عادل العمري
مارس 2022
الحرية والديموقراطية مهمة ليس لأسباب أخلاقية وإنسانية فقط، بل هي أيضًا
مهمة جدًا لتحقيق التنمية والتطور بأقل تكلفة ممكنة، ولتحقيق الرفاهية للجمهور
العام. فالأنظمة الاستبدادية ليست مجرد أنظمة غير إنسانية، بل هي تقوم بدور مخرب
للثروة البشرية والمادية.
فالإصرار على قمع وتهميش المثقفين والمعارضة عمومًا، والتي تشمل في
الغالب عناصر مثقفة وعالية التعليم وتتميز بالذكاء والقدرة على الإبداع، تحرم
المجتمع من ثروة بشرية مهمة. فبدلًا من ترك المبدعين ينتجون العلم والأدب والفن
يتم سجنهم أو قتلهم، وفي حالات كثيرة يهدف تعذيب الناس إلى كسر شخصياتهم وتدميرهم
نفسيا، وهذا يتم بوعي وتخطيط من جانب أجهزة الأمن. هذه الثروة البشرية تحرم
المجتمع من إمكانيات مهمة.
وفي تلك الأنظمة عادة ما يتم تبجيل أهل الثقة وكثيرًا ما يكون هؤلاء
قليلي أو عديمي الكفاءة، فيؤدي نفوذهم إلى تخريب مقدرات المجتمع.
ومن المضاعفات الخطيرة للاستبداد تغييب الرقابة والقضاء المهني وسيادة
القانون، وقمع الإعلام ومنع النقد، مما يترك الساحة مفتوحة أمام الفساد وتمكن
"أهل الثقة" والمحاسيب في مواقع السلطة.
ورغم أن هناك أنظمة استبدادية حققت نموًا اقتصاديًا ملموسًا (مثل
الأنظمة الاشتراكية) إلا أن الثمن كان باهظًا للغاية، لأن ذلك النمو قد ترافق مع
إهدار ثروات البلاد المادية والبشرية.
ولدينا الكثير من الأمثلة: منها:
1- في ظل الستالينية: تم تمكين "أهل الثقة" على حساب أهل
الخبرة (وهذا لا ينفي وجود علم وخبرة لدى بعض أهل الثقة). ورغم المجهود الهائل
الذي بذله النظام وإرهاق العمال بالعمل الشاق تم في النهاية إنشاء نظام اقتصادي يوصف
بالاقتصاد "غير الكفء". هذا النظام كان يحقق أرقامًا مرتفعة من النمو في
معظم القطاعات لكن لم ينعكس هذا النمو على مستوى معيشة الناس ولا كفاءة الأداء
(كمثال أنشئت ولأسباب أمنية مشاريع بعيدة عن مصادر الخامات وعن مواطن الاستهلاك،
مما يعني تكاليف عالية للنقل، ترجم في طول خطوط السكك الحديدة أو عدد سيارات النقل،
وبالتالي في إنتاج ضخم من الحديد وغيره من المواد اللازمة لقطاع النقل، وكل هذه
تعطي أرقامًا عالية لا قيمة لها في الواقع). وقد أدت الإدارة الشمولية في النهاية
إلى إنشاء اقتصاد حرب، والاهتمام بتصنيع السلاح مع عجز الاقتصاد عن إنتاج سلع
استهلاكية جيدة.
ومن ضمن
الأمثلة الفاضحة على إهدار الثروات والتخريب أنه قد تم تعيين جنرال من أهل ثقة
ستالين هو جريجوري
كوليك، قائدًا عامًا للمدفعية السوفيتية والمسؤول الأول عن تصنيع الدبابات
والمدافع حتى بداية الحرب العالمية الثانية كما تبوأ مناصب كبرى في الدولة. وقد رفض
ذلك الجنرال الابتكارات مثل الدبابات (لكن أمر ستالين بإنتاجها)، ثم عرقل إنتاج
الذخيرة المناسبة لها مما كان عاملا في اقتحام الألمان للبلاد في بداية الحرب
الثانية. كما كان ضد إنتاج المدافع المضادة للدبابات، و قاذفة صواريخ كاتيوشا. وقد
كان سببًا في طرد جنرالات عظام مما أثر على كفاءة الجيش. فقط صداقته الشخصية مع
ستالين أثناء الخدمة معًا في الحرب الأهلية الروسية حمته من النقد. وأخيرًا ، وبعد
كثير من هزائم الجيش أمام النازية تم فصله من مناصبه عام 1946، واعتقل عام 1947،
وأعدم بتهمة الخيانة عام 1950.
ومن الأمثلة الكارثية تلك المجاعة التي حدثت عام
1932 -1933 نتيجة الإجراءات التي قامت بها الدولة السوفيتية بما في ذلك الزراعة
القسرية والتخطيط الاقتصادي السيئ والقمع السياسي في الريف. وكانت السلطات
السوفيتية قد حددت كميات من القمح أجبرت الفلاحين على تسليمها للدولة. كما تمت معاقبة
الفلاحين الذين فشلوا في جمع الكميات المحددة عن طريق منعهم من التنقل والتجارة.
وبسبب ذلك، تفشت المجاعة بمناطق عدة وخاصة بأوكرانيا الحالية وأودت بحياة ملايين
الأوكرانيين ما بين عامي 1932 و1933. كان من ضمن مقررات البرنامج الزراعي هو قيام
الفلاحين بتسليم ممتلكاتهم ومواشيهم للمزارع الحكومية بثمن زهيد تحدده الدولة، وهو
ما أدى إلى تذمر الفلاحين. فلا يوجد انسان عاقل يسلم ممتلكاته التي حصل عليها بشق
الأنفس من أجل ما يسمى "الغد الشيوعي المشرق" فقام الفلاحون برفض
البرنامج الزراعي. حاول ستالين ثنيهم باستخدام القوة لكنة لم يفلح، اذ قاموا بنحر
مواشيهم ودفن محاصيلهم بدل تسليمها لصالح البرنامج الزراعي، مما أغضب ستالين بشدة
فأعطى أوامره للشرطة السرية بتجريد الفلاحين من كل ممتلكاتهم وعدم ترك شيء ونقلهم
بالقوة إلى المزارع الجماعية، واتخذ تدابير انتقامية ضد الفلاحين وفرض عليهم –
انتقامًا - حصص حصاد يستحيل بلوغها. وكان ممنوعًا على الفلاح الاحتفاظ بثمرة واحدة
قبل أن يكمل الحصاد المفروض عليه، مما أدى إلى موت الملايين جوعاً. قدر البعص عدد
الوفيات نتيجة للمجاعة بـ 5.5 إلى 6.5، 7-8 مليون حالة وفاة.
ومن مهازل الاستبداد الستاليني ذلك العالم
المزيف تروفيم ليسينكو، وهو مهندس زراعي وعالم أحياء (يذكرنا بعبد العاطي كفتة في مصر السيسي). وقد كان مؤيدًا قويًا لنظرية لامارك في
الوراثة (الصفات المكتسبة تورث)، ورفض علم الوراثة المندلية لصالح أفكار علمية زائفة التي سميت الليسينكووية. وفي عام 1940 أصبح ليسينكو مديرًا لمعهد علم
الوراثة في أكاديمية العلوم السوفيتية، واستخدم نفوذه السياسي وسلطته لقمع الآراء
المعارضة وتشويه سمعة منتقديه وتهميشهم وسجنهم، ورفع نظرياته المناهضة للمندلية
إلى مفهوم أقرته الدولة. وقد تم فصل
العلماء الذين رفضوا التخلي عن علم الوراثة المندلية من مناصبهم وتُرِكوا معدمين. كما
سُجن المئات منهم، بل وحُكم على العديد منهم بالإعدام كأعداء للدولة، ومنهم عالم
النبات نيقولاي فافيلوف. وقد حُظِرت المعارضة العلمية من نظريات ليسينكو عن
الوراثة المكتسبة بيئيًا رسميًا في الاتحاد السوفيتي في عام 1948. كما زعم ليسينكو
أن الرياضيات ليس لها مكان في علم الأحياء، كما زعم اكتشاف طريقة لتخصيب الحقول
دون استخدام الأسمدة. ونتيجة للليسينكووية والتنظيم الجماعي القسري في الريف، مات
15-30 مليون مواطن سوفييتي وصيني جوعًا. يضاف حرمان البلاد من الملايين الذين
قتلوا في الحرب ضد الفلاحين لشيء واحد هو تجميع الأرض تحت سيادة الدولة.
ونرى الآن الأداء المزري للجيش الروسي في
أوكرانيا رغم كمية السلاح وعدد الجنود والضباط؛ الخسائر الضخمة والتقدم البطيء
والقتل بغشم. وهذا يذكرنا بخسائر الجيش السوفيتي في الحرب العالمية مقارنة بخسائر
الألمان حتى في المعارك التي انتصر فيها.
2- أما في ظل النظام الشمولي الصيني فقد حدثت
كوارث عدة نتيجة سيطرة أهل الثقة. ومن أبرزها المجاعة الصينية الكبرى من 1959 إلى
1962، والتي نتجت عن قرار ماوتسي تونج بتحقيق "القفزة الكبرى إلى الأمام"
لتحقيق الشيوعية دفعة واحدة وما تصمنته من سياسة قهرية تجاه الفلاحين. يضاف قرار
ماو الجاهل بقتل كل العصافير وطيور أخرى بحجة أنها تأكل القمح، دون أن يسأل
الخبراء لكي يعرف أنها تأكل الطفيليات التي تأكل القمح أيضًا. ولتأكيد نجاح أفكار
ماو أعلنت السلطات عن وجود وفرة في إنتاج المحاصيل عام 1957. وقد دفع هذا الإعلان المخططين
إلى تغيير خطة الزراعة من الحبوب إلى محاصيل أخرى مثل القطن والقصب، كما تم دفع
أعداد كبيرة من الفلاحين إلى العمل في الصناعة بالمدن، مما زاد الطلب من قبل المدن
على الحبوب المشتراة من الريف. كما دفع قادة الدولة إلى تصدير الحبوب. أدى هذا إلى
أزمة حبوب خطيرة أدت إلى المجاعة الرهيبة. وتلا ذلك ما يعرف بالثورة الثقافية
التي زادت من الخراب في الصين بقتل وسجن كثير من المثقفين والتكنوقراط. ولم يتحقق نمو الصين الحالي إلا باتباع سياسة
أقل استبدادًا إلى حد ما ومنح حرية العمل لرأس المال الخاص وتحرير الفلاحين من
سطوة الدولة واتباع نظام اقتصاد السوق وتمكين التكنوقراط المهرة من أجهزة الدولة
وفتح الباب على مصراعيه لرأس المال الأجنبي. لكن استمرار الاستبداد السياسي يتسبب
في انتشار الفساد والشللية على نطاق واسع.
3- يمثل النظام النازي في ألمانيا وغيرها في
القرن الماضي نموذجًا خالصًا للاستبداد. وضمن مضاعفات هذا النظام: نزفت البلاد من
هجرة وسجن وقتل كثير من العلماء والمفكرين – تم إنفاق ثروة البلاد على عسكرة
الاقتصاد والحرب العالمية الثانية على حساب الإنتاج المدني والابتكارات (وكان يمكن
تفاديها بشيء من التعقل والحسابات الصحيحة) – أدى السعي إلى تحقيق المجد الشخصي
للزعماء واستمرار سطوتهم إلى التضحية بملايين القتلى من أبناء الشعوب لمجرد
استمرار الحرب حتى بعد أن اتضح أنها خاسرة.. والبقية معروفة.
4- تكلفة بقاء النظام الناصري بطبعاته المختلفة
في مصر وهو النموذج المثالي للأنظمة العربية الشمولية: مغامرات خارجية مكلفة انتهت
بحرب 1967 – إنشاء مشاريع مكلفة جدًا وضعيفة الإنتاجية – تدمير ثروة بشرية من المثقفين
والمفكرين وتحويلهم إلى أبواق للسلطة وكتبة تقارير – انتشار الفساد على نطاق واسع
كآلية لشراء الأتباع والمصفقين – والآن يلجأ الحاكم إلى شراء السلاح بالمليارات
لشراء شرعيته الخارجية، كما تنازل عن جزيرتين في موقع استراتيجي، ودمر القوة
الناعمة المصرية بالكامل، كما أهدر ثروة البلاد في مشاريع لا لزوم لها وفي رشوة
الجيش والأمن والقضاء والإعلام، مما فاقم الأزمة الاقتصادية – أدت سياسة الأجور
وإهمال البحث العلمي لحساب شراء الأتباع وتعيين الفاسدين في مناصب حكومية كوسيلة
للسيطرة عليهم إلى هجرة العقول وبالتالي
حرمان البلاد إنتاجهم العلمي وابتكاراتهم وكفاءتهم... والكثير والكثير من آليات
التخريب وتدمير الحضارة على أرض مصر.
5- قدم نظام البعث في سوريا والعراق، ونظام حكم
الملالي في إيران نماذج أخرى للاستبداد الذي كلف البلاد الكثير من إمكانياتها التي
تنفق في دعم أجهزة الأمن وعسكرة البلد عمومًا. أما القطاع الاقتصادي المملوك
للدولة فيشمل معظم المؤسسات الكبرى حيث يسود الفساد والشللية والمحسوبية. يضاف
بالنسبة للعراق وإيران المغامرات الخارجية غير المحسوبة والمكلفة والتي أنهت
مقدرات البلدين.. والكلام يطول بالنسبة لأشكال أخرى لتبديد الفائض والنمو المكلف.
6- وبالنسبة لأنظمة الاستبداد الشرقي القديمة
(مثل مصر وبيرو وشرق المتوسط) وجدنا تبديد الفائض الاجتماعي على إنشاء المباني
الفاخرة من قصور ومعابد ومقابر للحكام، وتبديد الذهب والفضة لتحقيق متعة الحكام، وشبكة
طرق متقدمة ونظام بريدي يخدمان تحركات الجيش وجامعي الضرائب.. وغير ذلك من مظاهر
التبديد والإسراف والترف، على حساب معدل استغلال شديد الارتفاع للفلاحين والعمال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق