم للقرآن (وقد وصف صبحي منصور البعض بأنهم قرأنيون متطرفون).
وهناك مشكلة خلقها هذا التفسير لاختلاف القرآنيين: أيُّ علم هذا المطلوب لفهم القرآن الذي من المفترض وفقًا لصبحي منصور أنه واضح ولا يحتاج لشيء من خارجه لتفسيره، وبعد أنْ نبذ العلوم الدينية كلها؟ من المنطقي أنْ يستطيع كل البشر فهم القرآن الواضح جدًّا – حسب القرآنيين - وخصوصًا أنَّ له لغته العربية الخاصة حسب قول الدكتور أحمد صبحي نفسه([10]). وهو يجيب كالأتي: "ومن هنا فإن منهج أولى العلم أو الراسخين في العلم أنهم يقرأون القرآن ويفهمون مصطلحاته وفق معانيها القرآنية، ثم يستحضرون كل الآيات المتعلقة بالموضوع الواحد، ما كان منها محدد الدلالة بأسلوب علمي تقريري، أيْ الآيات المحكمات، وما كان منها مفصلًا وموضحًا ومتشابها، ويفهمون القرآن بالقرآن، أيْ يبحثون كل الآيات معًا على أنها جميعًا من عند الله عز وجل، وهذا ما يفعله الراسخون في العلم مناقضًا للآخرين الذين في قلوبهم زيغ". أيْ أنَّ "الراسخون في العلم" مثله هم الذين يفكرون بالطريقة التي حددها هو كما هو واضح من عباراته السابقة، متناسيًا أنَّ هذا هو نهجه هو ووجهة نظره الخاصة. بل ومتناسيًا أنَّ ما تسمى بالآيات المحكمات مختلف عليها بين علماء الدين، وأنَّ النصوص عمومًا يمكن قراءتها من زوايا مختلفة حتى لو كانت محددة من وجهة نظر ما.. كما أنه يتناقض مع نفسه حين يقول: “الذي يريد أنْ يتعرف على الإسلام خلال مصدره الإلهي - القرآن - عليه أنْ يلتزم باللغة القرآنية، ثم يبدأ بدون أدنى فكرة مسبقة في تتبع الموضوع المراد بحثه من خلال كل آيات القرآن"، بينما يتحدث عن الرسوخ في العلم كشرط للهداية المعرفية وبالتالي لصحة تدبر القرآن.
إذا كانت معرفة الإسلام تشترط أنْ يكون المرء عالمًا، فماذا يفعل الفرد العادي؟ هل عليه أنْ يسير كالأعمى وراء "العلماء" أو "الراسخين في العلم"؟ ولماذا وكيف يؤمن الفرد العادي بدين لا يستطيع فهمه وحده؟ هكذا يصبح الإسلام دينًا للخاصة مثل الفلسفة، ومع ذلك لم يعلن أيُّ عالم دين مسلم ذلك.
فهل يستطيع القرآنيون حل هذه المتناقضات؟
 - يقول القرآنيون أنهم لا يفسرون القرآن بل يتدبرونه على أساس أنَّ التفسير إنما يكون للكلام الغامض والقرآن بين لا لبس فيه. ويقولون – كما أشرنا من قبل - إنَّ للقرآن لغته الخاصة التي تختلف عن اللغة العربية التي نعرفها ولغة القرآن تتميز بأن مدلولاتها ثابتة لا تتأثر بالمكان والزمان وعلي من يتدبر القرآن أنْ يفهمه بلغته الخاصة دون أنْ يضفي عليه معانٍ لها علاقة بثقافته الشخصية. والمقصود أنَّ اللغة العربية التي كتب بها القرآن لها مصطلحاتها المختلفة عن اللغة العربية المعتادة. هذا الكلام يصعب جدًّا قبوله:
فلا يستطيع المرء أنْ يقرأ نصًّا كما كان يقرأه الناس منذ مئات السنين أو حتى كما يقرأه شخص آخر معاصر له؛ فكيف يتناسى القارئ ثقافته الخاصة ويتمثل ثقافة أخرى؟ في الواقع كل قراءة للنص حتى النص القرآني تعبر عن تفاعل القارئ بقناعاته وثقافته الخاصة مع النص؛ فالأخير لا ينطق بما فيه بل يُستنطق بواسطة من يقرؤه.
 كما أنَّ النص القرآني نفسه غير منفصل عن الواقع العربي زمن ظهور الإسلام؛ ولذلك كان العرب يفهمونه بسهولة، ولم يذكر التاريخ أنَّ محمدًا قدم تفسيرًا له. ولا يمكن تصور أنَّ عرب الجزيرة الأميين في معظمهم قد فكروا مثل أحمد صبحي منصور وقرأوا القرآن بما أسماه لغته الخاصة، وكان معظمهم معادين للإسلام أصلًا. بل جاء بالقرآن نفسه أنه كتب بلسان عربي مبين: {وكذلك أنزلناه حكمًا عربيًّا} (الرعد: 37)، - {قرآنًا عربيًّا غير ذي عوج لعلهم يتقون} (الزمر: 28)، {إنا أنزلناه قرآنًا عربيًّا لعلكم تعقلون} (يوسف: 2)، {وكذلك أوحينا إليك قرآنًا عربيًّا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير} (الشورى: 7). فهل نصدق القرآن أم القرآنيين؟ صحيح أنَّ صبحي منصور لم ينكر عربية القرآن ولكنه يصر على أنَّ عربيته لها مصطلحات خاصة، وبالتالي يجب فهمه بمصطلحاته هو وليس على ضوء لغتنا المتغيرة كأيِّ لغة أخرى، ومن ثم يصر على رفض تفسير القرآن باستخدام التراث أو بأيِّ معيار من خارجه. ولكن كيف يتخلى المرء عن ثقافته وهو يقرأ القرآن ويتحول إلى شخص آخر؟ هل يمكن أنْ نصدق ذلك؟ ومن يقرأ كتابات صبحي منصور نفسه سيجد أنه يضطر أحيانًا في تفسيره للقرآن للجوء إلى وقائع تاريخية مدونة فقط في كتب التاريخ وكتب السيرة النبوية وإلى تراث اللغة العربية المعروفة، من ذلك مثلًا تفسيره لآية: {ما كان للنبِي والذِين آمنوا أَن يستغفروا للمشرِكِين} (التوبة: 113)([11]) وكلامه عن الآيات التي تتناول معركة بدر التي لم يرد اسمها بالقرآن... إلخ.
 - حجر الزاوية في فكر القرآنيين هو الاكتفاء بالقرآن مصدرًا للتشريع مع نبذ الأحاديث المنسوبة لنبيِّ الإسلام. ومن السهل أنْ يفهم أيُّ شخص يفكر ببعض المنطق أنَّ الأحاديث المذكورة موضوعة لأسباب سياسية وشخصية ومنفعية عمومًا؛ لأن محمدًا أولًا لم يأمر بكتابتها، ولأنه ثانيًا كان قادرًا على "تلقي الوحي" لإصدار تشريع ما، وثالثًا لأن الأحاديث دونت بعد موته بقرن ونصف من الزمان على الأقل، مما يثير حولها الشكوك، ورابعًا لأن الكثير منها مخالف للقرآن؛ وليس من المعقول أنَّ الأحاديث المنسوبة إليه تنسخ القرآن دون أنْ يصر على تدوينها وأنْ يدونها فعلًا وأنْ يجمعها أبو بكر مثلما فعل مع القرآن، وخامسًا لأن منها الكثير يناقض بعضه بكل وضوح([12]). ولكن لم يستطع القرآنيون تقديم ما يقنع أحدًا بعدم وجود سنة محمدية عملية. وإذا كان من الممكن أنْ نعتبر أنَّ تطبيقات محمد للشريعة تخص عصره فحسب، فلا يمكن تصور أنَّ طريقته في الصلاة كانت تقليدًا لمن قبله، ولم يثبت أحد ذلك قط. ونعتقد أنه لن يؤثر على أطروحة القرآنيين ككل الاعتراف بالسنَّة العملية في الأمور المتواترة والتي لا خلاف عليها بين ملل المسلمين، خصوصًا الصلاة. وقد جاء بالقرآن: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول} (النور: 56). والنص على طاعة الرسول تكررت في القرآن وليس من السهل أبدًا أنْ يقتنع المرء بتفسير صبحي منصور لكلمة الرسول في القرآن بأن المقصود بها – في آيات كثيرة كما يقول - القرآن نفسه أو بأن طاعته تعنى طاعة ما يتلوه من القرآن فقط، وهل يتخيل المرء أنَّ المسلم كان يراجع نبيه ليرى إنْ كان متفقًا أو مخالفًا للشريعة تطبيقًا للقاعدة الشهيرة لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؟ أليس من الطبيعي إذا كان المرء يصدق بأنه رسول الله ويصدق أنَّ ما يتلوه من القرآن هو من عند الله ألا يشكك في أيٍّ من تصرفاته أو يتردد في طاعته شخصيًّا؟ وحتى إذا تذكرنا تمييز محمد إلى نبيٍّ ورسول، فطاعته في طقوس الصلاة مثلًا أو طريقة إقامة الحدود أو القضاء بين الناس هيَ طاعته كرسول مطبق للوحي، فلماذا الإصرار على إنكار نسبة السنَّة العملية لمحمد؟ ومما يبرز هذه القضية اصطدام القرآنيين بعدم كفاية القرآن فيما يتعلق ببعض التفاصيل خصوصًا تفاصيل الصلاة. وهنا اضطروا لقبول السنَّة العملية، ولكن دون نسبتها لنبيِّ الإسلام، ولكن بطريقة متعسفة؛ فهيَ كما يرى صبحي منصور سنة إلهية أيضًا، مارسها الناس عبر التاريخ ومارسها العرب المؤمنون بالرسالات السماوية قبل الإسلام، ولذلك لم يكن من الضروري أنْ يتناولها القرآن بالبيان لأنها معروفة. ولكن لم يقدم أهل القرآن ما يدل على أنَّ الصلاة قبل الإسلام كانت تتم بالطريقة التي أقرها محمد من حيث عدد الركعات وما يقرأ فيها، فلماذا يجب أنْ نصدق هذا الادعاء؟ وقد ذكر القرآن نفسه أنَّ عرب مكة كانوا يصلون ولكن بطريقة لا يرضاها الرب:
{وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقـوا العذاب بما كنتم تكفرون} (الأنفال: 35). ولم نجد في المراجع الثقات([13]) ما يدل على أنَّ عرب الجزيرة، بمن فيهم الأحناف، كانوا يصلون بالطريقة الإسلامية. ومما لا يمكن تصوره أنَّ الناس قبل الإسلام كانوا يقرأون القرآن في صلاتهم كما يفعل المسلمون، لأنه لم يكن هناك قرآن بعد. وكل ما فعله صبحي منصور للبرهنة على أنَّ الصلاة بعدد ركعاتها وتوقيتها كانت تمارس قبل الإسلام هو استنتاج ذلك من القرآن بطريقة غامضة ومتعسفة، بل زعم أنَّ المصلين قبل محمد كانوا يقرأون الفاتحة، دون أنْ يقدم أدلة تاريخية.
 - حين اختلف القرآنيون راح أحمد صبحي منصور يفسر ذلك بافتقاد بعضهم للهداية العلمية. فأيُّ علم يجب أنْ يستخدمه المرء حتى يفهم القرآن الواضح جدًّا بذاته والذي له لغته العربية الخاصة والذي لا يحتاج لتفسير من خارجه كما يرى؟ لقد عرف الهداية العلمية بأنها "خلفية لغوية قرآنية" ولكن كيف يتعلمها المرء؟ ليس هناك ما نفهمه من ذلك إلا أنَّ بعض القرآنيين لم يستطع أنْ يتجرد من ثقافته ليفهم القرآن فهمًا حقيقيًّا.. إذن المسألة مسألة مهارة شخصية؟! ليس من الممكن أنْ يكون القارئ محايدًا تمامًا وهو يقرأ نصًّا ما، ومن المستحيل أنْ يقرأ هذا النص دون أنْ يتأثر بثقافته الخاصة. وإذا كان للقرآن لغته الخاصة المنفصلة عن المكان والزمان فكيف يمكن تعلمها؟ وما هيَ قواعدها ومن الذي سيتولى تعليمها للناس؟
 - الكلام عن علمانية الإسلام متناقض؛ فالإسلام دين ودولة كما ذهب القرآنيون، والدولة الإسلامية دولة علمانية.. كيف؟ فالدولة العلمانية لا تساوي الدولة المدنية فحسب بل تعني فصل الدين عن الدولة تمامًا، بمعنى أنَّ التشريعات ونظام الحكم والقوانين تقرها القوى الاجتماعية أو الشعب. فهل يمكن مثلًا أنْ تظل الدولة إسلامية لو تم سن قانون غير إسلامي؟ أو تم وضع دستور غير إسلامي؟ إذا تم مثلًا إلغاء العقوبات الجسدية، مثل الإعدام والجلد والقطع وأُصدر قانون يعاقب من يضرب زوجته. كما أنَّ الدولة العلمانية لا يكون لها مرجع عبارة عن نص مقدس. ثم من الذي سيقرر إذا كان نظام الحكم علماني – إسلامي؟ لابد من مفسرين أو "متدبرين" للنص المقدس، أيْ سنعود مرة أخرى للراسخين في العلم، أيْ أهل القرآن، وهو كهنوت من صنف جديد مختلف عن الكهنوت السني والشيعي. وإذا مد هذا على استقامته صرنا أمام ولاية القرآني وهيَ تشبه ولاية الفقيه!
إنَّ الدولة المدنية كما يفهمها الإسلاميون السنَّة عمومًا، حتى معظم الجهاديين منهم، ويدعون إليها هي دولة لا يحكمها رجال الدين، ولكن حكامها المدنيون يطبقون الشريعة. والدولة التي تطبق الشريعة لا يمكن أنْ تكون علمانية.. هذا التناقض لم يستطع الإسلاميون العلمانيون حله، بمن فيهم القرآنيون، الذين فيما يبدو يرون أنَّ الشريعة نفسها علمانية، ولكن يظل التساؤل: إذا كان الشرع علمانيًّا فما الفرق بينه وبين النظم العلمانية المعروفة جيدًا؟ وهل يمكن أنْ يدعو الدين إلى دولته وفي نفس الوقت تكون علمانية؟ واضح أننا أمام دائرة مربعة!
 - أما المساواة بين الشورى والديموقراطية السويسرية ففيه مبالغة كبيرة. من الجميل أنْ يتبنى القرآنيون الديموقراطية السويسرية فهذه خطوة ثورية نحو إصلاح الإسلام، ولكن أنْ يشبهونها بالشورى المحمدية فهذا لم يكن موفقًا. فالشورى تعني أخذ الرأيِ غير الملزم، ولا يخفى أنَّ محمدًا كان يستلهم "الوحي" للتشريع ولا يستطيع أحد أنْ يعترض، صحيح أنه أحيانًا تحفظ بعض الصحابة فكان يتلقى وحيًا ثانيًا يخفف به الحكم الأول([14]) ولكن "الوحي" كان - في النهاية – ملزمًا للجميع. أما الشورى نفسها فلم تشمل جمهور السكان بل النخبة فقط، ولم يشارك الجمهور أبدًا في اتخاذ القرارات الكبرى ولم نقرأ في التاريخ الإسلامي عن تشكيل مجالس في المدن والقرى، ولم يقدم محمد نفسه إلا كنبي وحاكم بأمر الله يستمد سلطته من تفويض إلهي، ولذلك لم يكن من الممكن أبدًا أنْ يخلعه الشعب. فأين الشورى من الديموقراطية السويسرية؟
 - إذا كان الإسلام دين ودولة كما يرى القرآنيون فلماذا نفيُ تطلعهم للعب دور سياسي بينما يجب عليهم وفقًا لهذه الفكرة أنْ يقيموا الدولة الإسلامية العلمانية.. وهو موقف يذكرنا بادعاءات "الإخوان المسلمون" التي يطلقونها في فترات ضعفهم.
 - يصر القرآنيون على أنَّ الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وهيَ كما نرى فكرة فقيرة جدًّا. فماذا يعني أنه "صالح" لكل زمان ومكان؟ أليس من الضروري أنْ تكون الظروف الاجتماعية مواتية لتطبيق نظام معين؟ أليس هذا النظام المعين يتم تطبيقه حسب نفوذ جماعات الضغط المختلفة؟ إنَّ الناس لا تختار النظم السياسية والاجتماعية، بل إنها تتشكل حسب أحوال المجتمع، من حيث ثقافته وإمكانياته التقنية وتكوينه الاجتماعي.. إلخ. ولذا لا يمكن القول أنَّ نظامًا ما يصلح أو لا يصلح. يقول صبحي منصور ليبرر كلامه: "الإسلام صالح لكل زمان ومكان لأنه دين القيم العليا الصالحة لكل زمان ومكان. صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان ليست فقط في انحيازه للفطرة السليمة النقية والقيم الإنسانية العليا التي لا خلاف عليها، ولكن أيضًا في إمكانية تطبيقها حتى لو كانت الثقافة السائدة في العصر مناقضة لها". وأنه يتكلم عن قيم مطلقة. فهل ضرب الزوج لزوجته من القيم العليا التي لا خلاف عليها ؟ وهل قواعد التوريث المكتوبة في القرآن مقبولة من عموم البشر ولا خلاف عليها؟ وهل تعدد الزوجات والقصاص بالقتل من القيم العليا التي لا خلاف عليها؟ وهل قطع يد السارق من المبادئ التي تتقبلها الإنسانية ولا تختلف عليها؟ ويمكن أنْ نضرب عشرات الأمثلة الأخرى. وهل يمكن الكلام عن "فطرة" سليمة وأخرى غير سليمة أو غير نقية؟ فما هو معيار السلامة والنقاء؟ هل يوجد معيار مطلق وموضوعي؟ بالطبع لا، فالقيم الإنسانية نسبية ومتغيرة، وإذا كانت قيم الإسلام لا خلاف عليها كما يذهب صبحي منصور فلماذا لم يعلن كل البشر إسلامهم، أو على الأقل إيمانهم بالقيم الإسلامية؟
 - بينما ذهبت أغلبية علماء الإسلام إلى أنَّ الحرب هيَ الأصل في علاقة الإسلام بالآخر وأنَّ دار الكفر هيَ بالضرورة دار حرب مالم تكن تربطها بدار الإسلام معاهدة ما، ذهب القرآنيون إلى أنَّ الإسلام دين مسالم والحرب لا تكون إلا للدفاع، وهو رأيُ ذكره قلة من الإسلاميين من اتجاهات أخرى، منهم الدكتور وهبة الزحيلي([15]) ومحمد رشيد رضا([16]) وعباس محمود العقاد([17])، أما فرض الجزية فلا يكون على أفراد بل على الدول التي تعتدي على المسلمين، وحسب رأيه أنَّ النبي لم يهاجم الآخرين بل كان دائمًا في حالة دفاع عن النفس، كما أنه لم يغتل خصومه السياسيين أمثال كعب بن الأشرف، معتبرًا هذا ضمن افتراءات كتاب العصر العباسي. كل هذا جميل إذا أدى إلى تحول المسلمين إلى أناس مسالمين حقًّا. ولكن لكيْ يحدث هذا لابد من الارتكاز على حقائق قوية لا على مجرد ادعاءات مخالفة للنصوص المقدسة ووقائع التاريخ التي قتلت بحثًا ولم ينكرها أحد أبدًا من المؤرخين الأكاديميين الثقات. فهل يمكن إنكار أنَّ محمدًا قد أنشأ دولة وجيشًا؟ وهل الداعية لدين أو عقيدة يفعل ذلك إلا إذا كان ينوي فرض أفكاره بالقوة؟ هل أنشأ الفلاسفة دولًا، وهل حمل المسيح سيفًا؟ إنَّ الدولة والجيش يعنيان مباشرة: السلطة، والدعوة في ظل السلطة تعني مباشرة تهديد من يرفضها. وقد أطلق محمد على حروبه اسم: غزوات إذا قادها بنفسه، أو سرايا إذا أرسل من يقودها نيابة عنه، فهل هذه كانت أعمالًا دفاعية أم هجومية؟ هل حصار الطائف مثلًا كان عملًا دفاعيًّا؟ وهل جيش أسامة الذي ألح محمد في إعداده كان جيشًا معدًّا للدفاع أم لغزو الروم؟ بل إذا قرأنا رسائل محمد للملوك نجد فيها تهديدًا واضحًا([18]). أما فرض الجزية على القبائل وليس على الأفراد فمارسه نبيُّ الإسلام ولم ينكر أحد ذلك من المعاصرين لكتابة السيرة، فهل لم يظهر مسلم واحد قرآني النزعة طوال العصر الأموي والعصر العباسي؟! وهل ينكر القرآنيون عملًا مثل فتح مكة الذي أشار إليه القرآن؟ فهل كان عملًا دفاعيًّا بينما كانت مكة منهارة معنويًّا وترتعش هلعًا من خطوة محمد القادمة؟ إنَّ الأمر بحاجة إلى إعادة قراءة وتفسير أكثر إقناعًا بدلًا من مجرد الإنكار، خصوصًا أنَّ هذا كله غير منكور ولا مستهجن من قبل عامة وخاصة المسلمين، بل يُعد هذا الطابع الهجومي مثيرًا للفخر والتفاخر في العالم الإسلامي.
 - موضوعات النسخ والتأويل والقياس.. إلخ يطول فيها الكلام. وقد ذكر القرآنيون انه ليس من المعقول أنْ يغير الله كلامه، وهذا يبدو منطقيًّا. ولكن تغيير القبلة قد تم بنص قرآني، فما مغزى ذلك؟ ألا يعد "نسخًا"([19]). وقد برر صبحي منصور تغيير القبلة بأنه كان اختبارًا لطاعة المسلمين لله، ولكن يمكن بمبررات مشابهة تفسير كل النسخ – بمعنى المحو - في القرآن. أما رفض القياس الذي بناء عليه أباح القرآنيون – كمثال - الجمع بين زوجة وعمتها، فإذا مد على استقامته يؤدي إلى جواز زواج الرجل من حفيدته، لأن القرآن لم يحرمها، وهذا مما لا يستسيغه لا الخاصة ولا العامة من الناس مسلمين وغير مسلمين.
ـ تناول أحمد منصور مسألة الإعجاز العلمي، فنفى بالطبع الإعجاز العلمي في الأحاديث لأنه ينفي أصلًا صحة نسبة الأحاديث للنبي محمد. كما انتقد ما يسمى بالطب النبوي والتداوي بالقرآن ودعا المسلمين إلى الابتعاد عن الخرافات وقصر الإيمان بالغيب على ما جاء بالقرآن وحده. ومع ذلك وافق على فكرة وجود إعجاز علمي بالقرآن: فالقرآن دعا للمنهج التجريبي الذي أخذ به الغرب بينما نبذه المسلمون فتأخروا، كما دعا إلى التعقل و التبصر والابتعاد عن الخرافات والأساطير. ولكن لم يقدم ما يقنع القارئ العادي بأن هذا يعد إعجازًا.
كان من الممكن أنْ يحقق هذا نقلة جيدة في علاقة المسلمين بنصوصهم المقدسة. ولكن عاد صبحي منصور إلى الوراء مرة أخرى؛ فتكلم عن النصوص القرآنية العلمية السابقة للعصر، وقد تناول الأمر بغير براعة ولا نجاح، نقلًا عن آخرين، بحكم ضعف علاقته بالعلوم الفيزيائية. بل لم يتعلم من غيره، فذكر - مثلًا - موضوع بيت العنكبوت الأنثى وهو خطأ وقع فيه مصطفى محمود من قبل واستحق تقريعًا شديدًا من عائشة عبد الرحمن، وهيَ كاتبة إسلامية([20]) (بالضبط كما فعل سيد قطب حين نفى مسألة الإعجاز العلمي في كتابه: في ظلال القرآن، وبعد عدة سطور عاد يتكلم بحماسة وبلا روية عن معجزات القرآن العلمية).
 - تمنى القرآنيون طويلًا أنْ يناقشهم خصومهم بدلًا من أنْ يضعوهم في السجون، ولكن حين ظهر لهم خصوم من العلمانيين الملحدين ظهرت أنيابهم وكرههم لأصحاب العقائد المخالفة. وتمت تنحية الديموقراطية جانبًا وراح صبحي منصور وغيره يتهمون خصومهم بالجهل والجنون والمرض النفسي وينعتونهم بصفات قبيحة([21]) (منها: الضلال والغباء، الأخ فرفور.. الأخ كتكوت.. الكتكوت المفترس..). وبدلًا من قبول الآخر واعتبار الخلاف هو خلاف في وجهات النظر يرفض القرآنيون في الحوار هذا المبدأ، فالإسلام حقيقة مطلقة ولا يحتاج للبرهنة، والملحدون في قلوبهم مرض.. إلخ. وهم يستخدمون ضدهم نفس الخطاب العدواني للسلفيين المتعصبين، متخلين عن الجانب السلمي في مرجعهم المقدس؛ القرآن: {وجادلهم بالتي هيَ أحسن} (النحل: 125)، فتعاملوا مع خصومهم لا كمختلفين بل كمنحرفين ومرضى. ويبدو أنَّ القرآنيين مستعدون أكثر لمحاورة السلفيين ولكنهم فوجئوا بانتقادات العلمانيين اللادينيين (وليس العلمانيين القرآنيين أمثالهم) فانزعجوا، فهل كانوا يتوقعون تأييدهم لأفكارهم بلا تحفظ؟! بل اتهم صبحي منصور حتى بعض القرآنيين بأن "في قلوبهم زيغ"! عمومًا الوقت لم يفت والقرآنيون مطالبون الآن بتقديم الاعتذار لمخالفيهم وتحسين لغتهم في الحوار - اتساقًا لتعريفهم للإسلام والكفر - بدلًا من منافسة السلفيين في استخدام لغة شرسة وعدوانية ضدهم لإثبات إسلامهم ونفيِ تهمة الكفر عنهم، والتي لن تسقط بهذه الطريقة، بل سيخسر القرآنيون كلًا من النصر والشهادة.
 - رغم ادعاء العقلانية والاستنارة يقرأ القرآنيون القرآن بالقرآن نفسه، على الأقل يعلنون ذلك، رافضين مبدأ الحكم عليه من خارجه. وهذا مناقض كليًّا لأيِّ عقلانية. فللحكم على نص ما لابد من معيار معين، فبأيِّ معيارٍ حكم القرآنيون على القرآن؟ ولماذا اعتبروه لا ريب فيه وواضح بذاته وبه كل شيء ويشرح كل شيء؟ أين المعيار؟ لقد حصروا عقلانيتهم داخل النص المقدس؛ داخل البيان، وبذا خضع البرهان للبيان وليس العكس؛ خضع العقل للنقل. فالقرآن نقل لا شك، فهو نص جاهز ومعطى بينما يعتبره القرآنيون مبررًا لنفسه وغير قابل للنقاش. هذه العقلانية لا تقف على أرجل ومنطلقها نفسه غير عقلاني. ورغم نبذ القرآنيين الخرافات التي تكتظ بها الأحاديث قبلوا ببساطة ما جاء في القرآن من كلام عن الجن – الملائكة - قصة أهل الكهف - وحوت يونس – هدهد سليمان وعلاقته الفريدة بالطيور والنمل والجن– قصة الخلق نفسها – معجزات المسيح – حياة نوح 950 عامًا.. إلخ. دون تحليل منطقي، فأين العقلانية والمنهج العلمي هنا؟ ألايحتاج الأمر لتبرير مقنع؟
 - يفسر القرآنيون ظهور ما أسموه بالأديان الأرضية بتكون مصالح سياسية واجتماعية دفعت رجال الدين للتحايل على النص القرآني. وكان الهدف هو خدمة مصالح أرضية سلطوية خصوصًا في العصر الأموي والعباسي. وهذا مفهوم، ولكن لماذا لم يفسروا ظهور الدعوة المحمدية نفسها تفسيرًا "أرضيًّا"؟ ألم يترتب عليها تكون سلطة محمد نفسه وحزبه الصغير من كبار الصحابة؟ وقد تشكلت فعلًا دولة كبيرة شديدة البأس بدأت تغزو الدول المجاورة في حياة محمد نفسه، وتكونت نخبة حاكمة من كبار الصحابة تمتعت بسلطة ونفوذ سياسيين في الجزيرة العربية كلها. لقد قام الإسلام منذ البداية كمشروع لإقامة سلطة جديدة حين طلب محمد من الناس أنْ يصدقوا أنه نبي ويستمعوا لتعليماته التي أبلغهم أنه يتلقاها من الله، وذلك قبل أنْ تكتمل تعليماته (أو رسالته) أصلًا، أيْ أنْ يصدقوه مقدمًا في كل ما يقول وينفذوا تعاليمه المستقبلية دون اعتراض. وكان يمكن أنْ يختلف الموقف إذا طلب منهم التحلي بقيم ومبادئ معينة دون أنْ يطالبهم بالاعتراف بسلطته المعرفية ثم السياسية بعد ذلك، وذلك مثل أيِّ داعية عادي. إلا أنه قدم نفسه منذ البداية كنبيٍّ ملهم يتلقى الوحيَ وليس كصاحب رأيٍ ومبادئ. وينفي أحمد صبحي منصور حق محمد في التشريع ويعتبره مجرد حامل رسالة. وهذا مجرد تلاعب؛ فـ "الوحي" كان يهبط عليه وحده وليس على عموم الناس، وإذا كان الله قد اختار هذا الرجل بالذات لتلقي الوحي فقد ميزه بسلطة فائقة على الآخرين، فلا يمكن اعتبار حامل الرسالة مجرد ساعي بريد، بل قدم نفسه كزعيم ملهم متصل بالسماء، ويملك بالتالي حق إصدار الأوامر النافذة. ولم يحاول القرآنيون أصلًا البرهنة على المصدر الإلهي لرسالة محمد بشكل جاد، ربما لأنهم يقدمون أنفسهم للمسلمين أساسًا، وربما أيضًا بسبب الشعور بالعجز عن ذلك وقد يكون هذا أحد دوافع أحمد صبحي منصور لممارسة لعبة الإعجاز العلمي بدون أيِّ براعة.

***************************
خلاصة:
يعبر تيار القرآنيين في رأينا عن محاولة أقلمة الإسلام مع العالم المعاصر، أو عصرنته، بطريقة مقبولة من عامة المسلمين، باستخدام نفس المصطلحات الدينية والاحتفاظ بالمقدس مع التخلص من كثير من خزعبلات الفقهاء، الذين كونوا أفكارهم في عصور سحيقة وبيئات مختلفة كليًّا عن الواقع المعاصر. فبالتخلص من الأحاديث يتم تنقية الإسلام من كثير من الأحكام المتعسفة والمنفرة للخاصة والعامة. كما أنَّ إعادة تعريف الجهاد واعتبار أنَّ أصل العلاقة بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى هو السلم يخلص الإسلام من صفة الإرهاب ويجعله مقبولًا عالميًّا. كما أنَّ قصر العبادات على الفروض دون ما يسمى بالسنن يخفف من التزامات المسلم ويجعل الإسلام أكثر يسرًا، وإضافة بعد جديد للعبادات في الإسلام هو تهذيب النفس أو إحياء الضمير يربطها بالممارسات الأخلاقية والإنسانية. أما الكلام عن قبول الآخر بإلغاء عقوبة الردة والاعتراف بحقوق الإنسان كما يعرفها العالم المعاصر فيقرب الإسلام من القيم الديموقراطية.
ويفصل القرآنيون مثل كل الإسلاميين تقريبًا بين الإسلام والمسلمين، مضيقين النص الإسلامي وحصره في القرآن فحسب، وقاصرين التاريخ الإسلامي على دولة يثرب. وبهذا الطرح أصبح من الممكن لهم إعادة قراءة الإسلام بطريقة تخالف ما عليه المسلمون منذ عصر سحيق. ومع نبذ السنَّة المحمدية أصبح من الممكن التعامل مع تاريخ دولة يثرب باعتبارها تاريخًا يمكن تجاوزه وليست مثالًا يجب احتذاؤه في كل شيء، بل نبذوا أيضًا بعض ما نُسب لدولة محمد من اغتيال الخصوم الفكريين وتعذيب الأسرى وقتلهم ورجم الزناة وفرض العبادات بالقوة على المسلمين وفرض الإسلام بالقوة على غير المسلمين. فقدموا صورة أكثر إنسانية وديموقراطية لدولة يثرب، بحيث أنه حتى لو تمت محاكاتها تكون هذه المحاكاة تطبيقًا لنظام حديث أو عصري تقدمي وديموقراطي.
كل هذا يؤدي إلى إنتاج طبعة حداثية من الإسلام، بحيث يصبح أكثر قدرة على الاندماج في العالم، والتوقف عن التقوقع والنظر للآخر على أنه عدو أو ضده دائمًا. وبالرغم من مآخذنا على القرآنيين أعتقد أنَّ الأخيرين يشكلون خطوة جبارة لتجاوز الإسلام السلفي المتعصب ضيق الأفق. وسيكون التيار القرآني أكثر فعالية إذا استطاع أنْ يتجاوز طابعه النخبوي ويصبح تيارًا شعبيًّا لا يشترط "الراسخين في العلم" كحلقة وصل بين النص المقدس والمسلم العادي وإذا تخلى عن فكرة أنَّ الإسلام دين ودولة مكتفيًا باعتبارة دعوة أخلاقية، مع نبذ موضوع الإعجاز العلمي في القرآن، الذي يعضد الكهنوت الديني، بل ويضيف إليه كهنوتًا علميًّا - دينيًّا أيضًا، وإذا قبل بإمكانية تعدد فهم النص القرآني مثل أيِّ نص آخر، واعتبار رؤيتهم مجرد رؤية وليست الحقيقة النهائية، فلا يسيرون على خطى السلفيين الذين اعتبروا كلامهم دينًا، كما رصد صبحي منصور بحق. أما إذا فشل في ذلك فسوف يضطر إلى إنشاء مؤسسة أو منظمة دينية تدعى احتكار الحقيقة مثلها مثل بقية التيارات الدينية.
وفي النهاية نرى أنَّ أصحاب التيار القرآني يملكون أسلحة قوية ضد مؤيدي الأحاديث والفقهاء ويمكنهم دحضهم بسهولة. وتتركز نقاط ضعفهم في نفيهم للسنَّة المحمدية العملية، ومسألة الإعجاز العلمي وادعاء العقلانية، كما أنهم سيخسرون كثيرًا إذا لم يجعلوا لغة حوارهم مع المخالفين أكثر هدوءا وتواضعًا ورصانة.

**************************



 ([1]) هناك مفكرون إسلاميون آخرون رفضوا فكرة النسخ بمعنى المحو والإلغاء، منهم اثنان من القدامى هما أبو مسلم الأصفهاني والفخر الرازي، ومن المحدثين محمد الغزالي – محمود الخضري- محمد البهيِّ، وغيرهم.
([2]) نص الآية: "الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة"، وقد نُسب لعمر بن الخطاب أنه قال في خطبة له بالمدينة: “يا أيها الناس: قد سننت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة، وصفق بإحدى يديه على الأخرى، إلا أنْ لا تضلوا بالناس يمينًا وشمالًا، ثم إياكم أنْ تهلكوا عن آية الرجم، أنْ يقول قائل: لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم الرسول (ص) ورجمنا، وإني والذي نفسي بيده: لولا أنْ يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، فإنا قد قرأناها".
([3]) آية السيف هيَ الآية 5 من سورة التوبة: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إنَّ الله غفور رحيم". وهيَ الآية التي اعتبرها الكثير من السلفيين ناسخة أو لاغية لآيات الموادعة مع "الكفار"، منهم: العوفي وابن كثير وابن حزم والقرطبي والطبري والبيضاوي والألوسي، والبعض رأى أنها تقتصر على العرب مثل ابن العربي. وهناك غير صبحي منصور من رأى أنها لا تلغي آيات الموادعة، منهم محمد الغزالي ويوسف القرضاوي وكثيرون غيرهما. وقد عُضدت الآية المذكورة بالحديث الذي ذكره البخاري ومسلم: «أمرت أنْ أقاتل الناس حتى يشهدوا أنَّ لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة».
([4]) فسر المعتزلة آية: {الرحمن على العرش استوى} بمعني بسط القدرة والقهروالاستيلاء وأنه جاء ذكر العرش بالذات لأنه أهم المخلوقات. أما أهل السنَّة فذهبوا إلى أنَّ المقصود هو العلو والارتفاع وذهب المجسمة ومنهم الوهابيون إلى أنَّ المعني هو الاستواء على العرش فعلًا ولكن ليس كما يستوي البشر، ومن الطريف أنَّ سيد قطب أخذ بتفسير المعتزلة (في ظلال القرآن). أما صبحي منصور فلم يختلف مع المعتزلة في محتوى تفسيرهم ولكن في المنهج فحسب: فهم فسروا الاستواء اعتمادًا على الفلسفة اليونانية بينما لو تدبروا الآيات التالية لها – حسب ما يقول صبحي منصور – لوجدوا أنَّ القرآن يفسر نفسه دون حاجة لعلوم من خارجه.
([5]) رواه مسلم: عن أبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني ولا حرج...". وقد ذهب أنصارالأحاديث إلى تفاسير شتى للحديث منها أنه يقصد النهيَ عن كتابة الحديث في صفحة واحدة مع القرآن ومنها أنه نهى عن كتابته وقت نزول القرآن ومنها أنه قد ُنسخ بأحاديث أخرى تأمر بالكتابة مثل حديث: اكتبوا لأبي شاه.. وغيرها.
([6]) ضرب هنا مثالًا على تحايل الفقهاء بالقياس: القرآن حدد المحرمات من النساء اللاتي يمكن الزواج منهن ومن ذلك أخت الزوجة ولكنه لم يحرم الجمع بين الزوجة وعمتها أو خالتها بينما ذهب الفقهاء إلى تحريم ذلك قياسًا على تحريم الجمع بين أختين. كما أحل القرآن للرجل أنْ يتزوج خالته من الرضاع بينما حرمها عليه الفقه.
([7]) ذكر أحمد صبحي منصور: "إذ يُروىَ عن بعضهم حديثاً يقول "خرجنا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى انطلقنا إلى حائط - أيْ بستان أو حديقة- يقال له الشوط، حتى انتهينا إلى حائطين فجلسنا بينهما فقال النبي: اجلسوا هاهنا، ودخل وقد أُتى بالجونية فأنزلت في بيت نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها دايتها حاضنة لها، فلما دخل عليها النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: هبي نفسك ليَ. قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة، فأهوى بيده عليها لتسكت فقالت: أعوذ بالله منك.. (راجع البخاري الجزء السابع ص 53).
وبالتمعن في هذه الرواية الزائفة نشهد رغبة محمومة من البخاري لاتهام النبي بأنه حاول اغتصاب امرأة أجنبية جىء له بها، وانها رفضته وشتمته باحتقار. فالراوي يجعل النبي يذهب عامداً إلى المكان المتفق عليه وينتظره أصحابه في الخارج، والمرأة الضحية- واسمها الجونية- قد أحضروها له، ونفهم من القصة أنها مخطوفة جيء بها رغم أنفها. ويدخل النبي في تلك الرواية المزعومة على تلك المرأة وقد جهزتها حاضنتها أو وصيفتها لذلك اللقاء المرتقب، والمرأة في تلك الرواية المزعومة لم تكن تحل للنبي لذا يطلب منها أنْ تهب نفسها له بدون مقابل، وترفض المرأة ذلك بإباء وشمم قائلة "وهل تهب الملكة نفسه للسوقة؟" أيْ تسب النبي في وجهه – بزعم البخاري - وبدلًا من أنْ يغضب لهذه الاهانة يصر على أنْ ينال منها جنسيًّا ويقترب منها بيده فتتعوذ بالله منه، أيْ تجعله- في تلك الرواية الباطلة- شيطاناً تستعيذ بالله منه.. ولكن ذلك البناء الدرامي لتلك القصة الوهمية البخارية ينهار فجأة أمام عقل القارئ الواعي.. إذا كان الراوي للقصة قد سجل على نفسه أنه انتظر النبي في الخارج فكيف تمكن من إيراد الوصف التفصيلي والحوار الذي حدث في خلوة بين الجدران؟" - القرآن وكفى مصدرًا للتشريع.
([8]) المعنى المباشر للآية أنْ يتم إما إطلاق سراح الأسرى منًا، أيْ بدون مقابل، أو فداء أيْ بمقابل مثل إطلاق سراح أسرى مسلمين أو مقابل فدية مادية أو أيِّ شيء آخر يتفق عليه الطرفان.
([9]) يعتبر اللاسلطويون المجتمع اللاسلطوي مجتمعًا مضادًا للسلطة anti-authoritarian متناغم يعتمد على التشارك الطوعي للأفراد الأحرار في التجمعات التلقائية والإدارة الذاتية self-governance لأمور المجتمع.
([10]) يقول أحمد صبحي منصور: "هناك رؤيتان للإسلام: رؤية للإسلام من خلال مصدره الإلهي، وهو القرآن الكريم، ومنهج هذه الرؤية هيَ أنْ تفهم القرآن من خلال مصطلحاته ولغته، فللقرآن لغته الخاصة التي تختلف عن اللغة العربية، فاللغة العربية- كأيِّ لغة - هيَ كائن متحرك، تختلف مصطلحاته ومدلولات الكلمات حسب الزمان والمكان وحسب الطوائف والمذاهب الفكرية، وحسب المجتمعات.. وبالتالي فإن الذي يريد أنْ يتعرف على الإسلام خلال مصدره الإلهي- القرآن- على أنْ يلتزم باللغة القرآنية، ثم يبدأ بدون أدنى فكرة مسبقة في تتبع الموضوع المراد بحثه من خلال كل آيات القرآن، سواء ما كان منها قاطع الدلالة شديد الوضوح، وهذه الآيات المحكمة، أو ما كان منها في تفصيلات الموضوع شروحه وتداخلاته، وهيَ الآيات المتشابهة، وهنا يصل إلى الرأي القاطع الذي تؤكده كل آيات القرآن، وهذه هيَ الرؤية القرآنية للإسلام"، الإسلام دين السلام. وهو يقرر في مقالات أخرى أنَّ لغة القرآن هيَ اللغة العربية ولكن بمصطلحات خاصة به.
([11]) في مقال بعنوان: النبي نفسه لا يجسد الإسلام فكيف بالمسلمين؟
([12]) نرى أنه من المفيد أنْ نشير لبعض المراجع في هذا المجال بالإضافة لكتابات أحمد صبحي منصور: زكريًّا أوزون، إنقاذ الدين من إمام المحدثين،
 http://www.eqla3.com/vb/archive/index.php/t-209224.html
عثمان محمد علي، قراءه في صحيح البخاري،
 http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=1471

محمود أبورية، أضواء على السنَّة المحمدية،
 http://www.yasoob.com/books/htm1/m015/19/no1985.ht

محمد الغزالي، السنَّة النبوية بين أهل الفقه.. وأهل الحديث،
http://www.alwihdah.com/downloads/ghazaly02.zip

محمد الغزالي، فقه السيرة،
 http://www.ikhwan-info.net/books1.php?ar=book_name

- جمال البنا: نحو فقه جديد، دار الفكر الإسلامي، القاهرة، >ءٌ1995.
([13]) من المراجع الهامة كتاب جواد علي: تاريخ الصلاة في الإسلام – مطبعة ضياء، بغداد. وكتاب: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لنفس الكاتب، http://www.almeshkat.net/books/open. php?cat=13&book=2138
([14]) من أمثلة ذلك آية 65 من سورة الأنفال: {يا أيها النبِي حرضِ المؤمنين على القتال إِنْ يكن منكم عشرون صابِرون يغلبوا مائتينِ وإِنْ يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفَروا} (65)، التي تبعتها آية 66: {الآن خفف الله عنكم وعلم أنَّ فيكم ضعفًا فَإِنْ يكن منكم مائة صابِرة يغلبوا مائتينِ وإنْ يكن منكم أَلف يغلبوا ألْفَينِ}.
([15]) آثار الحرب في الفقه الإسلامي- دراسة مقارنة، الطبعة الرابعة 1992، دار الفكر، دمشق.
([16]) تفسير القرآن الحكيم المشتهر باسم تفسيرالمنار، الطبعة الثانية، 1366 ه، 1947 م، دار المنار بالقاهرة، ج 10 ص 332.
([17]) حقوق الحرب في الإسلام، إعداد وشرح عبد الستار علي السطوحي، مكتبة الثقافة، قطر، الدوحة. والمقال جزء من كتاب: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه.
([18]) هذه رسالته لكسرى: بسم اللـه الرحمن الرحيم من محمد رسول اللـه إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أنَّ لا إله إلا اللـه وحده لا شريك له وأنَّ محمدًا عبده ورسوله أدعوك بدعاية اللـه فإني أنا رسول اللـه إلى الناس كافة لأنذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين أسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس أيْ الذين هم أتباعك.
أما رسالته لأهل اليمن فنصت على: من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم له ذمة اللـه وذمة رسوله ومن أبى فعليه الجزية‏. ‏وأرسل بنفس المحتوى لأهل البحرين: أما بعد فإنكم إذا أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ونصحتم الله ورسوله وآتيتم عشر النخل ونصف عشر الحب ولم تمجسوا أولادكم فلكم ما أسلمتم عليه غير أنَّ بيت النار لله ورسوله وإن أبيتم فعليكم الجزية ‏. ‏وهذه الرسائل موجودة بكثير من كتب السيرة النبوية.
([19]) الآية القرآنية واضحة تمامًا وتشير لتغيير القبلة:{سيقول السفَهاء من الناسِ ما ولاهم عن قبلَتهِم الَتي كانوا عليها قل لله المشرِق والمغرِب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}- البقرة 142.
([20]) جاء في القرآن: {وإن أَوهن البيوت لبيت العنكبوت} – العنكبوت 41. ولإثبات الإعجاز العلمي قال مصطفى محمود: العلم كشف مؤخرًا أنَّ أنثى العنكبوت هيَ التي تنسج البيت وليس الذكر، وهيَ حقيقة بيولوجية لم تكن معلومة أيام نزول القرآن. وقد ردت عليه عائشة عبد الرحمن بالقول: إنه وقع في خطأ لايقع فيه المبتدئون من طلاب اللغة العربية فالقرآن في هذه الآية يجري على لغة العرب الذين أنثوا لفظ العنكبوت من قديم جاهليتهم الوثنية، كما أنثوا مفرد النمل والنحل والدود، فلم يقولوا في الواحد منها إلا نملة ونحلة ودودة، وهو تأنيث لغوي لاعلاقة له بالتأنيث البيولوجي كما توهم المفسر العصري، فأيُّ عربيٍّ وثنيٍّ من أجلاف البادية كان ينطقها هكذا؛ فأين الإعجاز العلمي في هذا الكلام ؟!
([21]) راجع مثلًا مقال: قراءة نقدية لكتاب: محنتي مع القرآن ومع الله، للدكتور عباس عبد النور، بقلم سامر إسلامبولي،
 وكذلك مقال صبحي منصور: نعمة الجهل، المنشور على موقعه. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق