الجمعة، 14 ديسمبر 2018

الشيوعية المصرية

سمير أمين

عندما توجهت لباريس في عام 1947، لم أكن أعرف شيئاً عن المنظمات الشيوعية المصرية، أو تاريخها. ولم أتعرف عليها إلا من بعض أعضاء حدتو الذين طردوا من مصر، وانتقلوا إلى فرنسا منذ 1947، أو 1948، وخاصة يوسف حزان وشقيقته ميمي، وأندريه بيريسي، وآخرين. ولم ألبث أن سمعت وجهة نظر أخرى تنتقد حدتو من إسماعيل، ومصطفى صفوان، وريمون أجيون، الذين قابلتهم في دورية "الشرق الأوسط" التي تحدثت عنها أعلاه. وبالتدريج مِلت إلى وجهة النظر التي تنتقد حدتو، وعندما تقرر إنشاء حزب جديد، هو الحزب الشيوعي المصري، الذي عرف باسم صحيفته وهي "راية الشعب"، قررت الانضمام لهذا الحزب. وقد انضممت للحزب رسمياً في عام 1952، وكما قلت من قبل، كنت أقوم ببعض المهام لهذا الحزب في باريس حلال الفترة من 1952، وحتى 1957. فكنت أتلقى تقارير الحزب التي تحلل الأوضاع، وأقوم بترجمتها للفرنسية تمهيداً لنقاها للحزب الشيوعي الفرنسي، وعن طريق ريمون أجيون عادة، للحزب الشيوعي الإيطالي. وعند مرور فؤاد مرسي بباريس (ولا أذكر التاريخ بالضبط)، ترك لي رزمة من مطبوعات الحزب الشيوعي المصري، وحدتو، وطلب مني إعداد تقرير يقارن بين آراء التنظيمين بما يتمشى مع وجهة نظر الحزب. وقد قمت بهذه المهمة بأسلوب جدلي رصين أعجب فؤاد، وهكذا تبنت قيادة الحزب هذا التقرير. وقد سلمت جميع هذه الوثائق (مجلات ومنشورات الحزب الشيوعي المصري، وحدتو) إلى لجنة توثيق الحركة الشيوعية المصرية، كما أرسلت نسخة منها لمعهد التاريخ الاجتماعي بأمستردام، الذي يقوم بجمع كل ما يتعلق بتاريخ الحركات العمالية والاشتراكية في العالم أجمع.
وقد تعرفت بعد ذلك، على الكثير من قدامى المناضلين في الحركة الشيوعية المصرية، والكثير ممن بقيوا منهم على قيد الحياة، موجودون حالياً في حزب التجمع (حزب اليسار المصري الذي يرأسه حالياً رفعت السعيد، ورئيسه الشرفي خالد محيي الدين). وقد نُشرت كتب كثيرة عن تاريخ الحزب الشيوعي، منها كتب رفعت السعيد (وهو من أعضاء حدتو)، وكذلك ذكريات عدد من الأعضاء القدامى مثل شريف حتاتة، وديدار فوزي، وغيرهما، وكذلك مقابلات وتسجيلات لذكريات. وفي رأيي أن هذا التاريخ لم يكتب بعد. وذلك لا لمجرد أن أغلب هذه الشهادات متحيزة، بشكل صارخ في بعض الحالات، للأصول التي ينتمي إليها أصحابها، وهو أمر مفهوم بالطبع، بل ومقبول، ولكن لأن أصحابها لم يهتموا بإعادة قراءة هذا التاريخ بروح انتقادية (وبالتالي بروح النقد الذاتي)، وفي ضوء مرور الزمن القيام بتحليل موضوعي غير متحيز للرؤى والاستراتيجيات الصريحة أو الضمنية، للمجتمع المصري، بل والاتحاد السوفييتي. ويلفت نظري أنه لا يوجد تقريباً في هذه الشهادات شيء يخص الاتحاد السوفييتي، فهو يبقى الفردوس البعيد للاشتراكية، ولا يهتم أحد بمشاكله. وينطبق هذا بشكل أكبر على الصين، والماوية التي تكاد تكون مجهولة. وقد لاحظت أن "الخطاب ذو الخمس وعشرين نقطة" الذي وجهه الحزب الشيوعي الصيني للحزب الشيوعي السوفييتي (1963)، وكذلك الجدل الذي صاحب صياغة الاستراتيجية الماوية "لنظرية العوالم الثلاثة"، والتي اختُصِرت – على الطريقة الصينية المعتادة – في المقولة: "الدول تطلب الاستقلال، والأمم تطلب التحرر، والشعوب تريد الثورة"، التي تنادي بالتعبير عن قضايا السلطة، والثقافة، وصراع الطبقات، بشكل جديد يختلف عن أسس الثورة الثقافية ("البرجوازية ليست خارج الحزب، بل هي داخله")، تبقى جميعاً مجهولة للشيوعيين المصريين والعرب، أو معروفة بشكل عمومي، وعن طريق التشويه – إن لم يكن التزوير – الذي تفننت فيه الدعاية السوفييتية.
ولا أنوي هنا أن أجتزئ أو أفسد كتابة هذا التاريخ، والذي آمل أن يحظى بجهد جاد لكتابته (وأفضل وضع هو أن يقوم عليه فريق من المؤرخين الأكفاء)، ولا أن أتابع المجادلات الماضية، رغم أن البعض من القدامى لا يتصورون التوقف عن ذلك. وأكتفي هنا بالقول إن هذا التاريخ في مجموعه، كان مجيداً، وأن من شاركوا فيه كانت أغلبيتهم الساحقة من أفضل أبناء مصر، والأكثر إحساساً بمأساتها، والأكثر شجاعة في النضال لمواجهة هذه المآسي. وهذا لا يستبعد أن البعض منهم أخطئوا هنا أو هناك، أو أنهم جميعاً قد أخطئوا، بمعنى أن الحركة في مجموعها ارتكبت أخطاءً. أو على الأقل، أن الآراء تأخذ في حسبانها اليوم، ما حدث من تطورات تاريخية.
لذلك سأكتفي هنا بذكر القضايا الرئيسية التي واجهت الحركة الشيوعية (القضية الفلسطينية، وقضية الوحدة العربية، وقضية علاقتها بالمشروع الناصري)، لأوضح وجهة نظري اليوم بشأن موقفها من هذه القضايا، وخاصة القصور في هذه المواقف.
لقد كانت القضية الفلسطينية مصدر انشغال رئيسي ودائم لنا. وقد أثار موقف الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1947، بقبول تقسيم فلسطين، والذي أيدته جميع الأحزاب الشيوعية في حينه، بما فيها الأحزاب الشيوعية العربية، محلاً للكثير من المناقشات والصراعات. كذلك أثارت، فيما بعد، الكثير من النقد الذاتي، المخلص بلا شك، ولكنني لا أجد لهذا النقد الذاتي ما يكفي من المبررات، أو حتى الحجج. لقد أدانت الدولية الثالثة، والحركات الشيوعية المصرية والعربية، بحق الصهيونية، التي رأت فيها باستمرار، لا مجرد كونها حركة قومية عنصرية، وإنما أنها تخلق مستعمرة في فلسطين تنكر حق الوجود نفسه لسكان البلاد "الأصليين" من الفلسطينيين. ومن حق الحركة الشيوعية المصرية اليوم، أن تفخر بأنها منذ الأربعينيات من القرن الماضي، دعمت التيار المعادي للصهيونية لدى اليهود التقدميين في مصر. بناءً عليه لا أرى محلاً للنقد الذاتي في هذا المجال، حتى إذا أخذنا في الاعتبار الجهود المحمومة للدعاية الصهيونية للخلط بين معاداة الصهيونية، ومعاداة السامية.
أما موضوع تقسيم فلسطين فيحتاج، في المقابل، إلى نظرة أكثر تدقيقاً. وفي هذا المجال، علينا ألا ننسى (الأمر الذي يتناساه الكثيرون في الجدل الدائر حول الموضوع) أن الاتحاد السوفييتي والقوى الديمقراطية العربية، والفلسطينية، والمصرية، قد أيدت في أول الأمر، قيام دولة فلسطينية مستقلة، علمانية موحدة تضم جميع سكان البلاد، بمن فيهم اليهود الذين هاجروا حديثاً للبلاد. وكان ذلك تنازلاً كبيراً في حد ذاته. أما الصهيونية فكانت ترفض دائماً هذا الحل، وبمساندة دولة الانتداب التي سمحت لها بالتسلح، وتكوين "دولة داخل الدولة"، في حين كانت تنزع سلاح حركة التحرر الوطني الفلسطينية، خلقت جواً من الإرهاب والعنف داخل البلاد، دفع لجنة التحقيق التي أرسلتها الأمم المتحدة لتقصي الأوضاع في يونيو 1947، لاقتراح تقسيم فلسطين (وكانت الوكالة اليهودية قد صرحت في 4 أغسطس 1946: "باستعدادها لمناقشة اقتراح بإقامة دولة يهودية قابلة للحياة على جزء مناسب من فلسطين")، وكان هذا التقسيم قد صار أمراً واقعاً لمصلحة المشروع الصهيوني التوسعي. ويمكن المجادلة بأنه في ظل هذه الظروف، كان قبول التقسيم، من الناحية التكتيكية، أفضل الحلول السيئة، للحد من الضرر (وكان جروميكو قد اقترح: "إقامة دولة عربية يهودية موحدة في فلسطين، فإذا تعذر ذلك، تقسيم البلاد إلى دولتين"). وألاحظ أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي أقر التقسيم قد ساندته جميع البلدان الغربية، وكذلك بلدان العالم الاشتراكي، ورفضته جميع البلدان الأفريقية والآسيوية الأعضاء في المنظمة في ذلك الوقت. ولعل بعض الاعتبارات التكتيكية العامة هي التي جعلت الاتحاد السوفييتي ينضم إلى خطة التقسيم، فقد كان في حينه يعاني من عزلة كبيرة في المجال الدولي، ويحاول جاهداً كسر الاحتكار الذري للولايات المتحدة. ولعل انضمام الشيوعيين المصريين لهذا التكتيك، يستحق المناقشة، ولكن يبدو لي أن "النقد الذاتي" فيما بعد، قد قلل من تقدير تعقد الظروف في عام 1947/48، وأنه بالغ في تشدده.
لقد كان للحركة الشيوعية المصرية في مجموعها، مواقف سليمة فيما يتعلق بقضية الوحدة العربية، فهي لم تقبل أبداً بنظرية الأمم العربية المختلفة، والاعتراف "بالدول" كالهدف النهائي لمشروع التحرر. ولكنها لم تُغفل أبداً الخصوصية الإقليمية الموروثة عن تاريخ يسبق بكثير التقسيم الإمبريالي للعالم العربي، ولم تتبنَ أبداً النظريات المثالية للقوميين من أنصار الجامعة العربية بهذا الشأن. وفي حين كانت الحركات الوطنية للبرجوازية المصرية (ممثلة أساساً في الوفد)، والسودانية (ممثلة بالاتحاديين)، تتجاهل الخصوصية السودانية، كانت الحركة الشيوعية المصرية، والسودانية، تحددان استراتيجيتهما في الكفاح المشترك للشعبين الشقيقين ضد العدو المشترك الخارجي والداخلي. وفيما بعد، عندما كونت مصر وسوريا الجمهورية العربية المتحدة (1958)، وبعدها عندما لاحت فرصة تقدم هذه الوحدة بعد قلب النظام الملكي العراقي، لم تتوانَ الحركة الشيوعية المصرية عن توجيه الانتقاد لأساليب النظام الناصري المعادية للديمقراطية، التي تتجاهل الواقع الخصوصي لكل من البلدان المعنية. وقد أثبت التاريخ صحة موقفنا، فقد كانت هذه الأساليب مسئولة لحد بعيد عن فشل هذا المشروع. أما الاختلافات التي وقعت بين بعض المنظمات الشيوعية بهذا الشأن، فتبدو لي كمجرد اختلافات في الظلال: فالبعض (حدتو) كانوا يخففون من نقدهم لجمال عبد الناصر، في حين كان الآخرون (الحزب الشيوعي المصري) يؤيدون موقف عبد الكريم قاسم، الرئيس العراقي وقتها، بوضوح. ويبدو الموقفان – لي اليوم – أضعف مما يجب، وإن كانا يدخلان في إطار الخط السياسي الصحيح.
وكان من الواضح لنا جميعاً، أن تعدد التنظيمات الشيوعية طوال الفترة من تاريخ إحيائها (في 1942)، وحتى الحل الذاتي للحزبين في 1965، أمر غير مقبول. وكان الجدل العنيف بين هذه المنظمات يرجع إلى الخلافات الشخصية بأكثر مما يعود للدراسة الجادة للاختلافات في التحليل والاستراتيجية. وأتساءل اليوم، ما إذا كان الجري وراء الوحدة (أو بديلها وهو أن تفرض إحدى المنظمات نفسها في الواقع)، كان نتيجة لسيادة فكرة "الحزب" الوحيد، والحائز بالضرورة على "الخط الصحيح". ولعل سيادة موقف يتقبل الديمقراطية في الحركة، سواء أكانت داخل الحزب الواحد، إذا كان كذلك بالفعل، أو داخل "الأحزاب"، كان سيخلق مناخاً أكثر مواتاة للنقاش، دون استبعاد قيام جبهة مشتركة في الكثير من المجالات.
ومع ذلك، فتعدد المنظمات كان يخفي تقديراً مختلفاً للاستراتيجية العامة للثورة الحالة في تاريخنا. فكان البعض يعطي الأولوية للتحرر الوطني - وأنا أستخدم هنا تعبيرات قد تبدو متطرفة، ولكنني أرجو ألا تؤخذ في إطار الجدل – بالقول إن مصر، طبقاً لتحليلهم، تحتاج إلى الثورة البرجوازية الوطنية الديمقراطية. في حين ركز الآخرون على الإمكانية، القريبة والضرورية من وجهة نظرهم، للانتقال من هذه المرحلة إلى بناء الاشتراكية. ولا أظن انه من الممكن تحديد اسم أي من المنظمات المختلفة تعود لأي من هذين الخطين الفكريين، وقد مرت جميعها بهما، حتى وإن كانت الدوجماطيقية الأيديولوجية السائدة في تلك المرحلة تمنع من رسم الخطوط الواضحة لها. وكانت جميع المنظمات تستخدم أسلوب "الاقتباسات"، من مواقف الاتحاد السوفييتي، أو قراءة "الديمقراطية الجديدة" لماو (1952)، الخ. وأدي التباس الجدل، إلى جانب المشاكل "الشخصية"، إلى هشاشة الوحدة وقصرها (عام واحد، 1958)، وإن كنا فرحنا جميعاً لتحقيقها أيامها.
وأدى انقلاب الضباط الأحرار في يوليو 1952، ثم تبلور الناصرية على مراحل في 1955، و1961، إلى أن صار اختيار الاستراتيجية المستقبلية، قضية ملحة لا يمكن تجنبها، فهل نؤيد النظام الجديد، أم ننتقده، أم نعارضه؟ وهنا أيضاً لا أرى أن العودة للوراء، وإعادة قراءة مواقف هذا الطرف أو ذاك، سواء بالتأييد أو الإدانة، الأمر الذي تزخر به الأدبيات التقدمية المصرية اليوم، تمثل أساس المشكلة. فمثلاً الحجة التي يقول بها بعض رفاق حدتو، بأنه بسبب نشاط بعض رفاقهم في التنظيم السري للضباط الأحرار، فإن حزبهم كانت لديه فرصة أفضل لتقدير الطبعة التقدمية – بشكل صحيح كما يقولون – للناصرية منذ قيامها، لا يبدو لي أنه يضع القضية في منظورها الصحيح.
وفيما يخصني، فمنذ 1960، أقول بأن المشروع الناصري مشروع برجوازي وطني في جوهره، من البداية وحتى النهاية، وأنه لم يتجاوز أبداً هذه الحدود. وطبيعته الشعبوية لا تتناقض مع هذا المحتوى، فقد كانت الأسلوب الوحيد الممكن لتنفيذ هذا المشروع البرجوازي الوطني، آخذاً في الاعتبار ضعف البرجوازية المصرية "اللبرالية" وطابعها التاريخي الكومبرادوري من جهة، والخوف من تخطي الطبقات الشعبية، التي كان من الضروري الاعتماد على دعمها، لحدود هذا المشروع (ومن هنا الإصرار على معاداة الديمقراطية من جانب الناصرية) من الجهة الأخرى. بناءً عليه لم يكن أسلوب إدارة الدولة بأي شكل من الأشكال "مرحلة على طريق الاشتراكية"، وإنما الأسلوب الفعال الوحيد لإدارتها. ومن سوء الحظ، أن التحالف الاستراتيجي للاتحاد السوفييتي مع حركات التحرر الوطني في العالم الثالث بعد باندونج (1955) من جانب، وطبيعة "نظام الدولة" السوفييتي من الجانب الآخر، قد ساعدا على الخلط بين "نظام الدولة" والاشتراكية.
وأعتقد أن التاريخ يثبت اليوم وجهة نظري، فالناصرية حلت محلها الساداتية، كما حل يلتسين محل بريجنيف، دون أن نستطيع أن نصف هذه التحولات القاسية بأنها "ثورة مضادة"، بل إني أرى فيها مجرد إسراع بالاتجاهات الداخلية الخاصة بكل من النظامين. فالطبقة (البرجوازية) الجديدة التي تنشأ في داخل نظام الدولة، وبفضله، تحتاج إلى "تطبيع" أوضاعها. ومع ذلك، فقد قلت وكتبت، أن ذلك لم يكن تطوراً حتمياً، فقد كان من الممكن حدوث تطور آخر – نحو اليسار – في كل من الحالتين، ولكن حدوث ذلك كان يتوقف على نضج القوى الاشتراكية في كل من المجتمعين (وغيرهما). ولذلك أشعر بالارتياح اليوم عندما أصف المشروع البرجوازي الوطني بأنه يوطوبيا خيالية.
وفي ضوء هذا التحليل، أعيد قراءة مواقف الحركة الشيوعية المصرية بطريقة تختلف عن تلك المتبعة عادة. فأنا أعتقد إذن، أن موقف التأييد، حتى وإن كان انتقادياً، أو مشكوكاً فيه تحت ضغط معاداة الشيوعية من جانب السلطة، خاطئ من الأساس، أنه كان نابعاً من فكرة أن "مرحلة برجوازية وطنية" كانت ضرورية، وإيجابية، وستنفتح على تجاوزها نحو الاشتراكية. وأنا أرى أن الرأسمالية القائمة بالفعل، بوصفها نظاماً عالمياً مستقطباً يُسبغ على أي مشروع برجوازي طابعاً كومبرادورياً بالضرورة، وأن رفض هذا الرأي معناه بالدقة تقبل الوهم باليوطوبيا البرجوازية الوطنية. وأعبر عن أطروحتي هذه اليوم بوضوح أكبر مما كان لدي منذ ثلاثين عاماً، ولكن كان لدي أكثر من مجرد إلهام بصحتها في ذلك الوقت.
وبناءً عليه، فقراءتي اليوم لمواقف الحزب الشيوعي المصري (الراية) الذي كنت أؤيده تماماً منذ 1950/51، تختلف عن الانتقادات القاسية التي وُجهت إليها بأنها قد وقعت في خطأ أساسي في تقييم طبيعة المشروع الناصري. وهذه الانتقادات التي كان من بينها النقد الذاتي للحزب الشيوعي المصري ذاته ابتداءً من 1956، تتكرر اليوم باستمرار، وتبدو لي وحيدة الرؤية، وتقوم على أساس وجهة نظر استراتيجية أثبت التاريخ فشلها. وأترك جانباً القضايا الثانوية المتعلقة باختيار الألفاظ (مثل نظام "فاشي")، أو التأمر مع الإمبريالية، الخ. فهل كان من الخطأ اعتبار هذا المشروع، مشروعاً برجوازياً محكوماً عليه بالفشل؟
وبصراحة، أعتقد أن الشيوعية المصرية لم تستوعب أبداً تحليل ماو كما ورد في كتاب "الديمقراطية الجديدة. فحدتو لم تقترب من هذا التحليل في أية لحظة من تاريخها، أما الحزب الشيوعي المصري (الراية)، فرغم أنه سار في هذا الطريق لفترة ما قبل 1956، إلا أنه تخلى عنه نهائياً بعد ذلك التاريخ. والدليل على ذلك التباين الواضح بين تقريرين متتاليين للحزب، فتقرير عام 1955، كان شديد الانتقاد للمشروع البرجوازي الناصري (الذي لم يرَ فيه مرحلة ممكنة نحو الديمقراطية الجديدة، بما يعني الابتعاد عن وهم البرجوازية الوطنية)، وتقرير عام 1957، الذي لم يكتفِ بتأييد أطروحة الطبيعة "التقدمية" لوطنية البرجوازية (وبالتالي تأييدها تكتيكياً بهدف تعميق التناقض بينها وبين الإمبريالية)، وإنما تجاوز ذلك إلى تحليلها كمرحلة (جرى وصفها بعد قليل بأنها "طريق غير رأسمالي") في التقدم نحو الاشتراكية. واليوم، يمكن توجيه النقد "للديمقراطية الجديدة" بدورها، وكذلك لقيود الماوية التي نتجت عنها، في ضوء التطورات اللاحقة في الصين ذاتها. ولكن ذلك الانتقاد يجب إلا يؤدي لما هو أسوأ، ألا وهو الوهم البرجوازي الوطني الذي أثبت عُقمه التطور الكارثي للاتحاد السوفييتي، ولبلدان العالم الثالث.
وهكذا "فالموقف اليساري"، في أوائل الخمسينيات، تبنى مشروع الثورة الاشتراكية المستمرة على مراحل، بدلاً من الثورة البرجوازية الوطنية. وأقرر اليوم أن هذه الأطروحة ونقيضتها، تقومان على أساس تحليل مشترك بينهما يقلل من أثر الاستقطاب الكامن والأصيل في التوسع الرأسمالي. وأقرر اليوم أن الماركسية قد تجمدت لأنها لم تستوعب هذا البعد. فالاختيار بين الثورة البرجوازية (وهو موقف الاشتراكية الديمقراطية، والوطنية الراديكالية في العالم الثالث) أو الثورة الاشتراكية (وهو موقف اللينينية-الماوية)، يتجنب السؤال الحقيقي، وهو : ما هي طبيعة الثورة المطلوبة اليوم، في الوقت الذي يجعل فيه الاستقطاب كلاً من الثورة البرجوازية والثورة الاشتراكية، مستحيلة؟ ورغم أن هذه الصياغة لتحليلي حديثة، إلا أن جذورها تعود إلى تلك الفترة، أي إلى سنوات الخمسينيات.
وأنا ممن وجهوا انتقادات قاسية للناصرية، كما يدل على ذلك كتابي "مصر الناصرية"، ومع مرور الزمن، صرت أكثر راديكالية في انتقادي لها. فالنظام الناصري لم يكن يعاني من نقص في الديمقراطية، وأسلوبه الشعبوي لم يكن شكلاً بدائياً وناقصاً من الانفتاح الديمقراطي، بل هو كان في الواقع يرفض تماماً فكرة الديمقراطية. وأنادي بأن وراء هذا الرفض، كانت تقف المصالح الطبقية للبرجوازية. ولهذا السبب ذاته، يتحمل هذا النظام ببساطة، تبعة ما تلاه من انفتاح، ومن صعود الإسلام السياسي.
تستحق مقولة محمد سيد أحمد بأن "عبد الناصر قد أمم السياسة"، عناء التفكير، فهي ليست مجرد عبارة ذكية. لقد منع عبد الناصر أي جدل فكري، كما حطم القطبين الذين احتلا واجهة السياسة منذ العشرينيات من القرن الماضي، وهما: القطب اللبرالي البرجوازي الحداثي، وإن كان ديمقراطياً بدرجة محدودة، وذا اتجاهات علمانية بالكاد (وإن كانت هذه القيود سببها ضعف البرجوازية المصرية)، والقطب الشيوعي الذي كان يربط بين التحديث وبين التحرر الوطني والاجتماعي. وقد حطمهما بشكل منتظم، لا فقط عن طريق القمع البوليسي الأكثر قسوة في التاريخ الحديث للبلاد، وإنما عن طريق إغلاق جميع منافذ النقاش بين الأفكار. وبهذه الطريقة خلق فراغاً ثقافياً خطيراً، وفتح بذلك الباب واسعاً لعودة التقليدية الإسلامية التي كانت في طريق الانحسار منذ قرن ونصف القرن، أي منذ أيام محمد على. بل إنه ساعد حتى على إحيائها من جديد بسياسته التي ظن أنها ناجحة تكتيكياً على المدى القصير، ولكنها خطيرة على المدى الأبعد.
ومنذ قرن من الزمان، كان الفكر التقليدي السابق على الرأسمالية في طريقه للأفول، فقد كان الأزهر، وهو مركز هذا الفكر يبدو باهتاً بالمقارنة بالجامعات الحديثة، وكان من الممكن تركه يسير في طريق الموت البطيء. وبدلاً من ذلك، بدأ عبد الناصر في عملية "تحديث" الأزهر، ظناً منه – شأنه شأن جميع الدكتاتورين – أنه يستطيع التحكم فيه على الدوام، بل والاستفادة منه. وشجعه على ذلك تقديم البعض لبعض التفسيرات الانتهازية الاشتراكية للإسلام، وهي تفسيرات يمكن عكسها بكل بساطة كما هو معلوم. وكان التوجه التقدمي الصحيح، يقضي بترك الدين وتفسيراته للمجال الديني البحت، وإبعاد الجدل السياسي عن هذا المجال بالمرة. وكان مثل هذا الموقف سينتج، في رأيي، ثماره في داخل المجال الديني ذاته، بترك التفسيرات الدينية المختلفة (تقدمية ورجعية) تتفاعل بحرية في داخل مجالها الخاص. فكيف جرى "تحديث" الأزهر؟ لقد ذكرتني إيزابل بأنها عندما أخذتها لزيارة الأزهر في الخمسينيات، دهشت لما رأته من أن القرن الثاني عشر ما زال يعيش للآن، فقد رأت الطلبة الجالسين على الحصير، وهم يحفظون النصوص التي قدمها لهم أساتذتهم. وبدلاً من هذه الأوضاع، قدم التحديث للأزهر مباني ضخمة، وقاعات للمحاضرات، ومساكن للطلبة ومطاعم، في تقليد لهيئات التعليم الحديث، ولكن دون أي تغيير في طبيعة التعليم أو روحه. وهكذا حصل التقليديون على منبر، وعلى شرعية لم تكن لهم من قبل. والنتيجة مع الأسف، نراها بجلاء، فإلى جانب عشرات الآلاف من الطلبة من النوعية التي وصفتها من قبل، لدينا الآن الآلاف من "الدكاترة" من ذات النوعية الفكرية. وتحضرني في هذا المجال قصة لم أكن لأصدقها لولا أن صديقاً أميناً أكد لي أنه سمعها بأذنه. فقد ألقى أحد "الدكاترة" (ولا أعرف تخصصه) من جامعة الأزهر "الحديثة" في أسيوط محاضرة عامة عن "الجن"، وفي المحاضرة أكد أنه يمكن للرجل أن يمارس اتصالاً جنسياً مع "جنية" في أثناء نومه، وأن مثل هذا الاتصال حدث له، بدليل ما لاحظه من آثار على ملاءات السرير عندما استيقظ من النوم! وقد سأله أحد الحضور الساخرين ما إذا حدث العكس بين "جني" وإحدى النساء، فأجاب بأن ذلك مستحيل فهو لم يرد في الشريعة، فضلاً عن انه "عيب"، وأنه على أي حال، لم تقل إحدى النساء أبداً إنها حملت من "جني"! ويبدو أن هذا "الأستاذ" من المعتدلين الذين قد يدينون "رسمياً" أعمال "الإرهاب"، ولكن تعاليمه ستنتج العشرات من المتهوسين الدينيين. ونحن نقرأ في بعض المجلات الأمريكية الجادة، ولدى بعض المنادين بما بعد الحداثة من الفرنسيين، أنه بما أن الحقيقة نسبية، فإن مثل هذه الآراء (مثل الإيمان بوجود الجن)، لها نفس قيمة آراء أخرى (مثل نظرية الكم في الفيزياء). وهذا يضع الأمور في نصابها، وخاصة يضمن مصلحة الأقوياء، فللبعض تخصص "الجن"، وللبعض التخصص في الفيزياء النووية، والكل راضٍ عن تخصصه!
وينسحب نفس القول على إصلاح القضاء الذي ألغى المحاكم الشرعية، ونقل قضاء الأحوال الشخصية إلى المحاكم المدنية، مع الاستمرار في تطبيق أحكام الشريعة في هذه القضايا. وبدلاً من الوضع الذي كان في السابق يحفظ التشريع في مجموعه، باستثناء الأحوال الشخصية، في إطار القانون المدني، فتح الأبواب أمام الظلاميين، الذين يعملون على توسيع نطاق تطبيق أحكام الشريعة على بقية مجالات القضاء. وهنا كذلك، كان الموقف التقدمي لتحقيق التطور المطلوب، يقضي بوضع قانون مدني حديث للأحوال الشخصية، وإعطاء الحق للمواطن للاختيار بين تطبيق قوانين الشريعة في المحاكم التقليدية، أو القانون الحديث أمام المحاكم المدنية. ومن المؤكد أن اختيار المواطنين كان سيتجه بالتدريج نحو القانون المدني. وفي المقابل، فإن ضم المحاكم الشرعية للمحاكم المدنية، ساهم في تدمير الطبيعة المدنية لهذه الأخيرة، وبالتالي في الدولة المصرية. لقد ساهمت الناصرية في تقوية التداخل بين الدولة والدين، بدلاً من إضعافه، وهكذا عاد القضاء المصري بفضل هذا "الإصلاح" إلى ظلامية العصر العثماني.
فعلى المستوى الثقافي، كانت الناصرية رجعية بدرجة عميقة، ومن الصحيح أن هذه الرجعية كانت مسيطراً عليها في حياة عبد الناصر، ولكن الدودة كانت تأكل الثمرة من الداخل. وبمجرد أن اختار خليفته السادات سلاح الإسلام لتمرير الانفتاح، والكومبرادورية، والاستسلام أمام الإمبريالية، والصهيونية، حتى استطاعت القوى الظلامية، التي كانت قد تغلغلت في اثنتين من مؤسسات الدولة وهما التعليم والقضاء، أن تحقق السيطرة شبه الكاملة. ولا أعلم كم من الوقت يلزم مصر، في أحسن الفروض، للخروج من هذا المستنقع. أما محاولة تبرير هذه الخطوات الكبيرة إلى الوراء بحجة "الخصوصية" التي يدعون أنها "قوة مقاومة ثقافية ضد الإمبريالية الغربية"، فتكاد أن تكون نكتة وإن كانت مأساوية. فالظلامية لا يمكن إلا أن تخدم استراتيجيات الإمبريالية، وهي لم تكن أبداً، ولا يمكن أن تكون قوة لمواجهة تحدي هذه الأخيرة.
كان تأييد نظرية المرحلة البرجوازية الوطنية، والنظرية السوفييتية عن "الطريق غير الرأسمالي" شائعاً في صفوف الشيوعية العربية. وبالتأكيد فإن الوحدة بين الشيوعيين السوريين والعراقيين، المنظمين في حزبين يقلدان النموذج السوفييتي بشكل يصل إلى حد السخرية (مثل عبادة الفرد متمثلة في شخص خالد بكداش مثلاً)، كانت تجعلهم يبدون أرقى بكثير من الشيوعيين المصريين الموزعين بين منظمات متنافسة، ويدفعهم للتعالي على المصريين. ومن الممكن أن الشيوعيين العراقيين كانوا أكثر ارتباطاً بالجماهير الشعبية من الرفاق المصريين، وحتى السوريين، ولكن لا هؤلاء ولا أولئك كانوا قادرين على الوقوف كبديل عن البعثية، وهي صيغة أيديولوجية قريبة من الناصرية، والراديكالية القومية الشعبوية البرجوازية، التي ازدهرت في الكثير من بلدان العالم الثالث في تلك الحقبة. وأكد ذلك التشابه بين هذين النموذجين من نفس العائلة، الاندماج بين البعثية المدنية، والعسكريين القوميين، والانقلابات التي حملت هؤلاء الأخيرين إلى السلطة. وكما حدث في مصر، انتهى الشيوعيون في سوريا والعراق بالانضمام لهذه الأنظمة، لتكوّن الجناح اليساري لها، حتى ون كان يتخذ مواقف انتقادية، ولكنه ليس البديل لها.
وأدى تدهور اليوطوبيا البرجوازية الوطنية ثم انهيارها، إلى سقوط مصداقية الاختيار التاريخي للشيوعية العربية معها. فالقليل من الرفاق في هذه الحركات كانوا يتصورون انهيار النظام السوفييتي، والقليل منهم الذين أخذوا في الاعتبار تحذيرات ماو من أن الطريق المتبع هو "طريق رأسمالي" وأنه سيؤدي بالضرورة – في الاتحاد السوفييتي وكذلك في الصين – إلى تحريك الشهية البرجوازية للطبقة الجديدة. ولذلك لم تكن الحركة الشيوعية في مجموعها مستعدة لمواجهة تحديات عالم تحول بهذا السقوط المزدوج للنموذج السوفييتي، والنموذج الذي انبثق عن حركات التحرر الوطني لمرحلة باندونج. ولا يبدو لي أنه حدث تقدم كبير على هذا المستوى، كما يتضح من الجدل المصري الأخير بشأن مستقبل الاشتراكية، وأثره على برنامج التجمع. وهكذا تبقى الحركة تحت تأثير الحنين للماضي، والحنين للنموذج السوفييتي، والحنين للحقبة الناصرية. ولا يمكن، على هذا الأساس، تجاوز الحدود القديمة للماركسية التاريخية في هذا الجزء من العالم، أو في غيره. كذلك لا يمكن الاستسلام، وهذا بديهي من وجهة نظري، أمام التطور المزدوج في اتجاه كومبرادورية المجتمع الفعلية، المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنقل المعركة إلى عالم الأسطورة، و"الخصوصية الثقافية".






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق