الأحد، 4 يونيو 2017

في ذكرى 5 يونيو

قيل: إن هزيمة أمة أمام أمة أخرى هي هزيمة لفلسفتها.. والأفضل كما أظن أن نقول: دولة، وليس أمة.
اليوم ذكرى هزيمة 1967 التي سماها النظام: نكسة. ويصورها الناصريون كمؤامرة غربية ضد الناصرية بسبب إنجازاتها الرهيبة – زعما - في التصنيع وإقامة الاشتراكية ( مع تجاهل الدور الجوهري للمعونات الأمريكية الكبيرة لدعم عبد الناصر في الستينات)..
الجيش يكون صورة مكثفة للنظام. وكان الجيش الناصري محكوما بنظرية أهل الثقة، وتحكمه الشللية، ومكتظا بالفساد، وتسوده الهرجلة والإهمال، ولا يفضل الجنود المتعلمين، بل الأميين، وأسلحته تفتقد للصيانة. وكان هناك تمييز كبير بين الجنود والضباط، وكان الضباط المرضي عنهم أقوى من غيرهم بغض النظر عن الرتب..وقد كانت بداية بقرطة الجيش ترقية عبد الحكيم عامر من رتبة رائد إلى لواء مباشرة.
من الناحية العسكرية كانت هزيمة مخجلة؛ فلا إعداد للحرب، ولا حتى كانت توجد نية للحرب أصلا، ورأس السلطة أعلن من قبل أنه غير جاهز للحرب ضد إسرائيل، ومع ذلك حشد الجيش وأغلق مضيق تيران وطرد قوات الطوارئ الدولية وأعلن أنه سيمسح إسرائيل!!. الجيش المصري في سيناء كان 80-100 ألف جندي أغلبهم بلا تعليم ولا تدريب (كثير منهم ذهب إلى الجبهة بالجلابيب!!)، بينما حشدت له إسرائيل 70 ألف جندي متعلم وعالي التدريب..ناهيك عن الفرق الضخم في قوة التسليح وفعاليته والفرق الأسطوري في منظومة الإمداد والتموين والاتصالات..إلخ.
كان الفشل العسكري يجسد فشل الناصرية ككل.
في الحقيقة أن الناصرية قد أفل نجمها منذ أواسط الستينات: فشلت خطتها الخمسية 1960-1965 ( مثلما فشلت خطة 1957-1960) وارتفعت الديون، بل اضطر النظام إلى التوقف عن دفع التزاماته للدول الأخرى، وتقرر إنشاء منطقة حرة في بورسعيد، كما تم الترحيب برئيس البنك الدولي، وبدأت الأسعار في الارتفاع منذ 1964-1965، وزادت السلطة من الضرائب غير المباشرة بمائة مليون جنيه، وأصبحت الصناعة تواجه مشكلة في تصريف إنتاجها بسبب عجزها عن التصدير وضيق السوق المحلية، كما حقق الناتج القومي نموا سالبا عام 1966؛ فبينما بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 8.7% بالأسعار الجارية عام 63-1964، راح يتدهور بعد ذلك، فبلغ 4.4% عام 65-1966، ثم بلغ صفر تقريباً عام 66-1967 ثم – 2.5% عام 1967 – 1968 بالأسعار الثابتة لعام 64-1965. كما تناقص معدل الاستثمار من الناتج القومي من 17.7% عام 64/1965 إلى 11.9% عام 67/1968. ومنذ 1965 تدهورت إنتاجية الأرض سنوياً بمعدل 0.45% بسبب إهمال الدولة لمشاريع الصرف. كما ازدادت حاجة البلاد من المستوردات الغذائية بدرجة ملموسة، بينما راح استهلاك الفرد من المواد الضرورية يتناقص ابتداء من 66/1967.
 في نفس الفترة كانت قد تكونت قوة اجتماعية سموها وقتها بالطبقة الجديدة؛ كبار رجال دولة - رجال أعمال في نفس الوقت، وتغلغلت في الاتحاد الاشتراكي، وراحت أصوات ممثليها في السلطة تعلو مطالبة بالانفتاح الاقتصادي وإعادة النظر في مجانية التعليم بالجامعة وفي سياسة تعيين الخريجين، وقد انتهجت الناصرية سياسة "انفتاحية" لصالحها بعد حرب 67 واتخذت قرارات عديدة لصالح القطاع الخاص. بالمقابل بدأت بعض الاحتجاجات الشعبية وإضرابات محدودة وإطلاق النكات على النظام وتشكيل حلقات يسارية وإخوانية سرية من جديد.
وفي ذات الفترة كانت القوات المسلحة تعاني من نزيف كبير من القتلى والمعدات في اليمن. ومقابل ذلك ظهرت منظمة فتح وبدأت العمل المسلح ضد إسرائيل ساحبة البساط من تحت أقدام الناصرية، كما سيطر يسار البعث على السلطة في سوريا وراح يقصف إسرائيل من حين لآخر..وراحت السعودية والأردن وسوريا تمارسان ضغطا إعلاميا شديدا على عبد الناصر بسبب تقاعسه في الرد على هجمات إسرائيل المتكررة على الأردن وسوريا وتحويلها لمجرى نهر الأردن..
 باختصار أفل نجم الناصرية وأصبحت تواجه مقدمات الانهيار. من هنا راح الزعيم يتوق إلى استعادة شباب دولته ونفوذها المعنوي في المنطقة ولم الصفوف في الداخل المحتقن بافتعال نصر خارجي، متصورا أنه سيكرر نصر 1956 السياسي المحدود رغم الهزيمة العسكرية، أو نصر 1960 الوهمي حين حشد الجيش أمام إسرائيل ثم سحبه.
وقد علق علق دافيد داوننج وجارى هيرمان على هذا السلوك قائلين: " اكتشف الرئيس المصري ناصر الذي كان قد أسكرته نشوة ظهوره المفاجئ من أغوار اليأس، حياة جديدة في الخطابة البلاغية القديمة".. "وكان في قرارة نفسه يصلي لكيلا تحارب إسرائيل وألا ينخسها أحد للقيام بتوجيه الضربة الأولى على الرغم من أنه ينخسها هو باستمرار".
لكن لم تأت الرياح بما تشتهي السفن؛ فقد كان هناك قرار أمريكي بتدجين الحكومات القوموية في العالم الثالث عموما، ومنها الحكومة الناصرية، خصوصا أن عبد الناصر قد اندفع في انتقادها في موضوع فيتنام وتدخل في أزمة الكونغو بالسلاح، حفاظا على حلفائه في العالم الثالث، والسوفيت. وقد تم قطع المعونات الأمريكية الضخمة، والألمانية في منتصف الستينات، ثم نجحت إسرائيل في جرجرته للحرب، بمعاونة الإعلام العربي واستفزازات سوريا لإسرائيل..وكانت الطامة الكبرى.
تضافر الفشل الاقتصادي مع المعاناة في حرب اليمن مع ظهور "الطبقة الجديدة" مع إعلان الأمريكان غضبهم على الحكومات "الناصرية" عموما..
الحقيقة أن هزيمة 1967 كانت هزيمة للنظام الناصري بكل مكوناته وليست مجرد هزيمة عسكرية.
كانت النتيجة ليست فقط تحطيم الجيش بل اعتراف الناصرية بحق إسرائيل في الوجود داخل حدود آمنة بموافقتها على قرار مجلس الأمن 242، وقام وزير الخارجية بتبرير هذا القبول أمام البرلمان بحجة أن مصر قد اعترفت بإسرائيل فعليا عام 1949 حين وقعت معها اتفاقيات الهدنة، ثم كرر نفس الفكرة أمام أحد الصحفيين الأجانب بعد ذلك. ثم التنازل عن شعارها القائل بوحدة القوى التقدمية ورفع شعار جديد: "التضامن العربي"، بغض النظر عن طبيعة الأنظمة، كما تبنت فكرة "تحييد أمريكا" في الصراع العربي الإسرائيلي. منذ ذلك الوقت أسقط من القاموس الناصري شعار تحرير فلسطين وحل محله شعار أكثر "واقعية"‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ هو: "إزالة آثار العدوان". أما عن رفض استخدام الدين في السياسة الدولية في السابق، فقد تنازلت عنه الناصرية، وبعد التحالف الجديد مع السعودية بدأ عبد الناصر ينادي بوحدة المسلمين مع المسيحيين ضد إسرائيل، ويتحدث عن خطر الصهيونية على الإسلام والمسيحية.
وأخيرا بدأ النظام يعيد بناء جيشه ويخطط لحرب 1973، فحشد كل طاقاته واستعان بقوات إضافية من السوفييت ودول عربية وكوريا الشمالية، ومع ذلك كانت كل إمكانياته هي عبور قناة السويس كحرب لتحريك المفاوضات مع إسرائيل، التي عبرت هي الأخرى قناة السويس وحاصرت نصف الجيش المصري..وكانت آخر الحروب.
كانت هزيمة 5 يونيو هي هزيمة كاملة للأيديولوجيا الناصرية المعلنة، والتي كانت قد صارت فلسفة الجماهير المصرية بوجه عام، وللنظام ككل، فكشفت عن أنها كانت مجرد دعاية ديماجوجية أخفى بها الناصريون قدرات نظامهم الحقيقية..فقد كان نمرا من ورق.
وبعدها اتخذ النظام الناصري مسارا آخر..




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق