الأحد، 30 نوفمبر 2014

لماذا نكره الإسلام السياسي



عادل العمري
28 نوفمبر 2014


-      لا يفهم - وغالبًا لن يفهم الإسلاميون- سواء المسلحون أو غير المسلحين سبب عداء التيارات التقدمية لهم ولمشروعهم. فهم يعتقدون أن الصراع السياسي والاجتماعي يدور بين الخطأ والصواب؛ الشر والخير، الباطل والحق، وأن الطرف الثاني يعمل في سبيل الله ولذلك فهو مدعوم من السماء، حتى لو ُمنيَ بالهزائم تلو الهزائم؛ فهو يعتقد أنه الرابح في النهاية؛ أما الطرف الآخر فهو حزب الشيطان. ولذلك ينظرون إلى هذا الصراع على أنه ذو محتوى ديني عقيدي وأنه صراع أيديولوجي قبل أيّ شيء آخر، وتتفق كل مللهم وأحزابهم سواء المعتدلة أو المتشددة على هذه المرجعية. وأكثرهم اعتدالًا يسلك بمرونة على سبيل التكتيك واعتبارًا لفترة "الاستضعاف". وكلهم يعتبرون أنفسهم ممثلي الله على الأرض وإن زعموا بعكس ذلك، وهذا ما يبدو واضحًا في خطابهم؛ فالعداء لهم هو عداء للإسلام ومعارضوهم كارهون لدين الله. ويعتقدون جميعًا أن القيم الإنسانية تستمد من الدين لا انفصال بينهما وأيُّ قيم أخرى هيَ قيم الكفر وإن بدت عكس ذلك. فـ "الكفار" وفقًا لغالبية الملل الإسلامية (يُستثنى المعتزلة والكرامية الخوارج والبراهمة) لا حسنات لهم وإن بدت كذلك، لأنها تأتي في سياق لا ديني بل معادٍ للدين، ولذلك يعتبرون "الكفار" مجردين من "القيم" و"الأخلاق" بألف لام التعريف. وطبعًا هؤلاء يعتبرون ما يسمونه بالشريعة صالحة لكل زمان ومكان وقادرة على تحقيق الخير والعدل والرخاء..إلخ. أما غالبية أنصار"حزب الشيطان" في مجمله فيفكرون بشكل آخر؛ فالصراع الاجتماعي والعالمي يدور بين قوى اجتماعية وسياسية وجماعات عرقية وإثنية لها مصالح ورؤى تعبر بدرجة أو بأخرى عن هذه المصالح، سواء اقتصادية أو سياسية؛ ليس هذا الصراع بين أديان أو من أجل أهداف غيبية، بل هو صراع من أجل أهداف عملية أرضية لا علاقة لها بالسماء. بل ويُعتبر الإسلام السياسي نفسه ظاهرة نابعة من مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية؛ أيْ ناتجا عن أزمات المجتمع المعاصر، وليست ظاهرة دينية أو نتيجة مجرد "صحوة" أو رغبة في العودة إلى الدين.

-      ولأن الإسلام السياسي يعتبر نفسه هو الحق يكون "حزب الشيطان" دائمًا هو الطرف المعتدي والظالم، أما الإسلاميون فهم دائمًا المظلومون والمعتدى عليهم، فالكفر في حد ذاته كما هو راسخ في التراث الإسلامي هو عدوان على الحق. وحتى الغزوات والفتوحات الإسلامية بكل ما ارتبط بها من قهر ونهب وسبي..إلخ هي عمل في سبيل الله وليس عدوانًا بل نشر للعقيدة الصحيحة وإعلاء لدين الله. وما يرتكبه أنصار المنظمات الإسلامية من أعمال وحشية ليست إلا محاربة للطاغوت وأعداء الله. وحتى من يرفض مثل هذه الأعمال من "المعتدلين" لا يجد غضاضة في التأييد الضمني وأحيانًا التحالف مع أو تقديم المبررات لمرتكبي تلك الأفعال.

-      كل تيارات الإسلام السياسي تعتمد الفقه القديم التقليدي سواء السني أو الشيعي)(؛ أما الإصلاحيون الراديكاليون من الإسلاميين فليسوا من جبهة الإسلام السياسي أصلًا؛ فمجرد نبذ فكرة الحاكمية ينحِّي فكرة السلطة باسم الدين وبالتالي لا يكون هناك مشروع سياسي - ديني.

ويمكن تلخيص المرجعية الفكرية للإسلام السياسي بوجه عام في:

1- ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية: ويعتقد جمهورهم العريض أن هذه العبارة السحرية واضحة بما فيه الكفاية ولا ينالها الباطل أبدًا. ولا ينتبه هذا الجمهور إلى أن ما يسمى بالشريعة الإسلامية، أو بالأدق الفقه الإسلامي، ليست شيئًا واضحًا بحد ذاته، بل هناك ملل ونحل متعددة ومتباينة ومختلفة حول كل نقطة في هذا الفقه تقريبًا. ولعل هذا ما دفع قادة الإسلاميين في مصر مثلًا للتحديد في دستورهم عام 2012 بالنص على أن مرجعية الشريعة هيَ مذاهب أهل السنة والجماعة "مادة 222)، دون حل المشكلة؛ فحتى أهل السنة والجماعة ليسوا معرفين بوضوح وجميعهم مختلفون في كل كبيرة وصغيرة في الفقه، وفتاويهم متناقضة ومتضاربة أحيانا. وفي الفقه توجد قواعد منها "الضرورات تبيح المحظورات" ومن الأحاديث: "لا ضرر ولا ضرار"، مما يبرر أيَّ قرار قد تتخذه السلطة وربما الأفراد أيضًا. وهناك من يعتبر أن مصادر التشريع هيَ القرآن ثم السنة ثم الإجماع الذي رفضه من الأئمة السنة الأربعة أحمد ابن حنبل، ثم - لدى السنة - يأتي القياس ويضاف: المصالح المرسلة وقول الصحابي والاستحسان والعرف والاستقراء وسدّ الذرائع، وأضاف مالك ابن أنس عمل أهل المدينة، وغيره أضاف عمل أهل الكوفة، والأخذ بالأخص وإجماع الخلفاء الأربعة وغيرها وهناك من يرفض هذا أو ذاك من مصادر التشريع ومن جعل المصلحة هيَ الأوْلى من جميع المصادر مالم يكن هناك نص صريح لا تأويل له (وهذا يرفضه أغلب الفقهاء)...

ولأن الفقه يحتوي على كل المتناقضات يكون تطبيق الشريعة مفهومًا فضفاضًا يمنح من يطبقها حرية واسعة لاختيار ماذا يطبق وكيف ومتى. الأدهى أن الفقه بكل متناقضاته يعامل على أنه نص مقدس، رغم أنه اجتهاد بشري صريح، ولكنه قد تحول مع الوقت إلى جزء من الدين نفسه ويتساوى تقريبًا مع النصوص المقدسة.

2-  ورغم هذا الغموض يوجد ما يتفق عليه جل أعضاء المنظمات الإسلامية مثل ضرورة ضبط العلاقات الجنسية ومنع اختلاط الجنسين وحرمان النساء من المساواة مع الرجال وكذلك غير المسلمين وفرض قواعد صارمة للزواج، وفرض الزكاة، وربما فرض الجزية على أهل الكتاب، ومعاقبة المرتد عن الإسلام وشارب الخمر ومن يفطر علنًا في رمضان ووضع حدود للفن ومراقبة الإنتاج الأدبي وإنتاج الفكر عمومًا، ومنع غير المسلمين وحتى المسلمين أصحاب التوجهات العلمانية من نشر عقائدهم، وفرض حدود معينة للملابس، ومعاقبة المثليين..إلخ. ورغم هذه التحديدات تتباين مواقف المنظمات الإسلامية حولها جميعًا، فتختلف جماعة طالبان مثلًا عن جماعة الإخوان المسلمين عن داعش..إلخ.. وأكثرهم اعتدالًا يستخدم ما يسمونه "فقه الأولويات" بمعنى التدرج في فرض مبادئهم وتأخير بعضها للملائمة مع موازين القوى الاجتماعية والدولية. وكل هذه يعتبرها الحداثيون أدوات للقمع وتدخل غير مقبول في الحريات الشخصية.

3- يعتقد أنصار الإسلام السياسي أن العقل البشري قاصر ولا يستطيع أن ينتج القيم الفاضلة ولا النظام الاجتماعي والسياسي الأنسب؛ بل يحتاج إلى تشريع إلهي لكل شيء حتى يتشكل نظام حياة مثالي. ولهذا يهتمون برد كل تفاصيل الحياة إلى فتاوى مشايخهم المستمدة من الفقه، والذي يزعم أصحابه أنه يستخرج أحكامه من النص الإلهيّ المقدس. ويقصرون حق المرء في التفكير والإبداع في حدود هذا الفقه أو الشريعة التي تحدد حتى قواعد اللبس والأكل والحب وغيرها الكثير. من هنا لا يكون للمرء حق جعل كل شيء قابلًا للتفكير والنقاش؛ فالمسلم لديهم لا حق له في إنكار ما يسمونه "المعلوم من الدين بالضرورة"، ولا يجوز له أن يترك الإسلام أو إذا تركه فليس من حقه إعلان ذلك ومناقشة أحد في أفكاره. أما أهل الحداثة فلديهم ومنذ - ديكارت - كل شيء قابل للشك والتحليل والقبول أو الرفض دون التعرض لمحاكم التفتيش أو القتل. ولا شك أن بعض الدول الغربية تفرض قيودًا محدودة في هذا المجال، مثل ما يتعلق بالهولوكوست، وهو أمر يقاومه العديد من العناصر الديموقراطية.

4-  الدولة مسؤولة عن تطبيق الشريعة: من الممكن فهم نصوص الإسلام المقدسة بطرق عديدة سواء القرآن أو الأحاديث ولذلك تعددت مدارس الفقه والفتاوى على مر العصور. فإذا تُرك الناس أحرارًا سيكون لكل فرد حرية الالتزام بالشريعة كما يفهمها. لكن الإسلام السياسي يريد إقامة دولة إسلامية، بل إن هذا هو مشروعه الاستراتيجي، سواء بالطريق الانقلابي – الثوري أم بالطريق الإصلاحي أو الانتخابي. وحين تمسك الدولة بسلاح الشريعة الفضفاض تكون قادرة على فرض ما تريد لأن الفقه يحتوي على كل المتناقضات ويمكن لفقهاء الدولة تسويغ أيَّ قرار باسم الشريعة، مما يعني أن الدولة الإسلامية لابد أن تكون كلية الجبروت ومتسيدة على المجتمع المدني والأسرة والأفراد، وقد تقر بعض الحريات أو تصادرها بالكامل وتستطيع اتخاذ أيِّ قرار وأيِّ إجراء، حسب مصالح النخبة المسيطرة؛ فالنصوص الفضفاضة والفتاوى اللامتناهية من كل صنف موجودة وجاهزة للاستدعاء.

لا توجد أيُّ غضاضة في أن يدعو أيُّ شخص الناس إلى أفكاره بما في ذلك الفتاوى وأحكام الفقه أو الشريعة لكن أن يجعل هذه الأفكار مرجعية مقدسة للمجتمع تفرضه الدولة بالقوة وتبرره باسم الدين فهو ما يريده دعاة الإسلام السياسي وهو ما يكرس لبناء نظام قمعي مقدس.

5- الخلافة: يؤمن الإسلام السياسي بكل مدارسه بهذا الهدف الذي يعني ببساطة أن قائد المسلمين في العالم كله يجب أن يكون واحدًا وهو خليفة الرسول وهو حامي حمى الإسلام، ولدى الشيعة يكون الإمام معصومًا من الخطأ أيضًا. ومد هذا الكلام على استقامته يعني نبذ فكرة المواطنة الحديثة، فتصبح المواطنة إسلامية أو الجنسية الإسلامية؛ أما غير المسلمين في المجتمع الإسلامي فيكونون "أهل ذمة" يعيشون "في كنف" المسلمين لهم من الحقوق وعليهم من الواجبات ما تحدده الشريعة الفضفاضة، ويصبح المسلمون في المجتمعات الأخرى طابورًا خامسا للخليفة. وعلى أساس ذلك ينتمي أنصار هذه الجماعات إلى منظماتهم قبل انتمائهم إلى بلدانهم، فالتنظيم هو ممثل الإسلام ولذلك يعلو على المجتمع المحيط به. وهذا ما يفسر لماذا يعتبر الإسلام السياسي عمومًا الصراع بين البشر على أنه صراع بين أصحاب أديان وأن هناك مؤامرة عالمية وتاريخية ضد المسلمين بصفتهم الدينية ويعتقدون أن هناك حلفًا تاريخيًّا بين الأنظمة العلمانية في بلدان المسلمين وبين اليهود والنصارى كما يسمونهم، وأن حكام هذه البلدان مجرد عملاء للقوى "الصليبية" والصهيونية (والماسونية أحيانًا!)، ذلك أن العالم منقسم على أساس ديني والكل معاد للإسلام، أيْ – عمليًّا – للمسلمين، وبالأخص أعضاء التنظيم، ولذلك يجب أن تقوم حكومة عالمية للمسلمين. والبعض من جماعات الإسلام السياسي يخفف اللهجة في هذا المجال درءًا للمخاطر، لكن الأيديولوجيا المقدمة من قبل مفكريهم متبنية لهذه الفكرة تمامًا.

ويصر الإسلاميون على مشروع الخلافة في عصر الدول القومية والذي قد يتم تجاوزه بمشروع العولمة الرأسمالية لتصبح الشركات متعددة الجنسية أقوى من الدول، وبالفعل توجد من هذه الشركات ما هي أقوى من عدة دول مجتمعة. وقد تجاوز العالم بفضل سيادة الرأسمالية الدول التي كانت تديرها قبائل وعائلات أو مؤسسة الكنيسة في الغرب، إلى غير رجعة. ولذلك فمشروع الخلافة هو هدف مستحيل التحقيق في هذا العصر بسبب طبيعة التكوين الاجتماعي للمجتمعات المعاصرة، بالإضافة إلى كونه يمثل عودة تاريخية لعصر ما قبل الحداثة؛ متضمنًا التمييز بين الناس على أساس ديني.

6- الحكم بالشريعة يجب أن يسود العالم كله: هذه الفكرة مستمدة من الاعتقاد الدفين بأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، بمعنى يفسره الإسلام السياسي بأن فرض تطبيق الشريعة في العالم هو هدف واجب على المسلمين، عن طريق الجهاد. وهذا مثلًا نعته حسن البنا بـ "أستاذية العالم" التي تعني باختصار نشر الإسلام في العالم وهيمنته. والبلد الذي ُيضيِّق على دعاة الإسلام يستحق الغزو، ليكون هناك اختيار بين الإسلام أو الجزية أو القتال. إذن غزو العالم لفرض سلطة الخليفة أو حكم الشريعة هو هدف مقدس للإسلام السياسي، طبعًا في مرحلة التمكن والحصول على القوة. وينتهي الغزو حسب تصور الفقه السني بالذات في حكم المسلمين للبلد الآخر وتطبيق الشريعة على أهله. وقد اعتبر جل التراث، عدا أفراد قلائل وجماعات محدودة للغاية، أن الجهاد في الإسلام هو الغزو والقتال بالسيف، وهو أشرف الأعمال، وهذا هو أيضًا رأيْ حسن البنا، وطبعًا كل الإسلاميين الأكثر "ثورية".

7-  الآخر في الإسلام السياسي، أيْ غير المسلم في الدولة الإسلامية، هو من موالي المسلمين: وهو صاحب حق في أمور الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وتوزيع الميراث.. إلا أنه مجرد ذميّ؛ أيْ معاهد للمسلمين، شخص غريب عن الدولة الإسلامية؛ صاحب عهد؛ ليس له حق الولاية والحكم، ولو بالانتخابات. وهنا قد يقدم بعض من دعاة الإسلام السياسي أفكارًا أكثر مرونة لغويًّا، وقد يقدمون بعض التنازلات السياسية باعتبارها تكتيكات فقط لا غير.

وفي موضوع السلطة تتم مساواة المرأة بأهل الذمة.

8-  فكرة العودة إلى صحيح الدين وإلى العصر الذهبي للإسلام: وهو النموذج المقدم لمشروع المستقبل. ويتلخص ذلك العصر الذهبي في دولة كبرى يحكمها خليفة ويهابها العالم وتقهر الدول المجاورة لها وتقبل بغير المسلمين كأهل ذمة وهيَ دولة غنية تكتظ خزائنها بأموال الخراج والجزية والغنائم ومختلف الضرائب والمكوس. ويقدمها الإسلام السياسي على أنها دولة الرفاهية والرخاء والعدل..

وبغض النظر عن كون هذا النموذج يمت إلى عصر ما قبل الحداثة؛ عصر القبائل والعشائر وحكم الأسر والبطون وسيادة الأعراف وقوة روابط الدم والنسب..إلخ.. تلك الدولة المثالية زعمًا لم تكن كما يصورها أنصارها ويكفي لأيِّ فرد أن يقرأ قليلًا من التاريخ ليقف على بشاعة أنظمة الحكم وأوضاع الطبقات الأدنى والشعوب المحكومة معظم فترات التاريخ الإسلامي، وآخرها الدولة العثمانية بنظام حكمها التسلطيّ البشع.

وفي سبيل تجميل تاريخ الدول الإسلامية والمشروع المرتقب للإسلام السياسي يتم اللجوء للمغالطات وحتى الكذب الصريح؛ بادعاءات مثل أن الغزوات و"الفتوحات" الإسلامية كانت إنسانية للغاية وحققت الرخاء والعدل داخل البلدان المفتوحة، وأن أهل الذمة كانوا سعداء بحكم الغزاة وأن حرية الاعتقاد كانت وستكون مصانة تمامًا وأن حقوق الإنسان قد أقرت منذ 14 قرنًا في العالم الإسلامي..إلخ، وهيَ ادعاءات لا يقبلها أيُّ عاقل ناهيك عن أبناء العالم المتحضر الأكثر إدراكًا أكثر مما يظن الإسلاميون.

يستغل قادة الإسلام السياسي جهل العامة وجهل حتى قواعهم لتقديم صورة وردية لدولة الشريعة؛ في صورة تنافي الواقع الأليم الذي عانى منه عامة الناس طوال تاريخ هذه الدولة سواء تحت حكم قريش أو العثمانيين والمماليك أم المغول المسلمين. وهم دائمًا يلجأون إلى ضرب أمثلة فردية لنفيْ نصوص الفقه البشعة وإلى تقديم نصوص جميلة لنفيْ الوقائع الأكثر بشاعة. وتندفع الجماهير بتأثير تدينها وبسحر شعاريِّ تطبيق الشريعة والحاكمية لله إلى التحمس للإسلام السياسي حين تشتد معاناتها من الأنظمة القائمة ومن فشلها في تحديث البلاد.

 

**********************************

-               لا يقدم الإسلام السياسي مشروعًا محدد الملامح أو حتى مفهومًا، حتى من أنصاره الكثيرين. فلا الشريعة مفهومًا واضحًا، ولا حدودًا لسلطة الدولة على الأفراد، ولا نظامًا اقتصاديًّا واضحًا، بل تركيز على فرض الزكاة وإلغاء فوائد البنوك وأمور أخرى أخلاقية، ولا آليات وتصورات لتحقيق الخلافة...

-                 المشروع الإسلامي الهلامي قبل حداثي: فالحكم استنادًا للنص المقدس هو عمليًّا حكم ديني، يحتل فيه رجال الدين الرسميين مكانة خاصة وسلطة معنوية كبيرة، فهم المفسرون للشريعة وأصحاب الفتاوى ومبررو أحكام الدولة على أساس ديني. وتحت عنوان الحاكمية لله يكون التشريع وممارسة السلطة مستمدة من إرادة السلطة باسم الدين وليست مستمدة من حكم الشعب ومستمدة من مصالحه. كما لا يعترف هذا المشروع بفكرة المواطنة، بل يعتبر غير الأقليات الدينية مجرد موالٍ، ويجعل ضمن سلطات الدولة التحكم في سلوكيات الفرد وحتى طقوس العبادة. أما النظام المصرفي القائم على فكرة المرابحة فيلائم مجتمعًا بسيطًا، لا المجتمع الحديث المتشابك والاقتصاديات الضخمة القائمة على المؤسسات لا الأشخاص.

وبينما يقر إسلاميو الشيعة، خصوصًا الإمامية بحكم رجال الدين مباشرة يتلاعب إسلاميو السنة مدعين أن نظامهم المرتقب ليس دينيًّا لأنه لا يضع رجال الدين في السلطة بينما يتعامل قادتهم أنفسهم كرجال دين وحتى يمنح بعضهم نفسه لقب "شيخ". وحتى إذا نصب نظامهم المرتقب حكومة من غير المتخصصين في الدين فالأهم هو المرجعية ومفسريها، ويسمون هذه الدولة "دولة مدنية" وهو تعبير لا يعني سوى أنها دولة يحكمها مدنيون وليس عسكريون، قاصدين في الواقع أنه دولة لا يحكمها رجال الدين ولكن تطبق فيها الشريعة على أيدي حكومة غير دينية. وهو كلام يذكرنا بالمثل القائل: "ما يضير الشاه سلخها بعد ذبحها"، فدولة ذات مرجعية دينية تكون مقدسة، سواء حكمها رجال الدين أو حتى "كفار".

-                 لا يقدم الإسلام السياسي مشروعًا ديموقراطيًّا، بل مشروع نظام شمولي يُسحق فيه الفرد لصالح الدولة: فالديموقراطية محرمة بالكامل لدى التيارات المتشددة والصريحة، أما لدى تياراته المعتدلة فهيَ فقط ديموقراطية الصناديق، لكن حين يأتي الكلام عن حقوق الأفراد في أجسادهم وأفكارهم تتغير اللهجة وُيستل سلاح الشريعة؛ فلا يمكن لأيٍّ من جماعات الإسلام السياسي أن تقر بالزواج المدني ولا بحرية الاعتقاد، بمعنى حق الفرد في تغيير دينه كما يشاء، ولا بحق الفرد في التعبير عن رأيه إلا في إطار "الشريعة"؛ ومن ذلك حقه في الدعوة لأفكاره أو عقيدته، ولا بالحرية الجنسية ولا حتى بحقه في التصرف في أمواله؛ فمصلحة الدولة فوق كل اعتبار، وأيضًا هناك قوانين الميراث الإسلامي التي تفرضها الدولة، ولا بحرية الإبداع الفني.. إنه مشروع نظام شمولي بامتياز. وما هو مفهوم من مشروع الإسلام السياسي من قمع لحرية الاعتقاد والحريات الشخصية والسيطرة المطلقة للدولة والسعيْ وراء هدف مستحيل في هذا العصر هو الخلافة.. إلخ لهو شيء منفر لأيِّ شخص حداثي ولا يمكن قبوله أبدًا.

-      لعبت منظات الإسلام السياسي على مدى تاريخها دورًا مهمًّا في محاربة اليسار والقوى الديموقراطية، سواء على المستوى المحلي أو العالمي؛ فلطالما استخدمها الاستعمار القديم والجديد في محاربة الشيوعية، وأفغانستان مثال فاضح. وفعلت الحكومات الرجعية نفس الشيء، مثل باكستان أثناء الحرب الباردة، ولعبت منظمات إسلامية دورًا في مساندة حكومات رجعية وفاسدة ضد اليسار والحركات العمالية؛ مثلما حدث مع السادات ومن قبله الملك فاروق، كما لعب حزب الله اللبناني دورًا كبيرًا في تصفية اليسار هناك. وفي هذا يتشابه الإسلام السياسي مع النازية والفاشية؛ مقاومة اليسار لصالح الطبقات الرجعية، وبالعنف في أغلب الأحيان. وهو يُترك لينمو ويحارب اليسار ولكن حين يتجاوز هذه الحدود تبدأ الحرب ضده لتحجيمه.

-      المشروع غير المحدد والمستند للدين والنزعة الفاشية والميل للعنف، كل هذا جعل من الإسلام السياسي أحد مشاكل المجتمع دون أن يقدم حلًا ما يفهمه الناس. إنه نتاج لأزمة المجتمع بلا شك لكنه أضاف لها ولم يقدم لها حلًا. وهذا كان دائمًا في صالح الحكام والطبقة المسيطرة. ولذلك لم تتوان تلك الطبقات والقوى الاستعمارية عن استخدام هذا التيار لصالحها ثم تلفظه وترتكب ضده المذابح حين يتجاوز الحدود المسموح له بها.

-      هذا التيار يمارس الدمججة بشكل فج، من ادعاء اقتناعه بالحريات العامة والديموقراطية وبحقوق الإنسان..إلخ.. لكن في التفاصيل يكون الكلام مختلفًا: في حدود الشريعة والقيم والأخلاق الإسلامية وعدم السماح بـ "الفتنة"..إلخ. ولا يُخفي معظم الإسلاميين الرغبة في قتل أو استتابة المرتد ومعاقبة شارب الخمر ..إلخ؛ وكأن الدولة هيَ حامي حمى القيم والأخلاق والفضائل. وتكمن المشكلة لا في مجرد الدعوة لسلوكيات معينة، بل في جعل ضبط سلوك الأفراد ضمن سلطات الدولة أو جماعات "الأمر بالمعروف" وفرض عقوبات عليهم ووضع قواعد معيارية للقيم والأخلاق "الفاضلة"؛ أيْ باختصار مصادرة الفرد لصالح مشروع الدولة المقدسة باعتبارها دولة الشريعة..

-      يزعم الإسلاميون أنهم الأكثر رقيًّا وأخلاقية وأنهم يحملون القيم الفاضلة والأخلاق المثالية. لكن في الممارسة العملية يطبقون ما جاء لدى الفقهاء القدامى، مما تسمى بعقيدة "الولاء والبراء"؛ من كراهية الآخر واستخدام التقية واللجوء للكذب والخداع وكافة السلوكيات التي يزعمون كذبًا أنهم ضدها. فهم لا ينسون أن الآخر هو عدوهم إلى يوم القيامة وهو مجرم شرير بطبعه. وهم لا يفتقدون الأحاديث وفتاوى الفقهاء الكبار التي تحض على كراهية الآخر وإيذائه بكل السبل بما في ذلك من قتل الأطفال وقتل الجنود المغلوبين على أمرهم وحتى غير المقاتلين واغتصاب نساء العدو وحتى التضييق على اليهود والنصارى في الطريق..إلخ. فـ "صحيح" البخاري و"صحيح" مسلم غنيان بكل هذا وأكثر. كل هذا يسوغ لهم ارتكاب أيِّ جرائم وخيانة حلفائهم بسهولة. فهم يعتبرون أنفسهم في حالة حرب ضد "الكفار" ولديهم "الحرب خدعة"؛ فكل شيء مباح. ويلجأ بعضهم أحيانًا إلى ادعاء الأخلاقية والإنسانية بسوق بعض النصوص المقدسة التي تقدم هذا المعنى، لكنهم يغفلون النصوص الأخرى المضادة والتي تكتظ بها كتب الأحاديث وتعتمدها فتاوى كبار الفقهاء ويستخدمونها هم أنفسهم لتبرير جرائم اتباعهم.

-      تميل هذه المنظمات إلى أن تشكل طوائف مغلقة وذات طابع سري أو شبه سري على الأقل، يعلو انتماء الأعضاء لها على أيِّ انتماء آخر، ولذلك تكون علاقتها بالمجتمع علاقة استخدام؛ فإمكانيات المجتمع ومؤسساته تكون مستباحة لصالح المنظمة الإسلامية، ولا يجد هؤلاء أيَّ حرج في اختراق منظمات المجتمع المدني لتوظيفها لصالح منظماتهم، فتلك المنظمات لا تتبنى مصالح الجماهير بل مصلحة التنظيم أولًا، وتهتم بتقديم الحسنات والخدمات للفقراء لضمان استخدامهم في ديموقراطية الصناديق وتوسيع نطاق نفوذها لكن لم نرَ أعضاءها يقودون الحركات العمالية والفلاحية مثلًا في مواجهة الطبقات المستغلة، ولم نراهم ينادون بحقوق الأقليات الدينية ولا النساء. على العكس كثيرًا ما وجدناهم يقفون ضد حركات تحرر المرأة وضد الإبداع الأدبي والفني ويؤيدون ختان الإناث، وأحيانًا وقفوا حتى ضد زراعة الأعضاء، وحتى في مجال الإغاثة الإنسانية وجدناهم فقط يساعدون المسلمين وليس المنكوبين عمومًا.

 

******************************

لكل ما سبق نعتبر مشروع الإسلام السياسي بكل مدارسه مشروعًا معاديًا للحداثة والديموقراطية وحقوق الإنسان، وإن كان الإسلام السياسي نفسه نتاجًا لأزمة عملية التحديث التي لم ُتنجز بعد في معظم العالم الإسلامي. بل إن منظمات هذا المشروع هيَ منظمات فاشية الطابع تسعى لإقامة أنظمة حكم شمولية ورجعية.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق