الأحد، 17 أغسطس 2008

أزمة الشعب المصرى - الأجور والأسعار ...وغيرها



عادل العمرى


لا تحتاج المشاكل الملحة للمصريين الفقراء مقدمات، فالأسعار متزايدة الارتفاع بمعدلات كبيرة والأجور مضحكة.
أثبتت التجارب أن مجرد زيادة الأجور 20 أو 30% أو أكثر لا يحسن الوضع، فأي زيادة في الأجور تؤدي لمزيد من ارتفاع الأسعار. والاستنتاج المنطقي أن تغيرات كبيرة وهامة لابد منها لتحسين مستوى المعيشة.
وحتى نصل إلي حل حقيقي للمشكلة لابد أن نحدد أسبابها الحقيقية أولا:
1 - تدني معدل نمو متوسط دخل الفرد: فمتوسط دخل الفرد محدود للغاية (حول 1500 دولار سنويا) وكان معدل نمو الناتج القومي غير كاف  طوال العقود الماضية (أقل من 5%) لإحداث تغير حاسم في حجم الاقتصاد، وكذلك ارتفاع معدل نمو عدد السكان يأكل جزءا كبيرا من زيادة الناتج.
2- توزيع الناتج القومي يتم لصالح الطبقات الغنية أصلا وبشكل متزايد بحيث يقل باستمرار نصيب الأجور من القيمة المضافة، وهذا ناتج من سياسات الدولة ومن سيطرة الاحتكارات الضخمة (أمثلة: احتكارات الحديد – احتكار تجارة الأخشاب...)
3-   الفساد الواسع النطاق على المستوى الحكومي والشعبي يتسبب في:

·   تفاقم الهوة الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء، وقد شهدت العقود التالية لانقلاب 1952 نموا كبيرا ومتزايدا للفساد وترتب على ذلك نهب واسع النطاق للثروة الاجتماعية من قبل قلة من البيروقراطيين الكبار ورجال الأعمال المرتبطين معهم بمصالح خاصة. وفي النهاية صارت السلطة في يد أوليجاركية احتكارية من أصحاب المصالح التي تدير البلد لحسابها بشكل مباشر وكأنها ضيعة خاصة.
·   تبديد جزء كبير من الثروة القومية في الاستهلاك الأسطوري للطبقة المسيطرة.
·   تحويل ممتلكات وثروات ضخمة لفئات طفيلية من الطبقة المسيطرة لا تستخدمها استخداما رشيدا.
·   وفي تقديم المزايا للشركات الأجنبية مقابل عمولات ورشاوى، ويتم تحويل أموال طائلة إلى الخارج بواسطة هذه الشركات (صفقات الغاز المشبوهة هي أحد الأمثلة).
·   تصدير كميات كبيرة من الأموال المنهوبة من البنوك ومؤسسات الدولة المختلفة.
·   الفساد يتضمن حتما سوء الإدارة وتنحية العناصر الأكفأ لصالح أهل الثقة، وهذا يؤدي إلى ضعف الإنتاجية وتخريب عملية الإنتاج وإعاقة تقدم وسائل الإنتاج وتجميد كثير من الأصول.
·   يخلق الفساد الرسمي (المتمثل في النظم واللوائح الحكومية المخالفة للقوانين والدستور) وغير الرسمي (المخالف للنظم واللوائح) إلى فجوة ضخمة بين المرتبات أو الأرباح والدخول. فالمرتبات عادة ما تكون مضحكة (يحصل مثلا الموظف البسيط على 150-200 جنيها شهريا) بينما يكون الدخل أكبر بكثير: بشكل قانوني في صورة حوافز وبدلات قد تصل إلى مليون جنيه سنويا لكبار رجال الدولة، أو رشاوى وعمولات واختلاسات. كل هذا ينطبق على كل من صغار وكبار الموظفين بل وحتى الحرفيين والتجار وغيرهم (التاجر مثلا يحصل على جزء من دخله – وليس ربحه - من الغش والنصب على الزبائن).  من الأمثلة الفاضحة تكاليف التعليم الحكومي "المجاني": فالأسرة تدفع مبالغا كبيرة لقاء الدروس الخصوصية بينما تدفع رسوما رمزية للدراسة، وفي نفس الوقت يحصل المدرس على مرتب رمزي ودخل كبير نسبيا من الدروس الخصوصية. وهكذا يحصل معظم المواطنين على دخول تفوق الأجور والأرباح  ولكن بأساليب غير مباشرة، ليس أجر مقابل عمل أو خدمة بل دخل مقابل الشطارة أو الاستغلال بالمعنى العامي للكلمة. ويفعل رجل الأعمال نفس الشيء، فالربح هو جزء فقط من دخله الذي يحصل على أغلبه أحيانا من الغش والاستغلال البشع لعماله وسرقة ودائع البنوك وخداع غيره من أصحاب الأعمال ونهب أموال الدولة بالاتفاق مع بعض الموظفين والغش السلعي..إلخ. هذه الأمور تساهم في إعاقة النمو على المدى الطويل.
ومن الظواهر المثيرة للاهتمام أن الحرفي أو السائق يعامل الزبون وكأنه صديق يقدم له خدمة شخصية بينما يأخذ منه "حسنة" وليس أجرا. وتتجسد هذه الظاهرة في طريقة الاتفاق بين الطرفين: فالطرف الأول يعلن نفاقا أنه لا يريد نقودا ("خليها علينا"-"خلي يابيه"- من غير فلوس...) بينما ساعة استلام المال فعليا يبدا في المطالبة ليس بثمن الخدمة الفعلي بل بما يراه مناسبا للحالة المادية له وللزبون أيضا!!. هكذا يتصرف الطرف الأول كخدام  ولص في نفس الوقت وتكون هناك فجوة بين ثمن الخدمة ودخله الفعلي. وفي سياق هذه الآلية لتوزيع الدخل القومي يتم إهدار الكفاءات وتدمير القيم الإنتاجية بل وقيمة العمل نفسه وتبديد كثير من الثروات.

4- ضعف كفاءة العمالة المصرية وانتشار ثقافة التواكل وعدم اتقان العمل يساهم في  ضعف الإنتاجية .
5- الثقافة السائدة تتميز بالهمجية والتواكل وانعدام الذوق العام وسلبيات أخرى عديدة يترتب عليها مثلا أن مصر لا تستقبل من السياحة العالمية نسبة هامة، كما يقوم الناس العاديون من الفقراء بتخريب البنية الأساسية بسوء استخدامهم لها. إن التاجر المصري هو في العادة لص كبير أو صغير فهو يتطلع للكسب الفوري ولو بخداع الزبائن، كما تنتشر بشدة الصناعات "تحت السلالم" لسلع مقلدة وسريعة التلف..إلخ.
6- لا تتمتع النخبة الحاكمة برؤيا إصلاحية حقيقية بل هدفها الأول والأخير هو تأمين استمرارها في الحكم، فهي لم تتخذ أبدا أيَّ إجراءات حازمة لوقف نمو السكان أو لإلغاء دعم السلع والخدمات أو حتى لجعل الشوارع نظيفة. فالنخبة تخاف من التغيرات الحادة حتى لا تواجه بحركات شعبية تطالبها بتقديم كشف حساب عما تفعل، وهي تسعي فقط لاستمرار قيامها بالنهب السريع للثروات الاجتماعية دون الاهتمام بتنمية حتي ما تنهبه من ثروات بالقدر الأمثل. كما أنها لا تريد تقديم أيِّ تضحيات من جانبها في سبيل إنقاذ نظامها المتهاوي وقد باتت تستخدم القمع المطلق لفرض ماتريده، وباتت عاجزة عن تقديم شعارات ولو ديماجوجية لخداع الجماهير.
7- من السياسات المخربة التي اتبعتها النخبة الحاكمة سياسة دعم بعض السلع. وإذا كان من الضروري أحيانا دعم سلع معينة لفترة ما بغرض زيادة التصدير أو تخفيض تكاليف المعيشة، أما التوسع في هذه السياسة واستمراها فقد أدى لتحقيق الطفيليين لمكاسب هائلة. ومن الأمثلة الشائعة بيع دقيق الخبز المدعم لمعامل الحلويات وتقديم الطاقة بسعر رمزي لمصانع تبيع سلعها بالسعر العالمي. وهكذا يتم تحويل جزء كبير من الدعم لرجال الأعمال وكان الأجدى اقتصاديا تخفيض أو إلغاء هذه الدعم واستخدام المال لرفع الأجور أو إلغاء ضريبة المبيعات مثلا أو حتى تخفيض الجمارك على السلع الوسيطة والغذائية..إلخ. إن الدولة التي تدفع دعما كبيرا يذهب جزء كبير منه للأغنياء  تأخذ باليد الأخرى ضرائبا غير مباشرة ضخمة من الفقراء أساسا، فما معنى ذلك؟![1]

هذه الأسباب نتجت عن أوضاع معقدة نتج عنها ظهور النظام الناصري بكل مضاعفاته وامتداداته، والذي مازال موجودا بقوة:نظام شمولي أوتوقراطي وغير مستنير وضيق الأفق.
- لا يمكن أن يعفى الشعب المصري من المسئولية، فقد اختار بإرادته النظام العسكري وأيده وتقاعس عن المطالبة بإصلاحات جذرية ولم يكن أبدا مستنيرا بل تزداد الثقافة ظلامية باستمرار بل يمكن أن نقول بكل وضوح أن الأغلبية العظمى من الرأي العام معادية لأفكار التحديث رغم انتشار التعليم وعلمنة الإعلام، وهذا يحد من مطالب الجماهير ضيقة الأفق ويحصرها في حدود اقتصادية قصيرة النظر ومباشرة. ومن الأمثلة المضحكة أن جماهير غفيرة خرجت منذ بضع سنوات  في مظاهرات بتحريض المشايخ ضد شركة "سنسبري"لأنها كانت تبيع السلع بأسعار رخيصة، بزعم أنها شركة يهودية تتآمر على التجار المصريين، وهاهم التجار المصريون المتميزون بالجشع يمتصون دماء الفقراء (المصريين أيضا!!) وبلا رحمة.
  
                 **************************
والآن بعد طرح هذا التحليل لمشكلة الفقر يمكن تقديم الملاحظات التالية:
1- لن تقوم النخبة الحالية بتحقيق أيِّ إصلاحات جذرية مثل تصفية الفساد والاحتكار وتغيير مسار الدعم وهي الآفات الثلاثة التي تشكل نقاط ضعف الاقتصاد المصري، ببساطة لأنها مجرد شركة وليست حكومة، تعمل لحسابها الخاص وتستفيد من هذه الآفات الثلاثة.
2- بالتالي ليس أمام الشعب المصري خيارا آخر سوى إسقاط هذه النخبة وتصفيتها تماما. في سياق ذلك يمكن العمل على إجبار الدولة على تخفيض الأجر المتغير لصالح الأجر الثابت والتخفيض الجذري للحد الأقصى لدخول كبار رجال الدولة وإعلان كل الصفقات والميزانيات وطرحها للمناقشة..والضغط لتصفية الاحتكارات الضخمة.
3- إن مجرد رفع الأجور لن يفيد بل قد يؤدي لمزيد من التضخم مالم يتم هذا بآليات السوق أساسا.
4- لابد من اتباع سياسة إصلاحية تهدف إلى التسوية بين كمية الدخل والأجر او الربح ، واتخاذ إجراءات قاسية لتنفيذ ذلك. هذا يحتاج لحكومة إصلاحية ليبرالية.
5- إن الدفاع عن قطاع الدولة ومعارضة سياسة الخصخصة يساهم في تدعيم الفساد، فقطاع الدولة هو البقرة الحلوب للبيروقراطيين ورجال الأعمال وتصفيته تساهم كثيرا في تصفية الفساد. ومما يجدي كثيرا الضغط على الحكومة لتحويل المؤسسات الحكومية الصغيرة التجارية والصناعية إلى تعاونيات ملكا للعاملين بها بدلا من تركها تباع لرجال الأعمال، فهذا يدعم الطبقة الوسطى ويرفع دخولها. كذلك التمسك بالدعم الوهمي في أغلبه يدعم الطفيليين، والأجدى الضغط لتخفيض الضرائب غير المباشرة مثل  الجمارك وضريبة المبيعات،  مقابل إلغاء الدعم‘بالإضافة إلى استخدام جزء منه في رفع الأجور.
6- الضغط الشعبي لفرض ضرائب تصاعدية على الدخل يساعد في توفير مصادر حقيقية لرفع الأجور.
7- من أدوات الضغط القوية تنظيم مقاطعة شعبية للتجار الجشعين، خصوصا تجار الجملة وكتابة لائحة سوداء دورية توزع في مختلف الأحياء بأسماء التجار الأكثر جشعا في الحي. كذلك الاهتمام بتخفيض الاستهلاك وتفادي إهدار السلع الاستهلاكية يساهم بقوة في تخفيض الأسعار.
8- مما يساعد في تقوية الحركة الشعبية الضاغطة مقاطعة النقابات الصفراء وتشكيل نقابات مستقلة بالتدريج ولو بالبدء بلجان صغيرة (مثال: جمعية أطباء بلا حقوق). وكذلك مقاطعة الجمعيات الأهلية لوزارة الشئون الاجتماعية وطرد مندوبيها، وتشكيل جماعات للدفاع الذاتي لتأديب المجرمين المحترفين والجواسيس الذين تستخدمهم السلطة في إرهاب الحركة الشعبية.
9- يشكل تخفيض المصروفات العامة مصدرا هاما لزيادة دخول الفقراء. فيمكن مثلا الضغط لتخفيض المصروفات الأمنية ومصروفات الوزراء ورئيس الدولة وحاشيته، ودخول كبار رجال الدولة، وحل المؤسسات الطفيلية مثل الأزهر ووزارة الإعلام وغيرها.
10-    لن يستطيع المواطن المصري أن يغير شيئا مالم يعي أن يختار من يمثل مصالحه فعلا وأن يضعه تحت رقابته بدلا من الانخداع في أصحاب العمائم والفتاوى الشرعية والشعارات المبهمة. بوضوح إذا سقط النظام وجاءت حكومة من الإخوان المسلمين ستكون أشد فسادا وفتكا بالشعب المصري من السلطة الحالية، والواضح لكل ذي عقل أن هذه الجماعة لا تحترم حركة الشارع ولا ترحب بمبادرات شعبية بل هي تريد تجنيد الشعب المصري في صفوفها ليصبح أداة طيعة في يد قادتها وقد اتضح هذا تماما خلال الشهور الماضية. بل ومارست الطغيان والفساد في النقابات التي سيطرت عليها طويلا.
إن البحث عن الفتاوى الشرعية وآراء الشيوخ في كل شيء بما فيه الطب والعلاج والصناعة لا يؤدي إلا إلى مستقبل أكثر سوادا من الحاضر. فليبحث المصريون عما يلائم مصالحهم على المدى الطويل:العلم – إجادة العمل – حسن التنظيم – العقلانية – الشفافية- النظام الديموقراطي – الحكومة الرشيدة...بدلا من الاهتمام باللحى والشوارب ولبس الجلاليب واستفتاء المشايخ.
11- وقف النمو السكاني ضروري لتحسين مستوى المعيشة في بلد يعاني من ارتفاع نسبة المواليد. وطالما أن الناس لا تتفهم الأمر حتى الآن فيجب فرض عقوبات مالية على من ينجب الطفل الثاني، والتجربة الصينية تمثل نموذجا ناجحا، ولكن لا تستطيع إلا حكومة تتمتع بثقة الشعب أن تتخذ قرارا كهذا.



[1] تزعم الدولة أنها تدعم المنتجات البترولية على أساس الفرق بين السعر العالمي لها وسعر السوق المحلي، وهذا خداع واضح،فمصر دولة منتجة ومصدرة للبترول وهو لا يتكلف كثيرا بل وتحقق الدول المصدرة له أرباحا احتكارية. فإذا كان هذا دعما يكون الفرق بين أجر العامل المصري في الداخل والخارج دعما يقدمه لأصحاب الأعمال والحكومة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق