الأربعاء، 7 أغسطس 2019

ظاهرة الدين: فصل من كتاب "الثورة المستمرة"


كلما ازداد ما يضعه الإنسان في الله قل ما يحتفظ به في نفسه
           كارل ماركس

مفهوم الدين:

1 - لا توجد أيُّ نظرية جامعة مانعة عن الدين. ومثل كل موضوع نظري تشعبت التوجهات والتحديدات، وظهرت “علوم” لا حصر لها، مثل تاريخ الأديان، علم الأديان، الأنثروبولوجيا الدينية، الإثنولوجيا الدينية، علم اجتماع الأديان، علم نفس الدين، فلسفة الأديان.. إلخ. وكل هذه تقدم مجرد نظريات وآراء يقوم معظمها على الظن. ولا يوجد حتى الآن ما يحسم الجدل المستمر عن علاقة الدين بالفن والسحر والأسطورة (وهذه كلها لها “علوم” لا نهاية لها)، وعن أصل الدين وآليات ظهوره ودوره الاجتماعي... وبالطبع لا ننوي هنا تقديم نظرية إضافية في الدين، بل مجرد تناول - يقوم أيضًا على الظن - في حدود علاقته بمشروع الثورة المستمرة، وبكل اختصار.

2 - نقدم هنا بعض التحديدات لمفهوم الدين:

* وصف هيجل الدين بأنه “الوعي الذاتي بالروح المطلق حسب تصور الروح المتناهي([1])، فهو يرى أنَّ اللامتناهي؛ المطلق، يوجد داخل المتناهي. وفي موضع آخر ذكر أنَّ “الله هو الحقيقة المطلقة، حقيقة كل شيء، والدين وحده هو معرفة حقيقية مطلقة”([2]). وهو يتفق ويتناقض مع تعريف فويرباخ، الفيلسوف المادي: “الدين هو الوعي باللامتناهي، ومن ثم فإنه فحسب وعي الإنسان بجوهر طبيعته الخاصة؛ الطبيعة البشرية"([3]). وكل منهما تعريف شديد التجريد؛ الأول ينطلق من المطلق؛ من السماء، والثاني أنثروبولوجي ينطلق من الإنسان؛ من الأرض. لكنهما يتفقان على أنَّ الدين هو الوعي باللامتناهي. وهو تحديد يضيِّق من مفهوم الدين ويتجاهل أديان لا تعترف بالمطلق كما سنوضح.

* وقد قدم دوركايم تعريفًا آخر للدين نرى أنه أعرض وأكثر شمولًا من التعريف السابق: “نسق موحد من المعتقدات والممارسات المرتبطة بأشياء مقدسة، ومنفصلة، ومحرمة، التي توحد، في جماعة أخلاقية واحدة تُسمى كنيسة، كل الذين ينتمون إليها([4]). فهو يحتوي على المقدس الذي يستعمل لتوحيد جماعة من الناس، ويميزها على غيرها من الجماعات. لكنه تعريف لا يشمل أشكالًا من الدين الحديث التي تقدس أشياء على نحو مؤقت وعابر، أو التي تنفي عن نفسها التقديس، أو التي تشمل جماعة لكنها ليست مؤسسة على منظومة أخلاقية معينة (مثل ألتراس نادي رياضي مثلًا).

* ووفقًا لاستقراء العامل المشترك بين مختلف الأديان بما فيها الأديان التي لا تعترف لا بوجود آلهة أو أيّ كائنات عليا فوق طبيعية (منها البوذية واليانية)، عُرِّف الدين بأنه “اعتقاد البشر بقوة أعظم منه تقوده ولا تنقاد إليه”([5])، وهو أبسط وأكثر مباشرة من تعريف دوركايم، وهو تعريف ينطبق على كافة ما تعتبر أديانًا بكل أنواعها، لكن يجب أنْ يضاف أنَّ هذه القوة وهمية وتخيلية. أما إريك فروم فقدم تعريفًا يضع في اعتباره الأديان “العلمانية” الحديثة بالتحديد (وقد كان مهتمًا بها): “أيّ مذهب للفكر والعمل اشتركت فيه جماعة ما ويعطي الفرد إطارًا للتوجيه وموضوعًا للعبادة”، وبناء على هذا التحديد لم ولن توجد حضارة بدون دين([6]).

3 - في رأينا لا يوجد تحديد أولي للدين، سابق على التجربة، بل علينا أنْ نضع أيدينا على المكون المشترك للأديان الموجودة بالفعل من كل صنف، والتي يوجد اتفاق عام على اعتبارها أديانًا. هذا المكون هو قوة عليا أو أرضية توجه أتباعها وتعتبر من قبلهم مقدسة لا يجوز التشكيك فيها أو نقدها. هذا المقدس يختلف من مجتمع لآخر، لنفس عوامل اختلاف الثقافات؛ عوامل الجغرافيا والتجارب والخبرات التاريخية، والتكوين الاجتماعي، ومستوى ونوع قوى الإنتاج، ونوع ومستوى المعارف.. إلخ. ويتضمن هذا التعرف الأديان التي لها أو ليس لها طقوس أو شعائر، أو منظومة قيمية معينة، أو حتى قد لا تتميز بالثبات، وبعضها يزعم عدم تقديس أيّ شيء.

والمقدس هو شيء يتم عزله ويحاط بمختلف أنواع التحريم. ويمكن أنْ نقسمه إلى ثلاثة أنواع: كيان ميتافيزيقي، فوق طبيعي، أو كيان طبيعي لكنه فوق إنساني، أو كائن بشري يُعد متميزًا عن بقية البشر وذا مكانة خاصة. والعامل المشترك بينهم أنه يكون معتقدًا اجتماعيًّا أو أيّ شيء من إنسان أو حيوان أو مكان أو زمان تنسب له قوة ومكانة عاليتين بالمقارنة مع كل ما هو وجود دنيوي، ومن ذلك جموع البشر. ومن الأمثلة: الله – الملائكة – الأنبياء والقديسين – الحاكم - النص الديني – الأراضي المقدسة – أيام الأعياد الدينية – حيوان مثل البقرة لدى الهندوس.. إلخ.

كما يوجد ما يمكن أنْ نسميه المقدس المضاد، أو يسميه البعض المقدس النجس([7]). وهو الذي يتم تجنبه بشدة أو كراهيته، عكس المقدس تمامًا، وقد يكون ضمن مكونات الدين نفسه، مثل الشيطان، الخمر في الإسلام، الدورة الشهرية للمرأة في بعض الأديان. أو قد يكون دينًا مضادًّا، مثل النازية حاليًّا في ألمانيا، كل ما تتم شيطنته من قبل جماعات أو دول معينة، مثل النازية، جماعة الإخوان المسلمين في مصر حاليًا، والشيوعية في فترة سابقة.. إلخ.

4 - بناء على التعريف الذي قدمناه تعتبر كل النظريات والفلسفات الشاملة، والدعاوى العنصرية، والنظريات القومية، والعلموية أديانًا. فهيَ تقدم على أنها الحقيقة النهائية للعالم، وتبشرنا بعضها بنهاية التاريخ، وبعضها يعدنا بتحقيق الخلاص الإنساني من الظلم والتخلف والقهر. وقد سار – بوجه عام - الفلاسفة في اتجاه الكشف عن الحقيقة، وحاولوا الكشف عن علة للعالم، أو الناموس الذي يحكمه، وصناعة أخلاق تتسق مع هذا الناموس، أو مع الطبيعة البشرية. وحتى الفلاسفة الذين تبنوا النظرة النسبية وأنكروا الحقيقة قدموا أفكارهم على أنها الحقيقة، حتى لو لم يعلنوا ذلك. من هنا أوجد البشر مقدسات لا علاقة لها بالآلهة والعالم الأخروي، أو الأرواح، بل غالبًا لا يشار إليها بلفظة مقدس، لكنها تعامل بهذه الصفة. من ضمن تلك الأديان الدنيوية: الماركسية، التي قُدمت كدعوة تبشيرية بمجتمع الخلاص الشيوعي، والصهيونية، والهولوكوست (يحاكم ويسجن كل من يمس هذه العقيدة في دول أوروبية معينة)، الليبرالية، والقومية العربية (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)، والأمة بوجه عام، علم الدولة، والنشيد الوطني، وأحيانًا الثورة. ألا يضحي الأفراد بذواتهم وحياتهم من أجل هذه الأشياء؟ ألم تقم حروب دموية باسم هذه أو تلك؟ ألم يقتل الملايين تحت شعار “ألمانيا فوق الجميع”؟ وهل يجرؤ مواطن في ألمانيا أو فرنسا أنْ يعلن أنه يعيد النظر في الهولوكوست؟ ألم يكن يتم إعدام كل من كان ينتقد القذافي أو صدام حسين؟ وهل ننسى إعدام عشرات الألوف في عهد روبسبيير لأنهم “أعداء الثورة” وبعضهم قُتل على سبيل الاحتياط، منهم 1200 سجين عادي. وهل يمكن أنْ نرى فرقًا جوهريًّا بين الطوطم وأعلام الدول الحديثة؟

5 - مع تطور المجتمعات، وظهور دوافع إنسانية لتبني القيم والأخلاق تغير محتوى المقدس، فأصبح المقدس “العلماني” أكثر قوة، مثل الأمة، والوطن، والعرق، والدولة، والنظريات الحديثة كالليبرالية والشيوعية. وقد حل تأليه العقل بالتدريج محل الله إلى حد كبير في أوروبا مع بداية التنوير. بل حاول اليعاقبة في سنوات الثورة الفرنسية تنصيب العقل أو “الكائن الأسمى” إلهًا بشكل رسمي وعبادته في الكنائس. ويمكن إضافة ظاهرة تقديس الزعيم أو البطل، وتقديس النجم، وتقديس فريق الكرة، والهوس بأحد الفنانين... فالحضارة الحديثة تتضمن من اللاعقلانية ما لا يقل عما تتضمنه الحياة الاجتماعية للشعوب البدائية. بل ومازال هناك وجود قوي للأديان القديمة من كل نوع، بالإضافة إلى طقوس شبيهة بطقوسها، مثل الشعائر الجنائزية وطقوس الدفن. ويؤمن الليبرالي المعاصر بأنَّ قوى السوق كفيلة بتحقيق توازن المجتمع ورفاهيته، والماركسي يؤمن بأنَّ قوانين الوجود (الديالكتيك وغيره) تحكمنا، وأننا يجب أنْ نتماهى معها (تحدث سيد قطب بطريقة مماثلة بالضبط([8])). كما تزعم الحركات القومية ذات التوجه العنصري أنها تحمل رسالة إلى العالم: الحضارة. ويعتبر الإنسانيون الإنسان معيار الكمال رغم أنَّ سلوك بعض أنواع الحيوانات يبدو أكثر “إنسانية” من سلوك البشر. كما يزعم دعاة العولمة أنهم يحققون التقدم للعالم. كذلك يزعم الصهاينة أنهم يحققون وعد الرب.

6 - تحتوي كثير من الأديان على قصص وهمية وأحداث خارقة للطبيعة، وكائنات وأشياء لا يمكن البرهنة على وجودها، والأهم من ذلك أنَّ كثيرًا من تلك الأديان تعلن بوضوح أنَّ هذه الأشياء لا يمكن البرهنة عليها، وأنَّ علينا أنْ نتقبلها فحسب. هكذا يكون المقدس جزءًا من عالم اللامعقول، رغم أنه يؤدي وظيفة اجتماعية معينة، ومن هذه الزاوية هو أيضًا يقع في دائرة المعقول.

7 - أيُّ دين هو أيديولوجيا، لكن ليست كل أيديولوجيا هي دين. فالمقدس ليس بالضرورة ضمن محتويات كل أيديولوجيا، أو على الأقل لا يعترف أصحاب المقدس في هذه الحالة بأنه مقدس. وقد لا تكون الأيديولوجيا مقدسة في بعض الحالات، ولذلك نعتبرها مفهومًا أعرض من مفهوم الدين. وضمن مكونات معظم الأديان يوجد تصور عن خلق العالم وطبيعة الوجود والإنسان، ونظرية للأخلاق، أيْ أيديولوجيا شاملة. وكون الدين أيديولوجيا أم لا ليس أمرًا محسومًا لدى عموم المفكرين والمنظرين. وحتى كونه جزءًا من أساس المجتمع أم نتيجة له لم يتم عليه إجماع. فهناك من يعتبره شيئًا مختلفًا، بدعاوى متباينة، وكثيرًا ما صادفنا شروحات غير مفهومة لهذا الفصل بينهما([9]). وآخرون يرون أنَّ الدين منتج إلهي، وبالتالي لا يدخل تحت عنوان الأيديولوجيا، بل يكون تفسيره البشري هو الأيديولوجيا([10]). هذا الفصل بين الدين والأيديولوجيا مفتعل بوضوح، فلا يستطيع أحد أنْ يبرهن على أنَّ الدين هو علم أو حقيقة، أو أنَّ المقدسات ليست مجرد اعتقاد. والدين أكثر عناصر الأيديولوجيا جمودًا ومقاومة للتغيير، بفضل احتوائه على المقدس الذي لا يقبل أصحابه بأنْ يُمس. فبالإضافة إلى صعوبة دحض الأيديولوجيا، يثير نقد الدين – في العادة - استفزاز أصحابه وعداءهم.

إنه رؤية مثل أيّ أيديولوجيا، لكنها رؤية مقدسة. ولذلك يعتقد أصحاب كل دين أنه الحق المطلق، حتى لو اعتُبرت بعض مكوناته مجرد رموز، ولا يظن أحد منهم أنه خرافة أو أسطورة.

8 - والأديان أنواع، فمنها السماوية، ومنها الدنيوية، ومنها ما يؤمن بوجود آلهة وأرواح وتعليمات إلهية (الدين الوضعي حسب تعبير استخدمه هيجل) ومنها ما ينكر هذا. كما توجد أديان تُسمى علمانية([11])، تشمل ما يُسمى بالدين الطبيعي، وهو دين يرتكز على العقل والمعرفة الإنسانية، بعيدًا عن المعجزات والوحي من قوى فوق – طبيعية. وهو يؤمن بوجود إله صنع الكون ثم توقف عن التدخل في شؤونه بأيّ طريقة. وقد تبنى هذه الرؤية فلاسفة التنوير بوجه عام، مستمدين جذورها من أرسطو. والدين المدني، أو دين الطبيعة الإنسانية([12])، . 166ماعي، الفصل الرابع، لكون ثم توقف عن التدخي في شؤونه، فوالدين السياسي، مثل الشيوعية، والفاشية، والصهيونية، والقومية، والليبرالية والإسلام السياسي.. إلخ. بل تمت عبادة الثورة أثناء الثورة الفرنسية([13])، وفي عصر الدولة الحديثة تم تقديس السلطة القضائية والقانون، رغم أنهما قد يظلمان. كما دعا بعض الفلاسفة إلى دين إنساني، أيْ دنيوي لا يتطلع إلى السماء بل إلى الحياة الأرضية، منهم أوجست كونت([14]) وهيجل([15]). ،ج إلى الحياة الأرضية. كذلك دعا فويرباخ، وإريك فروم، وكارل يونج إلى دين إنساني، ومع الاختلاف في التفاصيل، ورغم اختلاف تحليلهم لماهية الدين، تقترب مشاريعهم الدينية وتشترك في: نبذ اللاهوت والعالم الآخر، واعتبار الحياة الأرضية هي الدين. وقد حقق الجميع فشلًا ذريعًا في نشر دينهم الإنساني.

 

أصل وماهية الدين:

أغلب علماء الأديان وكثير من علماء النفس والفلاسفة قالوا إنَّ الدين لدى الإنسان فُطري، منهم ماكس ميلر، مؤسس علم الأديان، الذي ذهب إلى أنَّ جوهر وأساس الدين هو الأه جع عام - ولة في امتصاص الصراع الطبقي، بتقديم المعونات الاجتماعية.الدولة بسبب الأزمة المالية المستفحلة طول الوقت تقريبًا، وأخيرساطير، وأنها تنشأ من اللغة، بعدم إمكانية تطابقها تمامًا مع الفكر وبالتالي فالدين سيظل إلى الأبد([16]). كذلك ،لخدمة العامة ه كفيل بحرمان اللصوص والمستغلين والقتلة من الحماية.الجهاز. ري. ط (إسرائيل تعتمد على التجنيد الإجباري والاحتياط). كذلككككارل جوستاف يونج، وإريك فروم، وفويرباخ، وهيجل، وآخرون. وبالعكس قال بعضهم، منهم رايك، وكذلك فرويد. وقد اعتبر فرويد الدين مجرد خرافة ووهم يحرم المرء من التفكير النقدي، نشأ نتيجة عجز الإنسان عن مواجهة الطبيعة وعن مواجهة غرائزه، وأنه إنما يشبه العصاب الوسواسي، حتى في التفاصيل، ولذلك فالمؤمن الحق في منجى من بعض الأمراض العصابية؛ فارتضاؤه بالعصاب الكوني يعفيه من مهمة اصطناع عصاب شخصي لحسابه الخاص([17]). كما ذهب فلاسفة التنوير إلى تفسير نشوء الدين بجهل الإنسان بأصل ظواهر الطبيعة، وهو بدوره يغذي الجهل ويعمل على تكريسه؛ فهو يتضمن أساطير وخرافات لا يقبلها المنطق، وهو يطالب المؤمنين به بالتسليم التام بعقائد لا مبرر لها، وهو ما يؤدي إلى جمود الفكر وغياب الحس النقدي. وقد أخذ ماركس وإنجلز بنظرية فلاسفة التنوير وأضافا إليها دور العامل الاجتماعي، فاعتبرا الدين وعيًا مقلوبًا، ناتجًا عن الانقسام الطبقي والاستغلال، وبالتالي سيختفي مع اختفاء أسباب وجوده([18]).

الدين – في رأينا - له جذور نفسية عميقة، وجذور اجتماعية، فلا يمكن التعامل معه كمنتج فردي، ولا الاكتفاء باعتباره من إنتاج الطبقة المستغِلة. إذ لماذا تتخذ الأيديولوجيا شكل الدين؟ وهو سابق على ظهور الطبقات؛ ظهر قبل الثورة الزراعية بمئات الألوف من السنين، لدى الإنسان المنتصب([19])، وإنسان نياندرتال، وأقزام أفريقيا وإنسان الصين.. إلخ، حسب كثير من الأبحاث([20])،([21]). كما ظهر الكهان والسحرة؛ آباء الأنبياء والرسل مبكرًا جدًّا، قبل نشوء الطبقات بكثير.

 وهناك من الشواهد ما يدل على أنَّ الدين كان مهمًّا لتحقيق وحدة الجماعة، وهذا هو ما أفاض دوركايم في تحليله. فبعد حدوث الثورة الزراعية، وبالتالي نمو حجم الجماعات تطلب الأمر صناعة رموز، مثل الآلهة والأوطان ثم الشركات المساهمة، لتحقيق وتدعيم الروابط الاجتماعية([22]). و،َar numberحسب بعض علماء الأنثروبولوجيا، يستطيع البشر أنْ يشكلوا جماعة من الذين يعرف بعضهم بعضًا بشكل شخصي مباشر في حدود 150 شخصًا، وحين يزيد العدد عن ذلك يلجأون إلى ابتكار رمز لهذا الجمع، مثل اسم قبيلة أو قرية، طوطم، اسم موقع، لقب... بحيث يمكنهم أنْ ينتموا إلى بعضهم البعض من خلاله. ويُسمى هذا العدد عدد دونار([23])Dunbar number . إنها إذن آلية للحم الجماعة البشرية وحفز روح التعاون بين أفرادها، للتغلب على الأنانية، ووضع قواعد لإجبار الفرد على العمل من أجل الجماعة، بعد أنْ تصبح رابطة الدم أو الروابط الشخصية غير قادرة على لحمها. ويضاف حافز آخر؛ ففي الجماعة كبيرة العدد لا يمكن للعقاب وحده أنْ يشكل عاملًا رادعًا للخارجين على تقاليدها، لأنَّ كبر حجمها يجعل من الصعب معرفة الخارجين، فيلزم حافز معنوي على التعاون وعدم كسر القانون، وتقليل مستوى التوتر بين أفراد تلك الجماعة الكبيرة. وكلما ازداد عدد أفراد المجتمع ازداد معدل التوتر والتشاحن، يصبح من الضروري زيادة عدد الطقوس الدينية. وقد تطلب الأمر أيضًا إنتاج الآلهة وفكرة العقاب والثواب الإلهيين لردع الخارجين على نظام المجتمع، وهي آلية للمزيد من ضبط الناس في التجمعات كبيرة العدد([24]). لقد اخترع خيال الإنسان أشياء اعتبرها مقدسة، بغرض توحيد الجماعات المختلفة كبيرة العدد. إذ لا يمكن لآلاف أو ملايين الناس أنْ يشعروا بالانتماء إلا إذا التفت حول شيء رمزي، مقدس إلى هذا الحد أو ذاك؛ الطوطم، الأمة، الدولة، الدين، القانون، أو أيّ “رسالة”، مثل الطب، النضال من أجل الإنسانية.. إلخ. فحتى حمورابي زعم أنَّ قانونه تعليم إلهي؛ فالهدف هو استقرار الجماعة وتأمين السلطة. هذه الآليات للحم الجماعات لا تتم بوعي، بل بشكل تلقائي؛ تلك  رادعًا للخارجين على تقاليد باللاوعي الجمعي. وهذا لا ينفي وجود تعمد استغلال هذا اللاوعي من قبل أصحاب السلطة، بدءًا من السحرة قديمًا، توتم، جمعانتهاء إلى الأجهزة الأيديولوجية المعاصرة. أما خلق الإله القادر المطلق فيعبر عن سعي للإنسان، نظرًا لشعوره بالضعف، لصناعة قوة خارجه ثم التماهي معها أو محاولة ذلك، كما يعبر ذلك عن نزوع الجماعة أو السلطة إلى جعل سلطتها تستند إلى قوة مطلقة لدفع الأفراد إلى الالتزام بمعاييرها. إذن يحقق خلق المقدس في الأصل توحيد الجماعة فيشعرها بالقوة تجاه الطبيعة وبالقوة تجاه أفرادها.

فالدين ليس مجرد نتاج لرؤية الإنسان للطبيعة وجهله بها، لكنه ذو أساس اجتماعي قبل كل شيء، يتحدد شكله حسب مستوى تطور المعرفة والخبرة البشرية. بدليل أنَّ غالبية البشر يتمسكون به حتى الآن، وكثير من العلماء يؤمن بالدين، وفي واحدة من أكثر البلدان تقدمًا يؤمن كثير من أهلها بالأساطير التوراتية. وما العلمانية إلا فصل الدين عن الشأن العام واعتباره مسألة شخصية، Aنولت بعض الأشياء الدنيوية تمامً دون إلغائه، وهي فكرة تحل إشكال التناقض بين الدين والحياة المعاشة. فالدين ليس مجرد وهم، بل له جذور اجتماعية مثل أيّ مكون للأيديولوجيا، بالإضافة إلى أنَّ الجهل بالطبيعة والمعلومات المغلوطة قد لعبت دورًا في نشوئه.

 الدين هو نتاج لسلطة معينة؛ سلطة جماعة ما؛ قبيلة، أمة، طبقة... ولأنه أداة للسلطة فقد استخدمته القوى المتنفذة على مر التاريخ لحسابها، من كهنة وسحرة وقادة قبائل، ثم الطبقات المسيطرة، والحكام، والدول، بل واستخدمته جماعات المقاومة كذلك من مختلف القوى المقهورة، ومن أمثلة ذلك المسيحية في بدايتها، ومناضلون في أمريكا الجنوبية (لاهوت التحرير) والحركات الثورية في تاريخ الإسلام القديم، مثل بعض فرق الشيعة والخوارج.

لكن الثابت - كما أشرنا - أنَّ الدين القديم قد ظهر حين كانت الجماعات البشرية صغيرة الحجم وقبل ظهور القرى والمدن، مما يعني أنَّ هناك صلة بين الدين وعلاقة الإنسان بالطبيعة، تضاف للدوافع الاجتماعية لظهور الأديان. فلا يمكن إهمال دور العوامل النفسية وتأخر المعرفة في نشوء واستمرار الدين السماوي. من ذلك دور الأحلام والظواهر الطبيعية غير المفهومة، والضلالات، والخوف، وشعور البشر بالضعف إزاء الطبيعة، والرعب من الموت خاصة، الذي ربما يقف وراء عقيدة البعث وخلود النفس، التي ظهرت - في الغالب - لدى إنسان نياندرتال([25]).

لقد ظلت الحاجة إلى الدين منذ بدايته تنبع من الطمع والخوف؛ الرجاء في الطبيعة والخوف منها، وضمن ما يخيف الإنسان: الموت. وتطورا في الأديان السماوية الكبرى إلى الطمع في رضا الإله والخوف من بطشه. كما كانت ومازالت ظواهر مثل الأحلام والكوابيس والكوارث الطبيعية تؤرق الإنسان وتثير حيرته. وقد لعبت لحمة الجماعات البشرية بآليات منها صناعة المقدس دورًا كبيرًا في تبديد خوف الفرد ومنحه قدرًا من الشعور بالأمان.

لا شك أنَّ الإنسان يسعى دائمًا إلى اكتشاف العالم حتى يستطيع أنْ يتعامل معه، كآلية للسيطرة عليه؛ للهجوم الدفاعي. وقد ابتكر الإنسان السحر في البداية لهذا الغرض، ثم الطقوس، ثم الآلهة. فإنتاج الدين كان في بدايته آلية ابتكرها الإنسان للسيطرة على الطبيعة، بخلق قوة قاهرة والتماهي معها، كما كان طلبًا للشعور بالحماية والأمان، ولتبرير أفعاله، وللبحث عن الخلاص من عذابات الحياة، ولخلق معنى لوجوده. فانتماء الإنسان إلى قوة أعلى تجعل هناك معنى وهدفًا لحياته، وتبرر له أفعاله: فهذه أوامر الله – الوطن فوق الجميع – مصالح الأمة.. إلخ. وفقط إذا استطاع الفرد أنْ يقول: أنا أرى أو أريد ذلك، سيصبح في غير حاجة إلى المقدس. وهذا يعبر عن نفسية الإنسان كنوع، التي تتضمن الشعور بالضعف والخوف من الكون ومن الموت. ولا يجب أنْ نتناسى عامل خداع الكهنة والسحرة المتعمد لصالحهم هم وأسيادهم.

إنَّ قصر الدين على العامل الاجتماعي (مذهب دوركايم) غير كاف، فهناك علاقة بين الأيديولوجيا ومدى تقدم المعرفة والخبرة الإنسانية أيضًا. وهذا ما يفسر أشكال الدين ومحتوياتها الخرافية. إذ لماذا عبد الناس آلهة مثل إلهة الخصب وإله الحرب وإله المطر.. إلخ. ولماذا تطورت الأديان نحو التوحيد، ثم التخلي عن الآلهة وكثير من الطقوس؟ ففي تاريخ كل شعوب الأرض كانت الطبيعة هي الموضوع الأصلي الأول للدين([26]). وهاك مثالًا محددًا يثبت أنَّ مصدر الدين مزدوج؛ اجتماعي ومعرفي: قُدست النار في مختلف المجتمعات البدائية (تمكن البشر من إشعالها منذ 800 ألف سنة تقريبًا)؛ فهي مصدر خطير للدمار ومصدر أساسي للحياة، وأيُّ إهمال بشأنها قد يؤدي إما إلى انطفائها أو إحراقها للغابة أو الكهف أو بيوت الجماعة. لذلك صارت مقدسة ولها سدنة، بل وعبادات وطقوس في مناطق عديدة. فهي شديدة الأهمية للمجتمع، لكن التحكم فيها صعب إلا عند مستوى معين من تطور المعرفة والخبرة. فلو كان البدائيون يعرفون كيف يشعلونها بسهولة وقت الحاجة وكيف يمنعون الحرائق أو يسيطرون عليها لتعاملوا مع النار مثلما تعاملوا مع أيّ شيء في حياتهم، بلا تقديس كما يتم الآن. ولو كان الناس يعلمون أنَّ الشمس لا تملك من أمرها شيئًا لما عبدوها. وهذا ينطبق على كل المقدسات في التاريخ.

كذلك لا يمكن النظر إلى الدين كمجرد تعبير عن المجتمع بشكل عام ومجرد. فالمجتمع منقسم إلى جماعات مصالح، بما في ذلك المجتمع البدائي. بالتالي لا نستطيع إلا أنْ نربط محتويات الدين البدائي، إلى هذا الحد أو ذاك، من طقوس وغيرها بمصالح الكهنة والعرافين ورؤساء العشائر. وبالمثل لا نستطيع إلا أنْ نربط محتويات الدين الأحدث بمصالح الطبقة السائدة. ولدينا مثال واضح تمامًا: طقس الحج إلى مكة قبل الإسلام الذي أمَّن دخلًا مهمًا لسادة قريش. وهل يمكن التغاضي عن العلاقة الواضحة بين وعد الأديان السماوية للمؤمنين بالجنة كتعويض لهم عن قبول الظلم في الحياة الأرضية؟

فحين انقسمت الجماعات البدائية إلى فئات ثم طبقات أصبحت إحداها تحتكر سلطة الجماعة لحسابها. ابتداءً من استغلال الكهنة لسلطتهم الروحية في تحقيق المزايا لأنفسهم باسم الدين، ثم استغلال الطبقة المالكة للثروة - متحالفة مع الكهنة - للدين في تخدير الجماهير وخداعها.

والدين، مثله مثل أيّ أيديولوجيا يكون – بشكل أساسي - نتاجًا للاوعي الجمعي، وهذا يفسره أصله الاجتماعي، بالإضافة إلى كونه منتجًا مباشرًا لفرد معين. في الحالة الأخيرة لا نستطيع إلا أنْ نضع في الاعتبار الدوافع الشخصية، النفسية والمنفعية. كما أنْ الدين يجذب أو لا يجذب الأفراد لاتباعه. وموقف الأفراد تحدده أيضًا دوافع فردية، سواء نفسية أو نفعية.

يمكن الآن أنْ نلخص أصل الدين في سبعة عوامل:

 - حاجة الجماعة إلى التلاحم بالتجمع حول رمز أو رموز ما.

 - جهل الإنسان بظواهر طبيعية مثل الأحلام والكوارث المختلفة، والموت.

 - استغلال القادة والسحرة والطبقة الحاكمة لجهل الناس، فيلعب دور أيديولوجيا مضللة وداعية لقبول الظلم الاجتماعي.

 - تم استخدامه كسلاح لمقاومة الجماهير للطبقات المسيطرة والسلطات القمعية والمستغلة؛ كسلاح احتجاجي، وسلاح أيديولوجي ومرشد للنضال في بعض الحالات.

 - في حالة إذا كان من ينتجه فرد نبي أو مدعي التكليف من السماء يكون دافع إنتاجه مثل دافع الفرد لصناعة أيديولوجيا شاملة، مثل الفلاسفة والمفكرين. فيكون إنتاجه تعبيرًا عن السعي لتحقيق المكانة بجانب دوافع نفسية شخصية.

 - على مستوى الفرد، توجد دوافع نفسية لتقديس الأشخاص والأشياء والظواهر. ويقف الشعور بالضعف أو العجز أو الفشل وراء هذا التوجه. فالمقدس يقدم شيئًا يحتاجه الفرد على الصعيد النفسي: نوعًا من الأمان، أو شيئًا من القوة، أو قدرًا من التفاؤل بمستقبل أفضل، أو شعورًا بالانتماء إلى جماعة ذات شأن.. إلخ.

 - ويقدم المقدس للفرد وحتى للجماعة شيئًا بالغ الأهمية: معنى للوجود وللحياة يفتقده الإنسان مالم يصنعه بنفسه.

نقد الدين:

1 - نقد أصل الدين:

لا نجد أشمل وأدق من عبارة ماركس الشهيرة: “إنَّ نقد الدين هو المقدمة لكل نقد”([27]). فأول شروط العقلية النقدية جعل كل شيء قابلًا للتحليل والنقاش والنقد، وبما أنَّ الدين هو الأيديولوجيا الأشد جمودًا وتحجرًا، فإنَّ نقده يكون شرطًا ضروريًّا لتحرير العقل وإطلاق حرية التفكير، سواء الأديان “السماوية” أم الأرضية. وعلى الأخص الأديان الوضعية (بالمعنى الهيجلي)، التي ترسم للإنسان كل ما يتعلق بسلوكه وعلاقاته بالآخر. وفقط يمكن أنْ يتخلص الإنسان من المقدس حين يستطيع أنْ يعتمد على نفسه ويفكر تفكيرًا نقديًّا، وفي هذه الحالة سيصبح المقدس هو النوع البشري نفسه.

نقد الدين يجب أنْ يتركز على أصله في علاقته بمستوى المعرفة البشرية، والتي تقدمت بما فيه الكفاية لنبذ الخرافات. والأهم أصله في العلاقات الاجتماعية مثل أيّ أيديولوجيا، وكشف دوره في طمس الصراع الاجتماعي وفي خداع الجماهير، وهذا ما أهمله فويرباخ، الناقد الأول للمسيحية. فليست القضية الرئيسية فيما يتعلق بالدين إنْ كان حقيقة أم خرافة، بل الأهم أنْ نكشف عما ورائه من بؤس الإنسان وتمزقه واغترابه. فهو ليس كيانًا مستقلًا، ولا ناتجًا عن جوهر إنساني مزعوم، بل هو نتاج نفسي واجتماعي، فلا ينبغي ولا يمكن التعامل معه إلا في ارتباطه ببقية جوانب الواقع الاجتماعي.

وإذا كان توحيد الجماعات البشرية يحفز خلق الرموز والمقدسات التي تشمل الخرافات، فسوف يستمر الوهم وأشكال من الاغتراب. لذلك سيستمر العمل ضد الوهم والخرافة، وتفكيك المقدس، اللاهوتي والعلماني. وبدلًا من الوهم يجب أنْ تعتمد وحدة الجماعات على وحدة الأهداف العامة، أو بالأحرى: الاستراتيجيات. واستراتيجيات الثورة المستمرة تصلح كآلية توحيدية. ولما كانت المذاهب والشعارات كثيرًا ما تتحول إلى أوثان يعبدها الناس، فربما يصبح شعار الثورة المستمرة كذلك. في هذه الحالة يصبح الدين هو التمرد، فينفي نفسه طول الوقت.

2 - الاغتراب والشقاء:

المقدس في المحصلة الأخيرة هو مجرد رمز لسلطة ما: قد تكون سلطة العشيرة أو سلطة الدولة، أو سلطة الطبقة الحاكمة، أو سلطة جماعة محددة مثل حزب أو جماعة طائفية أو شعب.. إلخ.

ولأن الناس هم الذين يصنعون المقدس على مقاسهم، فينتجفرويد الدين مجرد خرافة ووهم.أنْ  الدينية العلمانية والعلموية.رضين معًا هو دين الإنسانيةاهوت، دين ينتجي الاغتراب. فالإنسان يصنع بنفسه ما يعتبره بعد ذلك غريبًا عنه وسلطة فوق رأسه، ويخضع نفسه له. من آلهة إلى تحويل الوطن والأمة والدولة والسوق والقانون إلى كيانات قائمة بذاتها، لها قوانينها الخاصة، تقف فوق الناس، بينما تدل هذه المصطلحات في الأصل على علاقات اجتماعية. فهكذا يقوم الإنسان بتغريب نفسه بنفسه، فيلقي بما في داخله إلى المقدس. وقد وصف هيجل هذا بدقة ووضوح: “إنَّ مفهوم شعب ما عن الإله يشكل الأساس العام لطبيعة ذلك الشعب”([28])، فكل جماعة تصنع المقدس على مقاسها، وتعزي إليه ما ترغب فيه، ثم تتصور أنه متعال عليها؛ سلطة عليا. هكذا تُصنع الأديان الوضعية، حيث يفكر ويقرر المقدس بدلًا من المؤمنين به، فتعاني الذات من الشقاء؛ فهي تصبح منقسمة على نفسها، فلا هي قادرة على الاستقلال عن المقدس ولا هي قادرة على الاتحاد معه، فتظل في حالة اغتراب.

من أهم من تناول ظاهرة الاغتراب الديني: فويرباخ، على أساس أنَّ الله هو جوهر الإنسان، باعتباره الحقيقة النهائية، ويختلف الله أو الدين حسب الطريقة التي يفهم بها الإنسان ماهيته([29]). ونظرته تتلخص في أنَّ الإنسان قد خلق الله والدين، مُوضِعًا فيه جوهره الخاص([30]). لكن هذا الجوهر الإنساني هو شيء وهمي تمامًا؛ فالإنسان لا جوهر له، بل هو منتج لمجموع علاقاته الاجتماعية. ولا يضع الإنسان جوهره؛ ذلك الوهم، في المقدس، بل يضع فيه خوفه وعجزه وأمانيه. ولذلك فالاغتراب الديني هو بالفعل صورة مقلوبة للاغتراب الواقعي. فيمكن التحرر من الاغتراب الديني بعد التحرر من الاغتراب في الواقع، لكن نقد الدين هو شرط لكشف هذا الاغتراب.

ويرتبط خلق المقدس بخلق المدنس، شاملًا الإنسان. وكلما ازداد تبجيل المقدس ازداد المرء تحقيرًا لنفسه، وبذلك يفقد الفرد احترام ذاته؛ فالكل يذوب في واحد. وهذا ما يُستخدم في تبرير أنْ يصبح تحقيق سلطة الدولة أو الأمة أو أيُّ كيان هو الهدف، وما الفرد إلا ترسًا في آلة، لا أهمية له. فالغيرية هنا تساوي موت الفرد ليحيا المقدس. وهذا يكون شديد الوضوح في لحظات العبادة، فيصل المؤمن الحق إلى حالة فقدان الوعي بذاته، ويذوب لحظيًّا في ذات المقدس، خاصة في طقوس العبادة الجماعية حيث يسود اللاوعي الجمعي. ونجد هذا بوضوح في الحج، وطقوس الصوفيين، وفي الاحتفالات التي تتضمن الاعتداء على النفس (مثل ذكرى الحسين لدى الشيعة)، وفي الاحتفاء بذكرى البطل.. إلخ. كما نجده في الأنظمة الشمولية؛ فيمكن مثلًا التضحية بجيل كامل، أو بأيّ عدد من الأفراد لكيْ تعيش الدولة أو الزعيم، الذي ينظر للشعب على أنه قاصر وشرير وانتهازي ولا يحق له سوى أنْ يطيعه ويعشقه. ففي الدين يوجد الإنسان للآخر وليس لذاته، فهو يتحقق من خلال إفناء ذاته في المقدس، ومن ثم يصبح قابلًا للخضوع للكاهن، وللدولة، والطبقة المسيطرة، والزعيم. والشخص الذي يسلم تفكيره ويتماهى مع شخص آخر لا يمكن أنْ يغير آراءه مهما قُدِمَت له من المعلومات والوقائع الصحيحة. فالشخص الذي يخضع نفسه لمقدس ما يكون غير قادر على تحمل مسؤولية قراراته، فيعزيها إلى قوة مطلقة، وهو بذلك لا يتحقق، بل ينكسر.

وقد يصل التدين إلى حالة الهوس، فالمرء قد يصبح عاجزًا عن الحياة بدون الإيمان وعاجزًا في نفس الوقت عن الإيمان الحقيقي؛ فيتضافر “الكفر” الأخلاقي مع التدين الشكلي. فيضطر المرء لممارسة “الكفر” الأخلاقي لكيْ يواصل حياته في الظروف المحيطة، ولكنه في نفس الوقت يسعى لنيل رضا الرب، فلا يعرف إلا اللجوء إلى التدين الطقسي دون التخلي عن الكفر الأخلاقي، ويظل في هذه الدوامة. فيزداد كفرًا أخلاقيًّا ويزداد تدينًا شكليًّا، فيصل لحالة الهوس الديني المنتشرة الآن في بعض بلدان الشرق الأوسط. قد يفسر ذلك ظاهرة كون الشخص المتدين في العادة أكثر أنانية وعدوانية من الشخص غير المتدين.

كما يتضمن الدين التسلطي علاقة سادية – مازوخية. فالإنسان قد نزع عن نفسه كل خير وكل قدرة على المعرفة والفهم وأودعها في الجبار؛ الإله أو الزعيم الإله، ثم تصوره متسلطًا ونرجسيًّا، يريد منا أنْ نتفرغ لطاعته وأنْ نموت من أجله، ويُعد عصيان سلطته الخطيئة الأهم، بينما هو يستمتع بذلك. وكلما أثنى المرء على الإله شعر بالخواء، وكلما أمعن في ارتكاب الشر ازداد اغترابًا واحتماءً به. وهو يعاني طول الوقت من انفصاله عن نفسه؛ من اغترابه. والدين التسلطي كثيرًا ما يكون مرتبطًا بالسلطة الاجتماعية؛ بالدولة خاصة، أداة القمع المرعبة؛ فتضيف إلى سلطتها القمعية بركة الإله، سواء رب السماوات أو أيّ مقدس آخر.

وفي الأديان السماوية بالذات يتم الهروب من هذا الاغتراب إلى الاتحاد مع المقدس في عالم آخر وهمي؛ مجرد خيال، فيكون هروبًا من اغتراب إلى اغتراب آخر. وحتى في الأديان غير اللاهوتية يتم خلق مستقبل خيالي عن عالم مثالي؛ جنة على الأرض تظل مجرد سراب.

وحتى لو إذا صار الإنسان هو نفسه المقدس لاستمر الاغتراب الديني. فـ”الإنسان” في هذه الحالة سيُنظر إليه كما لو كان كائنًا منفصلًا عن كل البشر، مثلما يتم النظر إلى الأمة أو الوطن.

3 - الدين سلاح مزدوج لكنه في العادة يكون سلاح قوى التسلط:

مثل أيّ أيديولوجيا، للدين تأثير على النظام الاجتماعي، فهو ليس مجرد انعكاس سلبي. وفي نفس الوقت يتباين هذا الدور؛ فنفس الدين تستخدمه مختلف الطبقات بطرق مختلفة. فهناك الدين التسلطي، ودين يدعو للتحمل والاستسلام، ودين يكون هدفه اندماج الأفراد في العدم – بالضبط على حد وصف هيجل للبوذية – وقليلًا ما يكون سلاحًا للمقاومة، لكنه في الغالب يتم إعداده لخدمة الطبقة المسيطرة والقوى المعادية للتقدم. فهو مثل أيّ أيديولوجيا، أداة للسلطة بمختلف أنواعها، سواء سلطة الكهنة، أو سلطة الدولة، أو سلطة الفرد على من حوله؛ السلطة والسلطة المضادة، فحتى الطقوس إنما تعبر عن سلطة ما. فالصلاة الجماعية – مثلًا - هي آلية لإخضاع الناس، وتخفيف التوترات داخل المجتمع.

وكثيرًا ما يتم إدخال تعديلات على تعليمات الدين لتسويغ سياسة معينة، مثل إباحة القتل والكذب والسرقة والنهب باسم الإله. فهو يستطيع أنْ يتغير ويتأقلم مع أيّ منظومة اجتماعية. ولقد استخدم “الكتاب المقدس” في الماضي لتبرير الاستعمار واستعباد السود، ثم تطورت وتأقلمت – بعد مقاومة – مع الرأسمالية ومع العلم. الإسلام أيضًا استخدم لتبرير حكم السلاطين بالقوة، كما استخدمه الفقراء والمضطهدون كثيرًا لرفع شعارات تحررية. هذا لا يتوقف على نصوص الأديان، بل يرجع لطبيعة القوى الاجتماعية في هذا العصر أو ذاك، التي تنتج ما تشاء من النصوص أو تأويلها. وطالما أنَّ الطبقة الحاكمة هي الأقوى ماديًّا، تكون الأقدر على تطويع الدين، فتكون أيديولوجيتها – شاملة رؤيتها للدين - هي السائدة. ومثلما يكون الدين الوضعي انعكاسًا للاغتراب الاجتماعي والاقتصادي، فإنه يميل أيضًا لتكريس هذا الاغتراب. وبذا يلعب الدين عادة دورًا في تبرير وشرعنة العلاقات الاجتماعية القائمة والحفاظ على المؤسسات الاجتماعية التي تجسدها.

والمعتاد طول التاريخ أنَّ الدين يعيق الحرية والتقدم والرفاهية، فبحكم كونه أيديولوجيا مقدسة لا يكون من السهل تعريضه للنقد وتجاوزه. ومن هنا يأتي طابعه المحافظ. فحتى الآن تلقي الحرية الجنسية رفضًا حادًّا من منطلق ديني، ويعارض الملايين أكل لحوم الأبقار بنفس الحجة، وأكل أشياء أخرى كثيرة، ويتسلط رجال دين - خصوصًا من المسلمين واليهود - على النساء، فيفرضون ملابس معينة ويحرمونهن من الاختلاط بالرجال، بل ويحارب الكثيرون من فقهاء المسلمين فوائد البنوك على أساس أنها حرام، كما يحرمون تمثيل شخصيات تاريخية كثيرة على أنها مقدسة.

وأول خطوة في اتجاه التخلص من استخدام الدين لصالح قوى التسلط هو فصله عن الدولة والنظام العام والأخلاق، وجعله مجرد اختيار وممارسة شخصية. وبذلك تتاح التعددية الثقافية والمساواة بين الناس على أساس القانون، ويُفتح الطريق أمام التفكير النقدي والمبدع.

وهذه العلمانية توحد الجماعة البشرية أكثر بكثير من الدين، بل كان الدين عاملًا لانتشار مشاعر الكراهية والحروب والمذابح المتبادلة، حتى داخل البلد الواحد، وصارت البلدان التي تعلمنت أكثر تماسكًا واستقرارًا.

وقد تحققت العلمانية في معظم دول الأرض، لكنها مازالت بعيدة المنال في البلدان ذات الغالبية المسلمة، والعربية بالذات. وإنَّ استمرار ظاهرة الإسلام السياسي، بسماته الفاشية، في تلك البلدان، وخضوع ذهن معظم الجماهير له يعني لنا أنَّ تلك الجماهير مازالت مغيبة، عاجزة عن التفكير بحرية، مهزومة ومكسورة، وأنَّ أفقها مازال بالغ الضيق. وبالتالي ستظل عاجزة عن تحقيق أيّ خطوات ثورية مدروسة، وستظل احتجاجاتها تتم بعشوائية تفتقر للرغبة في التغيير الحقيقي وليس بعفوية الجماهير المدركة لذاتها. وسيكون من السهل على أيّ قوة منظمة أنْ تهزمها في النهاية. لا يجب أنْ نعزو فشل ثورات تلك الشعوب إلى صدفة غياب التنظيم الثوري أو القيادة، فكما قال أرسطو: طرح السؤال الصحيح هو نصف الجواب. والسؤال المجدي الآن هو: لماذا تسود تلك التيارات الغيبية والتي تعيش في كهوف الماضي حتى الآن؟ ولماذا تؤيد كتل جماهيرية هائلة تلك التوجهات حتى الآن رغم كل الكوارث التي سببتها؟ ولماذا لا تحمل تلك الفئات من الجماهير نزعات ثورية؟ ولماذا تعجز تلك الجماهير عن تنظيم نفسها وتفويض قيادة منها؟ فهذه الجماهير مازالت تبحث عمَّن يفكر لها ويقودها؛ عن زعيم، مخلِّص، مسيح؛ مهدي، نبي مكلف من السماء؛ “فكرة مطلقة” تنير لها الطريق. فلا تمتلك الثقة في النفس ولا حتى حب تلك النفس، بل تشعر بأنها مدنسة بما يكفي لتسليم نفسها طوعًا لمن تعتقد أنه طاهر ويمثل الخير المطلق. والفرد في هذه الحالة منسحق، لا يميز نفسه عن تلك الكتل فاشية الطابع؛ مجرد نفر في عشيرة تتحرك بأمر قائدها. إنه ينفر من التفكير النقدي ويكره من يختلف مع فكرته المطلقة، يعلن أنه مستعد للموت في سبيل المقدس، أيْ أنه بدون طموح سوى الذوبان في المجموع الذي استقال عقله، من أجل تحقيق النصر للفكرة المطلقة؛ إنه موجود للآخر وليس لذاته، فذاته مستلبة تمامًا، إنه مجرد نفر؛ نمرة، مثل جندي الجيش.

وينطبق هذا – إلى حد كبير – على اليهودي الذي ذهب إلى فلسطين استجابة لنداء زعمائه. الذين رغم إلحاد معظمهم، ينادونه باسم التوراة ووعد الرب. وهو يرتكب كل الجرائم ضد الفلسطينيين من أجل الاستيلاء على قطعة من الأرض، بيت صغير، بستان، المسجد الأقصى، لتحقيق وعد الرب، دون أنْ يسأل نفسه: لماذا لم يقم الرب بتنفيذ وعده بنفسه؟ ولماذا يكون اليهودي الصهيوني مضطرًّا للعيش في كل هذا القلق والخوف لكيْ ينفذ مهمة يفترض أنْ يقوم بها الإله بنفسه؟! هذه شخصية منسحقة أيضًا، تسعى للذوبان في عشيرة تحمل الفكرة المقدسة. لا يمكن قصر تفسير ظاهرة الصهيونية على اضطهاد اليهود، فالحلول الأسهل ممكنة، ولا على المصالح ولا المؤامرات. فوجود تلك الجماهير المكونة من جماعات مسحوقة عبر التاريخ، مغيبة، تفتقد للقدرة على الاختيار بالتفكير الحر، كان ضروريًّا لتحقيق الحلم الصهيوني. كما لا يمكن إعفاء تلك الكتل البشرية، من يهود شرق أوروبا خاصةً، المستعدة لقبول تلك الفكرة المقدسة، من المسؤولية؛ فقد عاشت طول تاريخها غريبة، كارهة لبقية البشر. كما لا يتحمل الدين اليهودي المسؤولية هو الآخر، بل بالعكس، إنه يعبر عن واقع اليهودي نفسه([31]). ففي شرق أوروبا وطوال قرون طويلة لعب اليهودي دور التاجر والخمار ووكيل السيد الإقطاعي والوسيط في جميع الأمور. كان شعبًا – طبقة، بتعبير أبراهام ليون([32])، يمارس مهنًا مكروهة ومحتقرة من قبل السكان، مما ترجم تلك المشاعر تجاه اليهود أنفسهم. وبذلك عاش يهود شرق أوروبا كجسم غريب في المجتمع، مكروهًا ومنبوذًا ومُزدَريًا، ممثلًا للشر في نظر السكان. ومن الطبيعي أنْ يكون ذلك الشعب مستعدًا للبحث عن الخلاص من وضعه المزري ومن اضطهاد السكان. فمن عجز عن أو رفض الهجرة إلى الغرب والاندماج بالسكان ظل منتظرًا للمخلص، فسلم نفسه لدعاة الصهيونية.

في الحقيقة يتم استخدام نصوص الدين في الحالتين من قبل زعماء يريدون أنْ يكونوا مسلحين بفكرة مقدسة ومدعومين بقوة مطلقة، نتيجة لعجزهم عن إنتاج فكرة تستطيع أنْ تجمع تلك النوعية من الجماهير المغيبة والمتعطشة لخلاص أسطوري، كبديل لعجزها عن تصور مخرج واقعي من عذاباتها. فهكذا يلتقي القادة بالجماهير الجاهزة للتماثل معهم.

ولا يمكن لأيِّ حوار بالمنطق أنْ يغير تلك النوعية من الذهن، بل لابد فضح وكشف تهافت وحقارة وانحطاط مثلها وفكرتها المطلقة بقسوة وبدون لف ودوران، ومواجهة هؤلاء الناس بدوافع خيارهم، ولن يتغيروا مع ذلك إلا حين تصبح القوى الثورية أيضًا قوية وقاسية بما فيه الكفاية. إنها جماهير معادية للثورة، بل تشكل احتياطيًّا للثورات المضادة.

4 - آلية تعويضية للمعاناة:

 الدين السماوي يحقق المساواة بين الناس، أمام المقدس ويوم الحساب، فيعوضهم عن عدم المساواة والاضطهاد والقهر، ويعيد الحق لأصحابه - زعمًا - يومًا ما. فالعبادات تكون متساوية لدى كل المؤمنين، وفي الصلاوات الجماعية يقف الكل سواسية (إلا في حالات معينة لأسباب أمنية في الغالب)، وقواعد الحساب الإلهية واحدة للجميع.

أما إنتاج خيالات، مثل صورة الجنة فهي آلية للهروب من الواقع، وحلم مكبوت في اللاوعي، وقد يكون رغبة نكوصية لعصر ما قبل التاريخ، حين عاش الإنسان الأول في غابات أفريقيا حيث تتوفر كافة احتياجاته ولا يحتاج لبذل مجهود للحصول على طعامه([33]).

كما يجيب الدين للإنسان على أسئلة لا يملك لها إجابة، فيجعل لحياته معنى. فالإنسان يعاني فعلًا مما سماه سارتر بـ القلق والسقوط واليأس، بسبب وجوده في العالم بلا معين، وبالتالي اضطراره إلى أنْ يصنع ماهيته وقيمه ويختار ما يفعل ويحدد مصيره بنفسه، حيث لا توجد لا قيم ولا خيارات ولا مصير محدد سلفًا. وهذا من دوافع الهروب إلى الدين؛ إنه هروب من الحرية، بتعبير إريك فروم. وهو سعي نحو الشعور بالأمان وبقيمة الوجود. وهو يحقق بالفعل قدرًا من الشعور بالطمأنينة.

وإنَّ السعي إلى الاتحاد مع أو الانصياع لإله مطلق القدرة يمنح الإنسان شعورًا بالاطمئنان والقوة الزائفة. وهذا لا يختلف كثيرًا عن التماهي مع زعيم ملهم، أو الانتماء لدولة قوية أو سلطة مطلقة. وهذا يفسر انتشار النزعات الصوفية، خصوصًا بين الشعوب الأكثر تعرضًا للقهر، ونجد هذا خصوصًا في أديان شرق آسيا.

الدين فعلًا عنصر مهدئ للإنسان البائس، والمغترب، والعاجز عن التحقق. إنه أفيون الشعوب - كما قال ماركس – من زاويتين: إنه عنصر مخدر، وعنصر معالج؛ مريح للنفس المعذبة. وإنَّ كشف هذه الحقيقة شرط ضروري لدفع الناس إلى البحث عن تجاوز واقع البؤس والاغتراب.

5 - النقد المعرفي:

المقصود هو نقد منطق الدين نفسه؛ طريقة التفكير استنادًا لشيء مقدس أو نص مقدس.

الدين الثنائي يحل مشكلة الخير والشر، لكنه يواجه مشكلة نظام العالم. فكيف يتعامل رب الخير ورب الشر، على أيّ أساس؟ وهل يحكمان العالم بنظامين مختلفين؟ أما الدين التوحيدي فيحل مشكلة نظام العالم، لكنه يواجه مشكلة الشر. إذ كيف يعمل الشيطان ودوافع الشر في النفس البشرية خارج الإرادة الإلهية؟ وكيف يحتاج الرب إلى مساعدة الإنسان لمقاومة الشر؟ هذه مشكلة غير قابلة للحل من داخل الدين. أما الأديان العلمانية فلا تستطيع حتى الآن تقديم تعليل ومخرج من الحروب القومية، والعنصرية، بل حتى لا تستطيع مواجهة صعود الأصولية الدينية المعادية للعلم والتفكير النقدي في العالم أجمع، ولا مواجهة الفاشية الصاعدة في كل أرجاء الأرض. وتؤدي ديانة النيوليبرالية، والعولمة، إلى تهميش شبه مخطط على مستوى العالم، وتراجع “حقوق الإنسان”.

 والدين ليس علمًا ولا يستطيع حتى الآن أنْ يتسق مع العلوم الفيزيائية. مازالت نظرية التطور – مثلًا - تلقى مقاومة على أساس ديني، ويتمسك المحافظون، باسم الدين في حالات كثيرة،  بالتحفظ على الأبحاث العلمية في علم الوراثة والاستنساخ بالذات. وفي مجال التاريخ تتناقض معطيات الأديان مع المعطيات التاريخية الموثقة. كما تلجأ الأديان اللاهوتية والعلمانية بتزييف حتى وقائع العالم المعاصر ونتائج مختلف أنواع البحوث، من آثار وحفريات وفيزياء وغيرها.

 لذلك فالأمر يحتاج إلى قلب الطاولة كلها؛ ثورة على كل تلك الخرافات، مع كشف علاقتها بالقوة المستغلة والمتسلطة في العالم.

 

 

***********************

 

‘في النهاية لا يمكن مقاومة الدين بالحوار والبرهان؛ فالجمهور العام يؤمن به. لكن يمكن فضح زيف بعض التعاليم الدينية، كشف الطابع اللإنساني في بعض النصوص الدينية، فضح رجال الدين، نشر المنطق والمنهج العلمي، الدعوة لقيم أكثر تحقيقًا للحرية والمساواة والإخاء. وفوق كل ذلك كشف العلاقة بين الدين بمختلف أصنافه والاستغلال وتسلط الحكام‘



([1])The Phenomenology of Mind, p. 231

([2])Lectures on the philosophy of religion, Vol. I. p. 89

([3]) Ludwig Feuerbach, Essence of Christianity: Introduction, 1 The Being of Man in General

([4])The Elementary Forms of Religious Life, p. 44

وهو يعني بالكنيسة: المجتمع الذي يتوحد أفراده حول تخيلهم المشترك لعالم المقدس وعلاقاته مع العالم المدنس، ولأنهم يترجمون هذا التصور المشترك إلى ممارسات متطابقة. نفسه، ص 41.

([5]) طه الهاشمي، تاريخ الأديان وفلسفتها، ص 30.

([6]) الدين والتحليل النفسي، ص 25.

([7]) لونا الحسني، المقدس والمدنس.

([8]) “فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم، وصحتهم ومرضهم، وحياتهم وموتهم، كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها، وهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه. ومن ثم ينبغي أنْ يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم، فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن من شؤون هذه الحياة، تنسيقًا بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري، وتنسيقًا بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني”، معالم في الطريق، فصل: نشأة المجتمع المسلم وخصائصه.

([9]) على سبيل المثال رأيِ برونو إيتين. محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، الأيديولوجيا - دفاتر فلسفية، ص ص 25 - 26.

ومن أمثلة هذا الفصل بين الدين والأيديولوجيا هذا الرأي: “فللدين بنيته الخاصة وللمطلب الديني موضوعه الخاص والأصيل الذي لا يختلط بغيره، والذي يشكل جذرًا عميقًا وأساسيًّا في نشوء أيِّ مدنية أو حضارة. ووجوده ليس ثمرة استلاب اقتصادي أو روحي، من دون أنْ يعني ذلك أنَّ الأديان غير معرضة للانحطاط والفساد والتشويه”. وهو رأيُ برهان غليون في كتابه المشترك مع سمير أمين: حوار الدولة والدين، ص 111.

([10]) حسن سلمان، الدين والأيديولوجيا.

([11]) تناول الموضوع بشيء من التفصيل خزعل الماجدي، علم الأديان، ص ص 517 - 527.

 ([12]) أسسه جان جاك روسو، وهو “ليس لديه من معبدٍ ولا هياكلَ ولا طقوس، والمقصور على عبادة الرب الأعلى وعلى واجبات الأخلاق الأزلية، إنه هو دين الإنجيل البسيط والنقي، والتوحيد الخالص، وهو ما يمكن أنْ يُسمى الحق الإلهي الطبيعي”. The Social Contract, p. 70

([13]) وصفها دوركايم كالآتي: “إنَّ ميل المجتمع إلى تنصيب نفسه إلهًا، أو إلى صناعة آلهة، قد ظهرت ببروز إبان السنين الأولى للثورة. ففي تلك اللحظات من الانجراف الحماسي، تحولت بعض الأشياء الدنيوية تمامًا بطبيعتها، إلى أشياء مقدسة، وذلك تحت تأثير الرأي العام؛ وهي: الوطن والحرية والعقل”، The Elementary Forms of the Religious Life, pp. 215 - 216

([14]) رغم تبنيه للوضعية لم يعلن أنَّ عصر الدين قد انتهى، بل دعا إلى دين جديد، بلا ميتافيزيقا ولا لاهوت؛ دين يقوم على حقائق العلم، وبما أنَّ الناس يحتاجون إلى دين لجعلهم يحبون شيئًا أكثر من أنفسهم، كما يحتاجه المجتمع لأنه في حاجة إلى قوة روحية، وبالتالي يكون الدين الذي يحقق الغرضين معًا هو دين الإنسانية. وبدلًا من الله يكون “الوجود الأعظم”؛ الإنسانية ذاتها، أيْ الناس، هي الإله. وفي هذه الديانة لا يكون هناك انفصال بين المقدس والمدنس، وتكون الحياة نفسها هي العبادة. Kemal Atman, Religion of Humanity Revisited

([15]) “لا يجب أنْ يقتصر الدين على العقائد الجامدة ولا يجوز تعليمه من الكتب، ولا يجب أنْ يكون لاهوتيًّا بل بالأحرى أنْ يكون قوة حية تزدهر في الحياة الواقعية للشعب، أيْ في عاداته وتقاليده وأعماله واحتفالاته. يجب ألا يكون الدين أخرويًّا، بل دنيويًّا إنسانيًّا، وعليه أنْ يمجد الفرح والحياة الأرضية لا الألم والعذاب وجحيم الحياة الأخرى”. نقلًا عن أحمد عبد الحليم عطية، من تقديمه لكتاب “فويرباخ – أصل الدين، ص 12.

([16]) خزعل الماجدي، علم الأديان، ص ص 121 - 122.

([17]) مستقبل وهم، ص 61.

([18]) قال إنجلز: “إنَّ الدين قد ولد في عصور بدائية، من تخيلات الناس الخاطئة، البدائية عن طبيعتهم وعن الطبيعة الخارجية التي تحيط بهم”، Ludwig Feuerbach And The End of Classical German Philosophy, Part 4

([19]) خزعل الماجدي، أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ، ص 35.

([20]) طه الهاشمي، تاريخ الأديان وفلسفتها، ص ص 180 - 189.

 ([21])  خزعل الماجدي، المرجع السابق، ص 31 وما بعدها.

Yuval Noah Harari, Sapiens, A Brief History of Humankind, P. 98 ([22])

([23])Aleks Krotoski, Robin Dunbar: we can only ever have 150 friends at most

([24])R. I. M. Dunbar, The Origin of Religion as a Small –Scale Phenomenon

([25]) خزعل الماجدي، المرجع السابق، ص 31.

([26]) على قول فويرباخ، أصل الدين، ص 41.

([27])Critique of Hegel’s Philosophy of Right, Introduction

([28]) The Philosophy of History, p. 66

([29]) Essence of Christianity: Introduction, 2. The Essence of Religion in General

Ibid., Chapter XXVII. Concluding Application ([30])

([31])على قول ماركس: “يجب ألا نبحث عن سر اليهودي في ديِنه، وإنما عن سر الدين في اليهودي الواقعي . حول المسألة اليهودية.

([32]) المفهوم المادي للمسألة اليهودية.

([33]) طرح هذه الفكرة العالم الروسي سيرغي سافيلييف،

https://www.facebook.com/335082453364234/posts/httpswwwyoutubecomwatchvycm9bwxxgby/1117936845078787/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق