الأربعاء، 5 ديسمبر 2018

حقيقة صلاح الدين بين يوسف زيدان ويوسف شاهين

حازم حسين


  
انفجرت موجة حادة من الجدل والشد والجذب والسباب المتبادل، مع ظهور الدكتور يوسف زيدان، الكاتب الروائى والباحث التاريخى، على شاشة إحدى القنوات التليفزيونية قبل أيام، منتقدا القائد يوسف بن أيوب، المعروف بـ"صلاح الدين الأيوبى"، انتقادات رأى البعض أنها متجاوزة ومهينة وتطال رمزا تاريخيا من رموز العرب والمسلمين، إذ وصلت آراء "زيدان" فى القائد الكردى السنى إلى حد وصفه بأنه "من أحقر الشخصيات فى التاريخ الإنسانى".

موقف يوسف زيدان استدعى مواقف كثيرة معارضة، ردت على آراء الباحث والأكاديمى المتخصص فى التراث وتحقيق المخطوطات، ولكن الردود لم تشتبك مع الموضوع فى جوهره، فبينما عرض "زيدان" وقائع وأحداثا رأى أنها تشير إلى دموية يوسف بن أيوب "صلاح الدين" وسوء إدارته، لم يرد منتقدوه ومهاجموه على الأمر، تجاهلوا ما سُجّل بحق القائد الكردى تماما، وتركزت ردودهم على شخص يوسف زيدان، الذى اتهمه قطاع واسع من المتشيعين لـ"صلاح الدين" بأنه جاهل وحاقد ولا يفقه شيئا ويكتب روايات سيئة وجنسية.

الردود لم تتوقف على القدح فى شخص يوسف زيدان، والهروب من أصل الموضوع إلى تفريعات تتعلق بشخصيته وكتاباته الإبداعية، فقد تفتقت أذهان آخرين عن آلية هجوم مختلفة، إذ نشر موقع "رصد" الإخبارى التابع لجماعة الإخوان الإرهابية، خبرا عن امتداح وزير الدفاع الإسرائيلى أفيجدور ليبرلمان لما قاله يوسف زيدان عن "صلاح الدين"، وبتتبع الأمر تجلّت الفبركة، فالصفحة مزيفة وباسم يشابه اسم أفيجدور ليبرمان، مع تغيير بعض الحروف للخداع البصرى، والصفحة الرسمية للوزير الإسرائيلى لم تتضمن أى حديث أو تصريح أو تدوينة عن يوسف زيدان وموقفه من القائد الكردى يوسف بن أيوب، والحقيقة أن الخبر لم يكن يحتاج تدقيقا لأى مهتم أو متابع، مع احتفاء الموسوعة اليهودية بشخصية "صلاح الدين" فى مواضع كثيرة، وما حصل عليه اليهود من مكاسب بسببه، ما ينفى أى احتمالية لهجوم من جانبهم عليه، أو امتداحهم لهجوم عليه من باحث أو أكاديمى مصرى، وبعيدا عن يوسف زيدان ويوسف بن أيوب وطابور المنتقدين والشتامين وأفيجدور ليبرمان و"رصد الإخوانية"، ما هى حقيقة صلاح الدين الأيوبى؟ وهل هو كما قدمه يوسف شاهين فى فيلمه الشهير "الناصر صلاح الدين"؟ أم كما وصفه يوسف زيدان؟ أم أنه شىء آخر تماما يختلف عن الوصفين والموقفين؟ كتب التاريخ كفيلة بإيضاح الصورة، ولكن أكثر الناس لا يقرؤون.


الناصر صلاح الدين.. السينما تتلاعب بالتاريخ لصالح السياسة:

الصدمة الكبيرة التى أصابت قطاعا من الناس، تعود للصورة الذهنية التى ترسخت لديهم عن يوسف بن أيوب "صلاح الدين"، القائد الكردى الذى عاش ومارس السياسة وحكم وحارب وقَتَل ومات فى القرن الثانى عشر الميلادى، ولم يكن من الصحابة ولا التابعين، ولكنه يتمتع بمنزلة تطاول منازلهم لدى قطاع واسع من الناس العاديين، وقداسة قد تتفوق على كثيرين منهم.

بتتبع الأمر قد يُفاجأ كثيرون بأن يوسف بن أيوب "صلاح الدين"، لم يكن حاضرا بهذه القوة ولا الصيغة البطولية حتى ثورة يوليو 1952، لم تُقرر سيرته على المراحل الدراسية المختلفة بكثافة كما هو الحال الآن، ولم يكن حاضرا فى الوعى الشعبى العام، فماذا تغير مع حركة الضباط الأحرار وثورة يوليو بالدرجة الكافية لتغيير الصورة ووضع يوسف بن أيوب فى صدارة المشهد التاريخى؟ الحقيقة أنها السياسة، لا البطولة ولا العظمة، والأمر يتصل بـ"ناصر" وليس بـ"الناصر صلاح الدين".

الأصل فى أزمة يوسف بن أيوب ليس يوسف زيدان، وإنما دولة يوليو 1952، فكل ما فى الأمر أن مشروع يوليو حمل فى أحد جوانبه فكرة الاستناد إلى أسماء واستدعاءات تاريخية، تدعم ما ذهبت إليه الثورة الوليدة فى الترويج لفكرة القومية العربية، وصنع البطل النموذج، ليسهل خلع هذه النمذجة التاريخانية على البطل الراهن، جمال عبد الناصر أو أى شخص غيره، فكان النموذج المثالى الذى وقع عليه اختيارهم، شخصية يوسف بن أيوب، الكردى السنى المحارب صانع النموذج الأبرز للقومية المنطلقة من مصر، بالسيف والدهاء.

لم ير نافخو الروح فى الأسطورة الرثة التى كانت ميتة تقريبا، أى ضرر فى إعادة بناء شخصية القائد والسياسى الكردى وتصديره كملك عادل مسالم موضوعى متصوف ومتزن، وعهدوا لفريق من الكتاب المهرة، ومنهم نجيب محفوظ ويوسف السباعى وعبد الرحمن الشرقاوى، باختلاق قصة لا أثر لها ولا دليل عليها، وصنعوها فيلما سينمائيا ضخما، بصنعة ماهرة، وأغفلوا حقيقة الرجل التاريخية كما أوردتها كتابات المؤرخين، وما يُنسب إليه من تجاوزات وجرائم، ثم وضعوا ما انتخبوه من أباطيل فى مناهج الدراسة وحشوا بها أدمغة العيال حشوا، فأصبحنا أمام خيال ثورة يوليو ونجيب محفوظ ويوسف السباعى ويوسف شاهين وأحمد مظهر عن "صلاح الدين"، وليس أمام صلاح الدين نفسه على حقيقته.

إذن كان الغرض من صناعة السيرة الجديدة ليوسف بن أيوب "الناصر صلاح الدين"، غرضا سياسيا فى المقام الأول، فى إطار الترويج للقومية العربية الجامعة، وعلى هذه الأرضية جاءت الأباطيل كلها، فالرجل الكردى السنى يظهر سمحا وجيد العلاقة مع الشيعة والمسيحيين، ينطق العربية بلسان فصيح، كما أنه بارع فى الفكر والفقه والفلسفة وعلوم اللغة والعلوم التطبيقية من كيمياء وطب، وعلاوة على هذا كله فإنه متصوف كبير، وهى وصفة واسعة من التميز والقدرات الخاصة لا يمكن أن تجتمع فى شخص واحد، ناهيك عن أنها لا تشبه "صلاح الدين" من قريب أو بعيد، فالرجل كان عدوا للشيعة وقتل منهم آلافا، ومن ثم لم يكن متصوفا، فالتصوف فى هذا الأوان كان محسوبا على التشيع، والرجل نفسه قتل بين من قتل "شهاب الدين السهروردى"، أحد أئمة وأقطاب العارفين والمتصوفة، كما أن السماحة التى جعلت "عيسى العوام" واحدا من أقرب قادته وأخلصهم، مجرد اختلاق وكذبة من كتبة الفيلم، فبعيدا عن أن المسيحيين لم يشاركوا فى جيوش صلاح الدين لأنهم كانوا وقتها "أهل ذمة" ويدفعون الجزية، فإن التاريخ لا يحمل أى أثر لشخصية مسيحية باسم "عيسى العوام"، وأقرب المعلومات تشير إلى أنه قائد مسلم سنى وليس مسيحيا، واستمرأ معدو السيرة الجديدة المخترعة ليوسف بن أيوب الأمر، فجمعوا "العوام" بـ"لويزا"، فارسة المعبد الكاثوليكية، بينما كانت العقيدة الأرثوذكسية وقتها، وربما حتى الآن، ترى الكاثوليك مهرطقين ولا تقترب منهم هذا الاقتراب، المهم أن كل الشواهد التى أوردها الشريط السينمائى أتت بمجملها فى إطار صنع نموذج أسطورى، لتوظيفه فى الحاضر السياسى، دون صلة بحقائق التاريخ ووقائعه.

حالة الهياج التى أصابت كثيرين من المواطنين وعوام الناس، سببها فى الأساس صناع فيلم "الناصر صلاح الدين"، وفى مقدمتهم أحمد مظهر، فإلى جانب المكتوب على الورق، عمل الممثل الراحل على تسويق شخصية يوسف بن أيوب بمحبة، تقمص دوره بعشق وإيمان حقيقيين، وعبر النص المكتوب الذى استولى على عقل الممثل قبل المشاهدين، وعبر افتتان الممثل بالبطل التاريخى النموذج، وبطل الحاضر المقصود بالرسالة، وإرشادات الأداء التى وجهها له المخرج يوسف شاهين المهتم بالبُعد السيكولوجى والتأثير النفسى لدى الممثل والمشاهد، تمكنت المنتجة آسيا والمؤسسة العامة للسينما من صنع أسطورة يوسف بن أيوب سنة 1963، بعد ما يقرب من ثمانية قرون على وفاته، وأمام هذه الحالة من الاختلاف والانفصام الكاملين، بين الواقع المختلق والتاريخ المدون، يقف يوسف بن أيوب الحقيقى الذى لم نقترب منه بصدق، والمؤكد أنه ليس كافرا ولا فاسقا ولا مجرم حرب كما يراه الشيعة والإيزيديون والمندائيون، وليس أحقر شخصية فى التاريخ الإنسانى كما يراه يوسف زيدان، ولكنه أيضا ليس الملك العادل كما رأى نفسه ورآه محبوه وداعموه من معاصريه، وليس الصورة التى رأتها وصنعتها دولة يوليو بأقلام يوسف السباعى ونجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوى وعين يوسف شاهين، وبالتأكيد من قبل ومن بعد أنه ليس أحمد مظهر.


المدخل إلى قراءة التاريخ.. المدخل الحقيقى لـ"يوسف بن أيوب":

وسط حالة الصخب والصراع المشتعلة، وتضخيمات يوسف زيدان المستندة إلى وقائع ومدونات ومراجع تاريخية، وحالة الدفاع المحمومة التى تقوم على محبة وشحن انفعالى صنعتهما الثقافة السمعية والبصرية، ولا يستندان لأى معرفة جادة، نحتاج فى رحلة البحث عن يوسف بن أيوب "صلاح الدين" الحقيقى، إلى الاقتراب منه فى مرحلته الزمنية، ومطالعة صورته فى مرآة عصره، لا فى مرايا من استخدموا اسمه ووظفوه لأغراض سياسية.

فى البداية، وحتى تكون الأمور واضحة، فإن الدرس التاريخى لا يمكن اعتباره بأية حال من الأحوال مجالا للغيظ والمكايدة، بمعنى أننا لا ندرس واقعة تاريخية ما أو سيرة شخص ما، لنغيظ محبيه أو نربت على هوى وغرض كارهيه، فى الغالب لا وظيفة عملية وعلمية مهمة للدرس التاريخى إلا اكتشاف قوانين الاجتماع وسياسة الأمور، ودراسة آثار وقائع الماضى على الحاضر، والاستضاءة بتركيبة العلاقات والأفكار وموازين القوى، ودرجة تحكمها فى عصرها، وفى عصور ممتدة بعدها، وفرص إعادة إنتاجها أو استمرار أثرها فى الراهن، بمعنى أن الدراسة للمعرفة فى الأول والأخير، وللاستفادة قدر الإمكان، حاضرا ومستقبلا، من القوانين والعبر التى يمكن اكتشافها فى وقائع الماضى، خاصة أن سياقات التاريخ انتهت، وشخصياته بحسناتهم وسيئاتهم أصبحوا مجرد حكايات وعبارات لغوية، وبالتأكيد لا يضرهم ولا ينفعهم ما نقوله عنهم، ولكنه بالتأكيد قد يضرنا نحن أو ينفعنا.

ضمن الصدمات التى حملتها مواقف المعارضين لما قاله يوسف زيدان، ما تواتر عبر صفحات وآراء عشرات النشطاء والمثقفين عبر مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة، بمعنى متكرر مفاده أننا لن نتقدم ما دمنا نشغل عقولنا ونقاشاتنا بسيرة رجل مات قبل 9 قرون، والحقيقة التى يتجاهلها كثيرون أننا لن نتقدم ما دمنا لم نعرف هذا الرجل، وكل الرجال الآخرين الذين يشبهونه وشكلوا جانبا من تاريخنا وجغرافيا عالمنا، ولم نعرف تاريخنا كله بشكل واع وجيد، خصوصا أننا دون خلق الله فى أرجاء العالم، تاريخنا حى دائما، لا ينتهى ولا يقف عند حجمه العادى كما هو الحال لدى باقى الأمم والمجتمعات، بمعنى أن كل خلق الله عاشوا مراحل انحدار وتراجع ودموية، وتمكنوا من تجاوزها وإغلاق أبواب التاريخ عليها، والتحرر من ثقلها ليسيروا للأمام، أما نحن فما زال تاريخنا حاضرا معنا ومسيطرا علينا، الفتنة الكبرى وبحور الدم التى سالت فيها ما زالت حية وتتدفق كنهر فى فيضانه، جرائم الأمويين والعباسيين والعثمانيين والمماليك ما زالت حية ولها ظلال فى الواقع، ويوسف بن أيوب "صلاح الدين" حى، وليس حيا فقط، ولكنه أيضا يحكمنا، لأن منظومة القيم والأفكار والحكايات التى كانت مفتاح أسطورته، سواء أكانت جيدة أم سيئة، هى نفسها منظومة القيم والأفكار والحكايات التى تقودنا وتسيطر على عقولنا حتى الآن، بمعنى أن كل شعوب العالم التى شهدت فظائع وكوارث وأحداثا دموية وحكاما مجرمين، قتلوا ماضيهم وتجاوزوا آثاره، ولكننا فى هذه المساحة من العالم ما زلنا نعانى من ماضينا، الذى ما زال حيا ويقتلنا كل يوم.

جانب من الردود تركت القضية كباقى مسلسل الرد، وتفرّعت باتجاه نقطة غريبة، وهى أن يوسف زيدان ومن ينتقدون التاريخ العربى والإسلامى مثله، لا يقتربون من تاريخ العالم الملىء بالدموية والقتلة والمجرمين، وهذه النقطة وحدها تحتاج وقفات ومراجعات طويلة، فالحقيقة أن إنجلترا تجاوزت مارى الدموية تماما رغم معاناتها الطويلة والقاسية معها، روما تجاوزت كاليجولا ونيرون، فرنسا تجاوزت كاترين دى مديتشى، ورومانيا تجاوزت فلاد الثالث، وروسيا تجاوزت آنا ونيكولاس الثانى، والمجر تجاوزت إليزابيث باثورى، وحتى ألمانيا وإيطاليا تجاوزتا هتلر وموسولينى، ونحن إلى الآن لم نتمكن من تجاوز يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف، وسليم الأول وإسماعيل أنور، وقبلهم طبعا يوسف بن أيوب وطابور طويل من الدمويين، الذين كانت لعصورهم ظروف وسياقات خاصة بالتأكيد، وكان من الطبيعى نوعا ما أن يحزوا الرؤوس ويشربوا الدماء وقتها، وفق قوانين العصر وموازين قوته، ولكن غير الطبيعى بالمرة أن يظلوا نماذج ومُثلا عليا إلى وقتنا الراهن.

الحقيقة أن دراسة التاريخ والبحث فيه فرض عين، ولا يمكن فهم الواقع والاشتغال عليه وتطويره دون فهم الماضى وفك تعقيداته، ويمكن الرد على من يرفضون انتقاد تاريخنا بدعوى أنه يتعين فى الوقت نفسه انتقاد تواريخ الآخرين، بأنه لا وجاهة ولا مبرر لانتقاد أى من سفاحى العالم ممن ذُكروا فى سياقنا أو لم نذكرهم، ونحن أمام مشكلة ذاتية أكبر، تخص ثقافتنا وجغرافيتنا، وتتحكم فيهما بدرجة ضاغطة، سفاحو العالم لم يقتلوا جدودنا ولا أعمامنا ولا إخوتنا، ولم يلعبوا فى تركيبة أوطاننا أو نصوص وقيم أدياننا، ولو حدث هذا فقد وقع فى صورة جرائم واضحة ارتكبها أعداء، وانتهت آثارها بتحررنا منها، والحمد لله تعافت مجتمعاتهم أيضا وعولجت من آثارهم وشرورهم، أما سفاحونا والقتلة فى تاريخنا فقد قتلوا الجدود ونهبوا الأوطان وشوهوا الأديان، تحت دعاوى الوطنية والقومية والدين نفسه، وما زال أثرهم حاضرا وفاعلا، وهذه هى النقطة الأخطر، أننا نحيا إلى الآن فى عباءتهم وما رسموه لنا من سياق، لهذا فإن من يشتبك وينتقد، يخوض معركته مع أناس عانى ويعانى بسببهم، أما بلاد الله وخلق الله فلديهم مجرموهم الذين أذاقوهم النار، ولديهم مؤرخون وباحثون انتقدوا هؤلاء المجرمين، وألقوهم فى غرف مظلمة وأغلقوا عليهم الأبواب وارتاحوا من شرورهم، وهو ما لم نبلغه بعد.

حقيقة صلاح الدين الأيوبى.. عودة جادة للتاريخ المكتوب:

بعيدا عن المقدمة والاستطراد الطويلين، نعود إلى يوسف بن أيوب "صلاح الدين"، والبداية العاقلة لفض الاشتباك بين الناقدين والمادحين تنطلق من سؤال جاد.. هل كان الرجل شيطانا؟ الحقيقة أنه لم يكن شيطانا، إذن هل كان ملاكا؟ لا أيضا، ولا يتمتع بأى ملائكية أو أى رائحة منها، فمن هو إذن؟ هذا مربط الفرس، لا أحد ممن يقرأ هذا الكلام، ولا حتى كاتبه، يمكنه الإجابة بمفرده ومن عندياته وبرأيه، الإجابة الوحيدة الدقيقة يجب أن تخرج من عصر يوسف بن أيوب، بعيون معاصريه ومن شاركوه مواقفه أو تأثروا بها، ولكن هذه الخطوة للأسف محفوفة بالمخاطر، لأن يوسف بن أيوب كأى إنسان آخر، لا شك فى أنه حاز عداوة خصوم، وكان له كارهون يرونه شرًّا مستطيرا، وآراؤهم فيه لن تكون منصفة أبدا، يوسف بن أيوب قال عن نفسه أو قالت عنه عائلته الأيوبية فى نُصب منحوت بالمسجد الأقصى: "أمر بتجديد هذا المحراب المقدس، وعمارة المسجد الأقصى الذى هو على التقوى مؤسس، عبد الله ووليّه يوسف بن أيوب أبو المظفر الملك الناصر، صلاح الدنيا والدين"، فهل كان يوسف بن أيوب صلاحا للدين والدنيا كما رأى نفسه؟ نحتاج أيضا للبحث عند معاصريه لإجابة هذا السؤال.

نقطة "معاصريه" هذه كفيلة بإدخالنا مستنقعا واسعا وعميقا، يحتاج دقة وموضوعية فى الفرز والانتقاء، فهناك كتابات شيعية كثيرة جدا وصلت بالأمر لتكفير يوسف بن أيوب وتفسيقه، ومنها "الشيعة فى مصر" لصالح الوردانى، وكتابات وآراء وفتاوى باقر الشيرازى، ومحسن الأمين، ومحمد صادق الإيروانى، ومئات غيرهم من الكتاب والفقهاء والمؤرخين الشيعة، رأوا الرجل فاسقا وكافرا وسفاحا ولصا وتاجر دين، وعلى الجانب المقابل لا تخلو ضفة السنّة من كارهين له، "المقريزى" نموذجا يتخذ موقفا من الرجل فى بعض المواضع والحوادث، رغم إشادته به فى مواضع أخرى، ولكن من هذه الضفة نفسها سنجد عز الدين بن الأثير، العراقى السنى وأحد المؤيدين والمادحين لـ"صلاح الدين"، ورافقه فى كثير من سفراته وحملاته، وهناك أيضا عماد الدين الأصفهانى، وهو من بلاطه وحاشيته وكتب فيه مدحا كثيرا، شعرا ونثرا، فى مواقف عديدة ومشاهد وأحداث، بعضها مما يؤخذ على الرجل واعتبره "العماد" حسنات، فكل ما أورده عن يوسف بن أيوب، حتى النواقص والعيوب، أوردها من باب الشهادة له ومدحه بالشدة والحزم والانتصار للمذهب السنى، وهناك أيضا ابن تغرى بردى، وابن كثير، والذهبى، وبهاء الدين بن شداد، والمقدسى المعروف بـ"أبى شامة"، والقلانسى، وابن الجوزى، والسيوطى، وأبو بكر الباقلانى، وابن العديم، وكلهم من المنتمين للمذهب السنى ويحبون يوسف بن أيوب وينحازون له، وما يوردونه من مواقف ومشاهد وأحداث وصفات، يوردونه من باب المدح والفخر لا الذم ولا الانتقاص، لدرجة أن كتاب بهاء الدين بن شداد اسمه "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية"، أى أن الرجل يعدد محاسن يوسف بن أيوب ولا ينتقده أو يسبه، و"الذهبى" مثلا بعدما يذكر قصص تنكيل "صلاح الدين" وجنوده بالشيعة والفاطميين والمصريين، يقول: "إن هذه الفعلة من أشرف أفعاله"، ويقول السيوطى: "أخذ صلاح الدين فى نصر السنة وإشاعة الحق وإهانة المبتدعة والانتقام من الروافض"، ومدح ابن الجوزى هذه الأفعال فى كتاب كامل أسماه "النصر على مصر"، وأنشد العماد الأصفهانى شعرا فيما فعله سيده الكردى فى الشيعة قائلا: "قد خطبنا للمستضىء بمصر/ نائب المصطفى إمام العصر/ ألستم مزيلى دولة الكفر/ من بنى عبيد بمصر؟!".

أمام ما فات من حقائق، سنعتمد فى قراءة تاريخ يوسف بن أيوب على محبيه والموالين له فقط، سنتجنب كتب الشيعة تماما، ومنها كتاب "صلاح الدين بين العباسيين والفاطميين والصليبيين"، للدكتور حسن الأمين، المؤرخ اللبنانى المتوفّى سنة 2002، الذى استخدم فى كتابه منهجا علميا متماسكا، ولم يكن متحاملا ولا عدائيا لوجه العداء ودون بينة وحجة، ولكن يكفى بشبهة أنه "شيعى" أن نستبعده ولا نستشهد به، إذ إننا نسعى هنا لاستجلاء التاريخ الأقرب للدقة دون شكوك أو غرض، لهذا سنستشهد بأصدقاء يوسف بن أيوب ومحبيه وحاشيته ومن مدحوه وكتبوا فيه شعرا، مع أخذ قاعدة "التاريخ يكتبه المنتصرون" فى الاعتبار، ما يعنى أننا سنقرأ تاريخا كتبه فريق يوسف بن أيوب بعدما انتصر وسجل التاريخ على هواه، أورد ما يحب إيراده وأخفى ما يحب إخفاءه، فى إطار رسمه لصورته كما يريدها، وبالتأكيد فإن المنتصر يوثق ما يراه إيجابيا ويخفى ما يراه مُشينًا، أى أننا سنرى يوسف بن أيوب من عيون محبيه فى ساعة الصفا والوفاق، وكما أحب هو نفسه أن يراه الناس والتاريخ، وما خفى وأخفوه كان أعظم.

من هذا المدخل يمكننا إيراد قائمة بالمراجع التى تنطبق عليها هذه الشروط، والتى لا يستطيع أحد اتهامها فى محبتها لـ"صلاح الدين" وانحيازها له وإجلالها لمقامه وأفعاله، وهذه القائمة تضم: "الكامل فى التاريخ" لعز الدين بن الأثير، و"الروضتين فى أخبار الدولتين" لإسماعيل المقدسى المعروف بأبى شامة، و"النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية" لبهاء الدين بن شداد، و"الفتح القسّى فى الفتح المقدسى" لعماد الدين الأصفهانى، و"زبدة الحلب فى تاريخ حلب" لابن العديم، و"سير أعلام النبلاء" للذهبى، وتاريخ أبى الفداء، و"البداية والنهاية" لابن كثير، و"الأعلاق الخطيرة فى أمراء الشام والجزيرة" لابن شداد، و"المذيل فى تاريخ دمشق" للقلانسى، و"النصر على مصر" لابن الجوزى، و"كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد" للسيوطى، و"كشف الأسرار وهتك الأستار" لأبى بكر الباقلانى، و"النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة" لابن تغرى بردى، نذكر هذه القائمة فقط، وهناك كثيرون غيرهم من الموالين والمادحين والمُقدِّسين ليوسف بن أيوب، ولكن هذه القائمة تضم النماذج الأوضح فى التأييد والانحياز، والتعامل مع المادة التاريخية باعتبارها وسيلة لتمجيد الرجل لا نقده.


وشهد شاهد من أهلها.. حكاية يوسف بن أيوب من عيون محبيه:

بعد العرض السابق لحدود الخلاف الدائر، ولآلية اختيار المراجع والأسانيد التاريخية لقراءة تاريخ يوسف بن أيوب من وجهة نظر مؤيديه، يمكننا استعراض القصة بشكل موجز وفق التسلسل التالى...

عاش يوسف بن أيوب فى بلاط نور الدين زنكى بالشام 10 سنوات، خادما مخلصا مطيعا، وفى أواخر العقد السادس من القرن السادس الهجرى، الثانى عشر الميلادى، أرسل نور الدين زنكى حملة بقيادة أسد الدين شيركوه، عم يوسف بن أيوب، لدعم مصر فى مواجهة الحملات الصليبية عليها، وخلال الحملة وثق الخليفة الفاطمى "العاضد" فى "شيركوه" وعينه وزيرا له، وبعد شهرين مات "شيركوه" فورث يوسف بن أيوب المنصب، وكان من الطبيعى أن تثير هذه الخطوة قدرا من الحقد فى نفوس بعض كبار القادة والسياسيين، وكثيرون منهم من السنة، ليبدأ يوسف بن أيوب حملة واسعة للسيطرة على الأمر والتخلص من المعارضة، بدأت بقتل "مؤتمن الخلافة" السودانى، مع العلم أن وصف "سودانى" كان يُطلق وقتها على كل أصحاب البشرة السمراء من النوبة جنوبا، وكما كان متوقعا أثارت هذه الخطوة السودانيين والنوبيين بحالة ثورة وهياج، فشكلوا جيشا ضخما ضم 50 ألف مقاتل للثأر لمؤتمن الخلافة، اشتبك معهم يوسف بن أيوب بقواته، واستمرت المعركة أياما دون حسم، حتى أرسل القائد الكردى رجاله فأحرقوا مقر السودان بـ"المنصورة"، وسبوا نساءهم وذبحوا أطفالهم، ففر جيش السودان عندما وصله الخبر هلعا على أهله، وتتبعهم يوسف بن أيوب وأبادهم تماما.

فى هذا الباب يقول "ابن تغرى بردى": "كان أهل مصر يؤثرون عودة الفاطميين، فسيّر صلاح الدين جيشا كثيفا وجعل مقدمه أخاه الملك العادل، فساروا والتقوا بزعيم الثورة وكسروه، ثم بعد ذلك استقرت له قواعد الملك"، وإلى جانب الواقعتين السابقتين كانت هناك ثورة ثالثة على يوسف بن أيوب، يقول عنها "ابن تغرى" أيضا: "ساروا من الصعيد إلى مصر فى مائة ألف أسود ليعيدوا الدولة الفاطمية، فخرج إليهم أخو صلاح الدين الملك العادل بكر، وبمن معه من عساكر، والتقوا مع السودان، فكانت بينهم وقعة هائلة وقتل كبير السودان ومن معه"، كانت هذه الموقعة فى السنة السادسة من حكم يوسف بن أيوب، وفيها وقعت ثورة جديدة، قال عنها المؤرخ نفسه: "فى نفس العام أيضا وقعت ثورة أخرى فى مدينة قفط بصعيد مصر، أخمدها صلاح الدين وأرسل لها أخاه العادل على جيش، فقتل من أهلها ثلاثة آلاف وصلبهم على شجرها، ظاهر قفط".

بعد اختيار يوسف بن أيوب وزيرا للخليفة الفاطمى "العاضد"، خلفا لعمه أسد الدين شيركوه، يقول المؤرخ السنى "المقدسى"، المعروف بـ"أبى شامة": "أرسل الخليفة العاضد إلى صلاح الدين يأمره بالحضور فى قصره ليخلع عليه الوزارة، ويولّيه بعد عمّه، فشكر نعمة ربّه، فتاب عن الخمر، وأعرض عن أسباب اللهو"، وهذه القصة حكاها أيضا بهاء الدين بن شداد وابن العديم وأبو الفداء والذهبى وغيرهم، وهذا معناه أن يوسف بن أيوب كان سياسيا عاديا، يشرب الخمر ويلهو حتى اقترابه من الأربعين، ولم يكن فقيها ولا علامة، وسواء كان قد أقلع فعلا عن اللهو والخمر بعد تولى الوزارة أو لا، فهذه النقطة فرعية وغير مهمة وتخص حياته الشخصية، لكن الأهم أنها إلى جانب أن الدولة الأيوبية لم تساهم فى صنع أى نهضة علمية ولا ثقافية ولا معرفية، ترسم صورة جديرة بالنظر والتدقيق ليوسف بن أيوب، الرجل الذى أحرق مكتبة ضخمة وبعثر كتب الشيعة خارج القصر الفاطمى وداخله وفى أروقة الأزهر والمدارس الفقهية، وأغلق الأزهر نفسه سنوات طويلة، يقول بعض المؤرخين إنها امتدت لـ100 سنة حتى جاء الظاهر بيبرس فى الدولة المملوكية وأعاد فتحه، كما يُورد هذا "المقريزى" وغيره ممن وثّقوا للأمر، ولكن دعنا من الاستشهاد بالمقريزى، فالرجل يشد أحيانا على "صلاح الدين" بدرجة تبدو عدائية، حتى وإن كان مؤيدا ومادحا له فى مواقف أخرى عديدة، ولكن الحقيقة أن "بيبرس" الذى أعاد فتح الأزهر وفق هذه الرواية، أصلح كثيرا من كوارث يوسف بن أيوب وعائلته، وأهمها استرداد القدس التى ضيعتها الدولة الأيوبية بعد 40 سنة فقط من تحريرها الجزئى، وإلى جانب هذا كان نصيب القائد الكردى من التسامح صفرا، عكس الفاطميين الذين قبلوا بصيغة تعايش محترمة فى مصر، والمثال الأبرز أنهم استوزروه هو نفسه وهو سنّى المذهب.

الغريب هنا، أنه فى الوقت الذى اضطهد فيه يوسف بن أيوب الشيعة ونكّل بهم، بل واضطهد بعض الاتجاهات السنية التى لم تكن على مذهبه الأشعرى، أو لم تكن "قادرية" كما كان فى بعض فتراته، ومنهم الفقيه والمُحدّث والأديب السنى عمارة اليمنى، الذى قتله "صلاح الدين" وصلبه على باب بيته وهو بجبته وعمامته، هو نفسه من كان حنونا ورقيقا مع اليهود بشكل مبالغ فيه، لدرجة أن طبيبه الخاص كان موسى بن ميمون، الذى يراه اليهود والصهاينة تحديدا أهم يهودى بعد النبى موسى، وتقول الموسوعة اليهودية إن موسى بن ميمون كان له دور مهم فى تمتع اليهود بمكاسب كبيرة فى فترة حكم يوسف بن أيوب، سواء فى مصر أو الشام أو حتى فى القدس، التى أصدر يوسف بن أيوب مرسوما يمنح اليهود حق الإقامة والتملك فيها، بعدما ظل الأمر ممنوعا بشكل كامل منذ أيام العهدة العمرية، وكان المسيحيون أنفسهم يمنعون هذا خلال سيطرتهم على المدينة، أو بنص الموسوعة اليهودية: "استخدم ابن ميمون نفوذه فى بلاط صلاح الدين لحماية يهود مصر، ولمّا فتح صلاح الدين فلسطين أقنعه ابن ميمون بأن يسمح لليهود بالإقامة فيها من جديد وابتناء كُنُسٍ ومدارس لهم".

وتضيف الموسوعة اليهودية عن تقييمها للقائد الكردى ورأى اليهود فيه، قائلة: "كان موقف صلاح الدين من اليهود شديد التسامح"، لكن الغريب أنه كان دمويا جدا مع الشيعة، بحسب المصادر السنية القريبة منه والمؤيدة له، وقتل منهم آلافا، وعزل رجال القصر وأسرة الخليفة العاضد عن النساء حتى يقطع نسلهم، ونهب ممتلكاتهم ووزع قصورهم على أبنائه وإخوته، رغم أنها الدولة التى اختارته وزيرا وهو سنى المذهب، بعد عمه الذى كان وزيرا وسنى المذهب أيضا، وكانت دولة متسامحة مع السودان، الذين تصفهم كثير من كتب التاريخ العربية بـ"الزنوج"، بينما تسامحت معهم الدولة الفاطمية، فوصلوا لمناصب قيادة الجيش والدرك و"مؤتمن الخلافة"، كما كان الفاطميون متسامحين مع النساء والمذاهب السنية قبل الشيعية، وكانت لفقهاء الشافعية والمالكية رواقات فى الأزهر ومدارس خارجه، ولم يتعرض لهم أحد، وبدلا من زيادة حالة التسامح التى كانت قائمة، وظف يوسف بن أيوب سيفه فى القضاء عليها تماما، والتأسيس لدولة المذهب الواحد والرأى الواحد والحاكم الواحد والأسرة الواحدة، وبالتبعية كان المصريون يكرهونه، وهو نفسه يسجل هذا الأمر فى رسالة لنور الدين زنكى، يقول فيها: "إن تأخرت عن دمياط ملكها الإفرنج، وإن سرت إليها خلفنى المصريون فى أهلها بالشر، وخرجوا من طاعتى وساروا فى أثرى، والفرنج أمامى، فلا يبقى لنا باقية"، وهذه الرسالة أوردها ابن الأثير والعماد الأصفهانى وغيرهما، وفيها اعتراف صريح بأن المصريين لا يحبونه ولا يطيقون حكمه، والمفارقة أن هذا الأمر كان بعد 6 سنوات من الحكم، أى أنه نجح فى زيادة عداء المصريين له بعد القضاء على الشيعة، ولم ينجح فى استمالتهم أو الفوز بمودتهم.

 يوسف بن أيوب يتلاعب بالخليفة الفاطمى وبسيده نور الدين زنكى:

الغريب فى مسار حكم يوسف بن أيوب لمصر، أنه بعد وصوله وتوليه الوزارة، وسعيه للتمكين لحكمه والسيطرة على مقاليد الأمور، ظل محافظا على الدعوة للخليفة الفاطمى "العاضد" على منابر مصر لثلاث سنوات تقريبا، وعندما طالبه نور الدين زنكى بتغيير الخطبة والدعوة للخليفة العباسى "المستضىء"، رفض وتعلل بخوفه من ثورة المصريين عليه لأنهم يحبون الفاطميين، لكن حقيقة الموضوع قالها "أبو شامة" وابن الأثير وغيرهما، وهى أنه: "كان نور الدين زنكى قد شرع بتجهيز السير إلى مصر لأخذها من صلاح الدين؛ لأنّه رأى منه فتورا فى غزو الفرنج من ناحيته، فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر، يطلب العساكر ليتركها بالشام لمنعه من الصليبيين، ليسير هو بعساكره إلى مصر، وكان المانع لصلاح الدين من الغزو، الخوف من نور الدين؛ فإنّه كان يعتقد أنّ نور الدين متى زال عن طريقه الفرنج، أخذ البلاد منه، فكان يحتمى بهم عليه ولا يؤثر استئصالهم"، أى أن القائد الكردى كان يُلاعب "زنكى" بالصليبيين، ويلاعب الفاطميين بـ"زنكى، والعكس، وهذه النقطة تحديدا حكمت علاقة يوسف بن أيوب بالصليبيين، فقد حاول إزاحتهم من طريق طموحه وتمدده لتوسيع ملكه وصنع أسطورته، لكنه فى الوقت نفسه لم يشأ إخراجهم من المنطقة، ولهذا السبب رفض عرض الخليفة العباسى بعدها بسنوات لدعم حملته بـ120 ألفا من جند الخلافة، حتى يحرر كل المدن العربية ويطرد الصليبيين تماما، وهذا أيضا سبب عقده صلح "الرملة"، الفضيحة والمهين بكل الصور، والذى لا مبرر له إلا أن يوسف بن أيوب كان يقامر بمصير المنطقة ويتلاعب بالأصدقاء جميعا ويرقص على حبال الأنظمة والدول، أو بمعنى أبسط "بيلعب معانا شوية ومعاهم شوية".

فى الوقت الذى طرد فيه القائد الكردى الفاطميين ونكل بقطاع كبير منهم، سمح للصليبيين بحيازة الشريط الساحلى من صور حتى يافا، وفى الوقت الذى كان يخطط فيه لغزو الدولة السلجوقية المسلمة وهضبة الأناضول والعبور لأذربيجان، وكلها دول مسلمة سنية وليست ديار عداء ولا وجهات جهاد وفتوحات، لم ينظر للأندلس نموذجا، التى كانت قد بدأت دخول مرحلة السقوط وبدأ ملوكها التناحر، حتى وقعت تماما بعد قرنين أو يزيد قليلا، ولكنه اهتم بالحشاشين وحاصرهم وقتل كثيرين منهم ومن عائلاتهم، حتى تشفّع لهم واحد من بلاطه، فرجع وعفا عنهم، ما يشير إلى أن الأمر لم يكن مشكلة دينية ولا أخلاقية مع الحشاشين بكوارثهم، كان نزوعا إمبراطوريا توسعيا وتسلطا شخصيا، لهذا لم يفعل معهم ربع ما فعله مع الفاطميين، رغم أن الفريقين شيعة، والحشاشين مجرمون والفاطميين مسالمون وأهل علم وعمارة، وهذه النقطة يمكن من خلالها فهم سبب غطرسة القائد الكردى "العراقى" وذبحه وسبيه للإيزيديين والمندائيين الذين يستوطنون مناطق محيطة بموطنه الأصلى فى "تكريت"، والطائفتان المذكورتان يعتبرون الرجل مجرم حرب حتى اللحظة، ويحتفظون له بعداء ضخم جدا، رغم أنهما من الطوائف المسالمة التى لا تعادى المنطقة ولا أهلها ولا دين الأغلبية فيها، ولم يتحالفوا مع الصليبيين كما تحالف هو نفسه، أو كثيرون من البيت الأيوبى معهم.

الجريمة الأكبر، أن طموح يوسف بن أيوب كانت فاتورته قاسية على المصريين، زادت المكوس وزاد النهب والسلب والسيطرة على الأراضى، ووجه الرجل حملات خاطفة لدول الجوار لزيادة الموارد، كحملته لليمن التى نهبت كثيرا من ممتلكات اليمنيين وعادت محملة بالذهب والفضة والمال، ووصل الأمر بطموحه الغريب إلى هدم عشرات الأهرامات الصغيرة فى هضبة الأهرام بالجيزة، وأخذ حجارتها لبناء قلعته فى هضبة المقطم، وهو ما كان قانونا لديه مع كثير من الأمور، فى الاستيلاء على القائم من دلائل الحضارة أو هدمه، بدلا من توظيف الموارد الكثيرة المتاحة له فى خلق نهضة عمرانية وثقافية، ولكن هذا الأمر لم يكن من شواغله، وربما لو استطاع هدم الأهرامات الثلاثة الكبيرة لفعل، ولكنها كانت أقوى من رغبته أو عنفه.

حالة النهب والتسلط والسرقة التى ملأت مصر وقتها، دفعت المصريين لأخذ موقف كاره ليوسف بن أيوب وحكمه، ولكنه كان كرها مكتوما، لأن جنوده ورجاله كانوا ينكلون بهم ولا يرحمونهم، فاختصروا الموضوع فى عبارة "حكم قراقوش"، وقراقوش أحد أكبر كوارث يوسف بن أيوب، فقد كان خصيًّا من الخصيان، استوزره القائد الكردى بسبب شخصيته العنيفة وعدم امتلاكه طموحا شخصيا يهدد حكمه ودولته وأسرته الأيوبية، وأطلق يده فى أمور الفاطميين والمصريين، ولم يُقصّر الرجل، فذبح المصريين بالضرائب والمكوس والسجون والتنكيل، وقطع دابر الفاطميين من مصر، وساعد فقهاء الشافعية على نشر المذهب الشافعى من خلال المدارس التى أنشأها يوسف بن أيوب بعد إغلاق الأزهر، وكان الانضمام لها بالإجبار، وفرض رقابة شنيعة على المساجد والكتاتيب، ومسك مصر بقبضة حديدية لصالح تأسيس دولة يوسف بن أيوب التى لا تعرف غير مذهب واحد ووجهة واحدة، والأسبقية فيها لأهل الثقة وخدم طموح القائد الكردى، وليس لأهل البلد ولا أهل العلم ولا أهل الكفاءة، فكانت عبارة "حكم قراقوش"، الخصى ناقص الرجولة، أفضل اختصار من وجهة نظر المصريين ليوسف بن أيوب وحكمه.

يوسف بن أيوب ينقلب على سيده نور الدين زنكى ويعصف بدولته:

الموقف الذى أخذه يوسف بن أيوب من الخليفة الفاطمى "العاضد" فى أول 3 سنوات لحكمه، بإبقائه على الدعوة له على المنابر، واتخاذ هذا الأمر وسيلة حماية من أى تحرك ضده من جانب نور الدين زنكى، انقلب عليه تماما عندما استتب له أمر الحكم وأضعف الفاطميين لدرجة أن أصبحوا لا يصلحون وسيلة حماية أو ردع لـ"زنكى"، فألغى الدعوة لـ"العاضد" وبدأ يدعو للخليفة العباسى المستضىء، واستمر هذا الأمر 3 سنوات أخرى حتى وفاة نور الدين زنكى، وكان من الممكن اعتبار الأمر تكتيكا وذكاء وخداعا استراتيجيا من يوسف بن أيوب، لخدمة سيده نور الدين زنكى والخليفة العباسى، ولكن ما فعله القائد الكردى بعد موت "زنكى" يفسر الأمور بشكل مغاير تماما وأكثر وضوحا.

بعد موت "زنكى" شن يوسف بن أيوب "صلاح الدين" حملة واسعة على دولته وابنه الملك العادل، الطفل ذى الـ12 سنة وقتها، وخلالها قصقص أجنحته وقتل مئات من جنوده، وأخذ منه كل المدن والحواضر التى كانت تحت حكمه، ووزعها على إخوته ورجاله، وتركه فى "حلب" فقط بشكل أقرب للحصار، والأنكى من هذا أنه استغل موقف القوة الذى كان فيه، وتزوج أرملة "زنكى" رغم إرادتها، حتى يوطد وجوده فى الشام بصيغة شبه شرعية منتسبة لبيت "زنكى"، وفى الوقت نفسه التف على الملك العادل وخاطب أعمامه وأخواله فى العراق واشتراهم بالهدايا ومد معهم أواصر الود والمصالح، وعندما طلب منهم الملك الصغير العون والمساندة فى وجه غطرسة وأطماع يوسف بن أيوب، كان الأخير قد سبق وضرب له الفكرة باتفاقاته معهم.

القائد الكردى صاحب أسطورة "القومية" ينهى دولته بتوزيعها على أقاربه:

الأمر الأغرب فى كل سيرة يوسف بن أيوب، أن الرجل الذى أسس أسطورته على شعارات قومية نادت بالوحدة، ورفعت شعارات تتصل بقضية القدس والحملات الصليبية وسيطرة أوروبا على كثير من مدن العرب وحواضرهم، هو من عقد صلح "الرملة" المهين مع الصليبيين كما أشرنا، والأكثر غرابة أن الصلح انعقد بطلب مباشر وعرض سخى منه، ليرضخ فى هذا الاتفاق لكل شروط الصليبيين، رغم انتصاره عليهم كما يقول التاريخ الرسمى، وهو أمر غريب أن ينزل المنتصر على شروط المهزوم، فمنحهم حق السيطرة على عشرات المدن، ومشاركة العرب فى السيطرة على مدن أخرى باقتسام متساوٍ، ووضع القدس فى صيغة أقرب لصيغة التدويل المعروفة الآن، أى أنها لم تكن تحت وصاية عربية بشكل كامل، لكن الأنكى من كل هذا أن موقفه فى آخر حياته كان كفيلا بنسف كل الشعارات القومية والعقدية التى تاجر بها، الرجل لم يكن يدعو لوحدة ولا قومية، كان الأمر مجرد شعارات للبحث عن نفوذ وملك أوسع، والدليل أنه مع اقتراب أجله قسّم ملكه ودولته بين أولاده وإخوته، وفتّت الوحدة والقومية التى قتل عشرات الآلاف فى سبيلها وتحت ذريعتها، بمعنى أنك لو تقبلت ما تورط فيه من جرائم فى حق المصريين والشوام واليمنيين والأتراك، فى حق الفاطميين والعباسيين، فى حق الشيعة والسنة، فى حق الأهرامات وتاريخ مصر وثقافتها، فى حق "العاضد" ونور الدين زنكى، لأنه وحّد العرب والمسلمين وصنع منهم دولة قوية لتحرير الأرض، فإنك لن تجد أى تبرير أو عذر له عندما تعرف أنه قسّم هذه الدولة الواحدة القوية وضحّى بتلك الأرض بهذه الطريقة الغريبة:

- مصر لابنه العزيز عماد الدين أبو الفتح.

- دمشق وما حولها لابنه الأفضل نور الدين على.

- حلب وما حولها لابنه الظاهر غازى غياث الدين.

- الكرك والشوبك وجعبر وبلدان أخرى كثيرة على محور الفرات لأخيه العادل.

- حماة لابن أخيه المنصور محمد بن تقى الدين عمر.

- حمص والرحبة وغيرهما لابن عمه أسد الدين بن شيركوه.

- اليمن بكل معاقله ومدنه وحواضره لأخيه ظهير الدين طفتكين بن أيوب.

- بعلبك وما يتبعها لابن أخيه الأمجد بهرام شاه بن فروخ شاه.

- بصرى وما يتبعها للظافر بن الناصر.

 ويقول "ابن كثير" عن هذا الأمر: "ثم شرعت الأمور بعد صلاح الدين تضطرب وتختلف فى جميع الممالك"، وكانت النتيجة الطبيعية التى كان يوسف بن أيوب يعرفها بالتأكيد، لو كان داهية وسياسيا حاذقا كما يرى مؤيدوه ويروون، أن الدولة ضعفت وتفكّكت تماما، وإخوته وأولاده عقدوا اتفاقات وأحلافا جانبية مع الصليبيين، وباعوا أنفسهم لهم حتى يتخلص كل منهم من الآخر، كما رأوا أباهم وعمهم يفعل بالظبط، ولكن القائد الكردى كان فردا وأذكى وأكثر شراسة ومكرا، فاستطاع النجاة بلعبته سنوات، وهم كانوا أفرادا وأغبى ومحدودى القدرة وليّنى العظم، فتمكن منهم الصليبيون بسهولة وسرعة، لدرجة استعادة كل المدن والممالك التى أخذها منهم العرب فى وجود يوسف بن أيوب، ووصل الأمر لاستعادة القدس نفسها بعد أقل من 40 سنة.

لماذا نقدس "صلاح الدين" ولا نضعه فى موقعه الطبيعى ضمن سياق التاريخ؟

الخلاصة من كل ما مر، أن يوسف بن أيوب كان رجل دنيا وسياسة، ولم يكن صلاحا للدين ولا حتى صلاحا للدنيا، دخل مضمار السياسة ولعب لعبتها بقانونها، ولا يعلو فى هذا على أى سياسى شبيه فى العصور الوسطى التى عاشها، ووضعه فى موضع الملائكية "مُضر كوضع السيف فى موضع الندى"، باجتزاء حميد عن المتنبى، الرجل تلاعب بنور الدين زنكى وخان عهده، وتلاعب بالخليفة الفاطمى العاضد وخان ثقته، قتل آلاف المصريين من الشيعة والسنة، فصل رجال الشيعة عن نسائهم لقطع النسل، واستعبد المصريين فى بلدهم، وصلب الناس على أبواب منازلهم وعلى جذوع الأشجار، حرق المكتبات والكتب وهدم البيوت والقصور، ونهب ممتلكات الأمراء والأفراد فى مصر واليمن والشام وغيرها، وهدم عشرات الأهرامات الصغيرة وسرق حجارتها ليبنى قلعته القائمة حتى الآن، وأذّل ابن سيده نور الدين زنكى، وتزوج أرملته رغم إرادتها، ووالى الصليبيين وعقد معهم اتفاقات ومصالحات تصب فى صالحه ولا تصب فى صالح الدولة، وألّب القوى العربية على بعضها كما فعل فى العراق مع أخوال وأعمام "العادل" ابن نور الدين زنكى، ووزّع أراضى المسلمين ومدنهم على أولاده وإخوته، وقرّب اليهود والخصيان ومنحهم الولاية على مصائر الناس والمكاسب التى لا آخر لها، وسمح لليهود بدخول القدس والإقامة والتملّك فيها لأول مرة منذ العهدة العمرية، وكان يقتل الأسرى كما روى العماد الأصفهانى وابن الأثير فى أكثر من موقف له مع أسرى بالشام.

الشيعة يصلون بالأمر لتكفيره واعتباره شيطانا من أسوأ شياطين التاريخ، وهذا أمر مرفوض ويتجاوز الأدب، الإيزيديون والمندائيون يعتبرونه سفاحا ومجرم حرب وشخصا ملعونا، وهذا أمر مرفوض ويتجاوز الأدب أيضا، اليهود يعتبرونه بطلا وداعما لمشروعهم، والموسوعة اليهودية تضعه على قدم المساواة مع موسى بن ميمون، أعظم يهودى فى اعتقادهم منذ النبى موسى، وهذا مرفوض وخسيس كعادة الصهاينة، وكثيرون من معارضيه يعتبرونه السبب المباشر فى ضياع فلسطين وسيطرة اليهود عليها تماما فى أوقات لاحقة، وفى هذا تزيد وسخف وتنطع يُحمّل الرجل أكثر مما يحتمل، ويوسف زيدان يعتبره من أحقر البشر فى التاريخ، وهذا مرفوض بالطبع أيضا، والسنة المتطرفون والجهلة بالتاريخ والصائمون عن القراءة وعديمو المعرفة يعتبرونه ملاكا وبطلا قوميا مغوارا ولم يسبقه أو يدانيه شخص، وهذا الرأى مرفوض كسابقيه تماما، وإن اختلفت الرؤى، يوسف بن أيوب سياسى وقائد عسكرى وحاكم، ربما كان سيئا فى كل هذا، وقاتلا وسفاك دم، ومغتصب سلطة، وصديقا للأعداء وعدوا للأصدقاء، ولكنه سياسى وحسب، ليس شيطانا ولا ملاكا، ليس حقيرا ولا مقدسا، فلا تقدسوه ولا ترفعوه لمصاف الآلهة، كى لا يُنزله ناقدوه لمنازل الشياطين، وبينه والانغماس فيها خطوة أو "قولة حق".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق