الأربعاء، 2 فبراير 2022

عرض موجز لكتاب: الثورة المستمرة[1]

 

 

عرض موجز لكتاب: الثورة المستمرة[1]

 

عادل العمري

 

1- الثورة هي سيمفونية تشمل كل الأصعدة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعرفية والعلمية. لكن لا يوجد أيُّ تعريف للثورة يتفق عليه البشر ولا حتى المثقفون، بل ولا الثوار أنفسهم؛ فيتوقف مفهومها في النهاية على الموقع الذي يتناولها منه الشخص.

وتعني الثورة من وجهة نظرنا قلب الأنظمة والمنظومات السياسية والاجتماعية والمعرفية والأيديولوجية والأخلاقية، وتفكيك الثوابت والمقدسات، وتحطيم العقبات أمام تحقيق حرية ورفاهية وتقدم البشر.

الثورة المستمرة مشروع للعمل على تغيير النظم القائمة في كل مكان في العالم، ليس بغرض إقامة نظم جديدة، بل في سبيل تحقيق ما نسميه باستراتيجيات الثورة الثلاث: الحرية – الرفاهية – التقدم، لعموم البشر. وهذه ليست أهدافًا نهائية، بل آفاق مفتوحة؛ أهداف لا تتحقق بشكل نهائي، بل تظل مفتوحة وقابلة للامتداد إلى ما لا نهاية؛ أهداف في طريقها إلى أنْ توجد؛ استراتيجيات مطلقة؛ لا تكتمل عند نقطة محددة، تتطلب استمرار العملية الثورية لتحقيق المزيد منها؛ يمكن تحقيق خطوات منها باستمرار. فهكذا يستمر العمل من أجل هذه التطلعات التي لا سقف لها، وبالتالي لا يكون هناك هدف نهائي ونظام مثالي. هذا “المنطق” يعتمد على استحالة تحقيق نهاية للتاريخ أو إقامة نظام مثالي نهائي. بل كل وضع لابد أنْ يخلي السبيل أمام وضع آخر، لكن تظل أمام الطبقات والجماعات المقهورة الاستراتيجيات الثلاث المذكورة والمفتوحة. فنحو مزيد ومزيد من الحرية والرفاهية والتقدم. ولا تُقدَّم هذه بصفة أهداف مقدسة أو وحيدة، بل يمكن تعديلها أو الإضافة إليها، حسب ما يرى الناس. وليس المقصود هو العمل على تحسين أحوال الجماهير في إطار النظم القائمة، بل من خلال تفكيك وتجاوز كل النظم. فكلِ نظام يحافظ على مصالحه وعلى مصالح الطبقة المسيطرة، ويمنع الجمهور بالتالي من تحقيق آماله.

2- ومبرر هذا الطرح (الثورة المستمرة) هو أنَّ كل ثورة  - تقريبًا - قد انتهت بثورة مضادة لشعاراتها بالذات. ومن أبرز الأمثلة: الثورة الفرنسية التي توقفت عند تحقيق طموحات الطبقة الرأسمالية ثم انقلبت هذه على الطبقات الأدنى وأقامت حكومة الإدارة، ثم جاء انقلاب بونابرت ليحسم الأمر، وليتم استكمال تشكيل النظام الرأسمالي، دون تحقيق أهداف الجماهير الشعبية. وحين قامت الثورة الروسية كان ما قاله رجالها وطمح إليه جمهورها هو إقامة نظام اشتراكي يؤول إلى الشيوعية؛ مجتمع الحرية. لكن بدأت الثورة المضادة مبكرًا جدًّا، ابتداءً من قمع المعارضة اليسارية بفظاظة، انتهاء إلى بناء النظام البيروقراطي بجبروته المعروف. فالثورة تنتهي عند حدود القوة القائدة لها؛ مصالحها.

كما أنه لا يمكن نظريًا أو عمليًا تحقيق الخلاص البشري من كل أشكال التفاوت والقهر والتسلط والتضليل، إلا إذا تغير النوع البشري نفسه. لذلك سيستمر الصراع بين قوى التحرر وقوى التسلط والاستغلال. ولطالما استمر التفاوت في قدرات وميول البشر سيستمر إنتاج أشكال من الأيديولوجيا والدين والمقدسات ومختلف أشكال الخداع والتضليل. وطالما استمر الجشع والطمع سيستمر الصراع بين القوى الاجتماعية حول الحقوق والواجبات والمصالح..

لذلك يطرح الكتاب فكرة استمرار الثورة، أو الثورة المستمرة؛ منع ومقاومة وتفكيك أيِّ محاولة لتجميد الثورات أو وضع أهداف نهائية لها، دون التطلع إلى وهم الثورة التي تشبه يوم القيامة فتسحق كل أشكال الاضطهاد والاستغلال والقهر إلى الأبد. بل التطلع إلى ثورة مستمرة؛ تضع نصب عينيها خلق حالة من السيولة الدائمة على كافة الصعدة، وتتطلع إلى تفكيك أيّ استقرار لصالح حراك دائم وتغير مستمر، مع نبذ فكرة إنشاء نظام مثالي مستقر. وهذا يتضمن تباين العملية الثورية من بلد لآخر ومن لحظة لأخرى. إنَّ كل طريق يحقق خطوة من تطلعات الثورة هو طريق مشروع، ولا توجد مقدسات في هذا المجال، ابتداءً من محو أمية فرد واحد حتى المشاركة في عصيان عام أو انتفاضة ثورية عاصفة. وإنَّ الثورات الحادة والشاملة تقوم فجأة وبالصدفة، ولا تحقق أهدافها بالكامل أبدًا. فالمهم هو تفكيك النظام على كل المستويات المادية والثقافية، بزرع بؤر ثورية في كل تلك المستويات، ليس تمهيدًا لانفجار عام أساسًا، بل من أجل التغيير المستمر وفي العمق. ولتكن الثورات العاصفة مجرد لحظات في عملية تغيير مستمرة، بتفكيك النظم ومنع الاستقرار والهدوء لقوى الاستغلال والتسلط، وإزالة كل عقبة موجودة أو تنشأ تكون معرقلة لحرية ورفاهية الجمهور وتقدمه.

3- الأيديولوجيا واليوتوبيا: الأيديولوجيا هي منظومة فكرية محافظة بالضرورة، تبرر لوضع قائم وتقدم ما تعتبره الحقيقة بألف لام التعريف. مقابل هذا المنحى المحافظ تتبنى الثورة المستمرة أيديولوجيا ثورية، تبشر بمستقبل أفضل وهي ما يسميها مانهايم باليوتوبيا؛ بمعنى طرح فكري مضاد للأمر الواقع ويبشر بوضع جديد.

لن يستطيع العقل البشري تجاوز الأيديولوجيا؛ إذ تصير اليوتوبيا إلى أيديولوجيا أيضًا بعد أنْ تتحقق كما حدث دائمًا (مثال الليبرالية والماركسية). لذلك على الثورة المستمرة أنْ تصنع وتعيد صناعة اليوتوبيا دائمًا. كما تجعل الأيديولوجيا موضوعًا للنقد، شاملة الدين. لذلك قدم الكتاب عرضًا نقديًا للأيديولوجيات الأوسع انتشارًا وسط اليسار: الماركسية والأناركية وما بعد الحداثة. والبديل المقدم هو يوتوبيا الثورة المستمرة باسترتيجياتها الثلاث المذكورة أعلاه. كذلك قدمنا تحليلًا نقديًا لِما تم في الممارسة بناء على هذه النظريات، من ثورات فشلت جميعًا في تحقيق شعاراتها وانتهت بثورات مضادة خرجت في غالبية الحالات من رحم تلك الثورات نفسها، ومن مشاريع فاشلة لبناء مجتمعات مثالية معزولة. كما تم تقديم عرض نقدي سريع لنظريات بعد - ماركسية حاولت تجاوز الجمود الذي طبع الماركسية بعد أنْ سادت طبعتها الستالينية، وعلى رأسها النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. كما قُدِّم عرضٌ نقدي سريع لنظريات “ما بعد الحداثة” التي انتشرت في كل مكان لعدة عقود، ولم تقدم شيئًا يذكر لتجاوز أزمة العالم المعاصر. وهذه كانت مقدمات ضرورية لطرح ما سميناه “يوتوبيا” الثورة المستمرة كبديل عملي، والمقصود بذلك مشروع للتغيير، وليس للتبرير مثل الأيديولوحيا، وإنْ تضمنت عناصر أيديولوجية.

4- لم يتبن الكتاب منهجًا معينًا، ولم يتبن فلسفة بعينها، ولم يقدم نظرية نسقية. فقد تم عمل قطيعة (وليس مقاطعة) مع الفلسفة والميتافيزيقا، والأيديولوجيا إلى حد كبير، ومع فكرة الحتمية التاريخية، والنزعة الوظيفية، وكل المقدسات، والأنساق. وبالرغم من ذلك تضمن بعض الأفكار التي تتفق مع بعض أطروحات ما بعد الحداثة، والماركسية، والأناركية، والبنيوية، والليبرالية التحررية Libertarianism، والوجودية، وغيرها، كلها تخدِّم – وبشكل منسجم حسب زعمنا - على استراتيجيات الثورة المستمرة وآليات ممارستها. وقد اقتضت الأمانة الإشارة إلى أصول ومصادر كثير من الأفكار المطروحة هنا، إحقاقًا للحق، واعترافًا بالفضل لأصحابه.

5- وقد اهتممنا بالدوافع النفسية وإدماجها في كافة موضوعات الكتاب، والإشارة إلى دورها في حركة المجتمع والتاريخ. لذلك رأينا أنْ نكتب فصلًا كاملًا (الفصل الثاني) كمقدمة في دراسة النفس البشرية، مع الحرص على التعامل مع الطبيعة البشرية كمجرد ميول مرنة ومتناقضة ومتفاعلة مع الثقافة والخبرة الإنسانية. ولأن المدارس النفسية عديدة ومختلفة، فقد تبنينا أعرض الأفكار المطروحة في هذا المجال، وأكثرها اقترابًا لمعطيات العلم الشائعة، ولم نلتزم بمدرسة بعينها.

6- استراتيجيات الثورة المستمرة الثلاث:

* الحرية هي أهم شيء: وهي تعني – من وجهة نظرنا - أنْ يكون الفرد موجودًا لذاته، وليس في ذاته ولا للآخر، فيقرر ما يشاء “هو”؛ بمعنى أنْ يختار ما يتوافق مع نفسه بدون ضغوط من أيّ جهة كانت. وهو ما يعني التفرد؛ أنْ يكون كل فرد كائنًا فريدًا؛ ليس “نفرًا” ولا منمطًا، بل ذاتًا مبدعة، متحققة. ولأنَّ التحرر فعل واع، فالإنسان الحر يسيطر على ذاته؛ على مشاعره وغرائزه وحتى على عقله؛ يستمتع بكل هذا بوعي وإدراك، بتوجيه كل هذا بما يحقق له السعادة، وبدون كبت، فالكبت هو - على العكس – فعل لا واعٍ لإخفاء الرغبات والمشاعر. وهذا يتطلب العمل ضد النظام الاجتماعي، والأنا الأعلى، أو الضمير التسلطي، والأيديولوجيا المقدسة، والسلطات القمعية، لتوسيع مساحة حريته. وفوق وقبل كل شيء أنْ يثق الفرد بذاته وبقدرتها النابعة من خبرتها الخاصة، وبالتفكير النقدي، وليس بشيء خارجي.

لا يحقق المرء ذاته إلا إذا كان حرًّا، ولا تقام علاقات اجتماعية مساواتية وإنسانية إلا في ظل حرية الأفراد. ولن تتحقق حرية الفرد بشكل نهائي، لكن سيستمر النضال من أجل تحقيقها خطوة خطوة. فللأسف مثلما يميل الناس إلى الحرية يوجد ما يسمى بـ "العبودية الطوعية"؛ ميل إلى الخضوع للأقوى. ففي الأساس يتسم وعي عموم البشر بالميل المحافظ، وبالخوف من التغيير. وتستغل الطبقات المسيطرة والقوى المتسلطة عمومًا قلة طموحات الجماهير، وخوفها من المجهول، ورغبتها في الاستقرار والشعور بالأمان في نشر أيديولوجيتها. وهذا ما يفسر اختيار العبودية من جانب معظم الناس على مدى التاريخ. فرفض القهر ربما ينتج عنه فقدان الحياة أو الاستقرار، والشقاء والمعاناة في نواحٍ مختلفة. لذلك سيستمر الصراع بين الرغبة في التحرر وقوى التسلط المدعومة بالعبودية الطوعية.

* الرفاهية: لا تعني أكبر قدر من الاستهلاك، بل استخدام الثروات والعلم والتكنولوجيا لتحقيق الراحة والاستمتاع، وفوق كل شيء: السعادة. وليست السعادة هي الشعور باللذة العابرة التي يعقبها الاكتئاب والقلق واليأس، كما يحدث لإنسان اليوم بالفعل، حتى الإنسان البورجوازي. بل هي الشعور بأنك نفسك، تختار ما يتلاءم مع دوافعك الداخلية واحتياجاتك التي تقررها بنفسك، وهذا يتطلب النضال ضد القهر والاستغلال، بل وضد استغلالك للآخرين وتسلطك عليهم، إنْ وجدا.

* التقدم: يمكننا أنْ نحدده بأنه كل ما يساهم في تحقيق طموحات عموم البشر في الحرية والرفاهية، المرتبطين بتحقق ما يمليه الضمير الإنساني العام. فليس أيُّ ارتفاع في إنتاجية العمل أو إنتاج المزيد من المعدات أو القيم الاستعمالية يحقق هذا الغرض. وقد حقق التقدم التقني بالفعل نتائج مفيدة للبشرية، مثل مقاومة بعض الأمراض، توفير سبل الراحة في المسكن، وضمان مخزون الطعام، وغيرها. يمكن أيضًا تحقيق إنجازات كثيرة أخرى، منها الزراعة الحديثة، بدون تربة وبدون كيماويات، مزارع للحيوانات تطعمهم الخضرة ولا تستخدم الهرمونات ولا الأطعمة الملوثة بالكيماويات. بل يمكن إنتاج بروتين ودهن حيواني مصنع وصحي، مما يغني الإنسان عن ارتكاب جرائمه الوحشية تجاه الحيوانات. وبدلًا من الاستخدام العسكري للطاقة النووية يمكن توجيهها للطب وإنتاج الكهرباء والهيدروجين من الماء كطاقة نظيفة. كما يمكن الاستفادة من الروبوت والطابعة الثلاثية؛ فيمكن التحرر من سطوة التكنولوجيا؛ فبدلًا من خضوع العامل للآلة يمكن جعل الآلة خاضعة للعامل، باستخدام برنامج يحدده ليبدأ عمل المصنع أو المنشأة عمومًا. وكذلك في إلغاء العمل اليدوي والليلي، وتقليل ساعات العمل، أو حتى إلغاء العمل وتحويله إلى هواية، بعد أنْ يتحقق اختفاء العمل المأجور، وإنهاء التمييز والفصل بين الريف والمدينة، وتعزيز الدعوة للمساواة بين المرأة والرجل،  بفضل تلاشي أهمية الفروق البدنية في عملية العمل. كما يمكن بتكنولوجيا النانو وغيرها في الطب أنْ نجعل الإنسان يعيش طالما لم يقتل أو يتعرض لحادث. والآن يجري تطوير العلاج بالجينات والهندسة الوراثية، لكنه يحتاج إلى تمويل كبير. لا يمكن إلغاء تقسيم العمل ببساطة كما تصور ماركس، بالتقدم التقني المستمر واتساع العلوم وتنوعها. فعجز العقل البشري عن استيعاب هذا الكم من المعارف يفرض تقسيم العمل. لكن مع المزيد من التقنية، وتطور قدرات الإنسان على خلق امتدادات خارجية لذهنه من أدوات متطورة قادرة على العمل بدلًا منه؛ الذكاء الاصطناعي، يمكن تضييق تقسيم العمل باستمرار، خصوصًا حين يصبح الفرد كعامل مجرد مبرمج ومعط للأوامر لتلك الأدوات. كما أنَّ توفير إمكانيات للتعليم السريع يمنح فرصة تغيير المهنة. ومع ذلك سيتسع مجال المعرفة باستمرار وستزداد العلوم تعقيدًا، مما سيجعل تقسيم العمل مستمرًا، وبالتالي يستمر العمل على تضييقه؛ صراع مستمر بين الاتجاهين.

7- النضال ضد الدولة بشكل أساسي، فوق النضال ضد الطبقات المسيطرة: الدولة هي آلة قمع منظم؛ أعدى أعداء حرية الفرد. كذلك صارت الدولة الحديثة هي طليعة النظم القائمة، وهي ذات مصالح خاصة تميزها عن بقية الطبقات، بل يمكن اعتبار بيروقراطية الدولة طبقة بحد ذاتها. صحيح تلتقي مصالح الدولة مع مصالح الطبقة الغنية الأخرى (البيروقراطية العليا طبقة غنية)؛ الرأسمالية، لكن هناك أيضًا صراعات بينهما على المصالح. ولولا قوة الدولة لما استمرت سيادة الرأسمالية اقتصاديًّا.. لذلك تضع الثورة المستمرة على أول جدول أعمالها تفكيك جهاز الدولة ولإقامة حكومة بدون دولة؛ حكومة مفوضة في إطار نظام الديموقراطية المباشرة.

أما التركيز على النضال ضد الرأسمالية، وهو ما يتبناه دعاة الاشتراكية، فيتضمن نقل سيطرة الرأسمالية على المجتمع إلى الدولة، وكأنَّ الأخيرة تضمن حقوق الجمهور العام وتحقق مصالحه. الأمر معكوس تمامًا؛ فالدولة المعاصرة هي حاضنة الرأسمالية، وهي العدو الأول للجماهير، وهي أسُّ الفساد وقائد الثورات المضادة. أما بيروقراطيتها فهي طبقة مميزة تحتكر القوة المسلحة وكثير من المعلومات، وتسيطر على الاقتصاد حتى في أعتى البلدان الرأسمالية. ويترتب على تفكيك آلة الدولة تفكك الرأسمالية التي لا تستطيع أنْ تعمل إلا في حماية البيروقراطية.

وهناك سؤال استنكاري شائع: وهل يمكن للمجتمع أنْ يعيش بلا دولة؟ أليس هذا يؤدي إلى الفوضى؟ والرد: يمكن أنْ توجد حكومة بلا دولة، تفوضها مجالس شعبية وبرلمان مفوض. في هذه الحالة لا يكون هناك جيش دائم ولا أجهزة أمن محترفة، بل تكون الشرطة والجيش أجهزة غير محترفة، تعتمد على التجنيد أو التكليف الإجباري المؤقت للأفراد، وتكون المحاكم شعبية تعتمد على المحلفين وقضاة مهنيين ذوي رأيٍ استشاري. ويمكن بالتأكيد الاستغناء عن البيروقراطية وتعميم الخدمات الإلكترونية وسيادة المجالس الشعبية المفوضة. وفي عصرنا يسمح التقدم الهائل للعلم والتكنولوجيا بسرعة تعلم أفراد المجتمع لشؤون الإدارة وفنون الحرب ومقاومة الخارجين على القانون. هكذا تختفي البيروقراطية ومعها احتكار قلة للمعرفة والسلاح. ومع استمرار التقدم وتصفية الفساد ورفع الحماية عن الاحتكارات وتعديل نظام الإرث، يتضاءل بالتدريج احتكار قلة للثروة الاجتماعية.

8- قيادة الثورة: لا توجد أيُّ مشروعية لتقسيم قوى الثورة إلى طليعة وجماهير. فلا توجد مهمات "تاريخية" لهذه الفئة أو تلك. فلا دورٌ مقدس للمثقف ولم يرسل التاريخ تكليفاتٍ لهذه الطبقة أو الفئة أو تلك من البشر. وإنَّ هذا الادعاء بوجود دور طبيعي للمثفغين ما هو إلى ادعاء يهدف  - ضمنًا – إلى ضمان حصولهم على مكانة عليا في المجتمع وقيادة الجماهير، التي تتضمن نفس الفكرة اعتبارها غير واعية بمصالحها.

بدون تمكن الجمهور العام من تنظيم نفسه وإفراز قيادات من داخله وبتكليف منه، والتحكم في العملية الثورية سيستطيع دائمًا القادة والزعماء "الملهمون" و"الأيقونات"، و"العباقرة" وكبار "المناضلين".. إلخ من التمكن من الثورات وحصد نتائجها لحسابهم.

فالعفوية الجماهيرية ضرورة وشرط لا بد منه لتحقيق أهداف الجمهور. والمقصود هنا عفوية الجماهير المدركة لذاتها؛ لقدراتها ولمصالحها، والمتطلعة إلى أهداف بعينها، والتي تعرف خصومها جيدًا وتعرف كيف تواجههم.

أما المثقف فليس له دور طبيعي، بل هو يختار لنفسه دورًا. وإذا أراد المشاركة في العملية الثورية فليقدم ما عنده من معلومات وخبرات خاصة.  وقد انتهى بالفعل عصر المثقف الشامل؛ الطليعة والقائد، "الأيقونة" لحساب المثقف المتخصص، الذي يكون فردًا ضمن الجمهور، أكثر معرفة بأحد جوانب الحياة. مثل أيّ إنسان، لهذا المثقف طموحاته وآماله. فإذا أراد بشكل اختياري تمامًا أنْ يلعب دورًا في الثورة المستمرة، فهو قادر على الدعاية والتحريض وسط الجماهير المؤهلة للثورة؛ فضح النظام ونشر المعلومات الحقيقية عن حالة المجتمع، وتقديم الدعم اللوجستي للثورة. وهو أيضًا قادر على الاشتراك في حركات الاحتجاج المختلفة.

وفي الخبرة التاريخية وجدنا أنَّ الدعاية والتحريض، المنظم وغير المنظم قد لعبا دورًا كبيرًا في التحضير العفوي للانتفاضات الشعبية العظيمة في كل مكان. وهنا تقفز أمامنا فكرة الأناركيين حول الجماعات الدعائية، والتي لا تقود الحراك الجماهيري، لكن تقوم بالدعاية لأفكار الثورة وتقدم مساهمة لوجستية للجماهير.

إذا أراد المثقف المتخصص أنْ يكون له دور في الثورة، فيكون مطالبًا بأنْ يعمل على: فضح السلطة وتعرية النظام وكشف الطبيعة الاستغلالية له - نقد أسس المجتمع والأيديولوجيا القائمين - فضح زيف ادعاءات الدولة والطبقة المسيطرة - مساعدة الجماهير على التعلم - كسر المقدسات وضرب المثل في كسر قواعد النظام - تقديم فن جديد - نشرالتعليم - النضال من أجل منظومة علاج أفضل - تطوير وتطويع البحث العلمي لمصالح الجمهور. وعليه قبل ذلك أنْ يكشف عن وضعه هو في النظام الاجتماعي، وأيّ سلطة يخدم؛ هل يخدم سلطة النظام أم السلطة المضادة؛ الثورة المستمرة؟

ولن يستجيب كثيرون في هذا العصر إلى المثقف وهو يتخذ وضع النبي، مقدمًا نفسه كرسول للحقيقة المطلقة للوجود. فإنْ أراد أنْ يؤثر فعليه أنْ يناضل ضد أشكال السلطة القمعية حيث يكون، سواء السلطة السياسية أو السلطة المعرفية، ضد كل أشكال الزيف والتغييب والخداع، وضد أجهزة القمع وعلى رأسها الدولة.

9- الطبيعة الاجتماعية للثورة المستمرة: ليس التاريخ غائيًّا؛ فلا توجد لا حتمية تاريخية ولا مسار ما للتاريخ محدد سلفًا. كما لا توجد طبقة لها دور تاريخي أو مكلفة بمهمة تاريخية. أما الادعاءات من قبل بعض الجماعات أنها تعمل من أجل مبادئ عليا فلا تدل عليه وقائع التاريخ بالمرة. فالثورات هي فعل لتحقيق طموحات لقوى اجتماعية معينة، لا أكثر ولا أقل. ليست عملًا مقدسًا ولا تحمل مبادئ مقدسة. فما حددناه من استراتيجيات قابلة للزيادة أو النقصان أو للتبديل. وهي - في العموم – تحقق طموحات القوى الاجتماعية الأكثر حرمانًا منها، وعلى الأخص القوى الأكثر قدرة على التمرد والثورة، وهي في الغالب البروليتاريا الجديدة؛ الفئات المهمشة وشبه المهمشة. ومن المرجح أنْ تجر تلك البروليتاريا قوى اجتماعية أخرى عديدة، مثل النساء، وفقراء الفلاحين، وعمال الصناعة، وفئات وشرائح من الطبقة الوسطى، وحتى عناصر بورجوازية في ظروف وفترات ما.

ليس من الضروري ولا من الممكن تحديد طبيعة الثورة، والمقصود من هذا عادة: ثورة ديموقراطية، بورجوازية، أم اشتراكية؟ والبعض يضيف: إسلامية. فالثورة المستمرة ليست مشروعًا لبناء نظام جديد، بل عملية مستمرة لزيادة الحرية والتقدم والرفاهية، في سياق تفكيك النظم القائمة وليس في إطارها. فهي ثورة على الوضع القائم لصالح هذه الطموحات التي قد تزداد مع الوقت، وأفقها يتحدد حسب إمكانيات القوى المتصارعة ومسار الصراع الاجتماعي – السياسي.

10- آليات الثورة المستمرة:

* تدعو يوتوبيا الثورة المستمرة إلى النفي والنقد والتفكيك بآليات مختلفة:

- تفكيك الشعارات والمفاهيم التي تعطي انطباعات مناقضة للهدف منها. من ذلك استخدام الدول لشعارات حقوق الإنسان بغرض الهيمنة على دول أخرى، واستخدام أنظمة قمعية لشعار الديموقراطية، واستخدام شعارات الوطنية والقومية لتبرير امتيازات رجالات الدولة والطبقة المميزة.

- نقد المقدسات اللاهوتية والعلمانية، ومقاومة ظاهرة عبادة الفرد: السياسي والرياضي والفكري... وكشف الأساس الاجتماعي والمنفعي لهذه الظواهر، لصالح قوى القهر والاستغلال.

 - نقد الأفكار التي تفسر التاريخ على أنه من صناعة بطل، أو تدعو لتقديس فرد زعيم وتصويره بطلًا يصنع الأحداث، تلعب دورًا خطيرًا في تخدير الجماهير، وبالتالي فهي دعاوى معادية لفكرة الثورة.

 - نقد النظريات الشمولية، والدعوات الإصلاحية والخيالية، التي تزعم أنها تقدم “الحقيقة”، مع حفز التفكير النقدي وضرب المثل في ذلك.

- نقد ما يُسمى بالعلوم الاجتماعية، وكشف دور َّمعظم مدارسها في تضليل الناس وإخضاعهم للسلطات القمعية، مع وضع دراسات اجتماعية تتجه إلى نقد الواقع القائم وليس إلى التوقف عند دراسته. يضاف أيضًا علم النفس الذي "يعالج" الناس بدعوتهم للتأقلم مع النظام القائم.

 - كشف وفضح دور الدولة الطفيلي وأصلها، وتاريخها الأسود، وتحويل صورتها أمام الجمهور من المقدس إلى المقدس المضاد (المقدس النجس).

 - نقد والتمرد على التقاليد والعادات غير الضرورية لحياة الناس، مثل التقاليد التي لم تعد ضرورية للمجتمع وانتفت عوامل نشوئها وسيادتها، كعادة دفع مهر للزواج أو الاحتفالات الدينية، ختان الإناث... إلخ.

 - فضح ونقد الدور الأيديولوجي لمؤسسات المجتمع المدني التي تظهر نفسها محايدة، وكشف أساليب الدولة في السيطرة على وعي الناس. من ذلك النظم الهرمية، وتنميط البشر، وإخضاع الفرد لمعايير مجتمعية تسلطية. ومن الممكن إنشاء بدائل لمؤسسات المجتمع المدني مثل دور التعليم والعلاج، لا تقوم على الهرمية ولا تنميط السلوك. ها

 - تشكل مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت للنشر بديلًا لاسلطويًّا للإعلام الرسمي، بل وهي وسيلة أثبتت نجاحها في التنسيق بين القوى الثورية، وبين أعضاء مجموعات الخدمات المتبادلة وغيرها. كما أنها فعالة في نشر المعلومات الصحيحة، وتبادل الأفكار والآراء. بل وحتى تصلح أداة فعالة لممارسة الديموقراطية المباشرة.

11- الأهداف العامة للثورة المستمرة: تفكيك النظام وأجهزته في كل مكان في العالم:

ليس من الضروري تبني نموذج محدد لتغيير النظام أو للثورة المستمرة: ثورات من أسفل، ثورات من أعلى، أو كلاهما معًا، ثورات سياسية، انتفاضات دون الاستيلاء على الدولة، الاستيلاء على الدولة وإحداث تغيرات اجتماعية وسياسية جذرية وبأشكال مختلفة حسب ظروف كل مجتمع؛ كلها آليات للثورة المستمرة. من الممكن أنْ يكون مشروع برجزة مجتمع متخلف عملًا تقدميًّا؛ لحظة في الثورة المستمرة؛ ومن الممكن أنْ يكون إنشاء تعاونيات، وإقامة أشكال من الديموقراطية المباشرة، والعمل على تجاوز الرأسمالية، ملائمًا في مجتمع آخر. العمل السلمي والنضال البرلماني والعنف الجماهيري والعصيان العام، وحتى مجرد الدعاية لأفكار ثورية، وأيُّ نضالات أخرى. كل هذه الأشكال من العمل حسب ظروف كل مجتمع وكل مجموعة ثورية وكل لحظة تصلح لقطع خطوات ثورية. فالتكتيك مفتوح لكل شيء يقود إلى استراتيجيات الثورة، فالهدف هو الحرية والتقدم والرفاهية، وليس نظامًا بعينه، مع مقاومة أيّ عقبة أمام هذه الاستراتيجيات، سواء كانت الدولة أو الطبقة المسيطرة من أيّ نوع، وقوى سياسية أو غير سياسية من أيّ اتجاه.

 الثورة المستمرة هي عملية مستمرة لتفكيك وإعادة تفكيك العوائق أمام الحرية والتقدم والرفاهية لعموم الناس.

هذه العوائق تتمثل بشكل أساسي في الأدوات التي تستخدمها الطبقات المسيطرة في الصراع الاجتماعي. وهي الدولة، والمؤسسات الأيديولوجية، والملكية الرأسمالية، وغيرها.

أولًا: تفكيك جهاز الدولة – نحو حكومة بدون دولة:

في سبيل تفكيك آلة الدولة نضع الأهداف التالية أمام أعيننا:

* الضغط لتحقيق إصلاحات ديموقراطية، والمزيد منها. مع وضع ديموقراطية المجالس – التفويض، المباشرة، كأسمى أشكال الديموقراطية المعروفة حتى الآن، مقابل ديموقراطية التمثيل الوهمية.

* العمل على إسقاط الأنظمة المستبدة والملكية، وإنشاء حكومات برلمانية مفوضة.

* الضغط لخفض النفقات العسكرية ونزع أسلحة الدمار الشامل، على صعيد عالمي.

* الضغط لإلغاء جيش المحترفين والاعتماد الكلي على نظام التجنيد الإجباري المؤقت في كل من الجيش وأجهزة الأمن لكل المستويات، باستثناء الاستعانة بعناصر محترفة كمدربين فقط. وقد يثير هذا استغراب البعض، لكن مع تطور التكنولوجيا والأسلحة الحديثة أصبح التدريب على القتال أسهل ويحتاج وقتًا أقصر، وبالتالي يمكن بسهولة أنْ يتم تدريب المجندين على مستوى عالٍ والاستغناء بالتالي عن الجيش المحترف.

* جعل مناصب كبار الموظفين بالانتخاب مع القابلية للعزل في أيّ وقت (مثل رؤساء البلديات والمحافظين...).

* تفكيك عناصر “الدولة العميقة”، المعششة في الأجهزة الإدارية والفنية للدولة، بتعميم نظام الحكومة الإلكترونية وجعل كبار الموظفين مجرد مفوضين من البلديات أو المجالس المحلية. وتفكيك العصابات المنظمة والتخلص من محترفي الإجرام الذين يعدون ضمن مكونات الدولة العميقة.

* وفي النهاية حل الدولة تمامًا، كخطوة أساسية على طريق الحرية. سيظل بالطبع هناك جيش وأمن من المجندين، وقضاء شعبي، ويتم في النهاية إخضاع الأجهزة الإدارية للمجالس الشعبية. بذلك تنتهي الدولة كجهاز منفصل عن المجتمع. وتكون الحكومة البرلمانية المفوضة هي المنسق العام للمجتمع. ليس في هذه الخطة حزب يريد الاستيلاء على الدولة، بل حركة شعبية واسعة تقيم حكومة مفوضة تتشكل من أسفل إلى أعلى. وفي النهاية يصبح هناك حكومة بدون جهاز دولة محترف.

* كل هذه الخطوات تصطدم بالتأكيد برفض ومقاومة الدولة والطبقة الحاكمة، بل وبمماسة القمع ضد من ينادون بها أو يناضلون في سبيل تحقيقها. وهذا يتطلب مواجهات مفتوحة وحاسمة، بالانتفاضات الكبرى والصدامات وإزالة الحكومات القائمة وفرض سلطة المجالس الشعبية وفرض بقية الأهداف المذكورة.

ثانيًا: المقدسات ومؤسساتها:

 سواء المقدس اللاهوتي أو العلماني: وهذا يتطلب كفاحًا أيديولوجيًّا ضد اللاهوت والنظريات العنصرية والقومية والشمولية، مع كفاح سياسي لإجبار الدولة على التخلي عن دعم المؤسسات الدينية، وفرض العلمنة الكاملة، في سياق العمل على تفكيك كل المؤسسات الأيديولوجية، شاملة الدينية.

ثالثًا: الاحتكارات الرأسمالية:

وعلى رأسها قطاع الدولة الاقتصادي. وإلغاء الأنظمة التي تعيق الاستثمار الفردي والتعاوني، وحل الكارتيلات والتروستات والمنظمات الاقتصادية الرأسمالية الدولية، وهذا يصبح أسهل بعد تفكيك الدولة. والاقتصاد البديل هو بكل وضوح اقتصاد السوق الحرة. لا يمكن عمليًّا تطبيق نظام آخر إلا بالقوة، أيْ بقوة قمعية، فتتكرر مأساة العالم كما نعيشها. لقد انتهى عصر اشتراكية الدولة، مثلما تعفنت الرأسمالية. فلتتكون مشاريع فردية وتعاونية وحتى رأسمالية، وليعمل من يشاء عند نفسه أو عند غيره، حسب رغبته، وحين يختفي النظام الرأسمالي، ومع تحرير الناس من الدولة وأجهزة القمع سيكون هناك نظام آخر يخلقه الناس تلقائيًّا، متناسقًا مع ثقافاتهم ومع مستوى قوى الإنتاج المتاحة لهم.

رابعًا: تصفية الأنشطة والمؤسسات الطفيلية بوجه عام:

 مثل المؤسسات الدينية والاقتصاد الطفيلي والوهمي، وأغلب التداولي. وفرض الضرائب على أرباح البورصة وتحجيم التداول بها، وتحجيم المؤسسات الإعلانية، وإلغاء حق الإرث.

خامسًا: نظام الزواج الرسمي:

يقوم أساس هذا الشيء على وهم شائع هو أنه يشكل الحماية للحب. في الواقع ينبني الزواج أساسًا على قدرة الرجل على النفقة وعلى تدعيم سلطته بالتالي. بينما يجعل من المرأة ماكينة للولادة وإدارة شؤون المنزل. هذا ما يحدث بالفعل مهما تم من ترقيعات في النظام الأبوي القائم.

وتُعد مؤسسة الزواج مدخلًا لإعادة انتاج المجتمع بمؤسساته وأيديولوجيته. هكذا يتم تحويل الحب إلى أداة لصالح النظام الاجتماعي.

 وهذا يشكل قيدًا على حرية الأفراد. أما الأسرة الرسمية فتخلق الغيرة والطمع، وتوريث المكانة والقوة، أو العكس، للأبناء؛ فتكون الفروق الاجتماعية مدمرة لنفسية النشء. ينبغي إذن أنْ تصبح العلاقات بين المرأة والرجل مفتوحة وحرة، مع إلغاء الزواج الرسمي. فإنَّ تحرير الحب من سطوة هذا الزواج ومن سطوة الدولة هو أحد جوانب تحرير الفرد من مختلف أشكال القهر.

كما يجب أنْ يصبح الأطفال مسؤولية المجتمع ككل، خاصة من الناحية المادية، وضمان حقوقهم في حسن المعاملة وتوجيهات مختصين في التربية. وبالطبع ينبغي أنْ تكون مسؤولية تربيتهم المباشرة على عاتق الأب والأم.

 

12- قضية التنظيم الثوري:

الجبهة الثورية المتحدة:  لا تحتاج الثورات كي تبدأ إلى تنظيم ثوري متماسك ولا نظرية ثورية، بل إلى جماهير ثورية قبل أيّ شيء آخر. هذه الثورية تتضمن رغبة تلك الجماهير في إحداث تغيير جذري لأحوالها. فتكون مستعدة - مثلًا – للدوس بالنعال على ما يُسمى بثوابت الأمة، والهوية الوطنية، والمعلوم من الدين بالضرورة، وقابلة لمناقشة أيّ شيء وكل شيء، بما فيها الدين والأفكار الثابتة والتقاليد والعادات الراسخة، ومستعدة لسحق أيّ شخص وأيّ جماعة وأيّ مؤسسة اجتماعية وأيّ قوانين قديمة. كما تتضمن الثورية الرغبة في الحصول على الحرية من كل صنف والقضاء على السلطات القمعية القائمة.

التنظيم المناسب للثورة المستمرة، باعتبارها استراتيجيات لا تنتهي، هو تنظيم متعدد المستويات والمهام، ذو قيادة مفوضة من جماهير واعية بذاتها وبالتالي بأهدافها. مثل هذا التنظيم ينشأ من قلب المجتمع المدني؛ يضم مفوضين منه؛ من المنظمات الشعبية المختلفة: أحزاب، نوادٍ سياسية، نقابات، اتحادات الطلاب، جمعيات أهلية من كل صنف.. إلخ. هذا التنظيم يكون مرنًا، يقبل أعضاء ويتخلص من أعضاء، ويضم مفوضين مؤقتين، يختار قيادة مفوضة أيضًا، ويمكن سحب أيّ مفوَّض في أيّ وقت، ويكون له برنامج عام يشمل توجهات الثورة المستمرة في المدى المنظور، بجانب برنامج تكتيكي حسب ظرف مكان وزمن المجال الذي يعمل فيه. ويمكنه وضع شروط للوائح وأنظمة المنظمات المشاركة فيه، فيرفض مثلًا المنظمات ذات الشكل الهرمي. فلكي يكون هناك ضمانة لاستمرار التوجه الثوري للمنظمات الشعبية ينبغي أنْ تكون القيادات مفوضة ومتطوعة ومتغيرة، وأنْ يكون الجهاز الإداري من متطوعين، أيْ جمعيات لاسلطوية. ومثل هذا التنظيم يلائم تعدد القوى الاجتماعية الثورية وتبعثر بعضها وتفاوتاتها الاجتماعية - الاقتصادية. كما يكون من حق أيٍّ من المنظمات المشاركة الانسحاب في أيّ وقت. وفي نفس الوقت يكون للجبهة تفاعل مع الجماعات التي تعبر عنها، فتؤثر فيها، وتنميها وتقدم العون لها أو لبعضها، وتنسق بينها، وحتى تنشئ المزيد منها، فتخترق مواقع غير مخترقة وتزرع البؤر الثورية حيث لم تتواجد تلقائيًّا.

 هذا التنظيم هو مجتمع مواز، أو نواة مجتمع جديد، بدون تسلط ولا مقدس ولا استراتيجية وهمية؛ منظمة واسعة متعددة المستويات ومفتوحة ومتشابكة؛ بؤر مقاومة متضافرة ومتوسعة.

هذه الجبهة تحمل نظام مجتمع مرن؛ ديموقراطية التفويض، المساواة بين الأعضاء، حرية الأفراد. وهذه الديموقراطية تضمن التزام الأعضاء بقرارات الجبهة لأنها لا تكون أوامر، بل قرارت تصدر من مفوضين.

 

13- تكتيكات الثورة:

الثورة المستمرة هي كل فعل ثوري ضد الأوضاع القائمة، حسب ظروف كل واقع اجتماعي. إنَّ العمل ضد الأنظمة الدولتية ولو بجانب البورجوازية هو خطوة في اتجاه التقدم والتحرر. والعمل ضد الرأسمالية المالية والاحتكارية هو كذلك. بل حتى تعتبر الثورة البورجوازية في مناطق مثل بلدان الخليج العربي - الفارسي خطوة ضخمة إلى الأمام. الديموقراطية التمثيلية رغم شكليتها أفضل - بوجه عام - من حكم الجيش. والديموقراطية المباشرة خطوة للأمام حيث تكون الجماهير أكثر تقدمًا. وتفكيك مواقع دولتية في معظم البلدان يحقق خطوة على طريق الحرية، إذا حلت محلها مبادرات شعبية، مثلما قد يكون التأييد المؤقت لقيام نظم دولتية في مجتمعات مفككة وبدائية خطوة على طريق التقدم، وحتى عقد تحالفات مؤقتة مع قطاعات من الطبقة المسيطرة.. إلخ. وعلى كل حال لا توجد وصفة سحرية لتحرير العالم، بل كفاح متعدد المستويات.

إنَّ كل طريق يحقق خطوة من تطلعات الثورة هو طريق مشروع، ولا توجد مقدسات في هذا المجال. ابتداءً من محو أمية فرد واحد حتى المشاركة في انتفاضة مسلحة، مرورًا بالمشاركة في الحكومة أو البرلمان. وكذلك العمل النقابي، والعمل الحقوقي، وحتى قطع الطرق، وإقامة جبهة عمل تضم تجمعات مختلفة. كما تشمل العمل الفردي، والعمل في حزب شرعي، والعمل السري، واختراق منظمات معادية، واختراق أجهزة الدولة؛ العمل المنظم، والعمل العشوائي. وكل أشكال الفعل بدون استثناء التي تصب في تحقيق خطوة على طريق الثورة المستمرة، من نشاط في الشارع، إلى الكتابة، إلى العمل في مؤسسات، إلى العمل الفني.. إلخ. كل موقع وكل لحظة لها حساباتها الخاصة، والمهم ألا تقع قوى الثورة في أسر تنظيم من المحترفين ولا قيادة "ملهمة". ولا يوجد أيُّ مبرر لإضاعة الجهد في الاختلاف حول تفاصيل التفاصيل، ولا حول “مبادئ” ثابتة بخلاف استراتيجيات الحرية – الرفاهية – التقدم. من الضروري العمل على تفكيك أيديولوجيا النظام وزرع أفكار ثورية تحمل روح التمرد، والعمل على كسر النظام في كل مواقعه. وإنَّ الثورات الحادة والشاملة تقوم فجأة وبالصدفة، ولا تحقق أهدافها بالكامل أبدًا، فالمهم هو تفكيك النظام على كل المستويات المادية والثقافية، بزرع بؤر ثورية في كل تلك المستويات، ليس تمهيدًا لانفجار عام أساسًا، رغم أنَّ هذا مفيد بالطبع، لكن – الأهم – التغيير في العمق. هذه التوجهات المتباينة والتي تبدو متناقضة إنما هي نتيجة تباين الأوضاع في مختلف مناطق العالم، وبالتالي تتباين مسارات العملية الثورية مع وحدة الاستراتيجيات العامة. وهذه يمكن أنْ نسميها براجماتية ثورية.

يمكن تلخيص الخطة العامة للثورة في تفكيك النظام، لصالح بديل هو لبرلة المجتمع ككل، والمزيد منها باستمرار، وإزالة كل العقبات – خاصة جهاز الدولة-  أمام التقدم وتحقيق رفاهية الجموع.

أولًا: العمل من أسفل لإقامة سلطة شعبية واقتصاد شعبي: حرب المواقع:

وهي تعني أنْ تخترق قوى الثورة مواقع في الدولة والمجتمع المدني مع تكوين أجهزة شعبية من أسفل بالتدريج، تستولي خطوة خطوة على مهمات الدولة، فتقيم بؤرًا ومواقع تحت سيطرتها، فتقلب موازين السلطة لصاحها، مما يؤدي إلى إضعاف النظام وتفككه.

هذا النوع من العمل هو وسيلة فعالة للتغلب على الدولة الحديثة التي مدت أذرعها الأخطبوطية إلى كل ركن في المجتمع.

والأشكال التالية للعمل من أسفل تكون من فعل العفوية (جماعات صغيرة وأفراد) والتنظيم:

* إنشاء التعاونيات والمشاريع الفردية داخل المجتمع مع ممارسة ضغط شعبي على الدول لإصدار تشريعات مشجعة للتعاونيات أو العمل في اقتصاد الظل. وهناك الكثير من النماذج الناجحة في أنحاء العالم.

* تكوين أشكال اقتصادية واجتماعية مختلفة خارج سلطة الدولة: بنوك الفقراء – الجمعيات الاستهلاكية المؤقتة أو الدائمة – بنوك بدون فوائد (مثل نظام "الجمعية") – الصناعات المنزلية – التعليم الخاص في مواد مثل اللغات أو كورسات معينة تفيد في العمل – مراكز تدريب مهني مستقلة – صحف محلية – نشرات – نواد – تنظيم رحلات لها فقرات ثقافية – فرق رياضية شعبية – فرق مسرحية محلية شعبية – جمعيات خيرية – خدمات طبية خيرية أو تعاونية – دور المناسبات الاجتماعية – فرق من المتطوعين للنظافة – جماعات متطوعين لإصلاح الطرق الداخلية - النضال الحقوقي - النضال من أجل وقف عقوبة الإعدام ووقف التعذيب - النضال من أجل إلغاء ديون الفقراء للدولة – جماعات العون المتبادل – جماعات لتقديم الخدمات التطوعية، مثل رعاية المسنين والمقعدين مجانًا...

* حركات تحرير المرأة.

* حركات الطلاب لتطوير التعليم، وكذلك أصحاب المهن.

* مقاومة المحرمات الدينية في البحث العلمي، خصوصًا الهندسة الوراثية والعلاج بالجينات، مع الضغط لإخضاعه لأهداف إنسانية، وكسر احتكاره لصالح مؤسسات رأسمالية أو الدولة.

 * محو الأمية (بما فيها أمية الكمبيوتر)، ونشر التعليم غير الحكومي، ومقاومة مناهج التعليم الرجعية، وسيطرة الأهالي على المنهج التربوي في المدارس.

- بحوث علمية مستقلة ومهنية، مع دعوة العلماء إلى الامتناع عن تطوير الأسلحة.

 * كسر احتكار المعرفة، بالترويج لمختلف العلوم.

 * للنقد الفني والأدبي أهمية كبيرة، لدفعهما للتعبير الحر عن الذات، وفضح محاولات توجيههما لأغراض دعائية أو استخدامهما كأدوات لخدمة قوى للتسلط. وهذا لا يعني المناداة بفرض ضوابط ولا رقابة، بل نقد حر.

* العمل النقابي: نقابات مستقلة ولو صغيرة، أو حتى سرية، وعلى مستوى المهنة والأحياء، مع الانسحاب من النقابات السلطوية - تحسين شروط العمل – الحفاظ على المهنية – مقاومة الأنشطة الملوثة للبيئة أو المنتجة لسلع غير صحية أو السلع المغشوشة - مقاومة الفساد - مقاومة السلطات الصحية الرسمية وشركات الأدوية والأغذية، والدعوة لتناول الطعام الصحي.

* العمل على توسيع الخدمات الرخيصة والمجانية، في صورة خدمات تعاونية، أو تطوعية.

* العمل ضد الاحتكار: بالضغط على الحكومات لتفكيك الاحتكارات، وحتى بمقاطعة الشركات الأكثر استغلالًا للمستهلكين والعمال. والبدائل التعاونية قادرة على تقديم الأرخص والأجود بشيء من الجهد.

* تقديم فن ورياضة مجانًا وممارستهما كمجرد هوايات مع دعوة الجمهور العام للمشاركة في كليهما.

 

ثانيًا: العمل من أعلى: ضد المكون السياسي للنظام:

الصدام محتم مع الدولة، فهي لن تتقبل ضياع سلطتها على المجتمع إلا مرغمة. فلا مفر من العمل من أعلى، أو ما سماه جرامشي بـ حرب الحركة.

* طرد الدولة بقدر الإمكان من مؤسسات المجتمع المدني. ومقاطعة المؤسسات السلطوية بقدر الإمكان. من ذلك تحرير النقابات والجمعيات الأهلية من تسلط الدولة، وكذلك المنظمات الثقافية والسياسية والتعليمية. يمكن - مثلًا - تحويل التعليم إلى إشراف مجتمعي، بجعل المدارس والجامعات أهلية، تحت إشراف الأهالي ومفوضيهم. كذلك مقاومة تدخل الدولة في الاقتصاد وخصوصًا حق التملك وممارسة الاستثمار والتجارة. هذا يتضمن الضغط لخصخصة جميع ممتلكات الدولة إما بالبيع أو بتسليمها للعمال.

* المقاومة السلمية: وتشتهر باسم المقاومة السلبية، وهي تسمية تنطوي على تناقض؛ فالمقاومة بذاتها هي فعل إيجابي. وهي مقاومة السلطات بدون استخدام العنف. وتبدأ من أبسط أشكال الاحتجاج، مثل إضراب فرد واحد عن الطعام، وتتدرج حتى تصل إلى العصيان المدني الشامل. وضمن أشكالها حملات مقاطعة مؤسسات أو شركات أو سلع وخدمات معينة، الإضراب عن العمل، والاعتصام – رفض دفع الضرائب والرسوم – الاعتصام في الميادين والشوارع – المظاهرات السلمية... وفي ظروف معينة يمكن أنْ تلعب المقاومة السلمية دورًا فعالًا في تغيير الأنظمة، مثلما حدث في أوروبا الشرقية (ما عدا رومانيا)، وكان الاتحاد السوفيتي قد رفع الحماية عن تلك البلدان، كما كان الغرب متحفزًا ورافضًا لأيِّ قمع عسكري من جانب الأنظمة الاشتراكية وقتذاك. لكن في الواقع هذا النوع من المقاومة يحمل – ضمنًا – التهديد بالعنف، فخروج أعداد ضخمة من الجمهور إلى الشوارع واعتصامها هو نوع من التهديد وفرض للمطالب وإكراه للسلطة على التنازل. ومع ذلك انتهت الثورات السلمية تلك إلى إقامة أنظمة انضمت إلى حلف الناتو!

* الثورات الجزئية؛ انتفاضات، وتمردات، تنتزع حقوقًا للجماهير وتحطم جزئيًّا جهاز الدولة أو تضعفه، وتؤدي إلى دور أكبر للجماهير المنظمة في إدارة البلاد، وعلى الأقل تحرير منظماتها وجمعياتها من سيطرة الدولة، وإجبار النظام على قبول التعاونيات، وعلى تقليص حجم ودور أجهزة القمع بما فيها الجيش.

* الإضراب العام: هو عمل عفوي لا يمكن التنبؤ به. لكن هذه العفوية ليست خالصة، فما يسبقها من أعمال تحريض ودعاية من قبل أفراد ومنظمات، يلعب دورًا مهمًّا في تشكيل اللاوعي الجمعي للجماهير، ويحدث الانفجار عند لحظة تشهد حدثًا يفجر مشاعر الناس. لكن في حالات ما أمكن بالفعل تنظيم إضراب عام

* العصيان المدني: وهذا يعني كسر القانون بشكل مخطط، سلميًّا أو باستخدام العنف وعدم التعاون مع الدولة. ومن أمثلة كسر القانون الامتناع عن دفع الضرائب أو الرسوم، الامتناع عن التجنيد، احتلال منشآت، قطع الطرق.. إلخ. وهو قد يكون جزئيًّا، يخص منطقة ما أو يعترض على واقعة محددة، أو عامًّا، على مستوى البلد وفي أشكال متعددة. وهو يختلط بالإضراب في حالات كثيرة.

* الانتفاض: من ذلك الانتفاضات العنيفة، على شاكلة الثورة الفرنسية. ومن الممكن أنْ يُستخدم العنف الجماهيري لتحقيق أهداف شعبية، مثل الاستيلاء على المساكن الخالية كمثال. وكذلك في فرض سلطة لجان أو مجالس شعبية بديلًا عن سلطة الدولة، في الأحياء والمصانع والجامعات والمدارس، أو في إنشاء لجان للدفاع الذاتي ضد الأمن وحلفائه من محترفي الإجرام، وفي مهاجمة المعتقلات والسجون لتحرير المعتقلين، وفي الاستيلاء على مقرات الأمن ومؤسسات الدولة لو سمحت موازين القوى. فالثورة ليست عملية سلمية في كل الظروف؛ فقد يتطلب الأمر استخدام العنف في لحظات التحولات الحادة أو الجذرية. ومن الطبيعي أنَّ الثورة المضادة تلجأ إلى العنف، وبالتالي يكون من الطبيعي أيضًا أنْ ترد قوى الثورة بنفس الأسلوب.

* العمل السياسي الشرعي في البرلمان: لا يمكن أنْ يفيد العمل الشرعي الحركة الثورية إلا إذا تم توظيفه في إطار وخدمة النشاط الثوري العام. وهذه مسألة تتوقف على ظروف كل بلد. فقد يؤدي العمل الشرعي إلى مجرد تجميل وجه السلطة وإضفاء مظهر ديموقراطي يساهم في دعم الأيديولوجيا السائدة. لكن حين تكون قوى الثورة قادرة على توظيف هذا العمل في خدمة خططها الأصلية فيمكن أن يلعب هذا العمل دورًا ثوريًّا..

* إنشاء قضاء عرفي كبديل للسطة القضائية: هذا ممكن تمامًا إذا حققت قوى الثورة انتشارًا جيدًا، سواء بالأفكار أو بالمؤيدين، حتى يوافق الناس على الاحتكام للقضاء العرفي. هذا القضاء ينبغي أنْ يكون مختارًا من السكان، وليس من تنظيم فوقي. وينبغي أنْ يشكل القضاء العرفي للثورة في صورة محكمة شعبية، وأنْ يمتلك القوة اللازمة لتنفيذ الأحكام، وأخيرًا لا يصدر أحكامًا لايستطيع تنفيذها. ومن السهل تشكيل هذه المحاكم في الأحياء والقرى بمبادرات ذاتية.

* نبذ الكفاح المسلح: هذا خيار يمكن أنْ يسقط النظام، لكنه لا يمكن أنْ يقيم إلا نظامًا آخر لا يحقق طموحات الشعوب في الحرية والرخاء. والأكثر فعالية من الكفاح المسلح هو العنف الجماهيري، سواء في صورة انتفاضات صغيرة أو انتفاضة عامة.

* أما الإرهاب كوسيلة للثورة فهو محكوم عليه بالفشل قبل أنْ يبدأ. فالدولة أقوى عسكريًّا من أيّ تنظيم مسلح، كما أنه ليس من المتصور أنَّ عملًا يتم “نيابة عن الشعب” يمكن أنْ يمكِّن الشعب من الحكم. ويمكن أن يكون فعالًا فقط إذا ما تم في سياق حركة ثورية واسعة وقوية.

 

ثالثًا: العمل على الصعيد العالمي – العولمة الإنسانية:

الثورة المستمرة في الأفق البعيد عالمية. فأهداف مثل حل جهاز الدولة، وتجاوز العنصرية والقومية تتطلب العمل على الصعيد العالمي. ولا يمكن تجاوز الصراعات العنصرية والدينية طالما ظل أساسهما في الواقع. فليكن الحل هو في المواطن العالمي وحق الانتماء الإنساني العام، وإلغاء الحدود، في الأفق البعيد. ومن نافلة القول أنَّ تفكيك جهاز الدولة أو كل قوة قمعية لا يمكن أنْ يكتمل على مستوى محلي إلا في بلدان شديدة التقدم، حيث يمكن تكوين أجهزة إدارة وأمن وعدالة وجيوش شعبية غير مستقلة عن المجتمع. فالدول الأخرى لن تقف لتتفرج على “التجربة”، بل ستبادر بالهجوم. وهذا يتطلب سعيَ القوى الثورية للعمل على مستوى عالمي، وحصر شعارات تفكيك الدولة وبقية مؤسسات القمع في حدود الممكن في هذا البلد أو ذاك في هذه اللحظة أو تلك. 

العولمة الرأسمالية تتحقق (وتتعثر) في صورة حرية انتقال السلع ورأس المال، بدون حرية انتقال البشر إلا في حدود. ولكي تصبح عولمة شاملة يجب أنْ تشمل فرض:

 - حرية انتقال الأفراد، بدون تأشيرات ولا منع ولا محظورات.

 - حرية العمل والإقامة في أيّ بلد.

 - حرية الأفراد في الارتباط والزواج بغض النظر عن الجنسية.

 - حرية تشكيل منظمات عالمية شعبية، على غرار منظمة “أطباء بلا حدود”، “السلام الأخضر”.. إلخ الموجودة بالفعل، في كل المجالات الممكنة، مثل الإغاثة ومساعدة الإضرابات وتقديم العون الحقوقي للمعتقلين، ومؤسسات إعلامية، ونقابات عالمية، وأحزاب متعددة الجنسية.. إلخ.

 - حرية تبادل الخبرات والمعلومات والتقنيات بين المشاريع الفردية والتعاونية، وحتى إنشاء تعاونيات عابرة الجنسية إنْ أمكن.

 - بنوك عالمية للفقراء.

 - وحتى جبهة ثورية عالمية في الوقت المناسب، حين تنضج الحركات الثورية ويتطلب التنسيق بينها هذه الجبهة.

 فالتحالفات الدولية وانتشار الشركات عابرة القومية تحتم على الشعوب أنْ تقيم تحالفات مضادة. وإذا تم مد العولمة على استقامتها يصبح العمل على العودة إلى قاعدة الذهب أو إنشاء عملة عالمية نتيجة طبيعية، بدلًا من العولمة الأمريكية التي تحدث الآن (وتتراجع). وفي الأفق البعيد تكون إقامة اتحاد دولي هو النتيجة النهائية لهذا المشروع، وهو ليس بالشيء المستحيل بعد نجاح إقامة الاتحاد الأوروبي وتوحيد العملة بين دوله. ومنظمة الأمم المتحدة موجودة بالفعل، ويمكن في المستقبل أنْ تحل محل الدول القومية القائمة، كحكومة عالمية مفوضة.

مع ذلك - إذا لزم الأمر - يمكن تأييد حركات قومية أو حقوق طائفية (مثل حرية العبادة لطوائف مضطهدة) طالما يصب في استراتيجيات الثورة.

وفي سبيل الدفع بالعولمة يمكن تسوية النزاعات بين الدول سلميًّا ولو بتقديم تنازلات “مؤلمة”، وبالتالي تقليص مصروفات التسلح وإحلال التعاون محل الصراع.

ء عولة في السيطرة على وعي الناس.

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق