جورج طرابيشي
http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=80659&r=0
2006 / 11 / 12
[1]
برغم أن جوهر الحدث الذي شهده المعسكر الاشتراكي السابق هو بطبيعته سياسي، فإن المثقف، أكثر من السياسي، يبدو هو المعني به في المقام الأول. فالمثقف، ذلك العالم بالكليّات وفق التعريف الأرسطي، يجد نفسه إزاء ما حدث مكرهاً على معاودة طرح الأسئلة الكبرى بعدما كان بدا، في العقود الماضية، أن وظيفته قد تقلصت إلى مستوى الأسئلة الصغرى، هذا إن لم تكن قد قسرت على الانحداد بإطار إجرائي صرف.
وبديهي أن هذا التجدّد للطلب على المثقف، من حيث هو القيّم على الوظيفة الشمولية، كان ممكناً أن يكون مصدر إشباع نرجسي له لولا أن سقوط المعسكر الاشتراكي هو، في جذره الأول، سقوط لأكبر مشروع تاريخي قيّض للمثقفين يوماً، من حيث هم طبقة، أن يصمموه.
برغم أن جوهر الحدث الذي شهده المعسكر الاشتراكي السابق هو بطبيعته سياسي، فإن المثقف، أكثر من السياسي، يبدو هو المعني به في المقام الأول. فالمثقف، ذلك العالم بالكليّات وفق التعريف الأرسطي، يجد نفسه إزاء ما حدث مكرهاً على معاودة طرح الأسئلة الكبرى بعدما كان بدا، في العقود الماضية، أن وظيفته قد تقلصت إلى مستوى الأسئلة الصغرى، هذا إن لم تكن قد قسرت على الانحداد بإطار إجرائي صرف.
وبديهي أن هذا التجدّد للطلب على المثقف، من حيث هو القيّم على الوظيفة الشمولية، كان ممكناً أن يكون مصدر إشباع نرجسي له لولا أن سقوط المعسكر الاشتراكي هو، في جذره الأول، سقوط لأكبر مشروع تاريخي قيّض للمثقفين يوماً، من حيث هم طبقة، أن يصمموه.
وبالفعل، وبرغم جميع
الدعاوى العمالية النزعة للاشتراكية، فإن هذه النظرية -وذلك هو تعريفها الحقيقي-
كانت من إنتاج طبقة المثقفين، أو بالأحرى من إنتاج شريحة أساسية من هذه الطبقة
إفترضت نفسها طليعة لها.
وليس يهمّ هنا التمييز بين
التيارات والاتجاهات داخل الاشتراكية، بل ليس يهمّ ذلك الانقسام الكبير الذي شهدته
النظرية الاشتراكية عندما إنفصل الرأس المتقدم منها عن باقي أعضاء الجسد واحتكر
لنفسه تسمية ((الاشتراكية العلمية)) تمييزاً له وتعالياً على ((الاشتراكية
الطوباوية)). فالماركسية بانضوائها تحت علموية القرن التاسع عشر وبافتراضها نفسها
نظرية علمية للجدلية التاريخية والاجتماعية، وحتى الطبيعية، لم تفعل غير أن تؤكد
دور المثقف في التاريخ وأن ترفعه إلى مرتبة لم يسبق له أن إرتقى إليها. وحتى عندما
صاغت الماركسية معادلة دكتاتورية البروليتاريا، فإن ما كان يختفي وراء وهم هذه
الدكتاتورية هو في الواقع دكتاتورية الانتلجنسيا نفسها.
ولا يكفينا هنا الاحتجاج
بأن كبار الرؤوس في الماركسية بدءاً بماركس وأنجلز نفسهما، ومروراً بلينين
وتروتسكي وروزا لوكسمبورغ ولابريولا ولوكاش وغرامشي ومئات الآخرين، كانوا من
المثقفين. بل حتى العمال، الذين أنيطت بطبقتهم مهمة قيادة التاريخ، ما كانوا
يتبوّأون مكانتهم في قيادة الحركة الاشتراكية إلا بقدر ما يكفّون عن أن يكونوا
عمالاً ليصيروا بدورهم مثقفين، بدءاً بستالين نفسه ومروراً بكبار رموز قادة الطبقة
العمالية -أو الفلاحية- من أمثال ماوتسي تونغ وكيم إيل سونغ وبريجنيف وتشاوشسكو
وهونيكر وجفكوف وتولياتي وتوريز وجورج مارشيه. وعلى هذا النحو، فقد ناب مناب
العامل -أو الفلاح- مفهوم العامل. ودكتاتورية المفهوم هذه، مقترنة بعبادة الفرد
الذي يتجسّد فيه المفهوم، هي التي إستتبعت، على صعيد فلسفة التاريخ والمجتمع، رؤية
أيديولوجية تستهين بالحياة والشخص الإنساني، أو ما كان كوستاس بابايانو سمّاه
((الأيديولوجيا الباردة)) التي تمارس، بروح تقنية عالية ومحايدة، لاهوت إذلال
الكائن البشري إعتقالاً وتعذيباً، وغسلاً للدماغ، وقتلاً وإبادة جماعية على نحو
تبدو معه تقاليد القرون الوسطى في هذا المجال بدائية جداً وساذجة.
والقسوة التي أمست على هذا
النحو عنواناً للحكم الماركسي، من حيث هو حكم مثقفين، لا تبدو عصيّة على التفسير،
وما ذلك لأن المثقف بطبيعته قاسِ، بل لأن الوظيفة التي أنيطت به على مرّ عصور
التاريخ هي تمثيل الوجدان البشري والدفاع عن مبادئه وقيمه ومصالحه. ولكن إذا كان
المثقف هو، على هذا النحو، وجدان الحاكم، فمن يكون وجدان المثقف عندما يصير هو
نفسه حاكماً؟ وبعبارة أخرى، إن الدكتاتورية التي مورست باسم المثال الماركسي هي،
في أحد معيّناتها، نتيجة اجتماع الحاكم والمثقف في شخص واحد، ومن ثم توحّد السلطة
والوجدان.
وهنا تفرض المقارنة مع القرون الوسطى نفسها مرة ثانية. فقد شهد التاريخ البشري، من خلال محاكم التفتيش، مرحلة قاسية. وقد كان مرد ذلك إلى اضطلاع المثقف، من خلال موظفي اللاهوت في ذلك العصر، بدور قاضي التحقيق والجلاد في خدمة السلطة التي كانت آنذاك تجسّد اندماج الدولة (الغائبة) والكنيسة. وهذا الإلغاء للمسافة التي ينبغي أن تبقى قائمة بين السلطان والمثقف، بين الدولة وعقلها النقدي، بين الحاكم والوجدان، هو ما يجعل السادية البشرية تنطلق من عقالها وتسطّر صفحات مرعبة في سجل قسوة الإنسان على الإنسان.
وهنا تفرض المقارنة مع القرون الوسطى نفسها مرة ثانية. فقد شهد التاريخ البشري، من خلال محاكم التفتيش، مرحلة قاسية. وقد كان مرد ذلك إلى اضطلاع المثقف، من خلال موظفي اللاهوت في ذلك العصر، بدور قاضي التحقيق والجلاد في خدمة السلطة التي كانت آنذاك تجسّد اندماج الدولة (الغائبة) والكنيسة. وهذا الإلغاء للمسافة التي ينبغي أن تبقى قائمة بين السلطان والمثقف، بين الدولة وعقلها النقدي، بين الحاكم والوجدان، هو ما يجعل السادية البشرية تنطلق من عقالها وتسطّر صفحات مرعبة في سجل قسوة الإنسان على الإنسان.
آية ذلك أن المثقف،
بالتعبير المجازي المعروف، هو ملح السلطة. فإن فسد الملح، فبماذا يملح؟ وبتعبير
مرادف، إن المثقف هو الناطق بلسان المثال. والمثال يستمدّ فعاليته وأخلاقيته معاً
من تعاليه على الواقع ومن كونه ضابطاً لهذا الواقع، فما الضابط الذي يمكن أن
يضبطه؟
إن وظيفة المثقفين هي إنتاج
اليوطوبيا. ولكن يوطوبيا المثقفين يجب أن تبقى يوطوبيا. والخطيئة الأصلية والمميتة
لليوطوبيا الماركسية أنها أرادت نفسها من الأساس واقعاً، بل ميّزت نفسها عن كل
يوطوبيا أخرى بافتراضها نفسها ((واقعية)) و ((علمية))، ودمغت بازدراء سائر
اليوطوبيات المتقدمة عليها بأن قدرها أن تبقى ((طوباوية)). والحال أن أية يوطوبيا،
سواء أكانت هي جمهورية أفلاطون أم مدينة الفارابي الفاضلة أم يوطوبيا توماس مور،
ما كانت لتكون في الممارسة أقل قسوة وعنفاً من اليوطوبيا الماركسية لو قيّض لها أن
تشق طريقها إلى حيّز التطبيق العملي. آية ذلك أن اليوطوبيا، مثلها مثل القنبلة
الذرية، ما وجدت ولا يجوز لها أن توجد إلا لكيلا تستعمل. فكما أن أذى القنبلة
الذرية الكلي أشد بما لا يقاس من أي أذى جزئي قد يراد تلافيه عن طريق استعمالها،
كذلك فإن الشر الذي يتمخّض عنه تطبيق اليوطوبيا، بصورة حتمية، هو أكبر بما لايقاس
من أي شر يراد ازالته من الوجود عن طريق إخراجها هي نفسها إالى حيّز الوجود.
فليس أجمل وليس أكثر مثالية
من اليوطوبيا ما دامت يوطوبيا. ولكن هذا الكائن الخيالي النبيل والمثالي سيتكشّف،
في حال خروجه من معمل الخيال إلى مختبر الحياة والواقع، أنه صنو لمخلوق
فرانكشتاين.
وبرغم الخيبة والمرارة،
وبرغم الدموع والدماء، وبرغم المأساوية التي تواكب بالضرورة سقوط أي مثال وأية
يوطوبيا، فإنه يبقى في كل ما حدث عزاء للمثقف. فإن تكن الأنتلجسيا، أو ما كان
شريحتها المتقدمة، هي المسؤولة عن خلق ذلك الكائن الفرانكشتايني الذي اسمه الدولة
الشيوعية، فإنما إليها يعود الفضل أيضاً، وإلى مدى كبير في كشف ذلك الكائن، وفي
تفكيكه وترقين قيده من خانة الوجود.
[2]
بعد اليوطوبيا يأتي سؤال الأيديولوجيا.
[2]
بعد اليوطوبيا يأتي سؤال الأيديولوجيا.
فالأيديولوجيا هي يوطوبيا
المثقفين، ولكن بعد أن تكون قد استحوذت عليها الجماهير ومنحتها القوة المادية التي
للملايين.
وقد مثلت الماركسية، بلا
أدنى مراء، واحدة من أقوى الأيديولوجيات وأكثرها حيوية على مرّ التاريخ المكتوب.
وقد كادت تتحول بالنسبة إلى ملايين وملايين البشر في التاريخ الحديث والمعاصر إلى
دين بديل (1). ومن الصعب أن يقطع المرء هل يعود سبب هذه الجماهيرية الواسعة إلى
قوة الماركسية في ذاتها، إلى صدقها النظري وقدرتها التعبوية معاً، أم إلى يأس
الجماهير من نظام العالم الذي هو النظام الرأسمالي؟ وأياً يكن السبب، فقد مثلت
الماركسية إحدى أكبر محاولتين في التاريخ الحديث للخروج من مدار هذا النظام بقوة
العنف المعمّد باسم الثورة.
أما المحاولة الثانية، التي أخذ عنفها شكلاً إنقلابياً بالأحرى، فقد تمثلت تاريخياً بالنازية. وبديهي أننا نظلم الماركسية كثيراً عندما نضاهي بينها وبين النازية. ولكن مثل هذه المضاهاة التي قد تكون مرفوضة أخلاقياً، تبقى صحيحة سوسيولوجياً. فالنازية مثّلت محاولة للخروج على النظام من يمينه لا تقلّ خطورة وجدية عن تلك التي مثّلتها الماركسية للخروج عليه من يساره. فكلتا الأيديولوجيتان أرادت نفسها تجاوزاً للنظام الرأسمالي وحرقاً لبعض مراحله. فالنازية أرادت الانتقال الفوري إلى مرحلة الامبريالية من النظام الرأسمالي وقطف ثمارها بدون المرور بجميع المراحل التاريخية لهذا النظام. والماركسية شاءت بدورها قطف ثمار هذا النظام قفزاً فوق العديد من مراحله وبالانتقال الفوري إلى مرحلة ما بعد الرأسمالية. وقد اضطر النظام الرأسمالي العالمي - ولنلاحظ هنا أنه في ظل الرأسمالية فحسب صار للعالم نظام عالمي- إلى أن يخوض ضد هاتين المحاولتين اللتين تهدّدتاه في صميم وجوده حربين بالغتي الضراوة: فضدّ النازية خاض غمار الحرب العالمية الثانية التي كانت بدورها أعنف حرب ساخنة في التاريخ، وضد الماركسية شن الحرب الباردة التي كانت أعنف حرب أيديولوجية قيّض للتاريخ البشري أن يعرفها. ولئن خرج النظام الرأسمالي من كلتا الحربين منتصراً، فإنه يصعب على المرء ههنا أيضاً أن يقطع هل يعود السبب في ذلك إلى قوة هذا النظام أم إلى ضعف مباطن في النظامين اللذين شيّدتهما تانك الأيديولوجيتان؟ ولكن مهما يكن من أمر، فإن المراقب السوسيولوجي لا يملك إلا أن يلاحظ أن الأيديولوجيتين كلتيهما قد خاضتا حربهما ضد النظام الرأسمالي العالمي من خلال المصادرة على ما سمّيتاه أزمته العامة. فالنازية صادرت على انحطاط النظام الرأسمالي مثلما صادرت الماركسية على اختناقه أو انفجار تناقضاته.
ولا يملك أحد أن يماري أن النظام الرأسمالي عرف ويعرف أزمات دورية وغير دورية. ولكن ما وقفت النازية والماركسية عاجزتين عن فهمه هو أن ((الأزمة)) آلية أساسية من آليات اشتغال النظام الرأسمالي، وأنها له بمثابة العتلة أو المقفز الذي يفيد في التراجع خطوتين إلى الخلف للقفز ثلاثاً إلى الأمام. فعن طريق ((الأزمة)) استطاع النظام الرأسمالي أن يتجاوز أزماته، وأن يصحح موازينه واختلالاته. وليس هذا مديحاً للنظام الرأسمالي بقدر ما هو تحذير من النبوءات الكاذبة التي تظلّ سوقها رائجة حتى ما بعد سقوط الماركسية.
أما المحاولة الثانية، التي أخذ عنفها شكلاً إنقلابياً بالأحرى، فقد تمثلت تاريخياً بالنازية. وبديهي أننا نظلم الماركسية كثيراً عندما نضاهي بينها وبين النازية. ولكن مثل هذه المضاهاة التي قد تكون مرفوضة أخلاقياً، تبقى صحيحة سوسيولوجياً. فالنازية مثّلت محاولة للخروج على النظام من يمينه لا تقلّ خطورة وجدية عن تلك التي مثّلتها الماركسية للخروج عليه من يساره. فكلتا الأيديولوجيتان أرادت نفسها تجاوزاً للنظام الرأسمالي وحرقاً لبعض مراحله. فالنازية أرادت الانتقال الفوري إلى مرحلة الامبريالية من النظام الرأسمالي وقطف ثمارها بدون المرور بجميع المراحل التاريخية لهذا النظام. والماركسية شاءت بدورها قطف ثمار هذا النظام قفزاً فوق العديد من مراحله وبالانتقال الفوري إلى مرحلة ما بعد الرأسمالية. وقد اضطر النظام الرأسمالي العالمي - ولنلاحظ هنا أنه في ظل الرأسمالية فحسب صار للعالم نظام عالمي- إلى أن يخوض ضد هاتين المحاولتين اللتين تهدّدتاه في صميم وجوده حربين بالغتي الضراوة: فضدّ النازية خاض غمار الحرب العالمية الثانية التي كانت بدورها أعنف حرب ساخنة في التاريخ، وضد الماركسية شن الحرب الباردة التي كانت أعنف حرب أيديولوجية قيّض للتاريخ البشري أن يعرفها. ولئن خرج النظام الرأسمالي من كلتا الحربين منتصراً، فإنه يصعب على المرء ههنا أيضاً أن يقطع هل يعود السبب في ذلك إلى قوة هذا النظام أم إلى ضعف مباطن في النظامين اللذين شيّدتهما تانك الأيديولوجيتان؟ ولكن مهما يكن من أمر، فإن المراقب السوسيولوجي لا يملك إلا أن يلاحظ أن الأيديولوجيتين كلتيهما قد خاضتا حربهما ضد النظام الرأسمالي العالمي من خلال المصادرة على ما سمّيتاه أزمته العامة. فالنازية صادرت على انحطاط النظام الرأسمالي مثلما صادرت الماركسية على اختناقه أو انفجار تناقضاته.
ولا يملك أحد أن يماري أن النظام الرأسمالي عرف ويعرف أزمات دورية وغير دورية. ولكن ما وقفت النازية والماركسية عاجزتين عن فهمه هو أن ((الأزمة)) آلية أساسية من آليات اشتغال النظام الرأسمالي، وأنها له بمثابة العتلة أو المقفز الذي يفيد في التراجع خطوتين إلى الخلف للقفز ثلاثاً إلى الأمام. فعن طريق ((الأزمة)) استطاع النظام الرأسمالي أن يتجاوز أزماته، وأن يصحح موازينه واختلالاته. وليس هذا مديحاً للنظام الرأسمالي بقدر ما هو تحذير من النبوءات الكاذبة التي تظلّ سوقها رائجة حتى ما بعد سقوط الماركسية.
والواقع أنه إن يكن من أزمة
يعانيها النظام الرأسمالي العالمي، فليست هي أزمة الخروج منه، بل أزمة الدخول
إليه. آية ذلك أن أربعة أخماس العالم، وتحديداً بلدان العالم الثالث، لا تزال تعيش
على هامش النظام، والمسافة بينها وبين مراكزه تتسع بدل أن تضيق.
وبمعنى من المعاني، فإن
النظام الرأسمالي الذي وحّد للمرة الأولى في التاريخ العالم، يحمل معه لعنته: وهي
قسمة هذا العالم نفسه إلى متروبولات ومستعمرات بالأمس، وإلى مراكز وأطراف اليوم.
وفي الوقت الذي سُدّت فيه، مع سقوط الماركسية، آفاق الخروج على النظام واحتمالات
الاهتداء إلى دروب تطور بديلة، فإن آفاق الدخول إلى قلب النظام تبدو هي الأخرى
مسدودة أمام أربعة أخماس البشرية التي جرّها النظام، بإرادتها أو بغير إرادتها،
إلى مداره، وجردها أو لم يوفر لها الوسائل والقدرات لمواصلة الاندفاع باتجاه مركز
الدائرة (2).
وإذ يشحذ النظام الرأسمالي
على هذا النحو طموحات البشرية إلى الاندفاع فيه بدون أن يتيح الإمكانات لتلبية هذه
الطموحات على المستوى العالمي، فإنه يضع نفسه على برميل بارود يهدد بانفجار أحقاد
وصراعات طبقية على مستوى الكرة الأرضية أشد ضراوة وعنفاً بما لا يقاس من تلك
الأحقاد والصراعات الطبقية التي دارت ولا تزال تدور بين أغنياء النظام وفقرائه في
نقاط المركز منه.
ولئن ثبت، من خلال هزيمة
النازية وفشل الماركسية، بطلان الأوهام الأيديولوجية القائلة بإمكانية الخروج عليه
بالعنف أو بالثورة، بل لئن ثبت، من خلال التجربتين النازية والماركسية، أن الشرور
التي تترتّب على محاولة الخروج على النظام أدهى وأرهب من تلك التي تنتج عن البقاء
في مداره، فإن هذا لا يعني أن إغراءات القطيعة مع النظام قد دُفنت إلى الأبد. والواقع
أنه عندما تبدو المشاركة في مائدة الحضارة الرأسمالية مستحيلة، فإن الهمجية قد
تستعيد حقوقها. وما دام النظام الرأسمالي العالمي يحمل معه لعنة قسمة العالم إلى
مراكز وأطراف، إلى شمال وجنوب، إلى بلدان متقدمة وأخرى متأخّرة، وما دامت إمكانية
الخروج على النظام قد سقطت، فإن الباب الوحيد الذي يبقى مفتوحاً، من وجهة نظر
أيديولوجية على الأقل، هو الخروج الهمجي على النظام. وذلك هو، في أحد معيّناته، سر
ذلك الرواج الذي تعرفه اليوم الأيديولوجية الدينية في محيط النظام وهوامشه، وهي
الأيديولوجيا التي تقوم في جوهرها، لا على التجديد الروحي للإنسان، بل على القطيعة
الحضارية؛ لا القطيعة مع روح الحضارة فحسب، بل القطيعة مع روح الدين نفسه من حيث
إن الدين مثّل في الأصل، ولا يزال يمثّل إلى حد غير قليل، نداء إلى القطيعة مع
الهمجية.
[3]
ماذا يمكن أن يكون دور المثقف في الوضعية التاريخية الناشئة بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، بل بعد سقوط الماركسية نفسها؟
[3]
ماذا يمكن أن يكون دور المثقف في الوضعية التاريخية الناشئة بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، بل بعد سقوط الماركسية نفسها؟
باختصار شديد نستطيع هنا أن
نميّز بين دور المثقف في مركز النظام ودوره في هوامشه.
ففي مركز النظام، ومع تلاشي ((الخطر الأحمر))، زالت مبررات الموقف الدفاعي، أو ((اليميني- كما يقال، الذي التزمته السواد الأعظم من الأنتلجنسيا ((الغربية)) في مواجهة الأيديولوجيا ((الهدامة)) الآتية من المعسكر الشرقي))، وأمست الشروط مهيأة لاستعادة الأنتلجنسيا لوظيفتها النقدية في ظل نظام لا يلبّي، برغم جميع إنجازاته، متطلبات المثالية الإنسانية.
ففي مركز النظام، ومع تلاشي ((الخطر الأحمر))، زالت مبررات الموقف الدفاعي، أو ((اليميني- كما يقال، الذي التزمته السواد الأعظم من الأنتلجنسيا ((الغربية)) في مواجهة الأيديولوجيا ((الهدامة)) الآتية من المعسكر الشرقي))، وأمست الشروط مهيأة لاستعادة الأنتلجنسيا لوظيفتها النقدية في ظل نظام لا يلبّي، برغم جميع إنجازاته، متطلبات المثالية الإنسانية.
أما مثقف الهامش- وليكن
نموذجه المثقف العربي- فهو مطالب قبل كل شيء، باستعادة وظيفته النقدية إزاء نفسه.
فعلى هذا المثقف أن ينزع عن
بصره وبصيرته غشاوة الأيديولوجيا، وأن يحرر نفسه من الصيغ الجاهزة والمفاهيم
المتآكلة، وأن يضع ذاته من جديد في مدرسة الواقع والحقيقة. وكذلك، وعلى الأخص، في
مدرسة المعرفة. فالمسافة المعرفية التي تفصل مثقف الهامش، ممثلاً بالمثقف العربي،
عن مثقف المركز، باتت لا تقلّ شساعة عن المسافة الاقتصادية والتكنلوجية التي تفصل
البلدان المتخلفة عن البلدان المتقدمة.
والمثقف العربي، الذي طالما طاب له أن يتصوّر نفسه سابقاً مجتمعه، والذي طالما طاب له أن يتصور أن مهمته التاريخية هي على وجه التحديد أن يتقدم مجتمعه لينير له ((أقوم المسالك)) إلى التقدم، هو اليوم مسبوق ومفوّت في مجال اختصاصه بالذات، أي في الثقافة.
والمثقف العربي، الذي طالما طاب له أن يتصوّر نفسه سابقاً مجتمعه، والذي طالما طاب له أن يتصور أن مهمته التاريخية هي على وجه التحديد أن يتقدم مجتمعه لينير له ((أقوم المسالك)) إلى التقدم، هو اليوم مسبوق ومفوّت في مجال اختصاصه بالذات، أي في الثقافة.
ونحن إذ نطالب المثقف
العربي بمراجعة مؤلمة للذات، ولجهاز مفاهيمه الذي بات بالياً، فإننا لا نقصد
المثقف الماركسي فحسب، ولا المثقف اليساري أو التقدمي عموماً، بل كذلك المثقف
المعادي للماركسية الذي يبدو اليوم هلعاً لسقوط الماركسية أكثر من المثقف الماركسي
نفسه. ولا غرو، فقد كان جعل من نقد الماركسية ونقضها شغله الشاغل. وها هوذا الآن
يكتشف أن كل ((الرسالة التاريخية)) التي أناطها بنفسه لم تعد ذات موضوع، فكأنه دون
كيخوت وقد اكتشف أن لا وجود حتى لطواحين الهواء.
إن أحد الثديين اللذين ترضع منهما الأيديولوجيا العربية المعاصرة قد جفّ: النص الماركسي. وبديهي أن الإغراء كبير في التحول نحو الثدي الآخر: النص السلفي. فمن اعتاد حليب النص يصعب عليه أن يفطم نفسه عنه. ولكن قد تكون الفرصة مؤاتية أيضاً لكي ينعتق المثقف العربي نهائياً من أسر النص، ولكي ينفض عنه ثوب العقلية النصية، ولكي ينصرف أخيراً إلى ممارسة وظيفته الحقيقية التي هي التفكير.
التفكير انطلاقاً، لا من النص، بل من الواقع. إذ ما دام المفكر يفكر في أن الحقيقة محتواة سلفاً في نص، فإنه يكون قد ألغى سلفاً أيضاً الفكر والتفكير، بل يكون قد ألغى نفسه كمفكر.
إن أحد الثديين اللذين ترضع منهما الأيديولوجيا العربية المعاصرة قد جفّ: النص الماركسي. وبديهي أن الإغراء كبير في التحول نحو الثدي الآخر: النص السلفي. فمن اعتاد حليب النص يصعب عليه أن يفطم نفسه عنه. ولكن قد تكون الفرصة مؤاتية أيضاً لكي ينعتق المثقف العربي نهائياً من أسر النص، ولكي ينفض عنه ثوب العقلية النصية، ولكي ينصرف أخيراً إلى ممارسة وظيفته الحقيقية التي هي التفكير.
التفكير انطلاقاً، لا من النص، بل من الواقع. إذ ما دام المفكر يفكر في أن الحقيقة محتواة سلفاً في نص، فإنه يكون قد ألغى سلفاً أيضاً الفكر والتفكير، بل يكون قد ألغى نفسه كمفكر.
وصحيح أن الواقع العربي
سيبدو، وقد انكشف عنه غطاؤه النظري، بائساً بؤساً شديداً، ولكن ألا تبقى
الأيديولوجيا العربية أشد بؤساً حتى من هذا الواقع ما دامت كل وظيفتها أن تغطيه
وتستر بؤسه؟
الهامش:
-----
1) الواقع أن الماركسية، قبل أن تتحول إلى ديانة جماهيرية، كانت ديناً للمثقفين. فقد كان لها في نظرهم، بكل ما في الكلمة من معنى، أنبياؤها: ماركس وأنجلس ولينين. وما حدث قط في التاريخ أن قدّست الانتلجسيا نصاً كما قدست النص الماركسي- اللينيني. ولم يحدث قط أن قدمت الطبقة المثقفة شهداء في سبيل نص مقدس كما قدمت الانتلجسيا المتمركسة. والمفارقة أن الطبقة المثقفة دفعت ثمناً غالياً لديانتها الماركسية ليس في دار الكفر الرأسمالية فحسب، بل كذلك في دار الإيمان الاشتراكية. فليس من أيديولوجيا اضطهدت منتجيها وحراس عقيدتها من المثقفين كما فعلت الماركسية في كل مكان أمكنها فيه أن تغدو ديانة رسمية للدولة.
2) والحال أن العولمة، من حيث هي مرحلة عليا جديدة في تطور النظام الرأسمالي، أحدثت في سوره ثغرة تمكنت من خلالها التنانين الصغيرة في جنوب شرق آسيا، وتبعها العملاق الصيني، من تكرار ((المعجزة اليابانية))، أي الدخول إلى النظام الرأسمالي المركزي العالمي من محيطه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق