التخلف
نشرالمقال لأول مرة عام 1988 في مجلة "الراية العربية"
وأعيد نشره هنا لاقتناعنا أنه يتناول موضوعًا مازال حيًّا خصوصًا في ظروف
العملية الثورية الدائرة في مصر
عادل – سبتمبر 2017
|
فهرس:
مقدمة
أولًا:
نشوء بنية التخلف
ثانيًا: التبعية الاقتصادية: أدوات التوسط:
ثالثًا: الصناعة في البنى المتخلفة:
رابعًا:
التخلف على الصعيد السياسي:
الخاتمة:
مقدمة:
اشتد الاهتمام في العقدين الأخيرين من جانب عديد من الكتاب والمفكرين بقضية التخلف،
وأسهم في النقاش الدائر عديد من الاقتصاديين من مختلف المذاهب والتوجهات. ويبدو أن النقاش قد بدأ مع
تبدي
فشل
الحكومات "الثورية" في العالم الثالث، والتي تعلقت بها - للأسف - آمال غالبية المثقفين
الراديكاليين في حل مشكلة التخلف - التبعية
في أواسط الستينات. ولا شك - من ثم - أن أهمية النقاش
تتجاوز الحقل النظري البحت، لتمتد إلى تحديد مستهدفات الاتجاهات الراديكالية في البلدان المتخلفة، في الخطوط العريضة على
الأقل.
ومع تعاظم المساحة التي تحتلها الظاهرة في خريطة المناقشة النظرية العالمية يزداد
بالضرورة تأثرها بالأزمة المنهجية العامة - ونعني بها
الافتقار إلى أدوات تحليلية دقيقة. وتظهر هذه الأزمة في غموض المصطلحات وعدم توخي الدقة في استخدامها وغياب تحليل منهجي لمفهوم
التخلف.. بل والقصور في إدراك مفهوم "المفهوم" ذاته أحيانًا.
ويعد وضع إطار نظري (أيْ بناء من المفاهيم) لظاهرة التخلف أهم
مستهدفات هذا العمل، ومن ثم ينبغي التعرض أولًا بشكل مختصر لأهمية المفهوم: تتراوح أيُّ ظاهرة تاريخية
حول
مفهومها،
الذي يمكن بواسطته وحده فهم الظاهرة في سيرورتها والتنبؤ بمستقبلها. هذا المفهوم
واحدي بالضرورة. فلو تصورناه متعدد الأوجه والمكونات لكان علينا أن نتساءل عن القوة التي توحد هذه الأوجه
وتطرد ما عداها؛ ومن ثم نسترجع مرة أخرى مبدأ واحادية المفهوم. هذا لا يتنافى مع حقيقة أن الظاهرة
التاريخية متعددة
الجوانب، وبالتالي ضرورة العمل على استكشافها، واستكشاف أشكال التشابك بين هذه الجوانب. بيد أن التوقف عند هذا
الحد واعتباره تحليلًا ناجزًا للظاهرة كفيل بأن يوقعنا في مصيدة التحليل العاملي الذي، وإن كان ذا فائدة في
توصيف الظاهرة، إلا أنه عاجز تمامًا عن إشباع رغبتنا في فهم صيرورتها. إن تعقد
الظاهرة التاريخية العينية يعود في رأينا إلى نمو أشكال التوسط بين مفهوم الظاهرة ووجودها العيني، وتشابك هذه
الأشكال. ومن ثم نقرر أن التحليل الجدلي لأي ظاهرة تاريخية إنما يعني التوصل إلى
بنية محكمة من المفاهيم وأشكال التوسط، وصولًا إلى الواقع العيني الملموس.
ونظرًا لطبيعة هذا المقال سنغض النظر عن التحليل العيني الملموس الذي
نقر أهميته باعتباره المرجع الأخير لكل تصور نظري، وسنركز على مناقشة مجموعة من المفاهيم الرئيسية
التي
نعتبرها
جوهرية في تحديد الإطار النظري لتحليل ظاهرة التخلف.
وإذا ما تتبعنا تأثير الأزمة المنهجية العامة بخصوص إشكالية التخلف، سنجد - مثلًا - أن منظرًا ماركسيًّا
كبيرًا كبول باران يجاري الاقتصاد السياسي([1]) في استخدام
معيار كمي
- وهو الدخل
القومي / الفرد
- كمقياس
للتخلف، بما يعني اختصار الفارق بين الدول الرأسمالية والدول المتخلفة إلى مجرد درجة من النمو أو الثراء، وبالتالي إهمال مجمل التفاعلات العينية على المستوى الاقتصادي - الاجتماعي لصالح
تجريد يفتقر لكل عمق تحليلي. ويترتب على ذلك بالضرورة اعتبار التخلف مجرد حالة خاصة من النمو الرأسمالي، مع بعض الفروق الكمية التي
تفسر
عادة
بوجود آليات معيقة إلى هذا الحد أو ذاك لعملية التراكم الرأسمالي.
وبصرف النظر عن الاختلافات الجزئية، يستند كل من باران وسمير أمين وجوندر فرانك
وغيرهم، إلى التصور القائل باعتبار التخلف حالة خاصة أو "مشوهة" من النمو الرأسمالي، وبالتالي يحددون
بنية التخلف كتشكيلة
اقتصادية اجتماعية Socio-economic
formation
رأسمالية متخلفة، أو الطرف المتخلف من تشكيلة اقتصادية - اجتماعية رأسمالية
عالمية. ويستهدف هذا المقال بالدرجة الأولى إثبات أن هذا الإطار النظري يتغاضى بالضرورة عن خصوصية بنية التخلف، وأنه يتبنى في
نهاية
المطاف
التحليل الكموي للظواهر الاجتماعية وأن الاستناد إليه يتضمن بالضرورة التضحية بجملة من المفاهيم العلمية
الجدلية، أو ليَّ عنقها.
كذلك ينطوي هذا الإطار على الوقوع في فخ تبني وجهة نظر مركزية أوروبية Eurocentric، بمعنى تحليل الظاهرة من خارجها استنادًا إلى معايير مستمدة من التجربة التاريخية لأوروبا الغربية، وذلك بمقارنة
التخلف بما يسمى "الرأسمالية المتقدمة". في مثل هذا التحليل يظهر التخلف
بالضرورة كالصورة السالبة لبعض مقولات التشكيلة الرأسمالية، الأمر الذي يترتب عليه إحلال تعبيرات
أدبية محل المفاهيم،
على نمط "البراجوازية المتخلفة" و"الرأسمالية التابعة"
و"البورجوازية الرثة" و"المركز والمحيط".. وهي في أفضل
أحوالها أسماء وصفية، تنجح في مهمة الوصف بدرجات متفاوتة، وتزداد إمكانية النجاح مع ازدياد
غموض
التعبير.
لسنا بصدد إدانة هذه المحاولات المتتالية لوصف وتحليل بنية التخلف، بل نقر على
العكس، بفضلها في اكتشاف وتوصيف الكثير من مظاهر بنية التخلف وتحليل الآليات الرئيسية لإنتاجها وإعادة
إنتاجها، وفي إيضاح بعض
أسباب التخلف التاريخية. إن طموح هذا المقال يتركز في تحديد مفهوم للتخلف - بالاستناد إلى تلك الإنجازات - كأساس منهجي لا غنى
عنه للانطلاق في تحليل نهائي للظاهرة.
**********************
أولًا: نشوء بنية
التخلف
أ- أدى تفكك الإقطاع في أوروبا إلى ازدياد الأهمية السياسية والاجتماعية لسكان المدن.
وسرعان ما أعيد بناء السياستين الداخلية والخارجية لصالح تشجيع التجارة، وتحولت الحروب الإقطاعية
القديمة إلى حروب
قومية للسيطرة على التجارة الدولية. وفي هذا السياق قامت إمبراطوريات تجارية ضخمة. بيد أن السيطرة على هذه التجارة الدولية
المجزية حسم في
النهاية وفقًا لمعيار تطور القوى المنتجة؛ فقد آلت السيطرة في نهاية المطاف إلى الأراضي المنخفضة، فإنجلترا
لأسباب اقتصادية
- اجتماعية،
ألا وهي التحولات التي حدثت في بنية الإنتاج ونشأة المانيفاكتورة أول أشكال التراكم الرأسمالي([2]).
لقد عجل نمو التجارة الخارجية من نمو التجارة الداخلية وأسهم في تفكك الإقطاع، دون أن يعني
ذلك
على الإطلاق
نشوء الرأسمالية. لم يكن نمو التجارة في حد ذاته هو الذي أقام نمط الإنتاج الرأسمالي في أوروبا الغربية،
بل التراكم البدائي الناتج عن تطور قوى الإنتاج. لا شك أن عملية التراكم البدائي قد استفادت من
سيطرة
الأساطيل
"القومية" على التجارة الدولية. ولكن لا يمكن اعتبار هذه الفائدة حاسمة على الإطلاق؛ فنمو التجارة والإنتاج
من أجل السوق لا يعني في حد ذاته رسملة الإنتاج ولا يؤدي بالضرورة إلى تأسيس نمط الإنتاج الرأسمالي([3]).
وفي هذا الإطار لا يمكن إقرار تأكيدات بعض المنظرين أن نمط الإنتاج الرأسمالي قد أقيم على حساب المستعمرات التجارية في
الفترة ما بين القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر، نظرًا لأنها تنطوي على إهدار مفهوم نمط الإنتاج
وعلى الخلط بين
النقود والرأسمال، كما أنها تقع ضحية لأفكار الاقتصاد السياسي المتشيئة بحيث ينظر للرأسمال كمحض تراكم كمي للقيمة
وليس كعلاقة اجتماعية. آخذين ذلك بعين الاعتبار نقرر أن دور النهب الخارجي في إنشاء نمط الإنتاج
الرأسمالي لا يتعدى
كونه معجلًا ثانويًّا.
من جهة أخرى قامت التجارة الدولية
الأوروبية الجديدة
على مدى تلك القرون بإفقار بشع لشعوب القارات التي سيطرت عليها. ومن أجل الربح تم استرقاق 60 مليون أفريقي
كانوا نقطة البداية في مثلث التجارة الدولية آنذاك([4]).
ومع التأثير الضاغط للتجارة الأوروبية الصاعدة المدعمة عسكريًّا تغلغلت المصالح التجارية داخل (البلدان التي صارت
متخلفة) بدرجات
متفاوتة وبدأ تأثير التجارة المعتاد في تقويض أشكال الاقتصاد الطبيعي. إلا أنَّ تفسير نشأة التخلف كنتيجة للنهب
التجاري يتجاهل التحولات فائقة الأهمية في البنية الاقتصادية - الاجتماعية (تحولات أشكال التوزيع والإنتاج
والتبادل والاستهلاك) لصالح معيار كمي مجرد ينتمي إلى جعبة أفكار الاقتصاد السياسي. لقد لعب تغلغل
المصالح التجارية
الجديدة دورًا تمهيديًّا فقط في إنشاء التخلف. ومن حيث الجوهر، ليس النهب سوى نتاج ثانوي لهذا الدور.
خلقت الثورة الصناعية السوق الدولي خلقًا جديدًا؛ فأنهت مرحلة الاستعمار التجاري
(الماركنتالي) بعد أن نجحت في الداخل في القضاء على سيطرة الرأسمال التجاري على الرأسمال الإنتاجي بتحقيقها
سيادة
الرأسمال
المنتج على بنية الإنتاج الداخلية، وإقامة السوق القومي([5]). ترتب على ذلك
تصفية الشركات الاحتكارية الكبرى (مثل شركات الهند الشرقية التي أقيمت تحت رعاية عدة دول أوروبية) كما
اختفى مقياس النهب التجاري ضيق الأفق، والذى عبرت عنه النظريات التجارية التي كانت
تقيس نجاح التجارة الخارجية بقدرتها على تحويل الذهب للبلد المعنى في عملية
التبادل. وصار هدف التجارة الخارجية خدمة عملية الإنتاج وإعادة الإنتاج الرأسمالي
وإخضاع السوق الدولي لمتطلباته من المواد الخام والسوق. كان لابد أن يصاحب ذلك تراجع أشكال
النهب
المباشر
باعتباره شكلًا غير ملائم للرأسمالية الناشئة؛ فشكل النهب يحدده شكل الإنتاج، وكان لابد للنهب إذن - في هذه الحالة - أن يأخذ أرباحا قائمة على تبادل ما، أيْ
على آلية اقتصادية معينة. أما ما صاحب تلك العملية من عنف عسكري وقهر غير اقتصادي فلم يتعد دوره التمهيد
لهذا التبادل (بتحطيم أشكال الاقتصاد الطبيعي المقاومة للتبادل)، أو تحديد شروطه.
ورغم أن النهب المباشر لم يختف تمامًا إلا أنه تراجع إلى الظل؛ فالرأسمالية تميل
دائمًا إلى ابتلاع أشكال الاستغلال غير الاقتصادي.
إن معركة التشكيلات الرأسمالية في السوق الدولي، إنما تدور حول توفير أفضل الشروط
لإنتاج فائض القيمة وتحقيقه. وفي هذا الإطار تم إنشاء بنية التخلف. ولم يتم
ذلك بالطبع وفقًا لخطة معينة، أو كنتيجة للنوايا الشريرة للرأسمالية، وإنما تكونت بنية
التخلف كنتاج لاصطدام
التشكيلات الرأسمالية مع بنى اقتصادية - اجتماعية
أخرى ذات مميزات محددة. وفي حالة عدم توفر هذه المميزات، أدى الاصطدام إلى إدخال الرأسمالية في تلك المجتمعات (مثل أمريكا الشمالية واستراليا). لا شك أن الرأسمالية هيَ - إن جاز التعبير -
الفاعل الأصلي في قضية التخلف، ولكن يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن البلدان التي
صارت متخلفة لم تكن مفعولًا به مجردًا ولكن مفعولًا به متعينًا: أيْ بنية اجتماعية
محددة. إن كون الرأسمالية هيَ الفاعل الأصلي في قضية التخلف يتضح من شمول ظاهرة التخلف لكيانات اجتماعية
كانت ذات خصائص وبنى مختلفة لحظة اصطدامها بالبنى الرأسمالية: مجتمعات مشاعية، حضارات نهرية، مناطق شبه
رعوية... الخ. أما
طبيعة الخصائص المشتركة بين تلك البنية والتى أهلتها للتحول إلى بنية متخلفة فستتضح لنا عند تناول بنية
التخلف نفسها.
ب- قامت الثورة الصناعية بإغراق السوق
الدولي بكمية
هائلة من المنتجات وبأسعار لا تنافس. وبعد تحطيم العوائق السياسية والحدود الجمركية حطم هذا الفيض السلعي
الرخيص الصناعات الحرفية، كذلك فككت الاقتصاد الطبيعي في البلدان التي صارت متخلفة، عبر قيامها بتنقيد
يزداد
تغلغلًا
لاقتصاديات تلك البلدان. على أن أهم نتائج ذلك الغزو هيَ إقامة نمط استهلاك جديد بجانب الأنماط الموروثة
السابقة، وهو نمط ليست له أسس في البنية الداخلية للإنتاج. لم يقتصر ذلك على مجرد الاستهلاك الفردي بل تعداه للاستهلاك العام (قطاعات النقل،
التسليح..). وعلى أساس نمط الاستهلاك الجديد توسعت التجارة الخارجية بسرعة كارثية وصار توفير صادرات للأسواق الخارجية
مسألة حيوية من أجل تسديد مقابل لحاجات الاستهلاك الداخلي بنوعية من البضائع
الأجنبية. كذلك نشأت فئات اجتماعية جديدة يعتمد وجودها على هذه التحولات؛ إذ تحولت قطاعات معينة ونشأت قطاعات أخرى
لتلبي حاجة الإنتاج للسوق الدولي. ولما كانت البلدان الرأسمالية بفضل إنتاجيتها المرتفعة صاحبة أكبر طلب فعال
في
السوق
الدولي. كان معنى التحولات التي ذكرناها إقامة علاقة اعتماد من جانب هذه القطاعات الجديدة والمتحولة على البلدان الرأسمالية بتوسط
السوق
الدولي.
نستطيع أن نقرر إذن - على عكس التصور الشائع - أن التحول الحاسم
حقًّا في عملية نشوء بنية التخلف هو تحول قطاعات إنتاجية لخدمة السوق الدولي، أيْ تحول البلدان الرأسمالية
إلى سوق للبلدان المتخلفة. أما مختلف أشكال الإفقار والنهب وتحطيم الحرف فلا تعد على الإطلاق أكثر من
نتائج
ثانوية لذلك
التحول. فالتاريخ يشهد أن مثل هذه الظاهرات قد حدثت مرارًا في تاريخ الشعوب بفعل الغزو دون أن يترتب على
ذلك نشوء علاقة التخلف - التبعية.
سرعان ما أعيد إنشاء البنية التحتية لخدمة تلك القطاعات التصديرية الجديدة ولتوسيع
التجارة الخارجية؛ فأنشئت الموانئ العملاقة والسكك الحديدية ووسائل النقل والاتصالات الحديثة والجهاز
المصرفي الضروري
(الذي هو في الحقيقة بيوت مقاصة كبيرة). كذلك نشأت حرف وصناعات جديدة مخصصة لخدمة القطاعات الجديدة (مثل التعليب
والتغليفة وحلج وكبس القطن... إلخ). وباختصار: ترتب على هذا التماس مع البنى الرأسمالية إعادة إنشاء أشكال
الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك للتلاؤم مع احتياجات تلك البنى،وافق ذلك التحول - بالطبع - توسع التجارة المحلية كحلقة وصل ضرورية بين
الإنتاج والاستهلاك وبين السوق الدولي. ولما كان تنقيد الاقتصاد الداخلي هذا قد تم في إطار إنشاء
قطاعات الإنتاج
للتصدير، وليس في إطار رسملة (تصنيع) البنية المحلية.. فقد ظل تابعًا لتوسيع التجارة الخارجية وذيلًا له، وأدنى
من حيث المعدل.
ج- لا يمكن اعتبار هذه التحولات تطويرًا للبنى الداخلية للإنتاج. وعلى العكس نجد
استمرارية للبنى القديمة - بشكل محور - في قطاع الإنتاج
الموجه للداخل والمعتمد على نمط الاستهلاك القديم([6]). كما يلاحظ أن
قوى الإنتاج في ذلك القطاع بالغة التدني، حتى أن جزءًا هامًّا منها يمارس كإنتاج منزلي. ويعمل على استمرار ذلك
التدني ضيق السوق المحلي الذي يعود أيضًا لبقاء علاقات الإنتاج قبل الرأسمالية([7])،
حتى
بالنسبة
لجزء هام من القطاعات التصديرية. كان سوق البلدان المتخلفة من الضيق بحيث أحجمت الرأسمالية عن تصنيع بنيتها
الداخلية. وقد ساعد على ضيقها أيضًا - بالإضافة
لاستمرار أشكال الاقتصاد الطبيعي وبقاء علاقات الإنتاج قبل الرأسمالية تركز القوة الشرائية في القطاع الحديث من بنية التخلف، ومن
جهة
أخرى أدى
عدم تصنيع القطاعات الموجهة للداخل إلى استمرار مقاومة أنماط الإنتاج السابقة على الرأسمالية وإعادة إنتاجها باستمرار، الأمر الذي
يؤدي
إلى ضيق
السوق، وهكذا…
ضيق
السوق لجم رسملة البنية الداخلية للإنتاج
(تخلف الإنتاج
للسوق المحلي)
إعادة إنتاج أنماط
الإنتاج القديمة وتزايد مقاومتها
|
لعب ازدواج نمط الاستهلاك إذن دورًا
جوهريًّا في عملية نشوء التخلف، ونلاحظ أنه قد استند لازدواج: بنية الإنتاج الرأسمالي في البلدان الرأسمالية
(وامتداداتها في البلدان المتخلفة) والإنتاج قبل الرأسمالي في البلدان المتخلفة. ونادرًا ما يحظى الجانب الخاص
بنمط الاستهلاك القديم بالاهتمام رغم أهميته المحورية. إن أشكال نمط الاستهلاك القديم وأشكال تمفصله مع
النمط
الحديث
للاستهلاك هيَ المسئولة عن الطابع الخاص لكل بنية متخلفة بل وطابع أجزاء البنية الواحدة، فلو حزفنا هذا
القطاع
- فرضًا - من بنية التخلف لما
تبقى لنا سوى قطاع حديث - يعتبر جزء
من بنية الرأسمالية الأوروبية والأمريكية واليابانية. ولا نستطيع في هذه الحالة المفترضة توصيف ذلك البلد
كبلد متخلف - من الناحية الاقتصادية - رغم
تبعيته وافتقاره لبنية داخلية للإنتاج.
يترتب على ما سبق تقريره حقيقة هامة: إن
تنقيد بعض قطاعات الاقتصاد المحلي لم يأت ضمن صيرورة تراكم بدائي، بل ضمن صيرورة بناء قطاع مرتبط بالسوق
الدولي الذي
أنشأته البلدان الرأسمالية وسيطرت عليه. وكان ذلك التحول - إذن - انقطاعًا في الصيرورة التاريخية للبنى
الاقتصادية القديمة ترتب عليه تفكيك بعض قطاعاتها وإقامة الازدواج المشار إليه، ولم يكن على الإطلاق تحققًا
تاريخيًّا للبنى
القديمة.
د- هناك تصور شائع يعتبر كل عملية تنقيد
للاقتصاد كعملية رسملة للبنية الاجتماعية، وترتب على ذلك التصور اعتبار نتاج تلك
العملية دائمًا وبالضرورة إقامة نمط الإنتاج الرأسمالي (أيْ اعتبار الإنتاج من أجل السوق إنتاجا
رأسماليًّا)، وكذلك اعتبار البلدان المتخلفة بنى رأسمالية متخلفة، أو طرف في
منظومة رأسمالية عالمية. وفي رأينا أن تلك التصورات كفيلة بإفقاد ظاهرة التخلف
أيَّ تميز ووضوح، وكفيلة بالإخلال بمجمل المفاهيم الماركسية الأساسية وبالتالي ليِّ عنق المنهج العلمي - الماركسي.
تتألف البنية التحتية لأيِّ نمط إنتاج من
وحدة قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج (علاقات الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك) ضمن شروط معينة([8]). ويعني تطور قوى الإنتاج - عند مستوى معين - قيام تقسيم اجتماعي
جديد للعمل. والحال أنَّ تقسيمًا اجتماعيًّا جديدًا للعمل يعني بالتحديد نشوء طبقات جديدة([9])،
سرعان ما تجد تمثيلها المناسب على المستويين السياسي والأيديولوجي لتتحول إلى قوة اجتماعية فعالة. وتتم
عملية
الإنتاج
وإعادة الإنتاج بمتوسطات معينة على مستوى التوزيع والتبادل والاستهلاك
وتتحدد
أشكال تلك الأخيرة والعلاقات بينها على مستوى الإنتاج([10]). وعلى عكس ذلك
التصور نجد أطروحة (إنتاج من أجل السوق - الإنتاج
الرأسمالي) تحدد مقولة نمط الإنتاج على مستوى التبادل، أيْ على مستوى العلاقات بين المنتجات؛ فتقع بالتالي في فخ
التشيؤ وتتبنى مفاهيم الاقتصاد السياسي([11]).
أما النظرية الماركسية فإنها تضع مقولة نمط الإنتاج على مستوى العلاقات الاجتماعية بين البشر.
تدل الخبرة التاريخية على أن الإنتاج من أجل السوق يمكن أن يصاحب مستويات
مختلفة تمامًا من
تطور القوى المنتجة وأشكال مختلفة من العلاقات الاجتماعية للإنتاج (مثل العبودية في أثينا وروما والزراعة التجارية
الإقطاعية في القرن 14، 15، 16م في أوروبا) ويمتد التشيؤ ليأخذ أبعادًا أخرى؛ فعلى سبيل المثال، يجري
اعتبار إنتاج
الفلاحين للقطن من أجل السوق الخارجي إنتاجًا رأسماليًّا. وبالطبع لا يمس هؤلاء المنظرون النقطة الحرجة القائلة
باستحالة وجود البورجوازية كطبقة دون وجود بروليتاريا، مثل هذه النظرة تقفز بالضرورة على مجمل الوضع
الاجتماعي للجماهير
لصالح تجريد اقتصادي فقير.
يتحدد نمط الإنتاج الرأسمالي، مثل أيِّ نمط
إنتاج، بالشكل الاجتماعي لإنتاج الفائض الاجتماعي وإعادة إنتاجه. ويتخذ الفائض في حالة نمط الإنتاج
الرأسمالي شكل فائض
القيمة. الإنتاج الرأسمالي إذن - كما حددت
روزا لوكسمبورج
- هو إنتاج
فائض القيمة. وبمجرد
تحديد مفهوم نمط الإنتاج بهذه الكيفية يتضح تمامًا أن عمليه نشوء بنية التخلف ليست عملية رسملة لبنية
الإنتاج، لسبب بسيط، إن
إنتاج البروليتاريا والبورجوازية الصناعية لا يشكل محورًا لعملية إنتاج التخلف أو محورًا لبنيته - كما سنثبت لاحقًا.
ونكتفي الآن بتوجيه انتباه القارئ إلى أن صيرورة التخلف العينية تثبت أن الإنتاج من أجل السوق (الخارجي بصفة خاصة) كان هو
التحول الجذري في
صيرورة إنشاء التخلف.
ترافق أيضًا مع نشوء بنية التخلف توسع
السوق
المحلي
وزيادة التبادلات الداخلية ونشأة نظام نقدي محلي، يجري تصويره - تأثرًا بمفاهيم
الاقتصاد السياسي
- على أنه
سوق قومي. ونلاحظ أن تعبير "السوق القومي" يستخدم بمعان مختلفة.. ولكننا
سنستخدمه هنا بمعنى محدد تمامًا؛ السوق القومي هو السوق الرأسمالي، أيْ سوق الرأسمالية القومية الداخلي. وشرط
تحققه هو وجود تشكيلة اقتصادية - اجتماعية
رأسمالية في البلد المعنى.. أيْ سيادة نمط الإنتاج الرأسمالي على
سائر
أنماط الإنتاج الأخرى في بنية الإنتاج المحلية.
سنتعرض لاحقًا لشروط سيادة نمط الإنتاج الرأسمالي، ونفند دعوى تحقق هذه
السيادة مع إقامة
قطاع صناعي في البلدان المتخلفة، ونكتفي الآن بالإشارة إلى أن السوق الذي رافق نشوء بنية التخلف (وكانت إقامته
سابقة على إنشاء قطاعات صناعية في البلدان المتخلفة) هو سوق محلي وليس قوميًّا طالما أخذنا بعين
الاعتبار أن الإنتاج
من أجل السوق لا يعني على الإطلاق نمطًا رأسماليًّا للإنتاج، وبالتالي فإن ذلك السوق سابق على إدخال نمط الإنتاج
الرأسمالي في البلدان المتخلفة، وإنه نشأ كتابع لتوسع التجارة الخارجية في إطار إنشاء قطاع التصدير([12]).
كذلك لوحظ نمو سكان المدن والمدن نفسها وتطورها، والأكثر أهمية من ذلك
تزايد
العلاقات
بين الريف والمدن في إطار سيطرة الأخيرة ضمن عملية التنقيد، ولكن لا يمكن أن نعد كل نمو للمدن نموا للرأسمالية،
وكل سيطرة للمدن على الريف سيطرة للرأسمالية على أنماط الإنتاج الأخرى. ففي البلدان المتخلفة كان نمو
المدن من حيث
الجوهر انعكاسًا لنمو قطاع التصدير. والمدن هنا تشكل مراكز لتجميع وتخزين المنتجات وإعدادها للتصدير (صناعات التعليب
والحفظ والتغليف... الخ)، بالإضافة إلى المضاربات التجارية ومجمل أنواع المقاصة والوساطة والتحويلات
المالية والمضاربات
اللازمة لتسيير تلك العمليات. يتسق مع تصورنا هذا كون الموانئ هيَ بصفة عامة، أكبر المدن في الدول المتخلفة
وأكثرها تطورًا.
************************
ثانيًا: التبعية الاقتصادية: أدوات التوسط:
أ- سبق أن ذكرنا أن التحول الرئيسي في إنشاء بنية التخلف هو إنشاء قطاعات تنتج
للسوق الدولي، وما يترتب
عليه من فقدان البنية لأي اتجاه تاريخي للتطور([13]). لقد صار تطور تلك البنى المتخلفة تطورًا تابعًا
لاحتياجات السوق الدولي الذي تسيطر عليه التشكيلات الرأسمالية. وعند تحليل هذا الرصد اتضح أن ذلك التحول
البنيوي ليس تحولًا لإنشاء بنية رأسمالية، بل تحول ضمن صيرورة مختلفة تمامًا.. رغم أنه
تحول يفترض بالضرورة
وجود التشكيلات الرأسمالية، باعتبارها الفاعل الأصلي في قضية التخلف.
يكاد كل المتعرضين لقضية التخلف في حدود علمنا يرون أن الدول المتخلفة هيَ
بمعان مختلفة دولًا رأسمالية متخلفة. وحالما وضعت القضية في هذا الإطار، صار من الضروري توضيح الفارق بين
"الرأسمالية المتقدمة" و"الرأسمالية المتخلفة". لقد كان
الاقتصاد السياسي متسقًا مع نفسه ومع مفاهيمه حين نفى أيَّ فارق جوهري بين "الرأسماليتين"، لأنه يحدد
الرأسمالية بصفة عامة كظاهرة تقع على مستوى التبادل؛ أما التقدم والتخلف فيجري قياسهما بواسطة عدة
معايير كمَّوية أشهرها الدخل القومي / الفرد.
ينطوي تعبير (الرأسمالية المتخلفة) ضمنًا على تصور مؤداه أن إشكالية التخلف لا
تتميز على مستوى تحديد نمط الإنتاج والتشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية،
بل على مستوى أدنى.. لأنها تندرج ضمن إطار التشكيلة الرأسمالية. وحين يتبنى الماركسيون هذا التصور، فإنهم
يواجهون حتمًا مشكلة عويصة إذا ما أصروا في نفس الوقت على وجود فوارق جوهرية إلى هذا الحد
أو ذاك بين البنى
الرأسمالية وبنى التخلف. تلك المشكلة هيَ تحديد مفهوم التخلف بحيث يختلف جوهريًّا عن مفهوم التشكيلة الرأسمالية
(المتقدمة) ولا يختلف جوهريًّا عنها في نفس الوقت (باعتبار أن كليهما بنيتين رأسماليتين). واستتبع الوقوع في هذا
المأزق اللجوء إلى قلب
المفاهيم، صارت الرأسمالية هيَ الإنتاج من أجل السوق بينما تميز التخلف على مستوى علاقات الإنتاج الفعلية (وجود أشكال
الإنتاج السابقة على الرأسمالية)، وغياب العديد من آليات الرأسمالية وقوانينها - وهو الخطأ الذي سبق لنا نقده.
أما النظرية الثالثة فهيَ اعتبار بنى التخلف رأسمالية من حيث هيَ أجزاء من
بنية رأسمالية عالمية مزعومة، وأن تلك الرأسمالية العالمية، إذ تسيطر على بنى التخلف، تحولها إلى جزء من
عالم رأسمالي ومن السوق الرأسمالي العالمي. لنقم إذن بفحص هذه الفكرة.
تشكل الأطر القومية الأطر الحقيقية للرأسمالية؛ فلا رأسمالية بلا وطن، ورغم أن
تطور قوى الإنتاج في ظل الرأسمالية ينزع لتحطيم الأطر القومية، إلا أن ذلك النزوع لا يتحقق أبدًا في ظل
الرأسمالية؛ فالرأسمالي في البنى الرأسمالية يسعى إلى السيطرة على السوق المحلي
عبر وسائل اقتصادية
مختلفة تنظمها قوانين معينة تسود داخل الدولة المعنية وتعبر عن مصالح البورجوازية القومية ككل. أما في الخارج،
فإن ذلك الرأسمالي يحطم منافسيه استنادًا إلى جهاز الدولة التي ينتمى إليها. وبقدر قوة الاقتصاد القومي والقوة
العسكرية للدولة،
بقدر ما يستطيع الرأسمالي فرض مزاحمته على منافسيه في السوق الخارجي ويستند هذا الإطار القومي للرأسمالية إلى أسباب
عميقة كامنة في تاريخ نشوء وتطور نمط الإنتاج الرأسمالي؛ فقد نشأت الرأسمالية ثم تحققت سيادتها على أنماط
الإنتاج الأخرى ضمن أطر قومية معينة، وبين النشوء والتسيد كان عليها أن تحطم أنماط
الإنتاج السابقة على الرأسمالية دون أن تحطم نمط الاستهلاك القومي الذي قامت عليه، بل
كان عليها
- على العكس - القيام بتطويره
واستخدامه لمصلحتها. هكذا قامت الرأسمالية بتصنيع بنى قومية معينة، ثم ما لبثت أن رفعت مبدأ الانتماء
القومي إلى مستوى
المبدأ السياسي والإيديولوجي الأول. ولعل مما يوضح مدى قوة نزوع الرأسمالية لإقامة
بنى قومية، الأثر المسرع لها في إنشاء النزوع القومي.. كما هو الحال في جنوب أفريقيا والولايات المتحدة واستراليا
مثلًا.
في السوق الرأسمالي يجري تحقيق فائض القيمة بفضل توفر حرية الرأسمال والعمل
المأجور، وتتحقق فيه من ثم قوانين حركة الرأسمال وأهمها - بهذا
الصدد
- الميل
لتساوي معدل
الربح وتحقيق سعر الإنتاج. مثل هذه الظواهر لا تتحقق خارج السوق القومي، ومن ثم لا توجد رأسمالية عالمية أو (المعسكر الرأسمالي)
كوحدة اقتصادية. فطالما وجدت السوق القومية والحدود القومية ليس تعبير "السوق العالمي"
سوى تعبير خاطئ، فما يطلق عليه تعبير السوق العالمي world market، هو في الحقيقة سوق دولي inter - national، يتكون من علاقات ثنائية أو متعددة بين الدول طبقة للاتفاقات والمعاهدات والحدود
الجمركية والمساومات
السياسية والقوى العسكرية.. وفي بعض المنتجات السلعية دون بعضها الأخر... الخ، مما لا يمكن رده لعامل متجانس في كل
قطاعات السوق الدولي. وتنطبق نفس الملحوظة على منظمات التعاون الاقتصادي مثل السوق الأوروبية المشتركة التي لا
تزيد عن كونها اتفاقًا بتنازلات مختلفة متجددة من قبل الاقتصاديات القومية
المختلفة، يعاد النظر فيها طبقًا لمختلف الاعتبارات الاقتصادية والسياسية القومية الخاصة
بالدول المشتركة فيها. ومن ثم يمكن فقط الحديث عن سوق عالمي من حيث وجود أسعار عالمية
لبعض المنتجات مثل
البترول والمعادن والمنتجات الزراعية، وحتى في هذه الحدود يتدخل تلاعب الدول الرأسمالية المعروف بالأسعار العالمية لنهب
الدول المتخلفة أو لتصفية صراعات معينة بين البلدان الرأسمالية، بالإضافة إلى وجود الحواجز الجمركية وغير
ذلك.
وإذا كنا لا نستطيع الحديث عن حرية كاملة لانتقال السلع على مستوى العالم،
فبالأحرى لا نستطيع الحديث عن سوق رأسمالي عالمي حين نأخذ بعين الاعتبار غياب حرية انتقال الرأسمال والعمل
المأجور. إذن لا نستطيع الحديث عن عملية إنتاج وإعادة إنتاج
عالمية. كل ذلك
لا ينفي أن السوق الدولي تسيطر عليه البنى الرأسمالية.. فهو رأسمالي من حيث القوى
المسيطرة عليه وليس من
حيث آلياته وجوهره.
تؤثر البنى الرأسمالية على البنى المتخلفة عن طريق حفز قطاعات معينة وخلق
طلب فعال عليها. تلك هيَ الآلية الاقتصادية الرئيسية من جانب البنى الرأسمالية؛ أما باقي سلسلة التبعية
الاقتصادية، فإنها تتم بآليات تعود إلى التركيب الداخلي التابع للبنى المتخلفة والآلية
الأولى تعود لكون البنى الرأسمالية تشكل شرطًا أساسيًّا لوجود بنى التخلف، وهيَ تقوم
على القدرة الإنتاجية العالية للبنى الرأسمالية، والقادرة بالتالي على استيعاب إنتاج الدول المتخلفة
في
عملية
التبادل. فهيَ إذن آلية تعود إلى مستوى التبادل (أو الطاقة العالية للبنى الرأسمالية على هذا المستوى)، ولا يمكن
مطلقًا إرجاعها إلى مستوى الإنتاج (أو تشابه بنى الإنتاج من حيث الجوهر).
ويتضح من ذلك أن علاقة التبعية ووجود بنى التخلف لا ينطويان على أيِّ
ضرورة تاريخية بالمعنى الجدلي. فرغم أن المجتمعات المتخلفة تتمتع بوجود عيني ملموس لاشك فيه، إلا أنه وجود لا
يشكل خطوة ضرورية في
مسيرة المجتمع نحو التحرر والتحقق.. إنه مجرد وجود فرعي ناتج - كما أسلفنا - عن اصطدام البنى الرأسمالية ببنى ذات خصائص معينة: ضيق السوق - بنى إنتاج متخلفة. وحيث إن الاصطدام وقع
على مستوى التبادل،
فإنه لم يستند إلى البنية الاجتماعية الداخلية ولم يشكل تحققًا تاريخيًّا لإمكاناتها.
وبهذا الصدد، نتفق مع الفكرة القائلة أن نمو التخلف يجري وفقًا لقانون
التطور المتفاوت والمركب، وهو قانون يفترض أصلًا تحديد طبيعة البنى الاجتماعية الداخلة في علاقة صراع وتنافس مع
بعضها البعض في ظل شروط تاريخية معينة. هذه التحديدات لا يفسرها القانون المذكور،
وإنما تفسرها مفاهيم جدلية أخرى (نمط الإنتاج، علاقات الإنتاج... الخ). وبالأحرى
تعد بنية التخلف هيَ الحالة التي ينطبق عليها تمامًا قانون التفاوت والتركب: أيْ تركب
أنماط الإنتاج لا سيادة أحدها على الآخر، وهذا ما سيتضح لنا لاحقًا.
من وجهة نظر البنى الرأسمالية تتركز الفائدة المرجوة من العلاقات مع
البنى المتخلفة في كل من المستوى التقني (إمدادها بمواد حيوية للصناعة مثلًا)،
ومستوى التبادل (حيث تفيد في رفع معدل الربح وتقليل أثر الميل لهبوطه). أما البنى المتخلفة، فتعتمد في وجودها نفسه (ماهيتها) وتركيبها الاجتماعي على البنى الرأسمالية.
لكل ذلك نرى أن صياغة "المركز - المحيط" - والتي يمكن اعتبارها
من أفضل الصيغ الوصفية
في حدود وجهة النظر القائلة بالرأسمالية المتخلفة - تتغاضى عن لاتاريخية بنية التخلف في السياق
التاريخي العيني، وتحاول إعطاءها دورًا متميزا في هدم نمط الإنتاج الرأسمالي وسيادته العالمية. وبالمقابل كان لابد لها من
أن تهدم مفاهيم التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الرأسمالية ونمط الإنتاج الرأسمالي.
ب- تؤدي بنا فكرة توجيه البنى الرأسمالية لعملية الإنتاج في البلدان
المتخلفة (القطاع الحديث)، إلى فكرة تكوين مجموعات مصالح جديدة وضخمة تستند إلى التحول الجديد في البنية
الاقتصادية (نشوء التخلف)، وتزداد أهمية هذه المصالح مع تعاظم ثقل قطاع التصدير وزيادة
اندراج اقتصاد البنى
المتخلفة في التبادل الخارجي وإغراقه في السوق الدولي. تقف على رأس هذه الفئات
الاجتماعية البورجوازية التجارية التي تهيمن- على رأس شركائها - على آلة
الدولة ويزداد ثقلها الاجتماعي والسياسي مع ازدياد الالتواء في عملية الإنتاج وإعادة الإنتاج لتصبح مرتبطة بالبنى
الرأسمالية، وما يصاحب
ذلك من تنقيد قطاعات الاقتصاد بدرجات متفاوتة.
والبورجوازية التجارية ليست طبقة اجتماعية لأن وجودها قائم على مستوى
التبادل، ولًا تمثل طرفا في عملية الإنتاج، ولكنها تستمد قوتها الاجتماعية - السياسية من دورها في بنية التخلف ذاتها، لأنها تعكس كلًا من علاقة التبعية للبنى
الرأسمالية وتفكك
البنية الداخلية للإنتاج المميز لبنية التخلف، وتوطد سيطرتها بناء على دورها في إعادة إنتاج كلتا الظاهرتين.
يقوم الرأسمال التجاري بدور الوسيط في العلاقة بين البنى الرأسمالية وقطاعات
التصدير داخل البلد المتخلف، وينقل آليات عمل تلك البنى إلى داخل بنية التخلف كما يدخل أنماط الاستهلاك الحديثة
ويطورها (مع تطورها في
البنى الرأسمالية) ليحافظ على القوة الدافعة لإعادة إنتاج التخلف. إن تعاظم الطلب الدولي على سلعة معينة، نتيجة
لحدوث ثورة تكنولوجية أو تحول تقني معين في البنى الرأسمالية يؤدي إلى حفز تطور
قطاعات معينة داخل البلدان المتخلفة وتحولها إلى قطاعات تصديرية.. وكل هذا يتم بتوسط الرأسمال التجاري. هذا الأخير يقوم - إذن - بتفكيك البنية الإنتاجية ويعيد إنتاج ذلك
التفكك بشكل موسع بربطه لقطاعات التصدير - كل منها على حدة - بالسوق الدولي، ممزقًا بذلك الروابط بين قطاعات الإنتاج على المستوى المحلي.
كذلك يقوم الرأسمال التجاري، عن طريق سيطرته على التجارة الداخلية وتجارة
الجملة، بنهب قطاعات الإنتاج السابقة على الرأسمالية بقدر اقتراب الأخيرة من السوق الدولي ومن السوق المحلي،
الذي هو في الحقيقة
فرع للسوق الدولي، إن نهب القطاعات قبل الرأسمالية يعد من أهم مصادر دخل الرأسمال
التجاري (والصناعي أيضًا كما سنرى)، ليس فقط من حيث الكم ولكن أساسًا من حيث أن هذا المصدر هو الذي
يمنحه استقلاله عن الرأسمال الإنتاجي([14])،
ويحافظ
على طابعه قبل الرأسمالي المسئول في ظل شروط بنية التخلف عن سيطرة الرأسمال التجاري على البنية الاقتصادية
وكل الأنماط القائمة بها.
عرف التاريخ نوعين من الرأسمال التجاري: الرأسمال التجاري الرأسمالي
والرأسمال التجاري قبل الرأسمالي. ورغم أن النوعين كليهما ينقسمان إلى رأسمال يتجر في السلع ورأسمال يتجر في
النقود. إلا أن هناك فوارق جوهرية بينهما. في حالة الرأسمال التجاري الرأسمالي يكون
الاتجار في السلع
اتجارًا بمنتجات الصناعة وموادها الخام ومستلزماتها المختلفة بصفة أساسية.. ويعمل
بالتالي على تقليل فترة دوران الرأسمال الصناعي، بينما يقوم الرأسمال البنكي بنفس المهمة عن طريق تسليف الرأسمال
الإنتاجي وتشغيل فوائض الرأسمال في القطاعات التي تحتاج إلى رؤوس أموال؛ فيعجل بذلك من تطور القوى المنتجة. وتتبدى
تبعية
الرأسمال
التجاري للرأسمال الإنتاجي في كون ربح الأول عبارة عن جزء من فائض القيمة الذي ينتجه الأخير، وفي تحديد معدل فائض
القيمة لمعدل الربح الوسطى الذي يحدد بدوره معدل ربح الرأسمال التجاري ([15]). ترتبط مصلحة
الرأسمال التجاري الرأسمالي إذن بتوسيع السوق ونمو الإنتاج الرأسمالي، كما يلتصق
بالتجارة الداخلية، بينما يتقلص دور التجارة الخارجية النسبي ويصبح تابعًا للتجارة
الداخلية([16]).
أما الرأسمال التجاري في البلدان المتخلفة فهو - على العكس - رأسمال تجاري قبل رأسمالي يعتمد على آليات الاحتكار والمضاربة([17])، والتي ينتزع بواسطتها دخله من عملية التبادل،
وإن ذلك الرأسمال التجاري يراهن على ضيق السوق وتصاعد حمى المضاربة وكافة العوامل المدعمة للاحتكار، ومعدل ربحه لا
علاقة له بمعدل فائض القيمة، لأن الأخير لا يشكل أصلًا الشكل السائد([18])، اقتصاديًّا واجتماعيًّا للفائض الاجتماعي.. وسوف نرى كيف أنَّ إدخال الصناعة في
بنية التخلف لن يغير شيئا من هذا الوضع.
نخلص من كل ما سبق إلى أن التبادل هو الذي يسيطر على الإنتاج ويوجهه في بنية
التخلف، كنتيجة لتبعيتها للبنى الرأسمالية. ويظهر ذلك على مستوى الإنتاج في تفكك بنية الإنتاج
وازدواجها، وعلى مستوى التبادل في سيطرة التجارة الخارجية على التجارة الداخلية وضيق
السوق المحلي وإغراق
الاقتصاد المتخلف في السوق الدولي، وعلى مستوى الاستهلاك في ازدواج نمط الاستهلاك (الفردي والعام). لقد تعرضنا
للدور المحورى للرأسمال التجاري في إنتاج هذه الظواهر وإعادة إنتاجها، لذا نجده يحوز نصيب الأسد على مستوى التوزيع.
واستخلاصنا الأساسي من ذلك أن مفهوم التخلف هو: بنية اقتصادية - اجتماعية لا يسودها نمط إنتاج معين، وذلك لأن سيادة أيِّ نمط إنتاج تقع بالضرورة
وقبل كل شئ على مستوى الإنتاج، وهو مستوى خاضع لمستوى التبادل في بنية التخلف ولا
يقوم بدور المحدد لآليات إنتاج وإعادة إنتاج التخلف؛ وأن الرأسمال التجاري هو الذي يسود
مجمل البنية اجتماعيًّا
واقتصاديًّا مستندًا لدوره الجوهري على مستوى التبادل، المستوى الحاكم في بنية التخلف. مفهوم التخلف إذن هو نقيض
مفهوم التشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية، والذي يعني بالمقابل سيطرة نمط إنتاج معين
على مستوى الإنتاج، تنسب إليه البنية (التشكيلة) بمجملها. إن البنية المتخلفة
تتحرك من الخارج، وهيَ إذ تشكل جزءًا من كل أكبر منها، على مستوى التبادل الحاكم فيها، تعجز بالضرورة عن تفسير
حركتها بنفسها، بل يفهم تطورها ضمن الإطار العام الذي يحركه
ثالثًا: الصناعة في البنى المتخلفة:
في تقديرنا أن الفصلين السابقين من هذه الدراسة قد اشتملا على المحددات
الجوهرية لبنية التخلف وآليات حركتها. أما الصناعة فلا يتعدى دورها مجرد كونها قطاع جديد في بنية التخلف وأحد
قطاعات الإنتاج الخاضعة لسيطرة الرأسمال التجاري ولمجمل ما ذكر من آليات بصدد إعادة
إنتاج التخلف، مع بعض
التعديلات الطفيفة.
رصدت بعض الكتابات الحديثة أن الصناعة لا تشكل نقيضًا لبنية التخلف.. غير
أن المشكلة تكمن في تحديد: لماذا ؟ لا شك أن القائلين بأن انتشار الإنتاج من أجل السوق والإندراج فيما يسمى
السوق
الرأسمالي
العالمي سيوافقون بالطبع على هذه الفكرة، ولكن انطلاقًا من وجهة النظر القائلة بأنه في كلتا الحالتين - وجود قطاع صناعي أو غيابه - يسود نمط الإنتاج الرأسمالي، وفي كلتا
الحالتين تكون البنية
متخلفة. وقد سبق لنا أنْ ناقشنا هذا التناقض. وعلى العكس اعتبرت كتابات أخرى أن إقامة مصنع ما تولد آلية معاكسة هادمة
لبنية التخلف (وخاصة ما يسمى بـ "تصنيع" عبد الناصر). وإن انتشار وجهة النظر هذه في صفوف اليسار بدرجات
متفاوته يعد تبريرًا كافيًا للتصدي لتلك المسألة وإيضاح خطورتها.
ونود أولًا أن نوضح أننا نعنى بكلمتي الصناعة والتصنيع شيئين مختلفين
تمامًا؛ فنستخدم الكلمة الثانية على الصعيد الاجتماعي - الاقتصادي
ونعتبر تحققها هدمًا لبنية التخلف ونشوءًا لتشكيلة اقتصادية - اجتماعية
بالقضاء على سيطرة الرأسمال التجاري؛ أما الكلمة الأولى فنستخدمها على الصعيد التقنى وتعني بها إقامة عدد من
المصانع أو القطاعات
الصناعية.. وهذه
- كما سنرى - ليست شرطًا كافيًا لتحطيم بنية التخلف بل تندرج في
إطاره، ويعبر انتشارها عن ظاهرة مختلفة تمامًا، هيَ نمو التخلف ذاته. من الصحيح تمامًا أن إقامة أيِّ مصنع
داخل إطار بنية التخلف أو غيرها - باستثناءات
نادرة - يعني
إقامة
رقعة من
نمط الإنتاج الرأسمالي؛ إذ يكون الشكل الاجتماعي للناتج الفائض هو فائض القيمة، كما تنشأ بروليتاريا صناعية. ولكن
ذلك لا يعني على الاطلاق سيطرة الرأسمال المنتج على بنية الإنتاج الداخلية وإقامة تشكيلة اقتصادية - اجتماعية رأسمالية تستند إلى سوق قومي.
تعني سيادة نمط إنتاج معين على أنماط الإنتاج الأخرى في أيِّ مجتمع متعين([19]).
تحويل الآلية العامة في ذلك المجتمع - التي
تتوسط الإنتاج وإعادة الإنتاج، بحيث تستجيب لمتطلبات استمرار ونمو نمط الإنتاج
السائد. وتتضمن تلك الآلية آليات اقتصادية واجتماعية وسياسية وايديولوجية، ويتم إنتاج وإعادة
إنتاج الأنماط الأخرى
للإنتاج في حدود من الشكل والحجم المناسبين لإنتاج وإعادة إنتاج النمط السائد، في إطار تلك الآلية العامة.
والتشكيلة الرأسمالية هيَ تلك التي يسود فيها نمط الإنتاج الرأسمالي، بالمعنى الذي وصفناه للسيادة، وشرط تحقق هذه
السيادة تصنيع البنية
الاقتصادية المحلية، بمعنى رسملتها.
لا يمكن أن يتم ذلك التحول إلا بسيطرة النمط الرأسمالي على القطاعات
المحورية في بنية الإنتاج المحلية. وليس المقصود بالقطاعات المحورية القطاعات التي تلبي أهم حاجات الاستهلاك
الضروري (كالغذاء مثلًا)، بل تلك التي تخلق طلبًا متعاظمًا على القطاعات المنتجة
الأخرى.. مما يدفع
الأخيرة لتجاوز مستوى قوى الإنتاج القائم بها. ويؤدي تكرار وانتشار هذه الآلية إلى توسع نمط الإنتاج الرأسمالي على حساب
الأنماط الأخرى وتصنيع البنية المحلية للإنتاج. كذلك تتكون قطاعات صناعية متشابكة على مستوى الإنتاج
والتوزيع والتبادل والاستهلاك.. وتشكل هذه التشابكات أساس السوق القومي؛ أيْ السوق الرأسمالي. نسمي هذه العملية التصنيع الرأسمالي (لأن التصنيع في بلدان
المعسكر الشرقي لم
يقم على هذا الأساس بل على أساس تحكم الدولة في الموارد الإنتاجية ووضع خطة موحدة لتنميتها)، وينتج عن ذلك
بالضرورة خضوع الرأسمال التجاري للرأسمال المنتج. وبالتالي تحوله لرأسمال تجاري رأسمالي([20]).
ونسمى القطاع المحوري الذي أوضحنا دوره توًّا القطاع القائد، والذي يتبدل مع
كل ثورة تكنولوجية. والقطاع القائد يوجد على المستوى القومي، بحيث يكون لكل اقتصاد قومي متعين قطاع قائد محلي
متعين يقود عملية
التصنيع أو إعادة التصنيع (الثورة التكنولوجية). والقطاع القائد ينحو لأن يكون عالميًّا باستمرار، لكونه أكبر
القطاعات وأكثرها ديناميكية في البنية الرأسمالية، ويعد لذلك أكثرها قدرة على القفز فوق الحدود القومية إلا أن الطابع
القومي للبرجوازية
يؤدي إلى استنساخ قطاعات قائدة رأسمالية قومية بدلًا من إقامة سوق عالمي ذي قطاع قائد واحد.
تدخل الصناعة بنية التخلف كقطاع جديد يعمق من التبعية، فهيَ إما أن تقوم على
أساس نمط الإنتاج الحديث الذي أنشأه الاستعمار في البنى المتخلفة (مثل نمط إحلال الواردات) بسبب النمو
النسبي للسوق في هذا القطاع، وإما أن تتوجه بانتاجها إلى السوق الدولي الذي تسيطر عليه
البنى
الرأسمالية.
وهكذا نرى أنه في كلتا الحالتين يستمد نمو الصناعة في البنى المتخلفة قواه ويضرب بجذوره في تربة التخلف نفسها
ويحفظ تماسكها. وقد يحدث أن يقوم الرأسمال بتصنيع بعض المنتجات المحلية - دون أن يعني ذلك تصنيع البنية المحلية - لخدمة القطاع الحديث صاحب الطلب الفعال في السوق المحلي
(أيْ في نفس إطار بنية التخلف). أما الصناعات المنزلية والقطاعات الكبرى في البنية المحلية للإنتاج، فتقف
دون تصنيعها حوائل
ضخمة. وسنقوم الآن بفحص الأشكال الأساسية لإدخال الصناعة في بنى التخلف، ونحلل دورها داخلها.
أ - احلال الواردات:
فعليًّا.. يعتبر إحلال الورادات احلالًا للواردات من السلع الرأسمالية
والوسيطة محل الواردات من السلع الاستهلاكية (ومنها المعمرة). وبالطبع تخدم هذه
الصناعة نمط الاستهلاك المستورد وتقوم بدعمه وتوسيعه وتزيد من النقل الداخلي لقطاع التصدير؛ إذ يؤدي نمو الاستيراد
من السلع الرأسمالية
والوسيطة إلى تزا يد الحاجة لتنمية قطاع التصدير لمعادلة ميزان المدفوعات. كذلك أدت هذه السياسة إلى زيادة
معدلات الاستهلاك الترفي وفشلت في اجتذاب الفائض المحلي واستثماره بسبب استنادها إلى نفس السوق الضيق
المميز لبنية التخلف
ومحاولتها توسيعه هو ذاته. لقد ضاعفت تلك الصناعة من تأثير التجارة على الاقتصاد الطبيعي (أو بقاياه). وكان
دورها الاجتماعي الرئيسي هذا هو الذي نالت من أجله تصفيق "اليسار" باعتباره دورًا
"تصنيعيًّا". وفي واقع الأمر كان ذلك القطاع يعمل
- محتميًا
خلف الحواجز الجمركية ورافعًا الشعارات الوطنية البراقة - على جني
ربحه بواسطة الاحتكار المدعم من قبل الدولة والمضاربة بالأسعار، بل والغش التجاري.. وما السلعة التي ينتجها سوى
وسيلة للدخول شريكًا
صغيرًا للرأسمال التجاري في عالمه: الاحتكار والمضاربة. ليربح الرأسمالي في تلك الصناعة مجرد تحقيق لفائض القيمة الذي
ينتجه؛ فالجزء الهام من هذا الربح مصدره المباشر التبادل وليس الإنتاج، كتحويل للقيمة من أشكال الإنتاج السابقة على الرأسمالية([21]).
ب- الصناعة التصديرية:
ليست الصناعة التصديرية سوى جزء من صناعة البنى الرأسمالية أعيد زرعه في البنى
المتخلفة لأسباب مختلفة: الصناعة كثيفة العمالة (للتغلب على مشكلة تدني معدل ربحها وارتفاع الأجور في البنى
الرأسمالية)، وتلك التي
تستهلك طاقة كبيرة أو كميات ضخمة من مواد خام معينة (للتغلب على مشاكل تكاليف النقل والحماية الجمركية)، أو
الملوثة للبيئة (للتغلب على القوانين المضادة للتلوث المطبقة في البلدان الرأسمالية). في كل هذه الحالات تقام
الصناعة المعنية في البنى المتخلفة كصناعة تصديرية.. إذ تحول انتاجيتها العالية وحجمها
الكبير بالنسبة للمستوى المتدني للإنتاجية العامة وضيق السوق الداخلي وتفككه في البنى
المتخلفة دون توجهها
للداخل على عكس نمط احلال الواردات. وبالاضافة إلى نزح جزء هام من الفائض وتحويله للبلد الأم يجري استنزاف بنية
التخلف بالانفاق على البنية التحتية اللازمة للنمو الرهيب في قطاع التصدير، ويزيد الالتواء لصالح القطاعات غير المنتجة.
هكذا نرى أنه في جميع الأحوال تقوم الصناعة في البنى المتخلفة بتوسيع السوق
الدولي باغراق البلدان المتخلفة فيه، كما تزيد من الالتواءات لصالح القطاع غير المنتج بسبب ما يرافقها من توسع
الأنشطة الهامشية
غير المنتجة والانفاق على نمط معين من البنية التحتية لا يخدم الإنتاج المحلي، والتوسع في تنقيد البنية وإدماج
قطاعات متزايدة منها في السوق الدولي وامتداداته في السوق المحلي، والفشل في رسملة قطاع الإنتاج الداخلي([22]).
يتضح لنا إذن أن الصناعة - في جميع الأحوال - تدخل بنية التخلف
كجزء من القطاع الحديث خارج البنية الداخلية للإنتاج، وإنها تعجز عن القضاء على أشكال الإنتاج (السابقة
على
الرأسمالية)
فتتعايش معها ولا تؤثر فيها من حيث الجوهر، سوى تأثير التجارة المعتاد، تحطيم أشكال الاقتصاد الطبيعي وربط عملية
الإنتاج بالقيمة التبادلية. إن هامشية هذه الصناعة تجعلها عاجزة عن استيعاب نتاج تحطيم أشكال الاقتصاد الطبيعي؛
فتنتشر البطالة.
وبسبب عجزها عن إقامة قطاع قائد تفشل في استيعاب حتى المواد الخام التي تنتجها البنية، وبالعكس يزداد ثقل قطاع
التصدير كما سلف الذكر.
وقد يرى البعض أن تحويل القيمة من القطاعات السابقة على الرأسمالية - كما أوضحنا - إلى الصناعة،
والمدعوم في كثير من الأحيان بإجراءات حكومية، إنما يشكل تعبيرًا عن سيطرة الرأسمال الصناعي على أنماط الإنتاج
الأخرى، ويشكل نوعًا من التراكم البدائي، بحيث تصير تلك الأنماط مجرد "بقايا" أنماط إنتاج قبل
رأسمالية. فلنتداول هذه الفكرة قليلًا: تحول الرأسمالية أنماط الإنتاج الأخرى إلى مجرد
"بقايا" بأن تطور قوى الإنتاج في نفس قطاعات تلك الأنماط المعينة؛ أيْ بتصنيع - رسملة - تلك القطاعات بحيث
تواجه أنماط الإنتاج المذكورة عقبات متزايدة في عملية الإنتاج وإعادة الإنتاج وتعجز تدريجيًّا عن البقاء.
وإذن يجب أن يكون النمط الجديد قادرًا على انتزاع الامكانات البشرية والمادية التي تشكل أساس أنماط الإنتاج
"السابقة". وعلى العكس من ذلك نجد قطاع الصناعة عاجزًا عن ابتلاع البطالة الضخمة في
البلدان المتخلفة،
وعن تدمير الركود المعتاد في الريف ورسملة الزراعة، وعن القضاء على أساليب الإنتاج قبل الرأسمالية في المدن.
والمعروف أن أهم معالم بنية التخلف هو إعادة إنتاج الأنماط السابقة على
الرأسمالية باستمرار. ليس هناك إذن تراكم بدائي بالمعنى الدقيق للكلمة في البلدان المتخلفة (أيْ تلك الصيرورة التي
أنشأت الأسس الاقتصادية - الاجتماعية لنمط
الإنتاج الرأسمالي)؛ فقط هنا نهب يترتب عليه "تراكم" البروليتاريا الرثة من جهة، والمال في قبضة
الرأسمال التجاري من جهة أخرى. في هذا الإطار يأتي نهب الأشكال السابقة على
الرأسمالية فهو يأتي في الحدود التي لا تهدد الوجود الاجتماعي الكثيف لتلك الأنماط (بدليل إعادة
إنتاجها). وفضلًا عن ذلك، فحصة الرأسمال الذي يعمل في القطاع الصناعي من نتاج ذلك النهب
يأتي من وضعه كعقدة في
الرأسمال التجاري
- بتعبير
كوهاشيرو تاكاهاشي - وليس
نتيجة
لدوره
الثوري في تطوير القوى المنتجة غير الحادث أصلًا على مستوى بنية الإنتاج الداخلية.
إن النتيجة التي نخرج بها من ذلك هيَ: إن قطاع الصناعة لا يختلف أيَّ اختلاف
جوهري عن القطاعات الأخرى قبل الرأسمالية في خضوعه للرأسمال التجاري. وكجزء من القطاع الحديث في بنية التخلف
يمارس دوره في تعميق
التبعية وإغراق بنية التخلف في السوق الدولي. وباعتباره قطاعًا رأسماليًّا، يتقاسم
مع الرأسمال التجاري نتاج نهب قطاعات الإنتاج المتخلفة، تبعًا لمدى مناعة وضعه الاحتكاري وليس كنتيجة لدور مزعوم له في تطوير القوى المنتجة. لابد لنا الآن من التعرض للجوانب السياسية لأطروحة
"التشكيلة الرأسمالية المتخلفة"، آخذين في الاعتبار أن ادخال الصناعة في البنى المتخلفة، خاصة في صورة احلال واردات،
قد ضلل اليساريين
في البلدان المتخلفة واستولى وهم "البورجوازية الوطنية" أو
"القومية" في الستينات على وعيهم، بشكل أدى لنتائج كارثية على صعيد حركة الجماهير السياسية.
**************************
رابعًا: التخلف على الصعيد السياسي:
سنضع هنا مفهومنا حول التخلف، كنقيض لمفهوم التشكيلة الرأسمالية المتخلفة
على الصعيد السياسي. والنظرية الأخيرة تستتبع حتمًا القول بوجود بورجوازية قومية )National bourgeoisie)، سائدة على المستوى الاقتصادي - الاجتماعي،
ولكن دون أن يستتبع ذلك استلاؤها في كل الأحوال على جهاز الدولة. وفي هذا الإطار تجرى محاولة هذه النظرية حل
معضلة تفسير التخلف
على المستوى السياسي.
والمعضلة الأولى التي تواجهها تلك النظرية - وهيَ معضلة محرجة حقًّا - هيَ غياب الصناعة الكبيرة وتدنى درجة نمو المدن بشكل
عام في بعض البلدان المتخلفة.. أيْ غياب الحد الأدنى من الصناعة الحديثة اللازم لإسقاط وهم "البورجوازية
القومية" على ملاكها. والاسوأ من ذلك أن بعض الثورات "الاشتراكية" وقعت
في بلدان متخلفة تتميز بهذه الخصائص (أهمها: فيتنام). والمعضلة هنا ناتجة عن الاطروحة
الأساسية القائلة بأن بنية التخلف هيَ تشكيلة رأسمالية متخلفة.
أما إذا توفرت للبنية المتخلفة صناعة حديثة، حتى لو كانت مؤممة (مصر في
عهد عبد الناصر)، فسرعان ما يتم إسقاط مقولة البورجوازية القومية عليها. تنبع كل هذه الاخطاء من عدم فهم دور
الصناعة داخل بنية
التخلف كعقدة في الرأسمال التجاري، بحيث تشكل دورة الرأسمال الصناعي جزءًا
من دورة
الرأسمال التجاري المهيمنة داخل بنية التخلف، وبدلًا من ذلك يتم إسقاط نتاج التجربة التاريخية للبلدان الرأسمالية على البلدان المتخلفة؛
فتصاغ كل الإشكال في نهاية الأمر في عبارة واحدة: إما أن تكون الصناعة رأسمالية
وإما أن تكون اشتراكية؛
فإذا ما استبعدنا الفرض الأخير، لن يتبقى لنا سوى الفرض الأول.
ولكن إسقاط فكرة البورجوازية القومية على الصناعة داخل بنية التخلف لا
يكفي لحل مشاكل نظرية التشكيلة الرأسمالية المتخلفة.. فالمعضلة الكبرى هيَ ايجاد حل للتناقض القائم بين الإدعاء
بوجود تلك الطبقة
وسيادتها على المستوى الاقتصادي - الاجتماعي (على أقل تقدير)، وبين الظاهرة المعلنة والمتفق عليها: عدم انجازها ما
يسمى بـ "مهام الثورة البورجوازية"([24]) حتى لحظة كتابة هذا
المقال، إننا نجد أنفسنا هنا في وضع غريب: طبقة سائدة على المستوى الاقتصادي - الاجتماعي ولكنها لا تتحقق تاريخيًّا؛ إذ إنها - بشهادة كل الأطراف - لم تنجز "مهامها". ونلاحظ هنا فورًا أن اطروحة
"الرأسمالية المتخلفة" عاجزة بحكم منطقها ذاته عن ايجاد مهرب من تلك
المشكلة: فعليها
إما أن تعزو "فشل البورجوازية القومية" إلى أسباب ذاتية تخص ذات
"الطبقة" ويعني ذلك بالضرورة أن البورجوازية المتخلفة طبقة مختلفة
تمامًا - تاريخيًّا - عن "البورجوازية المتقدمة" في البلدان الرأسمالية، وبالتالي
لا يوجد مبرر لترسيمها طبقة برجوزاية أصلًا.. ناهيك عن وصف مسيرتها التاريخية بالفشل.. لأننا
نكون في هذه الحالة
بصدد طبقة جديدة لم توجد تاريخيًّا قبل إنشاء بنية التخلف، ومن المنطقي إذن ألا توكل إليها مهام لا تخص "دورها
التاريخي".. أو أن تعزو ذلك الفشل إلى أسباب خارجية مختلفة (الخوف من الحركة الجماهيرية، ضراوة الصراع مع
الإمبريالية... الخ)، بما يعني في التحليل الأخير أن البورجوازية القومية "تمتاز"
بأنها طبقة منفصلة بشكل تاريخي عن شروط تحققها التاريخي!! أيْ أنها (على وجه الدقة) طبقة دون - كيشوتة! أما بالنسبة للاتجاهات التي تؤكد - أيضًا - أنَّ البورجوازية القومية المزعومة ستعجز في المستقبل عن
تحقيق هذه المهام.. فالأمر يبدو فكها للغاية، لأن هذا التوكيد يعني ضمنًا أن "دور الطبقة
التاريخي" قد انتهيَ قبل أن يبدأ..
يبدو لنا ذلك النقد كافيًا، ولكن لا بأس من بعض التوضيح، كي تتاح لنا مناقشة
الأسباب المختلفة التي يعزى إليها ما يسمى بـ"فشل" البورجوازية القومية:
أ - في كثير من البلدان المتخلفة سبقت البروليتاريا البورجوازية الصناعية المحلية من
حيث النشأة، بسبب دخول
الرأسمال الأجنبي في البلاد وإنشائه لصناعات حديثة (كالصناعة الاستخراجية) قبل إنشاء صناعة محلية. ويرى البعض، بسبب هذا الظرف
التاريخي، أن البورجوازية
المحلية عاجزة عن انجاز مهامها خوفًا من الجماهير، ومن البروليتاريا تحديدًا. بيد أن ذلك التفسير لا يبدو
مقنعًا:
فالطبقة مقولة أساسية من مقولات الماركسية تمتد بجذورها العميقة إلى تطور
قوى الإنتاج، وعلاقات الإنتاج، ومنها تستمد وجودها الحقيقي.. ومقولة هذا شأنها، يصبح من السخف إرجاع
"عدم تحققها" إلى آلية سياسية كهذه؛ تلك الآلية التي تعجز في عالمنا المعاصر عن ايقاف
جماعة ضغط سياسية في
الكونجرس الأمريكي! وفضلًا عن ذلك فقد وفر التاريخ للبرجوازيات القومية المزعومة - أحيانًا - فترات طويلة من الاستقرار السياسي في البلدان المتخلفة،
دون أن تتحقق النتيجة المأمولة، وهيَ تحقق البورجوازية القومية (مثل مصر في عهد عبد الناصر، الهند،
البرازيل.. ).
إن الطبقة السائدة - في النظرية الماركسية - تقوم بتشكيل مجمل
البنيتين التحتية والفوقية وإعادة تشكيلهما، بفعل وجودها نفسه، كـ "التجسيد" الفعلي لنمط الإنتاج السائد. والمستوى
السياسي بمجمله - شاملًا جهاز الدولة - لا يعدو أن يكون أحد
آلياتها في إنتاج وإعادة إنتاج التشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية التي تسودها. كل ذلك يتم تجاهله ببساطة مع اعتناق مقولة "الخوف
من الجماهير".
ب- أما التفسير الآخر فهو مقاومة الإمبريالية لتحقق البورجوازية القومية،
ذلك التفسير الذي يتجاهل أن إنتاج وإعادة إنتاج تلك "البورجوازية القومية" المزعومة، أيْ ملاك
المصانع، يجري عبر السوق الدولي وبفضل الإمبريالية التي تقدم الطلب الفعال الضروري لاستمرار ونمو هذه
الصناعة، وتمدها
بالتجهيزات الحديثة والخبرة التقنية عالية المستوى، وتوفر لها أسواقها أيضًا.
يكمن حل تلك المعضلة ببساطة في إدراك أن البورجوازية الصناعية في البلدان
المتخلفة، كعقدة في الرأسمال التجاري، تمارس أسلوبها في التراكم، وما يرافقه من أساليب الإنتاج والتوزيع
والتبادل في إطار ذلك الوضع، وأنها إذن لا تشكل طبقة بالمعنى العلمي، لأنها على
مستوى البناء التحتي تحصل على أرباحها كجزء من الرأسمال التجاري. وانعكاس ذلك على المستوى
الفوقي: "رفضها" إيجاد أيديولوجيا مستقلة؛ فلا ترفع شعارات العلمانية
والقومية... الخ، بصورة جذرية. باختصار إذن إن عجزها عن "تحقيق المهام البورجوازية"
يكمن في كونها ليست طبقة بالمعنى العلمي.
ج- أما عن علاقتها بالبورجوازية الكمبرادورية والملاك العقاريين، فهيَ
علاقة الشركاء تحت سيطرة الرأسمال التجاري؛ فالبورجوازية التجارية هيَ شريان
الحياة بالنسبة لها، والملاك العقاريون هم أشقاؤها الذين يمدونها بالمواد الخام ويشترون سلعها المعمرة. ولا ننفي بالطبع
الاحتكاك الحاصل
بين مصالح هذه الفئات
الاجتماعية وبين كل منها وبين المصالح الإمبريالية بدرجات متفاوتة في أزمنة
مختلفة، ولكن ذلك لا يمثل أكثر من الضجة المعتادة الناتجة عن طقوس المساومة المقدسة التي تصم أدنى كل مواطن تدفعه للمرور عبر
أيِّ سوق قروي!
وبقدر تقسيم العمل في البلدان الرأسمالية، وانعكاس هذا على الطلب الفعال
في السوق الدولي، بقدر ما تنشأ صناعات حديثة في البلدان المتخلفة، وبقدر ما يزداد دور "البورجوازية
القومية" في دورة الرأسمال التجاري في البلد المتخلفة وبالتالي يزداد ثقلها السياسي
النسبي، بيد أن ذلك الثقل - كما
استنتج القارئ، ليس ثقلها باعتبارها طبقة اجتماعية سائدة.
د- تضيف الاتجاهات الماركسية الراديكالية فكرة أخرى بصدد العلاقة مع
الإمبريالية وهيَ تبعية البورجوازية القومية لتلك الإمبريالية، لدرجة وصف الحكم في بعض الدول المتخلفة بعد انتهاء
الاحتلال الإمبريالي
العسكري، بأنه حكم الإمبريالية غير المباشر. بيد أن ذلك "الحل" لا يبدو موفقًا.. لأن الطبقة الاجتماعية، طبقًا
لمفهومها (لها دور مباشر في إنتاج وإعادة الفائض الاجتماعي)، لا يمكن أن تكون
تابعة، أيْ لا يمكن أن تلعب دور الوسيط لطبقة أخرى، أو أن تمارس دور الوكيل لها.
وحتى البروليتاريا في البلدان الرأسمالية ليست طبقة تابعة،بل مضطهدة([25]).
هـ - ليست الإمبريالية فقط، بل والثوريون أيضًا يعانون من ظاهرة هشاشة الاستقرار السياسي والذى تعرف
به البلدان المتخلفة؛
فقليلًا ما استمر أيُّ توازن سياسي - اجتماعي
في
البلدان
المتخلفة لفترات ممتدة من الزمن في القرن العشرين. وكالمعتاد يجري البحث خلف كل إنعطاف سياسي عن طبقة اجتماعية،
بدلًا من فهم طبيعة البنية الاجتماعية نفسها، حتى صارت الكتابات السياسية الماركسية كالبورصة، تصعد وتهبط فيها أسهم
مختلف
الطبقات
بسرعة البرق. تعود تلك المادية الفجة جزئيًّا للخلط بين الصناعة والرسملة بحيث
ينظر
- على سبيل
المثال
- لحقبتي
عبد
الناصر
والسادات في تاريخ مصر المعاصر كحقبتين تسيران في خطين متناقضين: الأولى نحو الاستقلال والثانية نحو التبعية،
وجزئيًّا لاعتبار التخلف تشكيله اقتصادية - اجتماعية، يتحكم فيها بالتالي الصراع
الداخلي وفي كل الأحوال تعود تلك المادية الفجة لاختلاط المفاهيم وغياب المحددات المنهجية الواضحة.
إن بنية التخلف، كنقيض للتشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية، عاجزة بالضرورة عن إنتاج آلية
سياسية للتوازن
وإعادة إنتاجه، وعلى العكس تتفاقم الأزمات السياسية والتناحرات الاجتماعية داخل إطار التخلف بالضرورة، كما يكون
الجهاز السياسي ككل عرضه للتأثر العنيف بالتوازنات السياسية الدولية:
1- إن إنعدام توازن بنية التخلف ككل (نتيجة
لغياب نمط إنتاج سائد)، يخلق ويعيد خلق توترات اجتماعية بالغة الشدة؛ فتزداد البطالة العادية والمقنعة بابعاد هائلة غير
مسبوقة. كما أن عمليات إعادة بناء الاقتصاد المتلاحقة مع كل تغير في موقع البلد المعنى من تقسيم العمل
التقني الدولي يؤدي
لحراك اجتماعي سريع وعنيف. كذلك فإن إزدواج بنية التخلف يجعل القطاع المتأخر (قبل
الرأسمالي) يفرز جماعات معادية للتحديث يفاقم من تأثيرها البعد القومي إذا وجد.
2- إن تعدد أنماط الإنتاج وهيمنة الرأسمال التجاري يحيل الثقل في توزيع
الفائض الاجتماعي إلى آليات الرأسمال قبل الرأسمالي (كالاحتكار والمضاربة). وهيَ آليات غير اقتصادية - بالمعنى الضيق للكلمة - تعتمد بالضرورة على مقدرة كل طرف من أطراف
الفئات الحاكمة
على الإمساك بجهاز الدولة وتوجيهه لمصلحتها. وبذلك يكتسب صراع المصالح المتضاربة بعدًا سياسيًّا هامًّا؛ إذ تعمل
الجماعات المختلفة على تكوين اوليجاركيات توجه جهاز الدولة لصالحها بالذات([26]).
3- إن كل تبدل يحدث لاقتصاديات البلدان المعنية في موضعها من تقسيم العمل
التقني الدولي، يغير بسرعة من الوزن النسبي لمختلف الفئات الحاكمة، لصالح تلك التي تشترك بنصيب أعظم في
دورة الرأسمال التجاري
مع إنشاء القطاعات الجديدة([27]).
4- تؤثر التوازنات السياسية الدولية تأثيرًا جوهريًّا على التوجه السياسي
الداخلي والخارجي للبلدان المتخلفة، لأن استمرار بنية التخلف مشروط باستكمال دورة الرأسمال في الخارج (أيْ في البلدان
الرأسمالية). إن كل تغير في موازين القوى بين البلدان الإمبريالية، وكل ما يطرأ
على تطورها الخاص بحيث يغير من شروط سيطرتها على السوق الدولي يؤدي لتبديل الشروط
السياسية التي يعمل في ظلها نظام الحكم. كل تلك المتغيرات تؤدي لعدم استقرار نظام الحكم
لفترة ممتدة كما تضعف
كثيرًا من إمكانية تطبيق أيِّ صيغة سياسية سلمية لفترة طويلة. ولا نكون إذن مبالغين إذا قلنا إن الفئات الحاكمة في
البلدان المتخلفة تجلس على برميل بارود، ناهيك عن كون هذه الفئات نفسها معبأة به حتى أنوفها.
**********************
نود هنا تأكيد استنتاج رئيسي.. هو غياب طبقة اجتماعية سائدة كنتيجة منطقية
لغياب نمط إنتاج سائد في بنية التخلف. أما البورجوازية التجارية، فهيَ لا تشكل طبقة، إذ ليس لها دور مباشر في
عملية الإنتاج الاجتماعي
وإعادة الإنتاج. أنها تستمد قوتها من تفكك بنية التخلف، وتسيطر على الفئات الاجتماعية المالكة الأخرى
باعتبارها التجسيد الاجتماعي لعلاقة التبعية؛ العلاقة التي تشكل محور بنية التخلف. (بينما يشكل نمط الإنتاج السائد
محور التشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية).
وبهذه الصفة تمثل سيطرتها القاسم المشترك الأعظم في كل البلدان المتخلفة، سواء كانت حضارات زراعية قديمة
أورعوية أو مشاعية، وأيًّا كانت درجة تطور الصناعة بها، وكذلك على مستوى البلد الواحد في
كل العهود "التقدمية" و"الرجعية"، وعبر كل الانقلابات
العسكرية والسياسية.
****************************
الخاتمة:
حاولنا في الاطروحة التي فرغنا على التو من عرضها، أن نعيد عرض ظاهرة التخلف،
واضعين إياها في السياق التاريخي العيني، وخلق المقولات التي تعبر عن جوهر الظاهرة ومسارها كظاهرة تتميز ببنية
اقتصادية
- اجتماعية
لها خصائص معينة، فضلًا عن بناء فوقي متميز في خطوطه العريضة، في مواجهة نظرية الرأسمالية المتخلفة (أو الرثة أو
المشوهة). لقد عرضنا الظاهرةعرضا ايجابيًّا، وليس سلبيًّا يستند إلى الفحص المقارن بحثًا عن جزئيات الاختلاف عن ما
يسمى الرأسمالية المتقدمة. تلك في رأينا هيَ الشروط الأساسية لأيِّ أطروحة تدعي محاولة
تأصيل المنهج العلمي- الماركسي في واقع
عيني.
ليست بنية التخلف مشوهه.. بل هيَ نتاج ظروف تاريخية معينة، ويعاد إنتاجها كل
يوم بواسطة مئات الملايين من الكادحين في البلدان المتخلفة وعلى حسابهم. ويدخل هؤلاء خلال هذه العملية في
علاقات اجتماعية متعينة وضرورية ومستقلة عن إرادتهم، تحدد مجمل ظروف معيشتهم وأفكارهم
وطموحاتهم.
إنَّ نظرية تدعي أن هذه الشعوب تعيش منذ قرن على الأقل في ظل علاقات رأسمالية
مشوهة، وأخرى قبل رأسمالية لا تقل تشوها.. يعاد إنتاجها بشكل مشوه في ظل بنية
اجتماعية
- اقتصادية تعاني من تشوهات أو التواءات معينة، هيَ في
واقع الأمر نظرية رجعية دوجمائية تحكم على نفسها - بحكم
جمودها إزاء الواقع - بالعقم،
بل
والتشوه.
إن هذه الأشكال الاجتماعية العينية التي يعاد إنتاجها باستمرار في إطار بنية التخلف تشكل الحقيقة بعينها.. الحقيقة
الملموسة. الحقيقة دائمًا نسبية لأنها ظرفية، لكنها ليست مشوهة، وإن نظرية تسقط عجزها بهذا الوضوح على
الواقع "التاريخي" ليست سوى نظرية معادية للواقع والتاريخ، وبالتالي للجماهير، التي لا
يحدد هذا الواقع
حياتها فحسب ولكنه يشكل أيضًا شرط تحررها من هذه الحدود.
من وجهة النظر الجدلية، لا يمكن اعتبار
الاقتصاد السياسي علمًا قائمًا بذاته، سواء من حيث موضوعه
أو منهجه، على عكس وجهة النظر الوضعية التي تقيم حوائط فاصلة بين مختلف
العلوم الاجتماعية، ومن ثم سيرد هذا التعبير دائمًا بمعنى الاقتصاد السياسي الوضعي.
يعد الاعتماد على العمل المنزلي للحرفيين والفلاحين في الريف - السابق
لمرحلة المانيفاكتورة - أحد أشكال سيطرة الرأسمال التجاري على نمط الإنتاج الصغير،
ولا يعد بأيِّ حال نمطًا رأسماليًّا للإنتاج.
على مستوى المفهوم يكون نمط الإنتاج الرأسمالي - كما قالت روزا
لوكسمبورج - هو إنتاج فائض القيمة؛ أيْ أنه العملية التي يتم بها إنتاج الفائض
الاجتماعي بواسطة العمل المأجور.. وهذا يميزه عن أنماط الإنتاج الأخرى جوهريًّا. ليس
هذا فحسب بل إنه - بما هو كذلك - يحدد نفسه بهذه الآلية، فبغض النظر عن المقارنة
بينه وبين أنماط الإنتاج الأخرى فإن إنتاج فائض القيمة هو الذي يحدد جوهريًّا
آليات عمل وسيروة الرأسمالية.. فهو يقوم بالنسبة لها بدور (العامل الأول).. الحاسم.
هو مثلث العبيد - السكر- الذهب - المنتجات المانيفاتورية بالإضافة إلى
توابل شرق آسيا وغير ذلك.
"وبمجرد أن تكتسب الصناعة الكبيرة قوة كافية فإنها تخلق بدورها
سوقها لنفسها بالاستيلاء عليها عن طريق سلعها. عند هذه النقطة تصبح التجارة خادمة
الإنتاج الصناعي الذي يصبح توسع السوق بالنسبة له ضرورة حيوية". (كارل ماركس،
رأس المال، ج 3، ص 358، ترجمة راشد البراوي).
منها في مصر مثلا: المأكولات الشعبية والزيّ الشعبي والمسكن القروي المعتاد
وأدوات الإنتاج التقليدية… إلخ.
ستكشف خلال هذا المقال أن تكامل البنية الإنتاجية في أيِّ مجتمع متعين
شرط أساسي لوجود تشكيلة اقتصادية اجتماعية، وهيَ التي تكفل وحدة قوى الإنتاج
وعلاقات الإنتاج. أما في بنية التخلف، ونتيجة لغياب هذا الشرط تتفكك هذه الوحدة
بين مختلف علاقات الإنتاج بفعل السيطرة الامبريالية. هذه الوحدة إذن مشروطة، وإن
كانت شروطها متوفرة تلقائيًّا في مراحل التاريخ المختلفة عدا الحالة الخاصة
المسماه "بنية التخلف".
هذا بالنسبة لتقسيم العمل على مستوى المجتمع ككل، وليس بالنسبة لتقسيم
العمل على مستوى الوحدة الإنتاجية، فالتقسيمات الجديدة للعمل داخل المصنع (مثلًا)،
والتي تتغير بمعدلات سريعة، لا تسفر عن علاقات اجتماعية جديدة على مستوى مجمل
عملية الإنتاج، أيْ علاقات طبقية جديدة، وأن كانت تسفر عن تحولات معينة في
العلاقات الاجتماعية على مستويات أقل جذرية: نشوء أرستقراطية عمالية مثلًا.
ترتبط تلك الرؤية في الاقتصاد السياسي بالبحث عن أسس الرأسمالية في أيِّ
تبادل نقدي (الذي يقوم بالطبع على الإنتاج من أجل السوق) ويجري البحث عن تلك الأسس
- إذن - في الحضارة اليونانية - الرومانية.
الاتجاه التاريخي لتطور مجتمع معين هو الاتجاه الذي يتطور عضويًّا عن
التركيب الداخلي (الطبقي) للمجتمع، بحيث يكون وجود المجتمع المعنى بالفعل يعني في
جوهره وجودًا آخر للمجتمع بالقوة.
كذلك قد توجد حالات استثنائية، يقوم فيها الرأسمال التجاري بالاعتماد
على مصادر خارجية للدخل، مثل البترول والسياحة (أو تحويلات العاملين خارج البلاد
مثل مصر والمغرب في السبعينات والثمانينات)، حتى في ظل غياب أو تراجع أنماط
الإنتاج قبل الرأسمالية. هنا أيضًا يكون لدينا بنية تابعة يسودها الرأسمال التجاري
الذي يتوسط آليات التبعية.
انظر بهذا الصدد: كارل ماركس، رأس المال، ج 3، ترجمة راشد البراوي،
الفصول 16 - 19.
رغم أن نسبة التجارة الخارجية / الدخل القومي في الدول المتقدمة تفوق
نفس النسبة لدى أغلب الدول المتخلفة، ألا أن نسبة التجارة الخارجية / الداخلية
أكبر في الدول المتخلفة بمراحل بسبب ضيق السوق الداخلي.. أيضًا؛ فإن تفكك البنية
المحلية للإنتاج يعطي وزنًا جوهريًّا للتجارة الخارجية، باعتبارها الشريان الحيوي
الضروري لعملية إعادة الإنتاج في القطاعات المختلفة يفوق حتى وزنها الكمي الضخم
أصلًا.
تتخذ الرأسمالية المعاصرة طابعًا احتكاريًّا، ولكن في إطار مختلف تمامًا؛
فالاحتكار هنا يتحرك ضمن حدود قوانين نمط الإنتاج الرأسمالي، وينتزع أرباحه
الزائدة من فائض القيمة الذي تنتجه المشاريع الأخرى. وحتى في هذا الإطار فإن دوره
تحكمه المنافسة الرأسمالية بين الاحتكارات، ناهيك عن أن الشركات الاحتكارية هيَ
بالدرجة الأولى شركات صناعية، وليست تجارية.
المجتمع هو مجموعة من البشر يشتركون في عملية واحدة لإنتاج وإعادة
إنتاج شروط استمرار الجماعة الاقتصادية والاجتماعية شاملة إعادة إنتاج البشر.
في هذا الوضع يصبح رأس المال التجاري مجرد رأس مال صناعي متحور؛ الجزء
من رأس المال الذي يعمل في مجال التبادل ويحصل بالتالي على معدل الربح الوسطي. بالمقابل
نستطيع القول إن رأس المال الصناعي في بنية التخلف يشكل جزءًا من رأس المال التجاري.
وأسبقية رأس المال الصناعي أو رأس المال التجاري في الحالتين هيَ أسبقية منطقية
وليست بالضرورة أسبقية زمنية.
هناك شكل آخر لهيمنة الرأسمال التجاري على الصناعي، وهو التاجر الصناعي
"الذي يحول.. صغار الأسطوات إلى وسطاء له، أو يشتري مباشرة من المنتج تاركًا
إياه مستقلًا بالاسم، وتاركًا أسلوبه في الإنتاج دون تغير"، كارل ماركس،
المرجع السابق، ج 3، ص 58. ونستطيع أن نرصد تلك الظاهرة في أغلب الصناعات الحرفية
الكبرى: الجلود، الأثاث، وفي صناعات موجهة للسوق الداخلي، ويلجم الرأسمال التجاري
تطورها وينهيها بالسيطرة على منافذ التوزيع.
إن تسمية المهام (تحقيق الديموقراطية
والتصنيع وحل المشكلة الزراعية والمسألة القومية) مهام برجوازية يكاد أن يكون سمة مشتركة لليسار الماركسي بكافة مدارسه - على قدر
علمنا - بما فيهم أولئك الذين ينحون البورجوازية المحلية في البلدان المتخلفة عن
انجاز تلك المهام ويضعونها في معسكر الثورة المضادة! وتلك حالة توضح لنا ارتباط
تلك النظرية بإسقاط تجربة البنى الرأسمالية على بنى التخلف. بل إن عملية إحالة
تحقق (مهام الثورة البورجوازية) إلى البروليتاريا نفسها، توضح مدى عجز مجمل ذلك
الاتجاه عن تأصيل الماركسية في الواقع في البلدان المتخلفة. وارتباطه بالأطروحة
المستندة إلى التاريخ (الأوروبي): إما البورجوازية أو البروليتاريا.
البورجوازية الأوروبية (تابعة) للبرجوازية الأمريكية من حيث النظام
النقدي مثلًا، ولكنها ليست تبعية بنيوية، ولا تقوم البورجوازية الأولى بدور الوكيل
للأخيرة.
يلاحظ كل المشتغلين بدراسة اقتصاديات التخلف - بهذا الصدد - تعاظم دور
جهاز الدولة في تركيز الموارد وتوزيعها. ونلاحظ أن (الفساد الإداري) المشهور في كل
البلدان المتخلفة، جزء لا يتجزأ من آلية عمل الجهاز نفسه؛ إذ أن الفساد بالتحديد
هو الوسيط الأهم والحاسم للتوفيق بين مصالح الأوليجاركيات المختلفة والتعبير عن
نفوذها النسبي، مما لا تستطيعه أيُّ قوانين أو لوائح.
كذلك يترتب على هذه الظاهرة إنخداع اليسار بطبيعة هذه الصراعات؛ لذا
عادة ما يُنسب إلى أحد الأطراف دورًا وطنيًّا لمجرد أنه قد أظهر معارضة أكبر
لتوجهات اقتصادية معينة تحبذها الامبريالية، وإن كانت لا تعادي بالكامل بدائل هذا
الطرف.