الجمعة، 1 مايو 2020

الحرية - فصل من كتاب الثورة المستمرة -عادل العمري




 

 قدرة المرء على

 اختيار

 سادته لا تلغي

 السادة

ولا العبيد

 

 هربرت ماركيوز

 

 - معنى الحرية:

المقصود هنا بالحرية حرية الفرد، لا حرية الوطن ولا الدولة، ولا الأمة، ولا أيّ نوع من الجماعات أو الكيانات الاعتبارية.

ولا يوجد أيُّ اتفاق على معنى الحرية. فقد طرحها الفلاسفة والمفكرون وأصحاب النظريات السياسية بمعانٍ مختلفة. وأقصى ما بلغه الفكر البورجوازي هو نظرية العقد الاجتماعي؛ الحرية شبه الكاملة تحت رقابة الدولة المحجمة إلى أقصى حد ممكن. أما في الفكر الاشتراكي الجذري، الماركسي ومجمل الأناركي؛ فاتخذ المفهوم معانيَ أرحب. فالحرية الفردية تبدأ بتحرر البروليتاريا (الطبقة العاملة)، ومعها المجتمع كله من النظام الرأسمالي، فيختفي العمل المأجور، ومعه الاغتراب، ويدير الناس شؤونهم بأنفسهم، مما يحرر الأفراد ويمنحهم فرصة تحقيق ذواتهم، كما يسمح تطور القوى المنتجة بتحقيق سيطرتهم على الطبيعة.

أعرض معنى للحرية يمكن أنْ نحدده هو أنها حرية الذات ككل. فالإنسان جسد ونفس، أو جسد له نفس؛ ليس مجرد عقل، بل أيضًا غرائز وعواطف، والعقل أحد أدوات النفس؛ مجرد ملكة. فالذات هي مركب من الوعي واللاوعي. وكما ذهب يونج، الوحدة الكلية للنفس بشطريها الواعي واللاواعي، حيث يشكل اللاوعي الجزء الأكبر منها([1]). وهي ليست كيانًا ولا كائنًا مستقلًا. ويتبادل الوعي واللاوعي المواقع، كما تتكون الإرادة من تفاعلهما معًا. فالإرادة هي رغبة الذات ككل. وهذه المسألة تحتاج بعض الشرح: لا توجد أيُّ أشباح داخل الجسد، بل المقصود بالنفس (أو الروح) هي مجرد تجريد لمجموعة المشاعر والغرائز والميول السلوكية الخاصة بالشخص. ويتحكم في كل هذا الجينات والهرمونات والجهاز العصبي. أما الذات فليست هي الأخرى جوهرًا معينًا، وليست أزلية ولا ثابتة، بل هي أيضًا تجريد؛ الوعي واللاوعي في تفاعلهما، والخلاصة تَكوُّن ما نسميه بالإرادة. إذن فالذات ليست جوهرًا قائمًا بذاته، بل هي شيء يتكون في الجماعة البشرية، بل هي نتاجها بالتحديد؛ فالفرد ابن الجماعة، وليست الجماعة مجموعة من الأفراد، بل إنَّ الجماعة أولًا ثم الفرد، والذي يكتشف ذاته، وتميزه بعد أنْ يرصد اختلافه عن بقية عناصر الجماعة، ودوره الخاص في حياة جماعته. الجماعة تمارس السلطة والفرد يصبح فردًا لأنه يقاوم تلك السلطة؛ إنه قوة مضادة. باختصار: الجماعة هي التي تنتج الفرد لا العكس.

 - الحرية إذن هي أنْ يكون الفرد موجودًا لذاته، وليس في ذاته ولا للآخر، فيقرر ما يشاء “هو”؛ بمعنى أنْ يختار ما يتوافق مع نفسه بدون ضغوط من أيّ جهة كانت. وهو ما يعني التفرد؛ أنْ يكون كل فرد كائنًا فريدًا؛ ليس “نفرًا” ولا منمطًا، بل ذاتًا مبدعة، متحققة. ولأنَّ التحرر فعل واع، فالإنسان الحر يسيطر على ذاته؛ على مشاعره وغرائزه وحتى على عقله؛ يستمتع بكل هذا بوعي وإدراك، بتوجيه كل هذا بما يحقق له السعادة، وبدون كبت، فالكبت هو - على العكس – فعل لا واعٍ لإخفاء الرغبات والمشاعر. وهذا يتطلب العمل ضد النظام الاجتماعي، والأنا الأعلى، أو الضمير التسلطي، والأيديولوجيا المقدسة، والسلطات القمعية، لتوسيع مساحة حريته. وفوق وقبل كل شيء أنْ يثق الفرد بذاته وبقدرتها النابعة من خبرتها الخاصة، وبالتفكير النقدي، وليس بشيء خارجي.

 ولكي يكون الفرد حرًّا بالفعل، أيْ قادرًا على الاختيار بحرية، عليه أنْ يتخذ القرار النابع من قناعاته الخاصة؛ ألا يخضع لسطوة المجتمع، والإعلام أو المؤسسات الأيديولوجية التابعة للطبقة المسيطرة. الإنسان الحر هو من يستطيع أنْ يجيب لنفسه على سؤال: لماذا أختار هذا أو ذاك؟ أنْ يصبح الإنسان موجودًا لذاته بالفعل. فالإنسان الحر إنسان قادر على الاختيار؛ إنسان مثقف ومدرك لذاته، فالتحرر الإنساني فعل واع. ولكي يكون المرء موجودًا لذاته، أو هو ذاته، ينبغي أنْ يكتشف لاوعيه، بالتأمل الذاتي والتفكير بعيدًا عن مؤثرات السلطة. ففي اللاوعي يكتشف المرء رغباته الحقيقية وميوله ونوازعه، وضميره الإنساني، وإذا استطاع أنْ يعرف نفسه يصل إلى مرحلة النضج؛ التنوير بالمفهوم الكانطي، فيصبح متحكمًا في قراراته. وهو إنسان ملتزم يهتم بالعمل العام؛ بالعمل في جماعة؛ فالعمل في جماعة يحفز الإبداع. أما الشخص الأناني، المتمحور حول إرضاء ملذاته المباشرة فلا يتطلع إلى المستقبل، منطو على ذاته، يحافظ عليها “في ذاتها” ولا يحققها، لا يطلق قدراته وطاقاته. والفرد المتوافق مع الجماعة لا يكون بالضرورة خاضعًا لها، بل متفقًا معها، ولأنه متفق (بإرادته الحرة) بالذات، يستطيع أنْ يختلف ويقترح ويبادر، فحريته تشمل مبادرته في المشاركة في تقرير مصير الجماعة. وباختصار لن يستطيع الفرد أنْ يبدع ويحقق ذاته إلا في علاقته بالجماعة.

والفرد الحر ليس نفرًا في الجماعة، بل هو نتاج الجماعة. لذلك لا يمكن أنْ تكون حريته إلا ضمن المحافظة عليها؛ الجماعة الحرة، التي تحترم الفرد، وسلطتها مركزة في حماية حرية الأفراد؛ ليست الدولة ولا مؤسسات القمع الأخرى. وعلى النقيض من التحرر؛ فالشخص الذي يستعبد الآخر متصورًا أنه حر ليس حرًّا؛ ففي قهره للآخر يقهر ذاته بطريقتين: يقتل انتماءه للجماعة، ويعطي الحق للآخرين في استعباده. كذلك فالإنسان الحر لا يشتري حب الناس بالمال بل بالحب، فالمرء يشتري بالمال ما يعجز عن فعله بنفسه.

وهناك تساؤل نظري شائع: هل يوجد شيء اسمه حرية الإرادة وهل يمكن أنْ يكون الإنسان حرًّا فعلًا؟

لا يوجد كيان فطري معين اسمه الروح أو الذات أو الإرادة، فكل هذه تتكون لدى الأفراد داخل الجماعة، وفي سياق تفاعل الأفراد معًا ومع الطبيعة. وبالتالي لا توجد لا روح ولا ذات ولا إرادة مستقلة إلا في حدود شروط وجود وتكون الفرد. هذا الفرد لا “يريد” إلا وفقًا لتكوينه وارتباطاته المعقدة مع الجماعة؛ فالأنا هي شيء يتكون؛ مكتسب وليس جينيًّا. ومثل أيّ شيء مكتسب، يكون محكومًا بعوامل تكوينه؛ ليس حرًّا بالمعنى الحرفي للكلمة. وفي العموم لا يوجد أيُّ شيء حر بالمعنى الحرفي للكلمة. وقد صاغ سبينوزا هذه المسألة بشكل دقيق: “الإرادة في حاجة، مثل جميع الأشياء الأخرى إلى علة تحدد وجودها وطريقتها في التصرف... ليس في النفس أيُّ إرادة مطلقة أو حرة، بل يتحتم على النفس أنْ تريد هذا أو ذاك بمقتضى سبب يحدده سبب آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية... فحتى الله لا يمكن أنْ يوصف بأنه يتصرف وفقًا لحرية الإرادة”([2]).

أما عن تعريف الحرية بأنها أنْ تفعل ما لا يضر بالآخرين أو يحد من حريتهم، فهو تعريف قانوني لا قيمة له إلا في حدود القوانين. وبسبب القوانين، أو النظام الاجتماعي عمومًا، أو الضمير المجتمعي، أو ضغوط الآخرين، لا يمكن تحقيق الحرية كاملة أبدًا. فباسم الشعارات تم إخضاع الفرد وتنميطه وجعله ترسًا في آلة النظام لا فكاك له. وحتى مع تقدم قوى الإنتاج وإمكانية تخفيض ساعات العمل بشكل جذري تخلق الرأسمالية أعمالًا وهمية لجعل الناس مستمرين في الاغتراب وعدم منحهم فرصة للثورة. ومع ذلك فليس المطلوب أنْ يصبح الفرد سيكوباتيًّا، بل أنْ يناهض قوى التسلط في المجتمع، سواء كانت على رأسه أو في ثناياه، والتي تعيق حق الفرد في أنْ يكون نفسه.

والبحث عن الحرية ليس تحقيقًا لا للطبيعة البشرية كما ذهب البعض، ولا لقوانين التاريخ. بل إنه مجرد خيار؛ فهناك بجانب الميل إلى الحرية والسيطرة، ميل بشري إلى الخضوع للجماعة؛ غريزة القطيع، أو غريزة العشيرة. وهي التي تفسر - ضمن عوامل أخرى - ظاهرة الاستبداد. إذ يترتب على الحرية الشعور بالمسؤولية؛ فالفرد يصبح مسؤولًا عن أفعاله، فلا يمكنه أنْ يلوم أحدًا على النتائج. ربما لهذا السبب لا يسعى معظم الناس إلى التحرر إلا في حدود. ولذلك فسر فروم ظهور الشخصيات السادية – المازوكية بالرغبة في التخلص من عبء الحرية([3]).

إنَّ الاختيار الحر للحرية ضروري لتحقق ذات الفرد واستمتاعه، ولإبداعه. وربما لهذا السبب الأخير عادة ما تستقطب الطبقات الحاكمة المبدعين الضروريين لمصالحها وتضمن لهم حريتهم - أحيانًا - حتى يكونوا مبدعين في عملهم.

وهناك فرق بين التحرر والحرية. فمن الممكن أنْ يتحرر المرء من الفقر، والعوز، والأمراض المتوطنة، بل ومن الدولة نفسها، لكنه لا يصبح حرًّا بمعنى الكلمة إلا حين يكون قادرًا على الاختيار بنفسه وبدون أيّ ضغوط. فالتحرر عملية متواصلة، فعل مستمر، أما الحرية فهي شيء في طريقه إلى أنْ يوجد؛ الهدف النهائي لعملية التحرر.

 لا سقف للحرية، ببساطة لأنه لا يمكن تحقيق الحرية الكاملة للفرد أبدًا في المدى المنظور.

 - الحرية والضرورة: لا يستطيع البشر إلغاء قوانين الوجود، لكن إذا رفعنا سقف الطموح البشري سنجد أنَّ الحرية هي كسر الضرورة؛ تجاوزها. فقوانين الطبيعة هي ما نصيغه، وهي تتغير وتُكسَّر بالفعل مع نمو البحث العلمي، كما لا توجد قوانين صارمة للتاريخ، بل مجرد ميول. ولأنَّ هناك ضرورة لن تختفي أبدًا، فحرية الإنسان ستكون عملية تحقق باستمرار وليست لها نهاية. فمع التقدم العلمي والتكنولوجي مع تفكيك قوى القمع في المجتمع سيتمتع الفرد بالمزيد من الحرية. إنها نفيٌ لكل سلطة قمعية، سواء على صعيد محيط الفرد، أو على مستوى المجتمع ككل، وهي أيضًا ضد هيمنة القادة والزعماء والسياسيين المحترفين والأفراد المؤلهين؛ “معبودي الجماهير”. وهذا سبب آخر يجعل تحقق حرية الفرد بالكامل غير ممكن أبدًا، بل ستظل هدفًا. فعلى قول دوركايم: إنني لا أستطيع أنْ أكون حرًّا إلا بمقدار ما يكون ممتنعًا على الآخرين أنْ يستفيدوا من تفوقهم الجسمي، أو الاقتصادي، أو أيّ تفوق آخر يتمتعون به، لفرض الاستعباد على حريتي([4]). ويظهر مع تقدم الإنسانية ميلان. الأول: تقدمها تقنيًّا وأخلاقيًّا قد يمكِّن الأضعف والأقل مكانة أنْ يتحرر بدرجة أو بأخرى، فيميل الأفراد إلى التعادل في القوة والمكانة، ويميل الأقوى إلى التعاون والتعاطف مع الأضعف، وتكون الديموقراطية أعمق بكثير منها في الوضع الحالي. الثاني: على النقيض من ذلك؛ فالتقدم التقني يهدد بازدياد الفجوة بين الناس في القدرات المعرفية والقدرة على التأثير في الآخر. فالثورة البيولوجية تهدد بخلق إنسان أكثر قدرة وذكاء، والثورة التقنية تهدد بارتفاع حجم “الفائض البشري” إلى أقصى حد.

لكل ما سبق، الحرية هي شيء لا يتحقق أبدًا، بل ستظل موضوعًا للكفاح بين الذات والموضوع. فالفرد لا يعيش إلا في مجتمع بكل ضغوطه.

 - التلقائية شرط لأنْ تكون حرًّا، بالضبط مثلما يكون الطفل حرًّا، ومثل الفنان؛ الشخص الذي يستطيع أنْ يعبر عن نفسه تلقائيًّا([5]). التلقائية هي حرية اللاوعي بالتحديد، أنْ يكون كل فرد فنانًا. لكن لا معنى للحرية إذا لم نشعر بها، فهي تشترط تحول اللاوعي إلى الوعي. واللاوعي – كما أشرنا من قبل – هو جملة الرغبات والميول والأفكار والأغراض التي لم تتحقق، نظرًا لخضوعها للأنا الأعلى، أو الضمير. ذلك جزء خاص من النفس صار رقيبًا على الفرد، وهو في الحقيقة يمثل السلطة المجتمعية بكل أنواعها، فهذا هو الضمير التسلطي.

إنَّ تحقيق التوافق بين اللاوعي والأنا الأعلى هو بالضبط ما ندعوه بالحرية. هذا يتطلب تغيرات اجتماعية وثقافية عميقة ومتعددة لإزالة قيود الواقع على نزعات الفرد، مع خلق توافق بين نزعاته وضميره، فيختفي الكبت. وهذا يتطلب تحقيق توافق بين الضمير التسلطي والضمير الإنساني العام (سبقت الإشارة إلى هذا المفهوم). ولا يمكن تحقيق هذا التوافق بشكل كامل أبدًا، لكن يمكن فقط أنْ يسير في طريق التحقق. وإزالة التناقض بين الضميرين، يشترط تغيرات اجتماعية واسعة وعميقة، فلا حرية دون التحرر من الاغتراب بأنواعه؛ الديني والاجتماعي والاقتصادي، ومن الشعور بأنَّ المرء يستند إلى "قوانين التاريخ" أو يحمل رسالة للبشرية، من الدوجمائية لصالح التفكير النقدي. ولا حرية في إطار قانون للقهر و”القيم” و”المبادئ” التي تسنها الدولة أو جماعة مهيمنة، ومؤسسات القمع الأيديولوجي والعنيف. كما أنَّ الحب الحر، أو حرية الحب، هو الحب التلقائي؛ الحب للحب، بدون مشروع اجتماعي (زواج) أو مصلحة، يتطلب قدرًا من التكافؤ والحرية للطرفين.

 - عملية قهر الشعوب وكبتها من قبل قوى التسلط تحول جزءًا من وعيها إلى اللاوعي. وهذا الكبت يعبر عن نفسه في ظواهر مثل السيكوباتية والنزعة العدوانية، والنزعات التدميرية عمومًا. فالتحرر إذن يتطلب – كما أشرنا من قبل - تحويل اللاوعي إلى وعي، بدراسة النفس؛ بالاستبطان، وبالتفكير النقدي، بوحدة التلقائية والعقل. وهذا لن يكتمل أبدًا، فسوف يظل اللاوعي أقوى من الوعي، لذلك ستستمر عملية السيطرة على الذات وتحقيقها في طريقها إلى أنْ توجد. بهذه الآلية يمكن، بدلًا من كبت الغرائز، ممارستها مع توجيهها بوعي، مما يوسع آفاق الناس، والوعي بالذات، والثقة بالنفس. وهذا يتطلب عملًا نضاليًّا مستمرًّا لتوسيع أفق الضمير المجتمعي؛ الأنا الأعلى، وباختصار تقليل المحرمات وزيادة مساحة حرية الفرد. وكلما حل الضمير الإنساني العام محل الضمير المجتمعي يصبح الفرد أكثر حرية.

إنَّ الحرية في ظل أيّ نظام محدد؛ رأسمالي أو اشتراكي وغيرهما، تكون في حدود قبول النظام فقط. لذا فالإنسان المعاصر ليس حرًّا رغم ما يبدو عليه؛ فهو خاضع للنظام بكل مكوناته، موجود لصالح القلة المهيمنة، وهو “حر” في بيع قوة عمله وفي اختيار من يقمعه أو يستغله، وفي النظم الديموقراطية حر في انتخاب من يحكمه. والنظام يصنع له طريقه العام في الحياة، بل يخلق له طريقة استمتاعه؛ فحتى بيوت الأزياء تصنع مزاجه في الملابس. بل إنه قد لا يشعر بالقهر الواقع عليه؛ إنه ذو بعد واحد بتعبير ماركيوز: إنسان استهلاكي، متلق، مسلوب الإرادة.

 - ومن شروط التحرر: العمل الحر، الذي يتسق مع القدرات والمواهب والرغبات الشخصية؛ أيْ العمل لتحقيق الذات. لأنَّ اغتراب العمل والاغتراب عمومًا هو عدوان مباشر على الحرية، والعمل المأجور أو العمل من أجل السوق يجعل العامل موجودًا للآخر، فعمله هو نفيٌ لحريته. فلا حرية لمن يضطر إلى بيع قوة عمله أو عمله، ولا يمكن في العموم تحقيق الحرية بدون تحقيق المساواة الاقتصادية.

إنَّ تحقيق الذات هو قمة التحرر، وهذا هو أعلى حاجة في سلم الحاجات، ولا يصل إليه الا قلة من الأفراد. ويختلف شكل تحقيق الذات من فرد إلى آخر، حسب نوازعه وقدراته ومواهبه. وهذا يتطلب أولًا توفر حرية الفرد في الكلام والفعل والتعبير عن النفس، والوصول إلى المعلومات، وحرية الدفاع عن النفس، والعدالة([6]). وأولئك الذين يحققون ذواتهم يتصفون – مثلما ذهب علماء النفس الإنسانيون - بما يأتي: الإدراك الدقيق للواقع – تقبُّل الذات - تقبُّل الآخرين - التلقائية – التركيز في المشكلات والسعي لحلها – المحافظة على الخصوصية - مقاومة المسايرة - شعور قوي بالتعاطف مع الناس ومشاركتهم وجدانيًّا خلال الأزمات الفردية أو الجماعية - خبرات الذروة - الديمقراطية في القول والسلوك - الإبداعية - العلاقات الاجتماعية الوثيقة مع قلة من الأفراد - روح النكتة الخالية من العداء - الاستمتاع المتجدد المستمر في تذوق أساسيات الحياة - درجة عالية من الاستقلالية([7]).

 - يولد الناس – مثل كل الكائنات - أحرارًا بالفعل. هذا القول الشائع يصف الواقع. لكن هذه تكون حرية ما يسميه فرويد بـ “الهو”([8])، الذي يمكن تلخيصه في: الميول الغريزية الفطرية. فالطفل يحب أنْ يتصرف بطبيعته، حسب دوافعه الغريزية، وكل إنسان يحمل هذا الميل دائمًا، لكنه يتعرض منذ ولادته لأشكال متعددة من القمع في صورة تحريمات وأوامر، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ونظرًا لضعفه واحتياجه للآخرين يضطر للخضوع، وتفشل مقاومته. وبعد ذلك يتعرض للموقف نفسه من كل سلطة حوله: المجتمع والدولة والمؤسسات المختلفة، فيتصرف بدفع الخوف والطمع؛ الخوف من العقاب والطمع في الحصول على احتياجاته المادية والعاطفية أو بعضها. بل ومع الوقت يتكون ضميره الذي ليس من إنتاجه في الحقيقة، بل هو سلطة المجتمع وقد اخترقت ذهنه. ويكون هذا الضمير رقابة داخلية في النفس، ممثل أدوات القمع داخلها، رغم استقلاله عن سلطة العقاب والثواب، وهو نتاج لهزيمتها في السعي إلى الحرية. ويختلف الناس في مدى خضوعهم لتلك السلطة؛ فالبعض يتأقلم معها ويخضع لها، بل وقد يشعر بالسعادة في هذا الخضوع، والبعض يظل رافضًا، مقاومًا، متمردًا. وكل البشر مصابون بالعصاب - بدرجات - بسبب هذا الكبت والقمع لحريتهم الغريزية، سواء اتبع الفرد ضميره أو خالفه.

ولأنَّ الضمير هو من إنتاج الحضارة، وهو من يراقب ويقمع نزعات اللاوعي، فتكون حرية الفرد ليست من مِنَح الحضارة، بل كانت في أقصى درجاتها قبل نشوء أيّ حضارة. لذلك يعتبر الشخص المتحضر هو الأقدر على كبح جماح نفسه، والأقدر على التلاؤم مع القيم الاجتماعية السائدة؛ مراعاة الآخر؛ فهو إذن الأقل حرية. إنه يقمع نفسه بنفسه لصالح المجتمع ولصالحه الخاص أيضًا، فقد يفقد مصالحه وحب واحترام الآخرين وعلاقته بالوسط المحيط إذا أطلق العنان للسانه ولمشاعره وغرائزه. فحتى الآن الحرية والحضارة على طرفي نقيض. وقد ارتبط التحضر بالقمع، فتاريخ الإنسان هو بالفعل - كما قال فرويد - تاريخ قمعه، ابتداءً من تعليم الطفل التحكم في غرائزه وتهديده بالعقاب. ربما لهذا السبب نجد أنَّ الشعوب الأقل تحضرًا قاومت الاستعمار بقوة أكبر من الشعوب المتحضرة، التي اعتادت الذل. ولنفس السبب يعتبر الشخص “البريء”، الذي لم يتم تدجينه بدرجة كبيرة أقدر على إطلاق ما في قلبه على لسانه، وهو من يتصرف بتلقائية. إنَّ الحضارة قد خلقت القيود على الفرد، خلقت أنا أعلى جماعي يحتل جزءًا من ذهن الفرد، مكونًا الضمير الفردي.

هذا الكلام عن الضمير يُقصد به الضمير التسلطي، لا الضمير الحر، الإنساني العام. وفقط إذا صار المجتمع يسمح بتحقق حرية الأفراد إلى حد ملموس، وحين تختفي السلطات القمعية بدرجة كبيرة، وحين يتعلم الناس أنْ يربوا أبناءهم بطريقة تحترم ذواتهم وعقولهم، وحين يصبح التعاون بين الناس أهم من المنافسة، حينئذ يصبح الضمير أقل تسلطية وأكثر “إنسانية”؛ متسقًا أكثر مع ميول الفرد، وضميره الإنساني، ومع طاقاته وتطلعاته التي اختارها بحرية، وليس تحت ضغط معايير مفروضة من قبل السلطات القمعية. حينئذ يصبح الفرد – إلى حد ما - سلطة على نفسه، حيث يكون مشاركًا في إنتاج قيم وأخلاقيات ومعايير المجتمع. ولا يمكن أنْ ننكر أنَّ الضمير حاليًا يتضمن مكونًا ما من نزعة إنسانية عامة، إلا أنَّ تحقيق درجات متزايدة من تحرر الفرد كفيل بزيادة حجم ودور هذا المكون. ولتحقيق مزيد من حرية الفرد لابد من ثورة مستمرة ضد الضمير المجتمعي، لصالح الضمير الإنساني العام؛ ثورة على الثقافة السائدة وقيم المجتمع المعاصر. ولسوف نسير نحو الحرية بقدر ما يتم توحيد الضمير المجتمعي مع الضمير الإنساني العام، فتصبح الذات أقل تعرضًا للكبت، وأكثر تلقائية واتساقًا مع نفسها.

 - العبودية الطوعية([9]): لا يمكن تفسير خضوع شعب بأكمله لتسلط فرد أو أفراد، أو طبقة صغيرة العدد بالجبن والخوف، بل إنَّ الجبن والخوف هما اللذان في حاجة إلى تفسير. ولا يمكن أنْ تكون حياة الإنسان الشديدة التنوع والمليئة بالتناقضات مخالفة لطبيعته؛ بل إنَّ طبيعته تتضمن الجينات ومرونة ردود الأفعال والسلوك. وضمن هذه المرونة المفاضلة بين الأمان والحرية، راحة الذهن وتحمل المسؤولية، حسب الظروف. يضاف الدور الجوهري للأيديولوجيا، شاملة الدين، التي تسيطر على مشاعر الناس وميولهم وحساباتهم. وفي الأساس يتسم وعي عموم البشر بالميل المحافظ، وبالخوف من التغيير. وتستغل الطبقات المسيطرة قلة طموحات الجماهير، وخوفها من المجهول، ورغبتها في الاستقرار والشعور بالأمان في نشر أيديولوجيتها. وهذا ما يفسر اختيار العبودية من جانب معظم الناس على مدى التاريخ. فرفض القهر ربما ينتج عنه فقدان الحياة أو الاستقرار، والشقاء والمعاناة في نواح مختلفة. بل أحيانًا ما يكون هناك احتياج من قِبَل الشخصيات الضعيفة للقهر والتسلط (المازوخية). كما أنه لا يمكن للناس أنْ تعيش طويلًا تحت ظل العبودية دون أنْ تصبح راضية، أو مقتنعة بأنها الخيار الصحيح أو حتى المثالي. فلم يكن من الممكن أنْ تستمر الدولة مالم يؤمن الناس بضرورتها، ولا يمكن لنظام أنْ يستمر مالم يقتنع جزء من الناس به. ولنا في ذلك مئات الأمثلة، أبسطها اقتناع الناس بفكرة الحق الإلهي للملوك لمئات السنين. وهذا يفسر لنا أنَّ هناك من الناس من لا يحب الحرية، وهناك ناس لا تستطيع أنْ تمارس الحرية، تصاب بالعصاب نتيجة تحررها، بل ترفضها أصلًا باعتبارها مسؤولية. ومن المعروف أنَّ بعض العبيد لدى تحريرهم كانوا يقاومون الفكرة. لقد كسرهم القهر الطويل.

المؤكد أنَّ الإنسان يسعى للمحافظة على نوعه وبالتالي على حياته. وهذا يدفعه إلى السعي نحو الحصول على قوة ما. ونظرًا لتفاعل الميول الغريزية مع الثقافة المتباينة من مجتمع لآخر ومن فرد لآخر، بجانب تفاوت القدرات الجسدية والعقلية، تتعدد طرق وأساليب تحصيل القوة. وهذا – في زعمنا – ما يفسر وجود توجهات مختلفة ومتناقضة لدى الأفراد، مثل السعي لامتلاك قوة معرفية أو قوة بدنية أو مكانة وهيبة اجتماعية. وحتى العبودية الطوعية تحقق قدرًا من الأمان والشعور الزائف بالقوة نتيجة الارتباط والاحتماء بقوة حقيقية.. إلخ. نعتقد أيضًا أنَّ صناعة المقدس تتم في نفس السياق، وهو ما قد يفسر ظهور الدين العلماني بعد تنحية الأديان اللاهوتية إلى حد ما، في صورة مقدسات أرضية من بشر ورموز متعددة لا تختلف كثيرًا في مغزاها عن الطوطم لدى القبائل البدائية. وللأسف لم يكن سعي الشعوب نحو التحرر من سلطة ما إلا نحو الخضوع لسلطة جديدة (هل يفسر هذا الدعوات الدائمة إلى بناء التنظيم الثوري الطليعي والقيادة الثورية؟).

وقد بدأت بذرة العبودية الطوعية في الخضوع للمقدس، قبل نشوء الدولة، حيث خضع الناس بإرادتهم لشيء من خارجهم صنعوه بأنفسهم، وقبل نشوء الطبقات. وبخصوص الدولة بالتحديد، ذهب مارسيل جوشيه إلى أنَّ قبول الناس الخضوع لها بدأت بذرته بالخضوع للمقدس الديني([10]). وهي فكرة تبدو معقولة، فتكشف لنا عن وجود استعداد للعبودية الطوعية لدى البشر. وهذا لا يعني إطلاقًا أنَّ نشوء الدولة كان حتميًّا أو مسارًا لا مفر منه للبشرية، بل مجرد إمكانية. ونتصور أنَّ العبودية الطوعية تجد أحد جذورها في صناعة المقدس. فحين نصف فلان بأنه عالم قدير في مجال ما، أو فنان موهوب أو لاعب كرة مقتدر أو سياسي محنك، أو مناضل شجاع، أو زعيم له كاريزما.. إلخ، فهذا أمر لا غبار عليه، وكل هذا يستحق الاحترام. لكن حين يتم تحويله إلى مثال أو نبي؛ أيقونة، نموذج للإنسان أو السوبرمان، شخصية خارقة للعادة، أطهر من أنجبت البلد أو أنظف شخصية في التاريخ، عبقري الزمان والمكان، العالم بكل شيء، وإضفاء كل السمات المثالية، فهنا تبدأ العبودية الطوعية. ببساطة لأنه ما من فرد تخلو شخصيته من كثير من العقد والرغبات المكبوتة والدوافع الأنانية والرغبة في ممارسة سلطة من نوع ما على غيره. كما لا يخلو السلوك - الخفي في العادة - لأي فرد من الزلات، وما يستهجنه المجتمع، بل وأحيانًا السقطات والانحرافات (في نظر بيئته). ولو أمعنا النظر لوجدنا لدى القادة والزعماء والأبطال والمناضلين والعلماء، مثل كل البشر، الوجه الآخر للعملة. في الواقع لم يكن من الممكن أنْ تنشأ آلة الدولة الجهنمية والأنظمة التسلطية والحركات الفاشية، بدون تلك العبودية الطوعية؛ الوجه الآخر للسلطوية.

وتتجلى العبودية الطوعية أكثر ما تتجلى في العلاقة بين الزعيم المؤله والجماهير. فهي تشبه التنويم المغناطيسي؛ فالطرف المنوم يصبح بلا إرادة، متقبلًا لأيِّ شيء يمليه زعيمه، ويسوده سلوك القطيع. وقد أشار فرويد إلى أنَّ الإيمان بزعيم هو تنازل عن مثال الأنا، واستبداله بموضوع ليبيدوي خارجي. وإذا جنبنا المكون الجنسي الذي قد يكون مغالى فيه في هذا الكلام، نجد أنَّ المرء هنا يستبدل مثالًا خارجيًّا بذاته هو؛ فقهر نفسه بنفسه، وتكون غايته أنْ يشعر بالقوة وبالمساواه مع بقية الأفراد تحت طغيان الزعيم؛ فالكل يتماهى معه. أما الزعيم فيكون ذا شخصية نرجسية، لا يحب أحدًا، واثقًا بنفسه، مستقل التفكير؛ إنه بالضبط نقيض المجموع المسحور به. وكلما شعر الجمهور بضآلة شأنه وتفاهته وقلة حيلته أضفى على الزعيم المزيد من سمات العبقرية والسمو والقوة، وكلما ازداد شعوره باحتقاره لنفسه ازداد احترامًا وتقديسًا للزعيم؛ نفس دوافع إسباغ صفات الجبروت والقدرة المطلقة على الإله. فالمرء في هذه الحالة لا يستطيع أنْ يفكر أصلًا إلا معتمدًا على "فكر" الزعيم، ولا يمكنه أنْ يفكر في ذاته إلا وهو ينكرها. بينما يدرك الزعيم لذاته ويعي لما هو عليه. وهنا نجد أنَّ هذه العلاقة تعلي من شأن الزعيم بينما تحط من شأن جمهوره، فلا يستطيع هذا الجمهور لا أنْ يكون نفسه ولا أنْ يذوب في نفس الزعيم، شيء يشبه حالة "الوعي الشقي" عند هيجل([11]). إنَّ الشعوب المهزومة نفسيًّا هي التي تعشق الزعيم الملهم والقاسي والدولة المتسلطة. وللخروج من هذا الانقسام للذات ووعيها الشقي لابد أنْ تتجاوز الذات المهزومة هزيمتها بالنضال وتحقيق الانتصارات، فلا تحتاج للزعيم، بل تحطم فكرة الزعيم أصلًا وتحوله إلى شخصٍ عادي، مكلف بعمل معين من قبل الشعب، قابلٍ للتغيير بشخص آخر.

ويقدم لنا تاريخ الدولة الإسلامية نموذجًا مثاليًّا لتخلي الجموع عن حريتها، وتقبلها لما يُسمى بالشريعة، التي تتضمن كل كبيرة وصغيرة فيما يتعلق بسلوك الناس ونظام حياتهم ومعاملاتهم. فقد تخلت الجموع عن حريتها في تنظيم نفسها بنفسها لصالح دولة شديدة المركزية وتحكم باسم الدين، أيْ الحق الإلهي، وبقوة السيف. ورغم حرب الإسلام ضد القبائل، شاملة حروب الردة، وفرض سطوة قريش بالقوة المسلحة، لم يفتقد هذا المشروع للكثير من المؤيدين طواعية منذ بدايته، ابتداءً بمعظم أهل يثرب. فلا يمكن لقلة أنْ تحكم الغالبية بالقوة وحدها. وقد ترادف العمل من جل الدولة الجديدة بالجهاد في سبيل اللهأجل الدولة أجل الدولة بالجهاد “في سبيل الله”؛ إذ تجسد الله في الدولة. ففي الشريعة (أو الفقه الإسلامي) يترجم الفقهاء حق الله إلى حق الدولة، ويكون القانون هو دين الله. فالعقاب على الجرائم المخلة بالشرع الإسلامي حق لله، وكذلك لو أخلت بمصالح المجتمع أو الحقوق العامة. فالدولة هي من يشرف على ويطبق الشريعة التي هي حق الله. بل حتى أصبح المال مال الله، فليس لأحد حق التملك إلا الدولة، أما ما يملكه الأفراد فصار قابلًا للمصادرة في أيّ وقت، والتبرع ببعضه من أجل “الصالح العام” صار واجبًا([12]). كما أصبح الحسن والقبيح هو ما يقرره الله - لدى الغالبية العظمى من الفقهاء - وصارت طاعة الله هي تنفيذ أوامر الشريعة، المتجسدة في قانون الدولة، ومعيار صلاح الفرد هو مقدار رضا الله – الدولة عنه. في هذا النظام أصبح الفرد الجيد هو الفرد الميت في سبيل الله - الدولة. هنا نجد أنَّ الحاكم هو رسول من الله إلى الشعب، وبعد موته صار الحاكم هو خليفة ذاك الرسول؛ امتدادًا له. وقد اختفي المنشأ البشري الحر للأخلاق والفضائل، فتحول إلى مصدر إلهي، بل صار الإنسان عاجزًا عن تصور قدرته على إنتاج القيم، فأصبح يستمدها من الشريعة. إنه الوعي الشقي بالضبط. فالفرد أصبح لا يفكر في ذاته إلا وهو ينكرها لصالح الإله - الدولة. لقد تحول العربي، ثم كل من أسلم، إلى كائن مدجن؛ إذ صارت شخصيته مجرد ملحق بشخصية اعتبارية هي الدولة. هذا اغتراب ديني وسياسي في نفس الوقت. وفي الحقيقة لم يكن الله هو الهدف، ولا الدين ولا الفضيلة، بل الدولة فقط لا غير؛ السلطة الموجودة بالفعل)[13](.

ولنا في النظم الشرقية؛ الطغيان الشرقي، مثال ساطع آخر. فلم يكن الناس مرغمين ولم يكتب عليهم التاريخ الحياة في ظل نظام الري الصناعي الذي كان أساسًا قامت عليه المشتركات القروية، التي منحت الدولة حين نشأت فرصة ممارسة طغيان شديد. لكن الناس اختارت – كما ذهب فيتفوجل بحق - أنْ تعيش تحت نير القمع البشع، ذلك لأنها وجدت أنه أفضل الخيارات، بمعنى أنَّ مزاياه تفوق مشاكله([14]). بل كان لاختيار البشر للثورة الزراعية وحياة الاستقرار بدلًا من العيش على الصيد وجمع الثمار أوخم العواقب على حرية الفرد وراحته وصحته البدنية والنفسية. ويكفي أنها كانت مقدمة خضوع الأغلبية للأقلية، بسبب إنتاج الفائض، ثم نشوء الدولة. لكنها من جهة أخرى كانت مقدمة للحضارة بكل ما يتعلق بها، كما حققت للفرد قدرًا كبيرًا من الأمان والطمأنينة بخصوص الغذاء والمأوى. فكان على بني البشر أنْ يختاروا([15]).

وتتخذ العبودية الطوعية أشكالًا أخرى غير الخضوع للسلطة السياسية أو الطبقية. فكثيرًا ما نراها في سعي الناس إلى تأليه أو إضفاء صفات فوق بشرية على شخصية فرد بعينه من المبدعين في مجال معين. ثم يأتي سعي الجمهور إلى التماهي مع مشاهير اللاعبين والفنانين والسياسيين وغيرهم، والتعصب للفرق الرياضية.. إلخ. هذا يعني أنَّ ذاته خاوية وغير منتجة، وأنه قد أخضع نفسه لرمز مقدس، بالرغم من أنَّ هذا الرمز قد يكون شخصًا تافهًا. فبدلًا من مجرد الاستمتاع بالفن والرياضة، ومتابعة شؤون السياسة، يجعل المرء نفسه متيمًا، مسحورًا بشخص أو جماعة، وهؤلاء أنفسهم - في عالم اليوم - بدلًا من ممارسة الرياضة والفن للاستمتاع وتحقيق ذواتهم، يمارسونهما كوظيفة؛ كمهنة، ويكون هدفهم هو إرضاء الجمهور، لضمان تحقيق المكانة الاجتماعية، وغالبًا جني الأرباح. فكلا الطرفين يكون عبدًا للآخر.

وأخيرًا نشير إلى أحد أبرز أشكال العبودية الطوعية. فقد تعرضت المرأة لظلم تاريخي؛ فهي بالرغم من ضعفها البدني بالمقارنة بالرجل، تلعب أكبر دور في حفظ النوع البشري، وهي لم تكافأ على هذا، بل بالعكس، استخدم الرجل قدرته البدنية واستغلها أسوأ استغلال. ومازلنا نرى مختلف أشكال الاضطهاد تقع على النساء، في كافة البلدان، خاصة في البلدان المتخلفة، في كل الفئات والطبقات([16]). ئاتومازالت السلطات السياسة، واحتكار السلاح بأيدي الرجال في كل مكان في العالم. وقد استسلمت النساء على مدى آلاف السنين لقمع الذكور. ولم يكن من الممكن أنْ يستمر هذا القمع لهذه المدة دون انتشار أيديولوجية ذكورية بين النساء، على رأسها العقائد الآسيوية الشرقية والأديان الإبراهيمية، لدرجة أنْ نجد منهن الكثيرات ممن يتحمسن للتمييز ضدهن بالذات. لكن مع التكنولوجيا الحديثة لم يعد للقوة البدنية دور يذكر في العمل، بل أصبح تأنيث العمل ظاهرة واسعة الانتشار في المشاريع فائقة التطور، المعتمدة على المعارف الحديثة، مما يمهد لتحرر النساء من تسلط الذكور نهائيًا.

 - السيطرة على الجماهير بطريقة خفية تعطيهم الشعور الوهمي بأنهم أحرار: ونقدم هنا أمثلة عملية حدثت بالفعل: انقلاب جواتيمالا 1954: قام إدوارد بيرنيز (منشئ ما يُسمى بالعلاقات العامة والدعاية) بتطبيق اكتشافات علم النفس وعلم الاجتماع في ميدان الشأن العام، بإطلاق حملات دعائية تهدف للتمهيد للانقلاب على حكومة جواتيمالا ورئيسها، وذلك لمصلحة الشركة المتحدة للفواكه، وذلك بالتركيز على وصف الرئيس الجواتيمالي بالشيوعية في وسائل الإعلام الأمريكية، لتنفير الجماهير منه - نشر التدخين بين النساء: لم يكن تدخين النساء مقبولًا اجتماعيًّا في الولايات المتحدة، ولنشره وجعله مقبولًا اتجه إدوارد بيرنيز في 1929 إبان انعقاد دورة الألعاب الأوليمبية المقامة آنذاك هناك إلى إقناع عدد من سيدات المجتمع الأمريكي بالخروج في مسيرة وهن يدخنّ. وظهرت الصور بالصحف الأمريكية بتعليق أنَّ عددًا من النساء تمرَّدن على سلطة المجتمع، وظهرن وهنَّ يحملن مشاعل الحرية. وبذلك نجح بيرنيز في جعل صورة المرأة المدخنة رمزًا للحرية والتمرد. كما استخدم حيلًا أخرى لجعل النساء يتقبلن لون علبة السجائر الخضراء([17]) - قبيل استفتاء 19 مارس 2011 على التعديلات الدستورية في مصر، لجأ الإسلاميون والدولة إلى الإيحاء للجماهير الأمية بأنَّ التصويت بـ “نعم” هو لصالح مبادئ الإسلام، مما دفعها للموافقة.

وتلعب البرامج الإلكترونية دورًا كبيرًا للتجسس على الأفراد حتى داخل غرف نومهم، عن طريق الأجهزة الذكية، فتحدد ميولهم، والكيفية الملائمة للسيطرة على عقولهم، ببث أخبار وإشاعات معينة على نفس الأجهزة. كما أصبحت هناك شركات متخصصة في الترويج لشخصية معينة، أو تحسين صورتها، أو توجيه الرأي العام ناحية اختيار محدد، باستخدام تلك التقنية. وقد وضع عالم الاقتصاد ريتشارد ثالر ما يعرف بـ نظرية التحفيز (Nudge Theory) والتي تم زرعها في أجهزة الذكاء الصناعي أيضًا لنفس الغرض. وتقوم النظرية على افتراض أنَّ الإنسان في معظم الأحيان غير قادر على اتخاذ القرارات الصائبة، مما يستدعي دفعه الى ذلك من قبل قوة خارجية حكومية أو غير حكومية ذات خبرة ودراية أكبر بمصالحه([18]).

كل شيء - تقريبًا – في هذا العالم ممؤسس ومرتب وخاضع للرقابة والسيطرة والتوجيه.

فقد تم تسليع وتنميط الثقافة، والفن، والجنس، والبحث العلمي، وحتى عالم الجريمة والتسول، والتسلية، والرياضة، بل حتى الضمير والشرف. فقد جعلت الرأسمالية الأجير ترسًا في آلتها طول الأسبوع وفي نهايته يذهب للاستمتاع باللذات؛ الطعام والرقص والجنس (أحيانًا المدفوع) والتسوق، ليعيد تجديد قوة عمله. إذ أصبح قضاء وقت الفراغ مبرمجًا.

ومن أشكال الهيمنة: الترويج لنمط حياة معين مثل نوع وطريقة السكن (في كامباوندات مثلًا) – طرق ترويج سلع معينة بالإعلان المتكرر، والبيع بالتقسيط أو بالأجل، والمنح التعليم وتدريس مواد “قومية”– شرح التاريخ من وجهة نظر معينة - الموضة - وسائل الاحتفالات في المناسبات المختلفة - بل وخلق مناسبات لم يهتم بها الناس من قبل - زرع الشعور بعدم الأمان من خلال نشر أفلام الرعب ونشر أخبار وهمية عن تعرض الأرض للتهديد - والمبالغة في عداء الآخرين. وهنا نتذكر شيطنة الشيوعية، ثم شيطنة الإسلام السياسي (مع أنه دُعِّم من قبل الغرب).. إلخ.

إنَّ أقوى أشكال التسلط موجودة اليوم: أنْ تجعل المرء يشعر أنه حر بينما هو يخضع لسلطة خفية؛ بالتسلط على ضميره بالذات؛ إنها سلطة الأيديولوجيا. إذ خلقت القوى المهيمنة نظامًا للتنميط والسيطرة من أجل إحكام سيطرتها على الأفراد.

وقد تم تجنيد الإنتليجينسيا([19]) – باستثناءات محدودة – لخدمة النظام، بل يتم إنتاجها مبرمجة لهذا الغرض. فهي ليست محايدة وليست معنية إلا بمصالحها أو ما يحقق نفوذها. والآن يعمل علماء وتكنوقراط في خدمة الرأسماليين، في صناعة السلاح والمواد الغذائية الضارة والأدوية الضارة، وفي البحث العلمي للترويج لكل ذلك. ويتم عمل الدعاية بأسلوب علمي؛ “عقلاني”، بزرع ميمات معينة في ذهن الجمهور([20]). وقد روجت الأنظمة الحديثة أفكارًا تخدمها تحت زعم أنها مستمدة من الطبيعة البشرية، أو أنها تعليمات إلهية، أو أنها تحقق للفرد حريته وسعادته. من ذلك فكرة أنَّ العمل حق وواجب وشرف وكرامة، بحيث صار مجرد الحصول على عمل هدفًا مقدسًا للمرء، بينما تم تحويل العامل إلى ترس في آلة العمل. كذلك قيم مثل احترام الوقت ودقة المواعيد. ليس لأنها تحافظ على العلاقات الاجتماعية، بل لأنها تحافظ على دولاب العمل في السوق الرأسمالي، لأنَّ كل لحظة تساوي قدرًا من الأرباح. لقد عاش البشر مئات الألوف وربما ملايين السنين دون أنْ يهتموا بالوقت ولا بدقة المواعيد، وربما كانوا أكثر سعادة وحرية.

 - الناس دائمًا أسرى للرموز والتخيلات، مثل: وحدة الأمة، هيبة الدولة، ومختلف المقدسات: الأخلاق، القيم، المثل العليا، العلم والنشيد والسلام الوطني.. إلخ. إنهم في حاجة إلى نظام متخيل، وهذا التخيل هو بداية تمردهم على الطبيعة كما شرحنا من قبل. وهذه الخيالات ضرورية لترابط الجماعة. ذلك أنَّ البشر لا يتصرفون وفقًا للغريزة مباشرة، بل وفقًا للدوافع والظروف والأغراض. وهنا مثلًا يختلف الإنسان عن النحل؛ فالأخير يتصرف بدون صراع ولا منافسة، ويسير تقسيم العمل تلقائيًّا، بالغريزة. أما الإنسان فيحتاج إلى قواعد ونظم وأفكار وقوانين؛ نظام اجتماعي، حتى تسير به الحياة. وهذه الأشياء هي بالضبط الأنظمة التخيلية.

كما يحتاج الناس إلى الأوهام، وهو ما يعني أنهم ليسوا "عقلاء" بالفعل. في العالم الآن تقوم السلطة بزراعة الأوهام داخل الفرد، فيصبح موجودًا من أجلها - وليس من أجل ذاته - باسم الوطن أو الأمة أو أيّ مقدس آخر. ولا يمكن للناس أنْ يتخلوا عن مقدس إلا إذا وجدوا بديلًا له؛ مقدسًا آخر. ولذلك لن تكون هناك حرية كاملة أبدًا. يمكن أنْ يكون هناك مقدس عالمي؛ إنساني: مثل حقوق الإنسان، والحرية والرفاهية والتقدم؛ أيْ شعارات في خدمة مصالح الغالبية، وليست مصالح قوة متسلطة، فيصبحون أكثر حرية. فلا يوجد مهرب من النظام المتخيل؛ “فعندما نكسر جدران ذلك السجن وننطلق نحو الحرية فنحن في الواقع نركض نحو ساحة أوسع لسجن أرحب([21]).

 

******************

الحرية والسلطة:

هناك فرق بين القوة والسلطة، قدمه بوضوح ماكس فيبر: “القوة هي كل إمكانية في داخل علاقة اجتماعية لإنفاذ الرغبة الخاصة ضد رغبة الرافضين لها، بغض النظر عما ترتكز إليه تلك الإمكانية”، والسلطة هي “فرض انصياع مجموعة محددة من الأشخاص لأمر له محتوى معين”([22]). بلغة أبسط يمكن أنْ نقول: السلطة هي قبول القوة، أو هيَ القوة التي يقبل الناس الانصياع لها، سواء اتفاقًا أو بالانصياع.

تناولنا من قبل ظاهرة سعي الأفراد فطريًّا وكذلك الجماعات إلى تحقيق مكانة في المجتمع. هذه المكانة تعني السلطة، تحقيق القوة، سواء المادية أو المعنوية. وهي آلية للمنافسة في سياق الصراع من أجل البقاء وللراحة، تعويضًا عن الشعور بالضعف وعدم الأمان الكامل. وفي حالة الفشل في اكتساب نوع من القوة، قد يلجأ المرء (أو الجماعة) إلى آليات مضادة، مثل الحب وتكوين الصداقات وآليات تعويضية أخرى، قد تصل إلى حد قبول الخضوع لقوة ما، وهذا هو الأساس النفسي للعبودية الطوعية. وليست المصالح المادية هي الغاية الأسمى، بل هناك أشكال متعددة من المكانة كما أشرنا. فالسلطة ليست مجرد وسيلة لتحقيق المصالح المادية كما تصورت الماركسية، بل أداة للوصول إلى المكانة. وهذا قد يفسر تمسك معظم الأفراد بأوضاعهم السلطوية حتى حين لا يستفيدون منها ماديًّا.

لابد من التمييز بين أنواع السلطة وأدوارها المتعددة: سلطات الدولة – سلطة الأسرة – سلطة الطبيب على المريض – سلطة السجن – السلطة الأيديولوجية، شاملة السلطة الدينية، والسلطة السياسية، والسلطة الاقتصادية – أجهزة العنف – سلطة المدرسة - السلطة الشخصية، أو السلطة الكاريزمية، ومن أمثلتها سلطة الأنبياء والقادة أصحاب موهبة الحضور، والسحرة والمشعوذون، ويمكن أيضًا أنْ نُصِف بها سلطة الأم والأب، المستمدة من الثقة الشخصية والاعتماد.. إلخ.

وليست كل هذه السلطات قمعية وتؤدي إلى الكبت، بل لمعظمها جانب منتج، مفيد للفرد، مثل تعليمات الطبيب، ضرورة اتباع قواعد النقابة لضمان إتمام الأعمال بشكل مهني، تنفيذ أوامر المخرج ليكون العمل الفني على مستوى مقبول وسليم مهنيًّا.. إلخ.

ليست السلطة علاقة قوة – لاقوة، بل هي متبادلة؛ مع اختلاف درجات القوة في هذه اللحظة أو تلك. فحتى للطفل تأثير على الكبار، وهو يستخدم آليات عدة لفرضها؛ إظهار التمرد وإزعاج الآخرين، البكاء، الصراخ، إظهار الضعف بشتى الوسائل. ويمكن أنْ نصفها بعلاقة السلطة – المقاومة، أو السلطة – السلطة المضادة، حسب تحديد الطرف الأقوى والأكثر تأثيرًا؛ فكل أشكال مقاومة التسلط هي محاولة لفرض سلطة مضادة. وهذا يجعلنا نصف الأطراف المستكينة، حتى المازوخية بأنها أيضًا تقاوم وتحاول فرض سلطتها بهذه الآلية؛ آلية الخضوع، مع جاهزية التمرد.

وتتباين نوعية السلطة في العالم، بين القمع - السيادة، والبناء والتأهيل؛ بين العنف، والسيطرة الناعمة. وتختلف علاقة السلطة بين الدولة الحديثة في الغرب المعاصر؛ دولة السيطرة الخفية، وبين الدولة القمعية في عصر الإقطاع وفي الشرق المتخلف، أو ما يسميها فوكو بـ “السلطة الانضباطية في المجتمع الغربي المعاصر بدلًا من السلطة السيادية في عصر الإقطاع”([23]).

ولا يمكن إغفال أنَّ هناك سلطة طبقة على طبقة، وجماعات بشرية على جماعات أخرى، طوال تاريخ الحضارة، لكن علاقات السلطة أعمق من هذه الحقيقة. فكما ذكرنا هناك نزوع غريزي نحو القوة والسلطة من جانب كل البشر. وهذا ما يفسر وجود السلطة على المستوى المايكرو؛ بين الجماعات والأفراد، في كل العمليات الاجتماعية؛ الدولة والطبقات والموضات والآراء الجارية والألعاب والعلاقات العائلية وعلاقات الصداقة والحب والزواج... كما يرد على سؤال محير: كيف أنَّ أناسًا ليست لهم مصلحة يتبعون ويرتبطون بشدة بالسلطة، ويستجدون قطعة منها([24]).

صحيح أنَّ الأيديولوجيا السائدة تصنع وتعيد إنتاج أشكال السيطرة والتشكيل، كما تعمل السلطة الحالية على تدجين الفرد ودفعه للتوافق مع النظام. إلا أنَّ دوافع السلطة سابقة على الطبيعة الاجتماعية للنظام. كما أنَّ السلطة لها أصل ومبرر، مرتبطة بذات أو مؤسسة أو جماعة ما. هذا عكسما ذهب ميشيل فوكو، الذي - برغم إسهامه العميق الشهير - تصور السلطة كمجرد فكرة معلقة في الهواء، لا مبرر لها سوى نفسها (سلطة من أجل السلطة)، فهي – كما يرى - ليست مؤسسة، ولا بنية، ولا قدرة معينة يتمتع بها بعض الناس، بل إنها الاسم الذي يُطلق على وضع استراتيجي معقد في مجتمع معين، بل هي أيضًا حاضرة في كل مكان، ليس لأنها تمتاز بتجميع كل شيء في وحدتها التي لا تُقهر، بل لأنها تنتج ذاتها في كل لحظة، في كل نقطة([25]). إنها شيء يذكرنا بفكرة المطلق، الذي يحدد نفسه بنفسه ولنفسه. فبينما بذل فوكو الجهد للهروب من الجوهر والميتافيزيقا ومن البحث عن الحقيقة، نجده قد جعل من السلطة ميتافيزيقا، وأضفى عليها نوعًا من الحقيقة. وبالطبع ليست السلطة شيئًا ماديًّا، ولا جوهرًا، بل هي علاقة بين طرفين أو أكثر، لكنها عند فوكو عوملت ككيان مستقل؛ جوهر. وقد كان من الممكن له أنْ يقدم مفهومه الغامض للسلطة بشكل أكثر واقعية ووضوحًا بالإشارة إلى أنَّ هناك سعيٌ من قبل كل الأفراد والجماعات الاجتماعية لتحقيق مكانة، أيْ سلطة، كنزوع بشري، إلا أنه يرفض فكرة الطبيعة البشرية، كما يرفض الربط بين السلطة وأيّ كيان.

تأتي إشكالية السلطة مما يترتب عليها من تفاوت اجتماعي واستغلال، وحالة قهر لغالبية البشر، وانتشار الضلالات والمعرفة الوهمية؛ مع ادعاء تقديم الحقيقة بألف لام التعريف، ومختلف أشكال الاغتراب، وتوظيف العلم في خدمة القلة، وقهر الذوات، وجعل الفرد نفرًا بلا قيمة. ويعود الفضل إلى ميشيل فوكو في كشف العلاقة بين السلطة في عصرنا والمعرفة، أو - على الأقل – في ترويج هذه الفكرة.

إنَّ كل محاولات تغيير المجتمع هي صراع حول السلطة. فأيُّ تفكير في دفع الناس لقبول وضع جديد أو أفكار جديدة أو تغيير نمط حياتها يعبر عن محاولة للتسلط عليها. وأيُّ محاولة لقيادة الآخرين أو “تنوير” عقولهم أو “توعيتهم” هي سعيٌ لسلطة ما. وأيُّ شخص يحاول أنْ يصبح نجمًا أو مشهورًا أو له قيمة خاصة في المجتمع يحاول – في الحقيقة - انتزاع قدر أو نوع من السلطة. وحتى من يضحون بأنفسهم من أجل مبادئ “عليا” يصبحون أصحاب سلطة في وجدان المعجبين بهم. السلطة ليست بالضرورة “رسمية” أو مقننة أو معلنة بهذه الصفة، بل اعتراف بأيّ شكل من الأشكال. الطبيب يمارس سلطة على المرضى، والموظف البيروقراطي يمارس سلطة، وكذلك أيُّ شخص في موضع قيادي أو مسئول عن أيّ شيء مهما كان صغيرًا.

يظهر أنَّ التسلط والتسلط المضاد هما قدر لا فكاك منه. وكل ما أردنا أنْ نقوله هو أنْ نعترف بهذا. كل ما أردنا استنتاجه هو ألا يشعر المرء بتأنيب الضمير وهو يمارس هذه السلطة أو تلك، وأنْ يتوقف عن ادعاء أنه شمعة تحترق من أجل الآخرين وأنه يريد تحريرهم تمامًا.. إلخ، وليستمر في الدعوة لتغيير الوضع الراهن وفي إعادة تشكيل الواقع على مقاسه.

السلطة لن تختفي أبدًا، بسبب عوامل ظهورها، ولكن من الممكن زيادة مساحة حرية الفرد بهذه الدرجة أو تلك في الظروف القائمة. لذلك يمكن لعموم الناس أنْ يتقبلوا سلطات لا غنى عنها في هذه اللحظة أو تلك. فهل يجب على الجندي أنْ يقاوم سلطة الضابط وقت الحرب؟ وهل ينبغي للمريض أنْ يرفض سلطة الطبيب وهو يموت؟ أما تخيل مجتمع بدون سلطة فهو هدف وهمي. لكن يمكن مقاومة السلطة القمعية باستمرار، والعمل من أجل إحلال التعاون الودي محل الصراع بدرجة أو بأخرى، وجعل الإنسان أكثر تحكمًا في الأشياء، وتقليل درجة القمع. لكن هذا نفسه يتطلب صراعًا ضد قوى التسلط والقمع. كما يمكن تفكيك أجهزة السلطة الطفيلية والقمعية، وعلى رأسها جهاز الدولة، والطبقات الطفيلية. بالإضافة إلى مقاومة الأيديولوجيات السلطوية؛ العنصرية على سبيل المثال. مع الوعي بأنَّ كل هذا هو ممارسات سلطوية. وعلى قول إنجلز: “الثورة هي بالتأكيد أكثر الأمور سلطوية، إنها الفعل الذي يفرض من خلاله قسم من الشعب مشيئته على القسم الآخر بواسطة البنادق والعصي والمدافع، أيْ بوسائل سلطوية”([26])؛ فالثورة هي عمل سلطوي يهدف إلى استبدال سلطة بسلطة أخرى، حتى لو كانت سلطة تعاونية غير قمعية، مضادة للقمع، لكنها سلطة. بل إنَّ التحرر من الاستعمار والحكم القمعي والدموي عمومًا، والذي يحرم الفرد من تحقيق ذاته قد يتطلب العنف، وهذا عنف مضاد؛ سلطة مضادة، تتطلب تكوين أدوات سلطوية مضادة؛ أدوات مقاومة. ومن الممكن أنْ يتم العمل على تحرر الأفراد بالقوة؛ بمواجهة القوى التسلطية والرافضة لمبادئ الحرية والمناوئة لمبادئ حقوق الإنسان. وتحمل السلطة المضادة بذرة السلطة القمعية القادمة، مما يعني لقوى الثورة مرحلة جديدة من النضال.

ومهما بلغت درجة التعاون والإيثارية والعمل الجماعي، فلا مفر من سلطة الأغلبية على الأقلية، حتى لو طبقت الديموقراطية المباشرة، وهو مبدأ لا يمكن تفاديه، لاستحالة الإجماع كما تنادي بعض التوجهات الأناركية وغيرها في محاولة للتخلص من أيّ سلطة. وبالتأكيد تكون المقاومة من قبل الأقلية مشروعة. فصحيح أنَّ هناك شيئًا اسمه ديكتاتورية الأغلبية، لكن هذا وضع ديناميكي، لأنَّ استمرار الحوار والممارسة قد يغيران من موقف الأغلبية، بل ويغيران أعضائها أنفسهم. ومن نافلة القول أنَّ قيام سلطة فعلية للأغلبية يشترط أنْ تكون هذه الأغلبية على مستوى عالٍ من التعليم والمعرفة، حرة بالفعل؛ اقتصاديًّا على الأقل، وتتمتع بكافة الحريات الشخصية والسياسية والعامة، وبدون وجود أجهزة قمع، وبالأخص: الدولة. وأخيرًا نضيف أنَّ سلطة الأغلبية لا تعني بالضرورة أنَّ رؤيتها هي الحقيقة أو الصحيحة أو الأفضل، بل تعني فقط أنها تلائم للمجتمع في هذه اللحظة أو تلك.

ولا يمكن تحرير أناس لا يسعون أو لا يرغبون في التحرر. لكن – للأسف – من يرضون بالعبودية يساعدون قوى الطغيان على قمع الباقين. لذا يكون من المشروع تمامًا لقوى الثورة المستمرة بث دعوى التحرر وسط الجماهير وتحريضها على النضال، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ الناس فقط هي التي تستطيع تحرير نفسها، فلا حزب ولا زعيم ملهم يمكن أنْ يحرر الجماهير دون أنْ يقيم سلطة قمعية جديدة عليهم.

وللأسف الصورة المعيارية المتخيلة للمناضل الليبرالي التحرري في كثير من البلاد هي صورة الشخص الذي يجب أنْ يكون “كيوت” ويتعامل مع الآخر عمومًا على أنه صاحب رأي مختلف يجب احترامه مهما كان، وأنْ يكون مستعدًّا دائمًا لأنَّ يقدم رأسه لمن يريد أنْ يقطفها من أصحاب الرأي المضاد، وأنه يجب أنْ يقبل خيارات الشعب مهما كانت، ولو فاشية أو عنصرية، ويكون سعيدًا بها. وأيُّ خروج على هذه الصورة المتخيلة يكون سببًا لاتهام التحرري بأنه يخون مبادئه وأنه غير ديموقراطي، بل فاشستي في صورة ليبرالي.. إلخ. ما يتم التعامي عنه من جانب أصحاب هذا التصور هو أنَّ الحرية تنتزع ولا تمنح؛ تنتزع من المجتمع عمومًا، سواء الأسرة أو المجتمع المدني أو الدولة. وإنَّ احترام حرية الآخرين يجب أنْ يكون متبادلًا وليس من طرف واحد، وإلا يكون من حق التحرري أنْ يقاوم وحتى يقاتل من يقمع الحريات، سواء كان الدولة أو حزب أو طائفة أو طبقة.. إلخ. لا يمكن أنْ يكون المرء تحرريًّا إذا قبل بحق الأخرين في قمعه أو قمع من لا يعتدون على مبدأ الحرية. وهو ليس دائمًا شخصًا مسالمًا وحبوبًا، بل هو مناضل في سبيل الحرية. وليس فقط هو من يقول: قد أختلف معك في الرأي ولكنني على استعداد أنْ أموت دفاعًا عن حقك في إبداء رأيك (وهي عبارة منسوبة خطأ لفولتير) بل أيضًا يجب عليه – بحكم تحرريته نفسها – أنْ يقاوم بكل الوسائل كل من يعيق الحرية، وحتى أنْ يقمعه ويقصيه ويقضي عليه، وإلا فكيف يتحقق مبدأ الحرية؟

 

***********************

 

 الدولة:

ليس هنا مجال مناسب لتناول النظريات العديدة في أصل وطبيعة الدولة، وسوف نكتفي بتناولها في عجالة.

والمقصود هنا جهاز الدولة من جيش وأمن وسجون.. إلخ.

 - يمكن إيجاز النظريات التي وضعت لتفسير قيام الدول في: التفسير الديني؛ فسلطة الدولة مصدرها الله، سواء باعتبار الحاكم من نسل الإله، أو أنَّ الإله قد اختاره للحكم، أو أنَّ الشعب قد اختاره بوحي من الإله. ويدور الفكر الليبرالي حول فكرة العقد الاجتماعي، حيث يُدعى أفراد الشعب إلى التنازل عن جزء من حريتهم للدولة من أجل تنظيم المجتمع والتوفيق بين الطبقات. وهناك من رأى أنَّ الدولة قد نشأت بسبب لجوء الطبقة الغنية للسيطرة على كل المجتمع بالقوة، وهي تستخدم الدولة كأداة للحكم بالإكراه. وهناك نظرية غير منتشرة تقول بأنَّ سلطة الدولة هي امتداد لسلطة الأب القديمة. وتوجد أيضًا نظريات العوامل المتعددة، وعلى رأس تلك العوامل لاستخدام القوة من جانب فئة من المجتمع ضد الباقي.

وتختلف النظريات في تحديد طبيعة الدولة، من اعتبارها أداة لإدارة المجتمع، إلى أداة تستخدمها طبقة للهيمنة على طبقات أخرى. وهناك من قال بأنَّ الدولة هي جهاز لتنظيم المجتمع نابع من الطبيعة البشرية التي تحمل غريزة الاجتماع (الرواقية)، أو أنها أداة للتوفيق بين القوى الاجتماعية وقمع أعداء المجتمع (أبيقور)([27])، أو أنها تتأسس على العنف، وإنَّ اختفاء العنف هو اختفاء لمفهوم الدولة، لصالح الفوضى بالمعنى الحرفي لهذا اللفظ. فهي إذن – لدى اصحاب هذه الرؤية - جهاز للعنف المشروع بغرض المحافظة على المجتمع؛ فالدولة مستقلة عن المجتمع وفوق الأفراد وليست وسيلة في يد طرف ضد طرف آخر، بل تقف على الحياد بين الجميع([28]).

في تاريخ الدول لم يحدث أنَّ الآلهة فعلت أيّ شيء، كما لم يستجب أيّ شعب لدعاة العقد الاجتماعي، وكل الدول نشأت بالقوة والدم؛ بعض القوى هي التي أقامتها. والسيناريو المؤكد والسائد يتمثل في غزوات القبائل لبعضها البعض وإخضاعها لقبيلة قوية تحكم الباقي بالقوة([29]). ومصر ودول الشرق ككل مثال واضح لهذا. السيناريو الثاني هو قيام مجموعة من الناس باستخدام أيديولوجيا ما لجمع أنصار جدد ثم فرض سيطرتهم بالقوة على باقي الجماعات البشرية المحيطة، ومثالنا هو الدولة الإسلامية في بدايتها، والتي سيطرت عليها بعد ذلك قبيلة قريش. السيناريو الثالث هو مجرد احتمال نظري: انقسام المجتمع إلى طبقات، فتقوم الطبقة الغنية بفرض سلطتها بإنشاء جهاز دولة مستقل عن المجتمع وخاضع لها، والمثال الحاضر هنا هو – حسب تحليل إنجلز المثير للشك([30]) - هو دولة أثينا. في كل الحالات نشأت الطبقة المالكة ودولتها بالدم والنار؛ وضع اليد على الأراضي، السرقة المباشرة ونهب البدو للفلاحين، الغزوات والاستعمار، استعباد الأسرى، سبي النساء، خطف الرجال واستعبادهم، والإبادة الجماعية([31]). كل هذا تم في إطار ما يمكن أنْ نسميه بـ التراكم البدائي للطبقة المستغِلة. شيء يشبه عملية التراكم البدائي لرأس المال([32]). وقد تكونت الطبقة المسيطرة ليس بفضل تفاوت الثروة بين الأفراد، بل حين أصبحت هناك جماعة من الناس تتعيش على استغلال جماعة أخرى. فقبل ذلك كانت العبودية والجزية والنهب ثروة إضافية فقط وليست مصدر العيش الوحيد أو الأساسي – على الأقل - للطبقة المالكة “في طريق التكوين”. على هذا أصبحت هناك طبقات ودولة حقيقية بعد اندماج اللصوص الغزاة مع المستغَلين في جماعة بشرية واحدة: توحيد المناطق أو القبائل([33]). وهذا يعني أنَّ الدولة كانت أولًا؛ السياسة سبقت الاقتصاد في هذه النقطة، عكس الكلام الماركسي الشائع في هذا الموضوع، وضمنه محاولات إنجلز للبرهنة على أنَّ الطبقات نشأت أولًا، لأسباب لم يستطع شرحها بوضوح، ثم ظهرت الدولة. وقد هدف إنجلز إلى دعم فكرة أولوية العامل الاقتصادي، وفكرة الدور التاريخي للطبقات؛ مخطط المادية التاريخية. وسوف نشير (في الفصل الحادي عشر) إلى بحث بيير كلاستر الذي ينقض هذا التصور. ومما يجدر بإلإشارة هنا أنَّ إنجلز تكلم – عكس نظريته الأصلية - عن نشوء الدولة قبل الطبقات: “إنَّ الدولة، التي أنشأتها الجماعات البدائية التي شكلتها عشائر من قبيلة واحدة، كانت مهمتها في البداية حماية المصالح العمومية لهم (مثل عملية الريِّ في بلاد الشرق)، ولحمايتهم من الأعداء الخارجيين، ومن هذه المرحلة فصاعدًا صارت لها مهمة حماية وجود وهيمنة الطبقة المسيطرة ضد الطبقة المضطهدة بالقوة”([34]). واضح من هذا النص أنَّ إنجلز قد تصور أنَّ الدولة كانت في الأصل محايدة وليست أداة للقمع الطبقي، على عكس الفكرة الماركسية الشهيرة حول الدولة، وعلى عكس محاولاته لإثبات أولوية الانقسام الطبقي على نشوء الدولة في كتابه “أصل العائلة”.

 - وقد تطلب نشوء الدولة والطبقات حياة الاستقرار، فلا يمكن ذلك في مجتمع يعيش على الصيد والجمع. فالمؤكد أنَّ الطبقات والدولة قد نشأتا بعد استقرار البشر، فعاشوا مئات الألوف أو ملايين السنين بدون طبقات ولا جهاز دولة (هناك استثناءات نادرة). كما أنَّ كلًّا من الدولة والطبقة الثرية تتحصل على الثروة من عمل الآخرين، مما يشترط درجة ما من تطور الإنتاج لكي يكفي استهلاك الناس ويحقق إمكانية نهبهم من قبل الدولة والطبقة المستغلة. فبمجرد زيادة الإنتاج وظهور الفائض تحركت نوازع التسلط والاستيلاء على ممتلكات الآخرين. وبدلًا من أنْ يدفع ظهور الفائض الاقتصادي البشر إلى التعاون دفعهم إلى الانقسام وإلى المزيد من الحروب ونهب بعضهم البعض، وفي النهاية إلى التراتب الاجتماعي وظهور آلة الدولة الفظة. لقد تم الانقسام الطبقي بدون أيّ مبرر حتمي تاريخي؛ فلم يكن هناك أيّ “دور تاريخي” للطبقة المالكة ودولتها أبدًا. إذ لم يحدث أيُّ تناقض بين قوى وعلاقات الإنتاج المشاعية قط كما تفترض المادية التاريخية. لقد تغلب الجانب الأناني والعدواني في البشر، بجانب استعداد الأغلبية للخضوع والاستسلام طلبًا للسلامة والاستقرار، لا أكثر. ومن المفيد أنْ نؤكد على أنَّ البدو كانوا - في العموم فقط بالطبع - يمثلون الطرف الأول، والفلاحون الطرف الثاني([35]).

 - وفي كل الحالات لعبت بذرة الدولة، متمثلة في جيوش القبائل، الدور الأكبر في خلق وتعميق الانقسام الطبقي. فحتى الفوارق الاقتصادية داخل القبائل (البدو خاصة) لم تكن ذات أهمية كبيرة قبل نشوء الدولة، التي راحت تمارس الغزو والاستعباد والنهب والسرقة، بجانب حماية الأغنياء؛ حلفائها. وحتى في عصر الحداثة، كان للدولة دور كبير في التراكم البدائي لرأس المال، سواء في الداخل أو بالغزو ونهب الخارج، وما حرب الأفيون في 1840 التي شنتها بريطانيا ضد الصين إلا نموذج فج. أما بخصوص دولة أثينا، فلم يؤد ظهور فوارق في الثروات إلى انقسام طبقي حقيقي، بل كانت الحروب هي التي أدت لاتساع ملكية العبيد، وإدماج القبائل المهزومة في القبيلة المنتصرة، ومن ثم لعبت الدور الأكبر في الانقسام الطبقي، وظهور الدولة معًا. الأسر واستعباد المزيد والمزيد من الناس، ثم فرض الجزية على قبائل أخرى هي مرحلة سبقت تكون الدولة بالمعنى المفهوم، كجهاز محترف ومنفصل عن الشعب، وكذلك الطبقة المالكة، التي تكونت ليس بفضل تفاوت الثروة، بل حين أصبحت جماعات من الناس تستغل غيرها وتعيش على نهب عرقهم فحسب، وكان تمكنها من ذلك بفضل حماية الدولة لها. ولم يبدأ الصراع الطبقي والسلطة الطبقية قبل ظهور الدولة([36])، فتفاوت الملكية قبل ذلك لم يؤد إلى صراع طبقي، بل ربما كانت الملكيات الأكبر تمكن بعض أصحابها من مساعدة الفقراء.

 - وإذا كانت القوة هي أساس إقامة الدولة، فهيمنتها وهيمنة الطبقة المسيطرة لا يمكن أنْ يستمرا في سلام إلا إذا اقتنع جزء ملموس من الشعب بشرعيتهما، من خلال أيديولوجيا تسوغ هذا التسلط. فحتى حكم الفراعنة احتاج للغطاء الديني، وكذلك الدولة الحديثة الأخطبوطية والمراوغة، تحتاج للأيديولوجيا السياسية على الأقل، وإلى إيهام الناس بأنهم أحرار ويشاركون في الحكم.

 - وتهتم الدول المعاصرة بخلق الشعور بالهوية المشتركة لمواطنيها أو رعاياها. ومن الأمثلة الواضحة إصرار الدولة التركية على أنَّ الأكراد هم أتراك، وهو نفس موقف دولة العراق، وكان نفس موقف دولة السودان، التي اعتبرت أبناء الجنوب (قبل الانفصال) عربًا سودانيين، وزعم الدولة السعودية أنَّ كل رعاياها سعوديون، بينما السعودية تنتسب إلى آل سعود؛ قبيلة واحدة هناك. نفس الشيء تفعله الدولة البريطانية تحاه الأيرلنديين.

 - والأيديولوجيا كوسيلة لتحقيق السلطة، ليست بالضرورة تابعة للدولة مباشرة (أدمجها ألتوسير في الدولة وسماها أجهزة الدولة الأيديولوجية([37])). فهناك مؤسسات كثيرة خارج الدولة تلعب أدوارًا أيديولوجية، مثل المؤسسة الدينية، والأسرة، والمدارس، والإعلام.. إلخ. وهذه المؤسسات تعمل في مجالها أساسًا مع ممارسة بعض القمع العنيف (مثل الضرب في المدارس وغيرها) وغير العنيف (الطرد، وخفض الرواتب، فرض أزياء معينة، فرض طريقة سلوك محددة.. إلخ). كما تقوم الدولة أيضًا بدور أيديولوجي مباشر، كما يحدث في الجيش والشرطة والجهاز الإداري نفسه، من غسيل مخ وإعادة تأهيل، في خلق الإنسان المغترب ذي البعد الواحد. وبواسطة القوة والأيديولوجيا تسيطر الطبقة المالكة للثروة. فالهدف هو السيطرة وليس مجرد القمع، الذي لا يمارس إلا في النهاية، إذا فشلت كل أساليب المناورة والخداع.

 - ومع العنف وقيام الدولة بالنار والدم، كان أغلب الناس جاهزًا للانخداع طوعًا، تجنبًا للمتاعب وطلبًا للأمان. فلولا الخضوع والاستسلام – بعد المقاومة - لما استطاعت مجموعة من المجرمين مثل أسر الفراعنة أو المماليك أو قطاع الطرق من التتار والعرب أنْ يقيموا دولة ويحكمون الناس. ومما يساعد في تقبل الجماهير لآلة الدولة، وللطبقية والاستغلال، قيام الدولة والطبقة المسيطرة بتقديم بعض المنافع لهم. فهناك صفقة غير معلنة في العموم، تتلخص في تبادل المنافع بين الطرفين. ومن أمثلة ذلك إشراف الدولة على الخدمات العامة، وتقديم الضمان الاجتماعي، ومساندة الناس في أوقات الأزمات، مقابل الخضوع ودفع الضرائب والانخراط في العمل المأجور وأعمال السخرة العامة في الماضي، والتجند في الجيش، للموت “في سبيل الوطن”.. إلخ.

 - في السيناريوهات سابقة الذكر لا نستطيع أنْ نفصل بين قيام الدولة وانقسام المجتمع إلى طبقات. ففي كل الحالات نشأت الدولة وصارت أو خلقت الطبقة الغنية المسيطرة في نفس الوقت (مثال مصر والدولة الإسلامية ودولة المغول) أو دعمت الطبقة المسيطرة الموجودة - فرضًا - (مثال أثينا وروما، حسب إنجلز، وهو الأمر المشكوك فيه). وفي كل الحالات قمعت الدولة كل من تمرد على النظام الملائم للطبقة الغنية، وقاتلت ثورات الفقراء، وكانت في خدمة الطبقة المالكة أو صارت هي الطبقة المالكة. ولا تعني أسبقية الدولة زمنيًّا على الانقسام الطبقي – وهو السيناريو الغالب - أنها لا تعمل لصالح الطبقة المالكة، بل هي تعمل لصالحها بالفعل، دون أنْ تنسى مصالحها الخاصة، مع الأخذ في الاعتبار دافع الرغبة في التحكم والسيطرة لدى القادة والزعماء. وهنا تثور قضية العلاقة بين الاقتصاد والسياسة، أو في العموم، بين المكون المادي للمجتمع، الذي اشتهر على أيدي الماركسية باسم البناء التحتي، والمكونات الفكرية والمؤسساتية؛ البناء الفوقي. فالدولة أو السياسة، كانت نقطة البدء، تحقيقًا للطمع والجشع. لكن في المدى الطويل، كانت ومازالت دولة المستغلين وأداتهم في الصراع الطبقي، كما كانت طبيعة تكوينها متسقة مع تكوين الطبقة المسيطرة وطبيعة علاقة الاستغلال السائدة؛ ففي النهاية من يملك يحكم.

 - هناك علاقة بين بنية جهاز الدولة وطبيعتها الطبقية، فتتغير بنيتها حسب الطبقة المسيطرة. وأبرز مثال هو الفرق بين الدولة القديمة والدولة البورجوازية الحديثة؛ دولة المؤسسات والسلطات المنفصلة. في الدولة القديمة كان الحاكم هو نفسه المالك، لكن في الدولة الحديثة حدث فصل بين السياسة والاقتصاد. وفي القديمة كانت مكونات السلطة تقوم على روابط شخصية، لكن في الحديثة صارت تقوم على روابط وظيفية، ذلك أنَّ تحصيل الفائض قبل الرأسمالية كان يتم بشكل مباشر؛ فتحكم السياسة الاقتصاد، أما في النظام الرأسمالي فيتم تحصيل الفائض من خلال السوق، بدون إكراه مباشر. لكن هذا لا يعني أنَّ الطبقة المسيطرة تصيغ الدولة على مقاسها بالضبط، فهناك هامش للأخيرة. فهي لا تتكون وفقًا لخطة مفصلة، بل تنشأ وتتغير تركيبتها حسب ظروف التكوين الاجتماعي ككل، وباختصار تكون متميزة عن أيّ طبقة بدرجات متباينة. وقد شهد التاريخ حتى استقلال الدولة عن كل الطبقات إلى حد كبير، في ظل الإقطاع المطلق، والبونابرتية (نسبة إلى حكومة نابليون بونابرت، كنموذج)، مع المحافظة على نفس النظام الاجتماعي المراتبي. وكل ما اختلف أنها كانت تأخذ نصيبًا أكبر من الغنائم، بالإضافة إلى دور الدولة الأصلي في حماية النظام الاجتماعي القائم. وقد صارت مؤسسات الدولة الحديثة تتمتع بقدر أكبر من الاستقلال، ولها مصالح كبيرة، خصوصًا “الدولة العميقة”، والجيش. ولا يمكن تصور أنَّ الرأسمالية كانت لتختار هذا النمط من الدولة القائمة لو قامت ببنائها بنفسها على قول بولانتزاس([38]). لكنه – مع ذلك - راح ينفي عن الدولة أيّ سلطة خاصة، معتبرًا إياها مجرد محل ومركز لممارسة السلطة([39]). كأن الدولة هي مجرد موقع، نقطة التقاء لمصالح الطبقة المسيطرة. وهذا مفهوم يخالف الواقع. ذلك أنَّ الحكام أولًا: لا يكونون في كل الأحوال ضمن أعضاء الطبقة المسيطرة، بل بعضهم يكون حتى - في الأصل - من الطبقات الفقيرة، وهم ثانيًا: ليسوا مجرد مستخدمين بواسطة الطبقة الغنية، بل تكون لهم طموحاتهم إلى السيطرة وتحقيق طموحاتهم الخاصة المعنوية أو المادية؛ وباختصار: تحقيق مكانة في المجتمع. فالدولة كيان فعلي ذو مصالح ورؤية خاصة. وهذا ما يفسر ذلك الانفصالتماعي القائم أو التميز بين الطبقة المسيطرة والدولة. وفي كثير من بلدان العالم المتخلفة تلعب الدولة دورًا أكبر بكثير، حتى إنها تمتلك جزءًا كبيرًا من الاقتصاد، وتتغلغل في كل بيت وكل ركن، من خلال تقديم خدمات ودعم، بجانب الإشراف الأمني المباشر. بل وفي كثير من الدول لا يستطيع حتى أبناء الطبقة المالكة استخدام رؤوس أموالهم إلا برضا من الدولة ومن خلال أجهزتها. وهذا يحدث حين تكون الدولة حديثة جزئيًّا فحسب، والنظام الاقتصادي به ملامح قبل رأسمالية ملموسة. وفي كل الأحوال ليست الدولة مجرد تابع مباشر للطبقة المسيطرة، وليست مجرد أداة لتلك الطبقة، أو مجرد “انعكاس” - باعتبارها جزءًا من البناء الفوقي - للبناء التحتي، حسب الزعم الماركسي الشهير، بل هي أيضًا لها قوتها الخاصة وسلطتها الخاصة ومصالحها الخاصة. بل يمكن أنْ نعتبر بيروقراطية الدولة بالتحديد طبقة خاصة لها مصالح متميزة ومستقلة إلى هذا الحد أو ذاك عن بقية الطبقات([40]).

 - ومن المهم أنْ نلاحظ أنَّ انقسام الناس إلى حكام ومحكومين لم يتم على أساس من اختلاف الذكاء والمواهب، بل تعددت العوامل. فالجماعات الأكثر فقرًا تطلعت لغزو الأغنى، وكان البدو والصيادون سباقين بحكم خبراتهم في الكر والفر بجانب فقر غالبيتهم، بينما مال الفلاحون – بوجه عام مع استثناءات - للسلام بحكم استقرارهم وفقدانهم دوافع اقتصادية للاعتداء على غيرهم. كذلك استغل بعض الناس ذوي القدرات القيادية والميل للزعامة موازين القوى الاجتماعية. ولا شك أنَّ العناصر الأقدر على القتال والغلبة قد استغلت ذلك، واستطاع السحرة والكهنة – وهم أصحاب مواهب خاصة – تحقيق المكاسب واستغلال الآخرين. ومع تكون الدولة والانقسام الطبقي راح الحكام يستخدمون العناصر الأكثر تفوقًا في الكتابة، والقتال، والإنتاج الفني والفكري، والسحرة والكهنة، لحسابهم.

طفيلية الدولة:

 - لو كان نشوء الدولة لحاجة المجتمع إليها لما احتاجت الطبقة المسيطرة إلى المؤسسات الأيديولوجية ولا إلى ادعاء أنَّ سلطة الدولة  حق إلهي أو أنها نتيجة لعقد اجتماعي مزعوم، أو ادعاء الحكام ملكيتهم للأرض ولا أنهم مكلفون بمهام تاريخية عظيمة. بل صدق القول إنَّ الدولة تحظر على الفرد أنْ يرتكب إثمًا، لا لأنها تريد أنْ تمحو هذه الآثام، بل لأنها تريد أنْ تحتكر ارتكابها لنفسها([41]).

 - وهل يوجد دور لمؤسسة الجيش سوى العدوان أو صد عدوان جيش آخر أو مواجهة تمرد الجماهير؟ لا شيء. فالجيوش ككل مؤسسات طفيلية، تستهلك ثروات الشعوب. وفي الغالب يؤدي تدخلها في السياسة إلى تخريب الاقتصاد والمجتمع ككل. إنها جماعات من القتلة المحترفين لا أكثر. ووجود الجيش يعني الحرب، أما حالة السلام فليست – في أغلب الأحيان – سوى مرحلة تحضير للحرب. فالدول تشبه الشركات الرأسمالية([42])، فتعمل المنافسة بين الدول عملها مؤديةً إلى تدمير وامتصاص الدول الصغيرة والمتوسطة لمصلحة الدول الكبرى. فالدولة إما تلتهم غيرها من الدول أو تُلتَهم هي، فتكون متحكمة في غيرها أو تابعة لها. وحتى بغض النظر عن المصالح المحددة تميل الدولة إلى العدوان وفرض القوة متى استطاعت، كآلية لتحقيق ذاتها، ولكي تثبت الجيوش أهميتها وتحقق مكانة. ونادرًا ما وجدنا دولًا محايدة إلا باتفاق دولي عام وتوازنات قوى معينة.

 - أما قوات الأمن فتعمل لمنع الجريمة والقبض على المجرمين. هذا صحيح، لكن لا توجد أيُّ ضرورة لأنْ تكون مؤسسة منفصلة عن المجتمع ومستقلة. وقد كان المجتمع قبل نشوء الدولة يقوم بهذا العمل بدون شرطة مستقلة، ويمكن الآن أيضًا أنْ تقوم بهذا الدور شرطة شعبية من المتطوعين والمحترفين الخاضعين لقيادة الأجهزة الشعبية. وإذن يتبقى دور الدولة في عمل الاقتصاد وإدارة المجتمع. هذا الدور الأخير لا يتطلب موظفين ذوي امتيازات وجاه وسلطان، بل يمكن أنْ يقوم بعملهم موظفون (نتكلم عن الكبار أصحاب السلطة) منتخبون، مثل رؤساء المدن والعمداء ورؤساء الأحياء والبلديات.. إلخ، كمفوضين وليس كممثلين للشعب. ومع تطور التكنولوجيا لن يحتاج المجتمع إلا إلى حكومة إلكترونية، تحت إشراف مبرمجين محترفين ينفذون تعليمات “الحكومة”.

وإذا تم حل الجيوش وإخضاع النشاط الأمني لشرطة شعبية، لا يصبح هناك أيُّ مخالب للجهاز الإداري، ويمكن إخضاعه للمؤسسات الشعبية.

بذلك تصبح لدينا حكومة بدون دولة.

 - في بعض البلدان طورت الدولة عملية الإنتاج (الريّ الصناعي مثلًا) لكن لصالح الطبقة المالكة. وبدون هذا التطوير كان الناس يعيشون أيضًا. ولا يوجد في التاريخ ما يدل على أنَّ الدولة قد نشأت بسبب حاجة الناس لها من أجل عملية الري الصناعي. فلماذا نتصور أنَّ هناك من “يتطوع” لإنشاء دولة بالعنف والمذابح من أجل الري والصرف؟! يضاف لذلك أدوار تقوم بها الدولة لكنها لا تحتاج لآلة قمعية للقيام بها، فلا دور للجيش والمخابرات والمعتقلات لعمل مثل الضمان الاجتماعي. وقد كان الريُّ الصناعي، بما تطلبه من حشد أعداد ضخمة من الأنفار وتعاون وثيق بين الفلاحين هو أساس نظام المشتركات القروية وغياب الملكية الخاصة للأرض، اللذين كانا أساس مركزية الدولة والطغيان الشرقي. ومنحت الحاجة للريّ الصناعي فرصة للدولة لكيْ تمارس المزيد من التسلط والقهر، دون أنْ يشكل في حد ذاته ضرورة تحتم نشوء الدولة. ببساطة لقد نشأت الدولة أيضًا في المناطق التي لا تحتاج للري الصناعي. وكان يمكن أيضًا أنْ يستمر الري الصناعي بدون دولة أصلًا، بالتعاون وتحت إشراف رؤساء القرى والقبائل.

 - كانت الدولة في كل المجتمعات وفي كافة العصور والظروف هي – جوهريًّا – مجموعة من الرجال المسلحين، كما ذهب الاشتراكيون العظام. وإذا جردنا النظريات العديدة حول مسألة الدولة من اللغة المقعرة، والجمل الصوفية والشروح المعقدة، ومحاولات تزيين ظاهرة الدولة بنظريات غير مفهومة أو تخدعنا باللغة “العميقة”، سنجد أنَّ الدولة هي فعلًا مجموعة من الرجال المسلحين.. إلخ. ونحن نقصد الكلام بهذه السطحية، لأنَّ إزالة الرتوش و”العمق” النظري المصطنع، وتبسيط اللغة، وتقديم المفاهيم بطريقة مستقيمة، يقودنا إلى كشف الحقيقة واضحة وصريحة وصادمة: الدولة هي مجرد عصابة مسلحة تقمع المجتمع لحساب الطبقة الغنية ولحساب نفسها أيضًا بالطبع، بغرض تأمين نهب الطبقات العاملة. وينكشف الوجه الحقيقي لجهاز الدولة في الثورات والانتفاضات الكبرى، فيختفي الماكياج وتتصرف كمجرد عصابة من المجرمين المحترفين. كما تنكشف حقيقة الدولة بشكل كامل في حالة الاستعمار. فدولة مثل فرنسا، صاحبة شعارات الحرية والإخاء والمساواة، وفي فترة "دولة الرفاه" في ستينات القرن الماضي، وفي ظل الزعيم الديموقراطي صاحب الأوسمة والنياشين، تم إجراء عشرات التجارب النووية في الجزائر بالاشتراك مع إسرائيل، بعضها فوق الأرض، بالإضافة إلى جرائم إبادة جماعية وتعذيب بشع لأبناء الجزائر، بل وإجراء التجارب العلمية عليهم. وحتى الآن ترفض فرنسا الديموقراطية البوح بخريطة النفايات النووية التي دفنتها هناك.

 - القضية الأساسية لكل ثورة – كما قال الماركسيون بحق - هي قضية السلطة السياسية. وبالنسبة للثورات الشعبية تنجح الثورة بقدر ما تتمكن من تفكيك جهاز الدولة بقدر الإمكان. فالطبقات المستغلة تحتاج لجهاز دولة، أما الطبقات الشعبية فلا حاجة لها لهذا الجهاز. وضمن آليات تفكيك جهاز الدولة تحويل الجيش وأجهزة الأمن والمخابرات إلى الاعتماد على المجندين للخدمة العامة وقوات الاحتياط مع الإلغاء التدريجي من حجم وسلطة العسكريين المحترفين. ومع التطور التكنولوجي الهائل أصبح من الممكن الاستغناء عن أولئك العسكريين. (مما يثبت إمكانية ذلك أنه مطبق جزئيًّا في إسرائيل التي تعتمد أساسًا على التجنيد الإجباري والاحتياط، أما الجيش العامل فمحدود العدد)، مع الاكتفاء بعناصر محترفة من المدرِبين. أما الأجهزة الإدارية فمكن الممكن أنْ تستمر مع التوسع في الإدارة الإلكترونية. ومن السهل أنْ تصبح المحاكم شعبية بنظام المحلفين مع قضاة محترفين ذوي رأيٍ استشاري. والبرلمان يصبح مجلس مفوضين بالتصعيد من اللجان الشعبية وكذلك مجلس الوزراء. وكل هذا قد تحقق لمدة قصيرة بعد الثورة الروسية في أكتوبر 1917، وفي ثورة باريس 1871.

إنَّ تفكيك الدولة بحد ذاته كفيل بحرمان طبقة اللصوص والمستغلين والقتلة من الحماية.

 - لكل هذا لا يمكن أنْ يكون المرء تحرريًّا حقيقة إلا إذا كان مناضلًا ضد جهاز الدولة بالذات. فلا تكلمنا عن الحرية تحت سيطرة عصابة مسلحة على المجتمع. فسوف نبدأ التحرر فعليًّا بعد اختفاء هذا البعبع المسمى بالدولة؛ العدو الرئيسي للحرية. وبالطبع لا تكفي تصفية الدولة لتصفية سلطة الطبقة الحاكمة والقمع عمومًا، بل لابد من نقض الأيديولوجيا ومؤسساتها التي تستخدمها في السيطرة على الجماهير.

 - هناك ظاهرة حديثة تتمثل في فقدان الدول جميعًا لاستقلالها جزئيًّا. فالعالم يتحول بالتدريج إلى قرية واحدة، بفضل تطور الاتصالات، والعولمة. وفوق هذا تُنتزع سلطات الدولة في اتجاهات متعددة؛ الشركات متعددة الجنسية، والتعاونيات، واقتصاد الظل والتهميش بكل أشكاله، والمنظمات غير الحكومية، وجماعات الضغط، والمنظمات المسلحة متعددة الجنسية. كما تم تشكيل مؤسسات فوق دولية، صحيح أنها تخضع للدول الكبرى، لكنها تمتلك بعض النفوذ بفضل الضغوط المتبادلة للشركات والدول. من هذه، المنظمات التابعة للأمم المتحدة، منظمة التجارة العالمية، الاتحاد الأوروبي، وغيرها الكثير. وما يعيق العولمة الحقيقية حتى الآن هو المصالح الأنانية للشركات والدول، التي تقاوم حرية انتقال الأفراد وتعيق تأهل البلدان المتخلفة لاستقبال رؤوس الأموال بدعم حكوماتها الرجعية، بالإضافة إلى النزاعات المسلحة التي تخلق عدم الاستقرار. كما تعتبر الدعايات والشعارات المناهضة لتحرير الاقتصاد وللعولمة دعاوى رجعية. فإلغاء تدخل الدولة في الاقتصاد بقدر ما يمكن هي إجراء تحرري يطلق طاقات الأفراد ويحقق لهم الكرامة.

وبلا مبالغة تقف الدولة والحدود الدولية كأعدى أعداء حرية الأفراد.

 

الديموقراطية:

 

 - الديمقراطية تتعارض جذريًّا مع أيّ نظام مغلق من المعتقدات، والعقائد، أو الأفكار. لذلك، فالديمقراطية - بالنسبة لنا - ليس لها أيُّ علاقة مع التصور الليبرالي المهيمن الحالي للديمقراطية. هكذا تكلم اللاسلطوي موراي بوكتشن، وهكذا تنظر الليبرالية التحررية التي نتبناها.

 - تتألف كلمة الديموقراطية باليونانية δημοκρατία من (ديمو) δῆμος التي تعني الشعب، و(قراطس) κράτος التي تعني السلطة. فهي في أعرض تعريف لها هي سلطة أو حكم الشعب. ولم يعرف التاريخ قط فترة ديموقراطية بهذا المعنى، بل عرف درجات منها. وقد تغير شكلها ودرجتها من فترة لأخرى، وكثيرًا ما تم فضها وفرض حكم أوتوقراطي.

 - في أثينا عرفت الديموقراطية المباشرة لكن بدون أيّ دور للعبيد والنساء والمعدمين والأجانب ومن لم ينتهوا من الخدمة العسكرية، فشارك في التصويت نحو 10 - 20% من السكان البالغين فقط، ومع ذلك تغنى بها العالم طويلًا. وفي العصر الرأسمالي كان قمة الديموقراطية هي التمثيلية، مدعومة في بعض البلدان بما تُسمى التشاركية، كما توجد الديموقراطية المباشرة في بلد صغير هو سويسرا.

 - لا تكمن مشكلة غياب حكم الشعب في شكل الحكم، ولا توجد “وصفة” لتحقيقه دون تحقيق تغيرات عميقة في بنية المجتمع. فمهما كان شكل الحكم، حتى الديموقراطية المباشرة، لا يمكن أنْ تكون حكم الشعب بالفعل إلا إذا كان الفرد حرًّا. بمعنى أنَّ ديموقراطية الصناديق لا قيمة لها إلا في ظل ثقافة ديموقراطية، وديموقراطية اجتماعية. ولا حرية للفرد بدون تحقيق سيادته على جسده وماله وضميره. وهذا لا يتحقق إلا إذا اختفى جهاز الدولة قبل أيّ شيء آخر، واختفت كذلك التمايزات في القوة الاقتصادية والمعرفية بين الأفراد. وهذه طموحات يمكن أنْ تتحقق في المدى الطويل، أو لا تكتمل أصلًا. لذا تظل الديموقراطية هدفًا يتحقق جزئيًّا لكن لا يكتمل.

 - ولا يوجد شكل مثالي للديموقراطية، لكن أيُّ خطوة تحقق قدرًا من حرية الفرد هي خطوة ديموقراطية. الديموقراطية المباشرة أكثر تحررية، أيْ نظام المفوضين وليس الممثلين محترفي السياسة؛ فلا أحد يمكنه أنْ يمثل الآخر. بل حين يختار شعب ما ممثلين لـ "هـ”، فإنه يتنازل عن حريته. وقد سمح ظهور وانتشار الكمبيوتر الشخصي والإنترنت بخلق شروط أفضل لتحرر الفرد وتطبيق الديموقراطية المباشرة.

 - الليبرالية التحررية Libertarianism: هذه ليست “وصفة” ديموقراطية، بل مفهوم، لا يتحقق إلا في سياق نضال طويل.

 الهدف هنا هو حرية الفرد لا المجتمع أو الدولة. فالمؤسسات الاجتماعية يجب أنْ تكون في خدمة الأفراد في النهاية، ولا معنى لمطالبة الناس بالتضحية بأنفسهم لمجرد بقاء المجتمع أو الوطن، دون أنْ يقدم لهم هذا المجتمع أو الوطن الحرية والأمان. فمن القيم التي يجري الترويج لها في الأنظمة المستبدة، وحتى في دولة “العقد الاجتماعي”؛ الليبرالية، هي أنْ يكون الفرد من أجل المصلحة العليا للوطن أو الدولة، مع ضرورة التضحية بحريته الخاصة من أجل تلك الأهداف “العليا”. النتيجة هي ذوبان الفرد في منظومة تحقق حرية الآخر: المستبد وجماعته؛ الدولة، النخبة المسيطرة، فتصبح حياة الشعب مكرسة من أجل حياة الحكام، وفي الحالات القصوى يذوب الكل في واحد؛ الحاكم المستبد الفرد. إنَّ شعارات مثل شعار “يحيا الوطن”، “الأمة فوق الجميع”، “الزعيم المفدَّى” تستلب الأفراد وتوظفهم في خدمة أعدائهم. فالدولة أو الأمة أو الدستور والقانون، التي تطالب الأفراد بالتضحية بأنفسهم من أجلها لا يضحي قادتها ورجالاتها – غالبًا - بشيء. وضمن التضحية على مذبح الفداء قد يطالَب الفرد بعدم توجيه النقد للنظام، بل بالعمل في خدمته بإخلاص. مقابل ماذا؟ مقابل المجد لذلك الواحد الذي يزعم أنه يمثل الكل. وفي المجتمعات الديموقراطية – زعمًا – يتم الإعلان عن حرية الفرد المقدسة، لكن هذا يقصد به الفرد البورجوازي، بينما يُسمح للآخرين بحرية اختيار صاحب العمل الذي يسرقهم، وعضو البرلمان الذي يخدعهم، والرئيس الذي يحقق مصالح الدولة باسمهم ولا يفي – غالبًا - بوعوده، وحرية الانتماء أو التماهي مع رياضي معين أو فريق من الفرق الرياضية، مع استمرارهم في تقديس الجيش الذي يحمي كل هذه المنظومة، ويكون جاهزًا طول الوقت لقمعهم وقت الضرورة. ودائما ما يتم ترويع الأفراد من الخطر الخارجي، الحرب المحتملة طول الوقت، وحديثًا أضيف “الإرهاب” كتهديد دائم، يتم خلقه – غالبًا - بفعل إرهاب الدول، وتجلس الدولة تاجًا فوق رأس الجميع.

وإذا مددنا مبادئ الليبرالية التحررية على استقامتها سندعو إلى النضال ضد الرأسمالية الاحتكارية؛ المعيقة لحريات الأفراد، بل جعلت الفرد مجرد ترس في آلة العمل، وحتى تحكمت في الذوق العام واختيارات الناس لملبسهم ومأكلهم.. إلخ. وسندعو إلى إطلاق حرية العمل الفردي والتعاوني. كما سندعو إلى العمل على تفكيك جهاز الدولة تدريجيًّا، بتقليص سلطاتها ووظائفها و”حقوقها”. أما بديلها فهو حكومة إدارة بدون جيش ولا شرطة مستقلة، ولا قضاء مستقل، تشكلها اللجان الشعبية. مع انتخاب كبار الموظفين، مثل المحافظين والعمد ورؤساء الأحياء والبلديات.. إلخ، كمفوضين Deputies commissioners وليس كممثلين للشعب؛ إنها ديموقراطية مباشرة.

 كما يجب العمل ضد فصل المجتمع المدني عن السياسي وفصل السلطات عن الجماهير. فارتباطهم يزيح تسلط عصابات السياسيين، والقضاء، والدولة عمومًا.

ولا تقبل الليبرالية التحررية التمييز بين الناس على أساس ديني، أو عرقي، أو قومي، أو جنسي، بل تدعو إلى حرية الأقليات، الحرية الجنسية المطلقة، المساوة بين المرأة والرجل، حق الإجهاض، الحرية الدينية شاملة حرية نقد الدين، وبقية الحريات الشخصية والسياسية من كل نوع.

 وبدلًا من مطالبة الدولة بتقديم المنح والدعم للأفراد يجب أنْ يتولى الأفراد بأنفسهم تكوين مؤسسات مجتمعية تحميهم، ويجب إلغاء كافة المعوقات السلطوية لأنشطة الناس الفردية أو التعاونية.

. غالبًا ن لصالح الطبقة المالكة لا يمكن وضع تصور نهائي للديموقراطية، بل قد تنشأ أشكال جديدة باستمرار مع تطور المجتمعات والقدرات البشرية والتكنولوجيا، كما ستستمر أشكال من التسلط بحكم الفروق بين تكوين وقدرات الأفراد، وبالتالي سيستمر الصراع بين المتسلطين وضحاياهم.

 - أما نظام القضاء السلطوي المتعالي على الشعب فلا يتسق مع مبادئ الليبرالية التحررية؛ فيجب أنْ يكون القضاء شعبيًّا ويلتزم بتطبيق روح الحق والقانون، وليس نصوص القانون الرتيبة والمعقدة. ويقدم نظام المحاكم الشعبية أو الثورية ديموقراطية أكثر ألف مرة من محاكم الدولة. لا يجب أنْ يفلت مجرم من العقاب بسبب “فساد الإجراءات” أو ضياع مستندات، بل يتحقق العدل بالوصول إلى الحقيقة وإعادة الحق لأصحابه ومعاقبة المجرم الحقيقي.

 - تظل الديموقراطية هدفًا يجب أنٍ تحقق ويعاد تحقيقه وتطوير أشكاله إلى ما لا نهاية، بعملية نضالية مستمرة.

 

**********************

‘ستبدأ الحرية تتحقق حين تختفي الدولة ويصبح الناس قادرين على تنظيم أنفسهم، وحين يمتلك الأفراد حرية الانتقال بدون جواز سفر أو أيّ قيود، وحين تختفي كل قوة تسلطية، مثل احتكارات الاقتصاد والعنف والمعرفة، وحين تختفي مراقبة الأفراد من قبل أجهزة خاصة، وحين يتقارب الناس في قدرتهم المعرفية والاقتصادية‘



([1]) يولاند جاكوبي، علم النفس اليونجي، ص ص 17 - 18.

([2]) علم الأخلاق، ص 66. بل أضاف أنَّ الله لا يتصرف بإرادة حرة.

([3]) الخوف من الحرية، ص 125.

([4]) The Division Of Labor In Society, p. 3

([5]) حسب تعريف بلزاك لنفسه. نقلًا عن إريك فروم، الخوف من الحرية، ص 207.

([6]) A. H. Maslow (1943), A Theory of Human Motivation

([7]) موجز تاريخ علم النفس واتجاهاته، بدون اسم مؤلف.

([8]) “ومضمونه كل ما هو موروث، كل ما يظهر عند الميلاد، كل ما هو مثبت في الجبلة. لذا فهو يتألف أولًا وقبل كل شيء من الميول الغريزية التي تصدر عن التنظيم الجسمي وتجد ههنا أول تعبير عن ذاتها في صور نجهلها”. الموجز في التحليل النفسي، ص 26.

([9]) هذه فكرة إيتيان دو لابويتي، مقالة “العبودية الطوعية”. وهو قد أسهب في شرح آثار العبودبة دون أنْ يعلل وجودها وقبول الناس لها، مخالفين بذلك الطبيعة البشرية حسب ما يقول.

([10]) في أصل العنف والدولة، ص ص 173 – 178.

([11]) وهو تعبير استخدمه هيجل لوصف المؤمنين بإله كلي الجبروت ومتسلط؛ فهم لا يمكنهم الاتحاد معه ولا يمكنهم الاستقلال عنه، فيعانون الشقاء، وقد خص اليهود بالذكر.

 The Phenomenology of Mind, 207 – 230

([12]) يعلل الشاطبي ذلك بقوله: “وإنَّ عقل المعنى الذي لأجله شرع الحكم فقد صار إذًا كل تكليف حقًّا لله فإنَّ ما هو لله فهو لله وما كان للعبد فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله إذ كان لله أنْ لا يجعل للعبد حقًّا أصلًا.. . الموافقات في أصول الشريعة، الجزء الثاني، ص 316.

([13]) للحق، ذهب هيجل، أكبر فلاسفة الحداثة نفس المذهب:

“The march of God in the world, that is what the state is”, PHYLOSOPHY OF RIGHT, 258

([14]) Oriental Despotism, p. 16

([15]) تناول هذا الموضوع بالتحليل المفصل نوفال نوح، وهو يعتقد أنَّ البشر قد أساءوا الاختيار.

Sapiens, A Brief History of Humankind, Part Two, The Agricultural Revolution

Parliamentary Assembly, Discrimination Against Women in the Workforce and the Workplace ([16])

([17]) جهاد عمر الخطيب، سيكولوجيا الجماهير - دراسة في نظريات التحكم بالجماهير.

([18]) قصي الصافي، قراءة في كتاب: عصر رأسمالية الرقابة.

([19]) يستخدم اللفظ في هذا الكتاب بالمعنى الشائع له: المتعلمون والفنيون رفيعو المستوى عمومًا؛ التكنوقراط، والمثقفون بمعنى خاص؛ المتعاملون مع الفكر النظري.

([20]) تناولها بالشرح ريتشارد برودي، Virus of The Mind, Chapter 8

([21]) Yuval Noah Harari, Sapiens, A Brief History of Humankind, p. 112

قدم الكاتب مثالًا حيًّا للرموز وقوة تأثيرها، هو أسطورة بيجو. وقد  شرحها كالتالي: بيجو هي شركة بدأت كمشروع عائلي صغير، ثم أصبحت تنتج الكثير من السيارات وتحقق أرباحًا بعشرات المليارات من اليورو. والآن لو تم تفكيك كل سيارات بيجو وتحويلها إلى خردة، والتخلص من كل العاملين بالشركة وبيع كل معداتها بالكامل، تظل الشركة موجودة، وتستطيع الحصول على قروض وشراء معدات جديدة واستئناف الإنتاج. فالشركة هي مجرد علامة “بيجو” لا أكثر؛ شيء رمزي. نفس المرجع، ص ص 30 - 34.

 

([22]) مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ص 92.

([23]) فلسفة السلطة. مع ملاحظة أنَّ ميشيل فوكو لا يميز بوضوح بين الضغط والقوة والسلطة Force, Power, and Authority

([24]) جيل دولوز، حوار بين ميشيل فوكو وجيل دولوز، المثقفون والسلطة. وقد أجاب هو على سؤاله كالآتي: “هنالك استثمارات الرغبة التي تنمط أو تنمذج السلطة وتنشرها، والتي تجعل السلطة توجد على مستوى الُشرطي والوزير، وليس هنالك اختلاف مطلق في طبيعة السلطة التي يمارسها الشرطي والسلطة التي يمارسها الوزير. إنَّ طبيعة استثمارات الرغبة على الجسد الاجتماعي هي التي تفسر لماذا هنالك أحزاب ونقابات، التي لها والتي كان يجب أنْ يكون لها استثمارات ثورية باسم مصالح الطبقة، يمكن أنْ يكون لها استثمارات إصلاحية أو رجعية خالصة على مستوى الرغبة”.

([25]) إرادة المعرفة، ص 102.

([26]) حول السلطة.

([27])Franz Oppenheimer, The state, p. 4

([28]) هذا رأي ماكس فيبر، Politics as a Vocation

([29]) حسب ماكس فيبر كان تقسيم العمل بين القبائل عاملًا في وجود قبائل غنية وأخرى فقيرة، فقامت الفقيرة بغزو الغنية وانتزعت السيادة عليها. نفس المرجع.

([30]) قدم كارل كاوتسكي انتقادات هامة لإنجلز في هذا الموضوع كالآتي: انتقد تصوره حول نشوء الدولة داخل العشيرة: وقد قدم إنجلز ثلاث آليات لنشوء الدولة والطبقات: 1 - تخصص بعض الناس في شؤون إدارة المجتمع، وقد أصبحت هذه الوظائف وراثية في عائلات معينة بطبيعة الحال. لكن “طبيعة الحال” ليست تفسيرًا لتحول جماعة من الناس في مجتمع يدار ديموقراطيًّا إلى سلطة قمعية. ثم لا يمكن تفسير هذا التحول إلى طبقة بمجرد استقلال تلك الوظائف عن المجتمع، بل بعملها لصالح طبقة معينة. 2 - كما فسر إنجلز نشوء الطبقات بظهور تمايز في الثروة بين أفراد القبيلة. لكن هذا لا يكفي؛ فالطبقة المالكة، لكيْ تكون بهذه الصفة ينبغي أنْ تعيش على عمل الآخرين، لا أنْ تتميز عنهم في مقدار ما تملك. علاوة على ذلك لا يمكن تصور أنَّ تلك الفروق كانت كبيرة، خاصة أنَّ الأرض كانت تحت سيطرة العشيرة ككل. بل وكانت تلك الفروق مصدرًا للمكانة بقدر ما كان الغني يقدم المساعدة للفقراء لا يستغلهم، فكان هذا الكرم دافعًا لأعضاء العشيرة لانتخاب هؤلاء الأغنياء كرؤساء، في كل من أثينا وروما. 3 - نشوء الرق: كانت الحروب هي مصدره، وليس مجرد ظهور الرق كان يعني ظهور الطبقات. فقد كان العبيد في بداية ظهورهم غرباء عن المجتمع، وكانوا قلة، لا يشكلون طبقة، ولا يشكلون خطرًا على القبيلة، فلم يحتاج الأمر إلى إقامة جهاز دولة.

أما لماذا وكيف تحول معظم السكان إلى خدم عند قلة منهم، فيفسره كاوتسكي بغزو قبيلة لأخرى واستعبادها بالكامل مع العيش معًا كمجتمع واحد. هكذا أصبحت هناك طبقة واسعة من العبيد تتعيش على عملها طبقة صغيرة من القبيلة المنتصرة، بجانب بقاء أغلبية هذه القبيلة فقراء أحرار.

ملحوظة: لم ينف كاوتسكي أنَّ تصور إنجلز قد يكون تحقق في بعض المناطق.

The Materialist Conception of History, pp. 269 - 272

([31]) استعرض أوبنهايمر هذه العملية المتكررة في نشأة كل الدول القديمة في كتابه سابق الذكر(The state) ، وكذلك كاوتسكي في كتابه سابق الذكر.

([32]) Karl Kautsky, Op. cit., p. 277

([33])Ibid.I.id,رة المستمرة":

جلز قد تصور دولة محايدة وليست أداة للقمع, pp. 269 - 272

([34]) Anti - Dühring, Part II: Political Economy, I. Subject Matter and Method

([35]) تناول هذه الظاهرة الكثيرون، منهم كاوتسكي في: The Materialist Conception of History وفيتفوجل في كتابه الشهير: Oriental Despotism، مواضع متفرقة عديدة.

([36]) بولانتزاس، نظرية الدولة، ص ص 37 - 38.

([37]) الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية.

([38]) نيكولاس بولانتزاس، نظرية الدولة، ص 8.

([39]) قال: “ليست الدولة الموضوع الإداري الأدواتي لجوهر سلطة تمتلكها الطبقة السائدة، وليست ذاتًا تتصرف بسلطة تتطابق مع ما تنتزعه من الطبقات الأخرى بالإكراه: الدولة هي محل التنظيم الاستراتيجي للطبقة السائدة في علاقتها مع الطبقات المسودة. هي محل ومركز لممارسة السلطة، لكنها لا تملك بذاتها أيَّ سلطة”– المرجع السابق، ص 148.

([40]) تبنى هذه النظرية ميخائيل باكونين. ارجع إلى: عادل العمري، تحليل باكونين للبيروقراطية كطبقة اجتماعية خاصة - عرض نقدي. كذلك ذهب سامح سعيد عبود نفس المذهب وحلل البيروقراطية المصرية كطبقة. ارجع إلى: انحطاط الرأسمالية، مصر نموذجًا.

([41]) سيجموند فرويد، الحب والحرب والحضارة والموت، ص 14.

([42]) وهو تشبيه ذكره ميخائيل باكونين: “لكيْ تستمر الدولة لابد أنْ تغزو دولًا أخرى، بالضبط مثلما تقوم المنافسة في المجال الاقتصادي بتدمير وامتصاص رأس المال الصغير وحتى المتوسط... ونفس هذه المنافسة تعمل أيضًا في حياة الدول، مؤديةً إلى تدمير وامتصاص الدول الصغيرة والمتوسطة لمصلحة الدول الكبرى”. Statism and Anarchy

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق