هذه دعوة للعمل على مناهضة قوى الظلام

واستمرار ركب الحضارة الحديثة

This Is A Call To Work Against The Forces Of Darkness And For Promotion Of Modern Civilization


أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 7 مايو 2011

مسار وآفاق الثورة المصرية



عادل العمري
30 أبريل 2011

إنجازات الثورة حتى الآن:
حققت الثورة المصرية حتى الآن تغيرات مهمة رغم أنَّ بعض القوانين صارت أكثر قمعية والسلطة أكثر عنادًا من سلطة مبارك:
-         فقد صفيت قطاعات مهمة من النخبة الحاكمة، بل تم طرد الفرعون شخصيًّا وتقديمه للمحاكمة هو وعائلته لأول مرة في تاريخ مصر.
-         وقد تحرر الشعب من الخوف من الدولة، وهذا يتجلى في علاقة الناس بالشرطة حاليًّا؛ فعلى العكس أصبحت الشرطة تخاف من الشعب، وصارت هذه عقدة لن تزول بسهولة.
-          ومن أهم الإنجازات إضعاف النظام الشمولي وتفكيكه جزئيًّا، خصوصًا بعد حل جهاز أمن الدولة وحل الحزب الحاكم وتحريرالنقابات. وقد صار النظام غير قادر حتى على تطبيق قوانينه القمعية بالكامل. ولكن مازالت الدولة تسيطر على جزء كبير من الاقتصاد، وترسم خطط التعليم، وتهيمن على القطاع الأكبر من الإعلام، ومعظم منابر الخطاب الديني، وتفرض ما يسمى بالدين الرسمي (الإسلام السني)، ولا تعترف بأديان أخرى سوى المسيحية واليهودية؛ فحتى الشيعة والقرآنيون مضطهدون، وكذلك البهائيون، ولا يستطيع الملحدون الإعلان عن هوياتهم، لا رسميًّا ولا فعليًّا.
-         أصبح اهتمام المصريين بالسياسة أكثر بكثير، كما ارتفع الوعي الطبقي والسياسي للملايين، وانطلقت الحركة العمالية.
-         كما ترتب على قيام الثورة نمو كبير للتيارات الليبرالية، ورغم علو صوت الإسلاميين بكل أطيافهم، إلا أنَّ جمهورهم قد تضاءل، بعد انكشاف تغليبهم لمصالح منظماتهم على المصالح العامة، وترددهم بين الانضمام الكامل للثورة والتفاوض مع النظام، كما صارت سمعة السلفيين بالذات في التراب، بعد أنْ أظهروا وحشيتهم وبدائيتهم. وقد بدأ الإسلام السياسي يتحول إلى حزب أو أحزاب شرعية، ودخل معترك الحياة السياسية على أسس "دنيوية"، متخليًا عن بعض شعاراته الدينية، وما يعتبر ضمن المبادئ المحددة في الشريعة الإسلامية.
-         كما صارت هناك الكثير من الأمور المفتوحة للنقاش العام بعد أنْ كان الاقتراب منها محفوفًا بالمخاطر: منها المادة الثانية للدستور، وفصل الدين عن الدولة، والتحول من النظام الرئاسي للنظام البرلماني.
-         ومن أهم إنجازات الثورة الحاجز النفسي الذي كونته أمام أيِّ سلطة ولمدة طويلة لممارسة الفساد على نطاق واسع، أو لقمع الجماهير على طريقة جهاز أمن الدولة. فكل مسؤول بالدولة لن ينسى مصير سابقيه القابعين الآن في السجن، وكل شرطي لن ينسى مصير زملائه الذين طردوا من مناصبهم ويحاكم بعضهم الآن بتهمة القتل العمد.. إنها رسالة للمستقبل.
-         على مستوى القيم صار المصريون يميلون إلى رفض مختلف أشكال الفساد: الرشوة والمحسوبية والواسطة، والاعتداء على الآخرين.. إلخ. كما اكتسبوا ثقة في النفس لا حدود لها، بعد أنْ استطاعوا إزاحة الفرعون ونسف مشروع توريث الحكم؛ فصاروا أكثر ثقة من نجاحهم في تغيير واقعهم.
الوضع العام الآن باختصار:
 لم تطمح قوى الثورة (الطبقة الوسطى أساسًا) إلى الاستيلاء على السلطة، ولم توافق على الاستجابة لنداءات وجهها بعض الأفراد لمحاولة ذلك. ويرجع هذا إلى أكثر من عامل: منها ضعف تنظيم القوى الثورية و شعورها بعدم قدرتها على الاستيلاء الفعلي على السلطة، وبضعفها أمام أجهزة النظام. كما أنَّ آفاق التغيير كانت غير محددة منذ البداية؛ فلم تقدم قوى الثورة الفعالة تصورًا للمجتمع الذي تريد بناءه، ولا حتى صورة النظام السياسي المنتظر؛ فكان سقف المطالب يتصاعد بفضل تلكؤ النظام في الاستجابة لما هو مطلوب منه؛ فلم تكن لدى الثورة خطة محددة ولا أهدافٌ واضحة. كانت المطالب غامضة: إسقاط النظام، بأيِّ معنى؟ وقد ارتبط إسقاط النظام بترحيل مبارك وأعوانه؛ فكان الشعار السائد لمعظم فترة الانتفاضة هو رحيل مبارك (ليس محاكمته مثلًا) ووجِّه المطلب للجيش من أجل تنفيذه؛ بل طالب الثوار مباشرة بنزول الجيش بعد 3 أيام من بدء الانتفاضة، والذي لقي ترحيبًا حارًّا لدى نزوله الشارع، رغم سوء سمعة قياداته.
لقد افتقدت قوى الثورة للرؤية السياسية، والحس السياسي، والخبرة، وتكونت جماعات الفيسبوك من شباب أبرياء سياسيًّا. ولعب الإيمان ببراءة الجيش دورًا كبيرًا في تقليل حجم ونوع الإنجازات. وللأسف رغم وضوح موقف المجلس العسكري من أول لحظة، رفض معظم الثوار تصديق ما يفعله، بما في ذلك التعذيب والخطف والقتل.. رغم توفر الوثائق والشهود.
لقد نجحت الثورة في تفكيك بعض أجنحة ومكونات النظام القائم ولكنها لم تستول على السلطة، مما منح العسكر الفرصة لمحاولة المحافظة على النظام الشمولي وإعادة مأسسته على نفس الأسس دون جدوى كما يبدو حتى الآن؛ فسلطة الدولة تزداد ضعفًا لصالح المجتمع المدني والمبادرة الشعبية. يكفي أنْ نلاحظ استمرار اللجان الشعبية والتي تقوم بدور الشرطة في بعض المناطق.
وامتدادًا لهذه الوضعية أصيب ثوريو الطبقة الوسطى بالقلق لدى انضمام بعض الضباط لهم بعد الانتفاضة بشهرين، خوفًا من تجذر الثورة وتفكك الجيش.. وأسرع الجميع تقريبًا بإعلان موقف مؤيد للعسكر، وعلى الجانب الآخر أصيب المجلس العسكري بالرعب من إمكانية تفكك الجيش وانضمام قواعده للثورة؛ فأسرع بتنفيذ بعض مطالب ثوار التحرير، خصوصًا تقديم عائلة مبارك للتحقيق. ومن الملفت أنْ يتعاون الثوار مع الشرطة العسكرية للقبض على المتمردين المنتقدين للجيش يوم 13 أبريل 2011، بحجة أنهم من داعمي الثورة المضادة، أو على الأقل ممن يريدون إفساد العلاقة بين الجيش والشعب([1]). واتفق الطرفان (ثوار الطبقة الوسطى والعسكر) على نعت هؤلاء بأنهم من فلول الحزب الوطني وما يسمونه النظام البائد والثورة المضادة. والمهم في هذا ليس الموقف نفسه فحسب، بل دلالته: فالمشاركة في قمع الثوار الراديكاليين والضباط المتمردين يعبر عن الخوف ليس من انقسام الجيش في حد ذاته بل من انتقال قيادة الثورة في هذه الحالة إلى قوى أخرى أكثر راديكالية، وتنحية ثوار التحرير وحلفائهم. وما اتهام الثوار المعادين للجيش بالبلطجة والانتماء للثورة المضادة إلا ترديدًا لموقف المثقفين في يناير 1977 من انتفاضة الجياع وإدانتهم لعنفهم. ولم يخرج عن اللحن الأحزاب الرسمية والجمعية الوطنية للتغيير، رغم إدانة إطلاق الرصاص وأعمال القتل التي مارسها الجيش في 9 أبريل دون متابعة جادة للأمر الجلل. وجدير بالملاحظة أنَّ أغلب الثوار قد أدانوا تمرد بعض الضباط بحجج منها أنهم يخالفون القانون العسكري، وكأن الثورة قد اندلعت في حدود القانون، وكأنها لم تكن تمردًا على النظام كله. كل هذا يعكس أفق ثوار الطبقة الوسطى: حل وسط بينهم وبين النظام ممثلًا في المجلس العسكري. فالطبقة الوسطى لم تنظر لأبعد من موقع قدميها: تنحية نخبة مبارك، بدليل أنها لم تخرج لتحتج على القرارات الأشد قمعية التي أصدرها العسكر، واكتفت بالخروج بقوة مطالبة بمحاكمة النخبة المذكورة. ويدل الصمت على خطة العسكر لإعادة بناء النظام على ضيق أفق قوى الثورة، التي لا تضع أمام أعينها هدف تحقيق ديموقراطية ناجزة. خاصة أنه من المحتمل أنْ تؤدي الديموقراطية إلى سيطرة الإسلاميين المتشددين. هكذا قد تجد الطبقة الوسطى نفسها في معسكر واحد مع النظام الذي ثارت ضده، لحمايتها من هؤلاء، وأيضًا من ثورة الجياع الممكنة حتى الآن.
وفي الوقت الحالي تعقد اجتماعات شبة يومية بين شباب الثوار والحاكم العسكري في مناطق مختلفة. وليس معروفًا بالضبط نوع وحجم الاتفاقات التي تتم. وبعض "الشباب" تم جذبهم وتحويلهم إلى نجوم على القنوات الفضائية، ممتدحين الجيش.
 هذا يؤكد أنَّ استمرار الثورة وتجذرها يتطلب انضمام قوى جديدة؛ الفقراء والمعدمين؛ فقد استنفذت قوى التحرير ومؤيدوها طاقتها، وانتهى أفقها بالتسليم للعسكر، وقد أسكرتهم نشوة حبس عائلة مبارك؛ فازداد إعجابهم بالمجلس العسكري مع تحفظات محدودة.
حتى الآن مازالت الثورة مستمرة من أسفل في صورة احتجاجات شعبية محلية وفئوية؛ أما سلطة الدولة فهي في يد النظام نفسه، بقيادة العسكر مع اختراق محدود للغاية وشكلي تقريبًا، يتمثل في فرض رئيس الوزراء رغم ضعفه وضيق أفقه، وهي سلطة مفككة وعاجزة عن السيطرة على الحركات الشعبية. ومن المفارقات أنَّ قوى الثورة تقوم بالضغط على الثورة المضادة لتنفيذ بعض أهدافها (بالإضافة إلى التغييرات الثورية من أسفل)، وهذا يفسر التعثر الشديد لعملية هدم النظام وبناء الديموقراطية.
مازالت قوى الثورة الأساسية تحاول تنظيم نفسها في أشكال تتجاوز الفيسبوك، ولكنها مازالت متعثرة إلى حد كبير. وبعد أنْ كانت متحدة أثناء الانتفاضة وحرصت كل قواها على إخفاء أجندتها الخاصة، بدأت كل فرقة تعبر عن نفسها بوضوح متزايد، بل بدأ الخلاف والصراع بين الجماعات المختلفة، الذي بلغ مداه حين تحالف ثوار التحرير المؤيدين للعسكر مع الشرطة العسكرية في فض اعتصام الثوار الأكثر راديكالية بالقوة يوم 13 أبريل 2011، وإدانتها الفجة لتمرد بعض ضباط الجيش.
وبعد تنحية مبارك واتضاح الموقف المحافظ للمجلس العسكري بدأت تنضم للحركة الثورية قوى أخرى أكثر راديكالية، مثل بعض ضباط الجيش (حجم حركتهم غير معلوم بالضبط، ولكن الانزعاج الشديد للمجلس العسكري من تمردهم واستجابته السريعة لمطلب محاكمة مبارك بعد انضمامهم للثورة يوحي بخطورة حركتهم، على الأقل كنذير بتهديد حقيقي). كما نمت حركة عمال الصناعة وازدادت حركة تشكيل نقابات مستقلة، ومؤخرًا تحرك أهل الجنوب الذين لم يشاركوا بشكل مؤثر في الانتفاضة الكبري، وفرضوا أنفسهم على المشهد في قنا أخيرًا، وإن بشعارات طائفية. وفي الأحياء العشوائية والمناطق المهمشة بدأت تمردات تزداد ضد الإدارات المحلية، وطبعًا لم يعد يستطيع شرطي واحد أنْ يوجه الإهانات للمهمشين.
ولأن الاقتصاد يتهاوى تدريجيًّا، وتكثر حركة الإضرابات العمالية، ويهرب رأس المال، كما تعطل قطاع السياحة؛ تطالب السلطة الحالية الجماهير بالعودة إلى بيوتها وأعمالها حتى يستقر الاقتصاد، أيْ أنْ تتخلى عن ثورتها وتسلم مقاديرها لها، بدون تحقيق أهدافها الاستراتيجية. والواضح أنَّ الحكومة لا تدرك حتى الآن أنَّ الناس قد خرجت وقدمت الضحايا حتى تكسب، ولن تعود دون أنْ يتحقق لها جزء ملموس مما تريد.
الآن توجد مطالب شعبية واضحة وموضوعة أمام السلطة العسكرية وأمام أيِّ حكومة قادمة: فإما أنْ تنفذ وإلا فشبح الانتفاضة مازال قائمًا. وقد اضطر العسكر لاتخاذ بعض الإجراءات التي تهدف إلى تهدئة الرأي العام، مثل القبض على عدد كبير من رموز النظام والاستجابة لقليل من المطالب الاقتصادية، ولكن حتى الآن لم يتم اتخاذ كل ما يلزم من قرارات لتفكيك النظام الشمولي.
لذلك تتوقف عودة الاستقرار على اتخاذ الحكومة ما يلزم من سياسات كفيلة بتحقيق مطالب الناس: تطهير المؤسسات من الفساد – إطلاق حرية السوق وتحقيق الشفافية – سياسة أجور تتضمن حدًّا أدنى وحدًّا أقصى في حدود يقبلها الناس. والأهم وضع أسس قوية لبناء نظام سياسي ديموقراطي مستقر حتى لا يعود الفساد إلى مستواه السابق في المستويات العليا للسلطة.
القوى المؤثرة على الساحة السياسية المصرية:
1 - المجلس العسكري ووزارته:
لا شك أنَّ القيادة العسكرية هي جزء من النظام القائم، تمارس فسادًا وإن بدرجة أقل، وبأشكال مختلفة، وهي مرتبطة بالأمريكيين ارتباطًا وثيقًا. وليس لهؤلاء أيُّ مصلحة في مقرطة النظام أو إزالة مؤسساته الأساسية القائمة، لأنهم قد يصبحوا ضحايا لهذا التغيير نفسه. لهذا يحاول العسكر إرضاء الثوار بغرض تسكينهم، مع الإبقاء على بنية النظام الشمولي، والمحافظة على عزلة المؤسسة العسكرية بعيدًا عن أيِّ مراقبة، حفاظًا على مصالح القيادات.
لهذا أعتبر المجلس العسكري رأس الثورة المضادة، والذي لم ينفذ سوى القليل من مطالب الثوار، ومعظم ما تم تنفيذه كان شكليًّا فقط، بغرض التسكين وتحت الضغط الشديد، بالإضافة إلى إصدار قرارات وقوانين أشد قمعية مما كان عليه الحال في عهد مبارك، لمحاصرة قوى الثورة فعليًّا([2]):
 - كانت بداية التآمر تشكيل لجنة لعمل تعديلات دستورية حددها المجلس، وكلف بالإشراف على إجرائها شخصًا غير مشهود له بالحياد، بل يتبنى فكر الإخوان المسلمين، وهو طائفي النزعة. وقد عملت لجنته بشكل سري، ولم تفكر في طرح الأمر للنقاش العام، ولم تستعن بممثلين للمجتمع المدني؛ خصوصًا تجمعات الثوار، ولم تعدل معظم مواد الدستور.
 - أما التعديلات الدستورية نفسها فقد تشددت في شروط ترشيح رئيس الجمهورية بشكل مبالغ فيه؛ ومن ذلك أنْ يكون مصريًّا من أبوين مصريين، وأن يكون متمتعاً بحقوقه المدنية والسياسية، وألا يكون قد حمل أو أيٌّ من والديه جنسية دولة أخرى، وألا يكون متزوجاً من غير مصري، وألا تقل سنه عن أربعين سنة ميلاديـة. وهي شروط تفوق شروط دستور 1971. وجدير بالذكر أنَّ الدستور الفرنسي لا ينص على جنسية الرئيس([3])، ويحدد القانون أنْ يكون فرنسي الجنسية، وينص الدستور الأمريكي على: لا يكون أيُّ شخص سوى المواطن بالولادة أو من يكون من مواطني الولايات المتحدة وقت إقرار هذا الدستور، مؤهلاً لمنصب الرئيس، كما لا يكون مؤهلاً لذلك المنصب أيُّ شخص لم يبلغ سن الخامسة والثلاثين ولم يكن مقيماً في الولايات المتحدة مدة أربعة عشر عاماً([4]). ورغم تخفيف بقية الشروط إلا أنها مازالت شروطًا معقدة وصعبة تنتقص من حقوق المواطنين في الترشح.
 - تم إصدار إعلان دستوري تضمن الدستور القديم تقريبًا، بنفس سلطات رئيس الجمهورية.
 - قانون تحريم الاحتجاجات، والذي يهدد المحتجين بأحكام قاسية للغاية، تجاوزت ما كان في عصر مبارك، الذي سمح بمئات الاحتجاجات والإضرابات والاعتصامات السلمية. وقد أعلنت السلطة أنَّ الهدف من القانون هو حماية الثورة من الثورة المضادة، كما وصفت الإضرابات العمالية بأنها ذات مطالب فئوية تحركها عناصر الثورة المضادة. وهذا مخالف تمامًا للحقيقة؛ حيث يطالب العمال بتثبيت العمالة المؤقتة، وطرد العناصر الفاسدة والموالية للنظام الشمولي من مواقع القيادة، وتشغيل المنشآت المتوقفة عن العمل، ووضع حد أدنى وحد أٌقصى للأجور، وهي مطالب يمكن تنفيذها فورًا، إلا أنَّ السلطة تتعنت وترفض الاستجابة لمعظمها، بل وتتعمد تشويه الحركة العمالية، بنعتها بالثورة المضادة، أو بأنها تتم حسب مخططات فلول الحزب الوطني، ورجال الأعمال الفاسدين.
وبدلًا من تنفيذ مطالب الناس، تصر السلطة على مطالبتهم بالتوقف عن الاحتجاج، رغم المعاناة الشديدة والفقر البالغ.
-          كما تم إجراء استفتاء معيب للغاية حول التعديلات الدستورية المشار إليها. فلم يعلن العسكر ولا لجنة طارق البشري في البداية أنَّ الدستور القديم ملغٍ، بل كان معطلًا فقط. وفكرة التعديلات نفسها تتضمن عودة العمل بهذا الدستور، مما أدى إلى اضطراب شديد بين المواطنين والقوى السياسية وقتها. وقد صاحب الاستفتاء حملات دعائية تخيف الجمهور، من رفض التعديلات بدوافع دينية؛ بينما لم تكن المادة الثانية موضوعًا للتصويت أصلًا، وقد لعب الإخوان دورًا كبيرًا في دفع الناس إلى الموافقة على التعديلات، لسبب في أنفسهم: الإسراع بعملية الانتخابات؛ وهم القوة السياسية المنظمة الوحيدة في البلاد لحصد أكبر عدد ممكن من الأصوات ولو في ظل التعديلات الدستورية المعيبة. وقد تم حرمان المصريين بالخارج من حق التصويت، ومنهم كثيرون من المسيحيين والليبراليين، خصوصًا في دول الغرب.
 - أما قانون تشكيل الأحزاب فكان خطوة إلى الوراء بالنسبة لقانون مبارك في بعض مواده: فأصبح مطلوب 5 آلاف عضو مؤسس على الأقل مصدقاً رسمياً على توقيعاتهم، على أنْ يكونوا من عشر محافظات على الأقل بما لا يقل عن ثلاثمائة عضو من كل محافظة، كما أصبح من الضروري عمل إعلان بكل المؤسسين في صحيفتين واسعتي الانتشار، وهو أمر مكلف ولا ضرورة له أصلًا. واستمر وجود لجنة الأحزاب ولكن تغير تركيبها؛ فصارت تتشكل من عناصر قضائية لها أيضًا حق رفض الحزب. واستمرت شروط أخرى؛ منها ألا يتشابه برنامج الحزب مع برامج أحزاب أخرى، مما يعني إمكانية الدخول في جدال سياسي مع لجنة الأحزاب إذا رأت أنَّ البرنامج يشبه برنامج حزب آخر. وقد وضعت المادة 6 بند 1 قيدًا على حق المواطنين المصريين المجنسين في الانضمام إلى أيِّ حزب إلا بعد خمس سنوات على الأقل، كما اشترطت على من يتولى منصباً قيادياً في أيِّ حزب أنْ يكون من أب مصري، وهو إهدار لحقوق المواطنين الآخرين، وفيه مخالفه للمادة الدستورية التي تنص على مساواة المواطنين أمام القانون، ومخالفه للمادة 22 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تنص فيما تنص على: "لكل فرد حق في حرية تكوين الجمعيات مع آخرين، بما في ذلك حق إنشاء النقابات والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه"([5]).
أعطى القانون لرئيس لجنة الأحزاب سلطة حل الحزب وتصفية أمواله بعد تقرير من النائب العام عن تخلف او زوال أيِّ شرط من الشروط المنصوص عليها بالمادة 4 من القانون، وهو ما يفتح الباب للتدخل الإداري في عمل الأحزاب السياسية، ويعطي للنائب العام وللجنة الأحزاب سلطات واسعة في التدخل في شئون الأحزاب.
ومن شروط تأسيس الحزب عدم تعارض مبادئه وأهدافه وبرنامجه مع المبادئ الأساسية للدستور، وهذا يتضمن الالتزام بالمادة الثانية من الدستور وغيرها؛ أيْ أنَّ الحزب لا يستطيع أنْ يكون علمانيًّا، ولا يستطيع أنْ يضمن في برنامجه مشروعًا لتغيير الدستور وإلا تعرض لرفض تأسيسه. بذلك يتم إقصاء التوجهات العلمانية وإعادة تكريس النظام الشمولي؛ فلم يمنع الإعلان تشكيل أحزاب بمرجعية دينية، وأعلن ذلك المجلس العسكري بوضوح، والمادة الثانية تتضمن ذلك؛ وبناء عليه بدأ الإسلاميون تشكيل أحزابهم.
والواضح أنَّ الهدف هو السيطرة على عملية تشكيل الأحزاب، وحرمان الأقليات السياسية من العمل السياسي المنظم.
 - وأخيرًا غيرت الحكومة المحافظين بتعيين وليس انتخاب غيرهم، معظمهم لواءات سابقين وأعضاء في الحزب الوطني المنحل.
 - لم يتخذ العسكر ولا الوزارة قرارات فعالة لتصفية الفساد المتجذر في أجهزة الدولة؛ فلا المجالس المحلية قد حلت حتى الآن، ولا المسؤولين في مختلف المواقع الحكومية قد غيروا، والتغيرات التي تمت بضغط الثورة قد اقتصرت تقريبًا على رموز النظام، ولم تسلم سلطات تذكر لعناصر من الثورة ومؤيديها ومنظريها، ولم يحكم حتى الآن على أيٍّ من رجالات مبارك الفاسدين ولا عائلته بالطبع. بل تم منح هؤلاء فرصة كافية لتهريب ما استطاعوا أموالهم إلى مناطق آمنة، ولم تتخذ السلطة ما يلزم من قرارات لتجميد هذه الأموال في الخارج واستعادتها في وقت مبكر.. إلخ. وحتى الآن لم يحكم على المسؤولين عن قتل الثوار في الشوارع ومجرمي موقعة الجمل، رغم أنهم معروفون، ومنهم مبارك وابنه وغيرهما، بل أفرج عن بعض ضباط أمن الدولة القتلة، وتم نقل آخرين، وتم طرد عدد محدود منهم. وحين تم تشكيل جهاز "الأمن الوطني" ضم معظم عناصر أمن الدولة، وشوهد ضباطه أنفسهم بالجامعة بملابس مدنية([6]).
 - أحيلت قضايا الفساد للقضاء العادي المكتظ بعناصر الفساد، بل ومازال النائب العام الذي تواطأ مع أمن الدولة من قبل في موقعه. هذا بينما أحيل صغار البلطجية إلى القضاء العسكري، ومعهم شباب الثوار، الذين اعتقل بعضهم من الشوارع والبعض من منازلهم([7]). لم يتم تطهير القضاء ولا تحقيق استقلاله عن السلطة التنفيذية، ومازال النائب العام يتبع وزير العدل. لم يحاسب النائب العام وكبير الأطباء الشرعيين عن تواطؤهما مع أمن الدولة أثناء حكم مبارك. وإذا كان لابد من محاكمة الفاسدين أمام القضاء العادي لإقناع البنوك الغربية بإعادة الأموال المنهوبة؛ فقد كان من الطبيعي أنْ يحاكم كل المدنيين أمام نفس القضاء.
 - أبقت السلطة على قانون الطوارئ بدون مبرر مقنع لأحد، وهو يعطيها مبرر تقديم المدنيين للمحاكم العسكرية (طبعًا لا يتم تقديم كبار المجرمين لهذه المحاكم). ومن المفروض حسب الخطة المعلنة للعسكر أنْ تبدأ الدعاية الانتخابية وتشكيل الأحزاب، وبالتالي عقد الاجتماعات وإلقاء الخطب وإصدار المنشورات.. إلخ؛ فكيف يتم هذا في ظل حالة الطوارئ؟
 - أصدر قانون لتغليظ العقوبات على أعمال البلطجة والتحرش نص ضمن بنوده على معاقبة من يحرض على "الفسق"، وهو تعبير أخلاقي يحدد معناه كل شخص على هواه؛ مما يفتح الباب أمام المحاكم لمعاقبة الأشخاص بتهم غير محددة تفسر على أنها تحريض على الفسق!، ومن الملاحظ أنَّ القانون المتشدد لم يطبق على بلطجية السلفيين أبدًا حتى الآن.
 - تبالغ السلطة والإعلام الرسمي في تصوير مدى انتشار أعمال البلطجة في الشوارع والأحياء بما يفوق الواقع عشرات المرات، بغرض إرهاب المواطنين ودفعهم لقبول عودة أجهزة الأمن، كما كانت وبما كانت عليه من جبروت وقبول استمرار حالة الطوارئ. ويشارك مثقفو الدولة في الترويج لهذا الكلام، ولكن تعجز السلطة عن تنفيذ ذلك، خوفًا من الجماهير التي مازالت ثائرة.
 - يتحجج المجلس العسكري بالقانون، مدعيًا أنه يطبقه على الجميع بالتساوي بمن فيهم الثوار، ويبرر البطء في تحقيقات الفساد بإعمال الإجراءات القانونية السليمة. في الواقع لم تشتعل الثورة في إطار القانون ولا الدستور بل ضد كل منهما؛ فكانت ثورة على الدستور وليس من أجل إعمال القانون؛ بل لتغييرهما. كما أنَّ سيطرة العسكر على السلطة غير قانوني، وهنا يتحجج العسكر باستنادهم إلى الشرعية الثورية، بينما هم لم ينفذوا أيَّا من السياسات التي تطالب بها الثورة، بل بالعكس أصدروا قوانين أكثر قمعية من قوانين مبارك ويطالبون الفقراء بالصمت والعودة إلى بيوتهم. وبذلك فقد العسكر شرعيتهم، لأنهم لم يحققوا مطالب الثورة. وإذ يطالبون الثوار باحترام قانون الطوارئ ومنع الاحتجاجات وحظر التجول؛ فهم يحاولون وأد الثورة وقتلها. هكذا لم يعد المجلس يستمد شرعيته من الثورة ولا من القانون؛ بل أصبح مغتصبًا للسلطة بالقوة. لا يمكن أنْ تستخدم ثورة نفس قوانين النظام الذي قامت ضده في محاكمة أعدائها الذين فصلوا القوانين لتناسبهم، بل لابد أنْ يكون لها نظام خاص للعدالة لمحاسبة أعدائها.
 - عمل المجلس العسكري منذ توليه على استقطاب الإسلاميين، خصوصًا الإخوان، كمحاولة لكسر التحالف الشعبي الواسع أثناء الانتفاضة، أملًا في تفتيت الصفوف حتى يستطيع تنفيذ أهدافه. وقد حقق بالفعل نجاحًا جزئيًّا. وأغراهم بمكاسب محدودة (أهمها الاعتراف - عمليًّا فقط - بشرعية جماعتهم)؛ فكانت خيانتهم لقوى الثورة تحقيقًا لمصالح محدودة وغالبًا مؤقتة.
إلا أنَّ هذه الخطة تهدد باتساع نفوذ التيارات الإسلامية ككل، ومنها السلفيون الأكثر محافظة وشراسة بوجه عام، وهذا التوسع يهدد مباشرة بانهيار اقتصادي شامل، بسبب تخوف رؤوس الأموال، وتراجع قطاعات مهمة؛ مثل السياحة والإنتاج الفني، بالإضافة إلى التحفظات الغربية. وهذا ما دفع متحدثًا باسم المجلس إلى الإعلان عن أنَّ "مصر لن تكون إيران أو غزة ولن يحكمها خوميني آخر"([8])، كما بدأ يقرب حزب الوسط الجديد الليبرالي - الإسلامي.
أما وزارة عصام شرف؛ فرغم أنَّ رئيسها قد جاء بضغط ثوار الطبقة الوسطى، فتقوم بدور "تسيير الأعمال" فعلًا، ولا تبدو قادرة على اتخاذ قرارات ثورية، بل تعمل في خدمة خطط المجلس العسكري، وليس من المفهوم لماذا لم يستقل عصام شرف رغم أنَّ حكومته قد فشلت في تحقيق جزء ملموس من مطالب الثورة.
-         كل هذا يشير إلى نية المجلس العسكري في المحافظة على النظام رغم تطهيره جزئيًّا من العناصر الأكثر فسادًا. فكبار رجال الجيش يحصلون على مداخيل هائلة من المشاريع الاقتصادية التي يشرفون عليها ومزايا أخرى مقننة (مثل منحة الولاء)، ومن المؤكد أنَّ الفساد واسع الانتشار داخل مؤسسة الجيش ككل، وهذا ما يعرفه كل الجنود والضباط، الحانقين على القيادة العسكرية. لكل هذا لا يريد المجلس العسكري تصفية النظام ويستميت في محاولة وأد الثورة.
ورغم أنَّ العسكر سيتخلون – حسب وعدهم - عن السلطة الرسمية بعد الانتخابات القادمة، إلا أنَّ موازين القوى الحالية، مالم تحدث هبة جديدة أو ضغوط شعبية هائلة، تسمح لهم باستمرار السيطرة من خلف الكواليس كضمان لعدم تثوير النظام وعدم سيطرة قوى غير مرغوب فيها من وجهة نظرهم؛ وبذلك سيظل شبح الانقلاب العسكري قائمًا، ومن المحتمل تمامًا أنْ يتضمن الدستور القادم مواد تمنح الجيش سلطات خاصة أو "فيتو" في أمور بعينها.
2 - الإسلاميون
وهم ينقسمون إلى قوى عدة؛ أهمها الإخوان المسلمين، وحزب الوسط وأنصاره، والسلفيون، بتوجهاتهم المختلفة، والجماعات الأخرى الأكثر تشددًا، والقرآنيون وهم الأقل تأثيرًا وليس لهم نشاط سياسي كجماعة.
والقوة الأكبر حاليًّا؛ الإخوان؛ تستند لما تسمى بالشريعة الإسلامية كما يقرؤها أهل السنة، ويتلخص مشروعهم في نشر التزام الناس بالعبادات الإسلامية المعروفة، وبما يعرف بالزي الإسلامي للرجل والمرأة، ونبذ المحرمات مثل لحم الخنزير والخمر، والالتزام بقواعد الزواج والطلاق والميراث القائمة بالفعل، وهم يريدون تطبيق الحدود الإسلامية متى نجحوا في أسلمة العلاقات الاجتماعية حسب تصورهم. وهم يعتبرون الفائدة البنكية حرام شرعًا. أما موقفهم من رافضي مشروع تطبيق الشريعة (العلمانيين)، فهو العداء واعتبارهم يستحقون الاستتابة والعقاب([9])، بل إنَّ المرتدين عن الإسلام يستحقون الموت؛ فحرية العقيدة لديهم لا تتضمن حق المسلم في تغيير دينه. أما النظام السياسي الذي يطمحون إليه فيقوم على تطبيق الشريعة، واستخراج كل القوانين والقواعد المنظمة للمجتمع منها. وهم يتصورون إمكانية إقامة خلافة إسلامية في النهاية لمسلمي العالم، ولا يسمحون بتولي المرأة أو غير المسلم رئاسة الدولة، ولا يتصورون قيام حوار مجتمعي إلا على أساس النص الديني كما يفهموه؛ فالنص فوق البرهان والشريعة قبل الاختيار ولا اجتهاد مع النص ولا خروج على "المعلوم من الدين بالضرورة". لذا لا يمكن أنْ يتبنوا حرية البحث إلا في إطار الشريعة.
الإخوان ملتزمون بالفقه التقليدي القديم، ولم يتمكنوا على مدى تاريخهم من إجراء إصلاحات جذرية، وأقصى ما ابتكروه هو فكرة: فقه الأولويات؛ بمعني تقديم وتأخير القضايا حسب ظروف المرحلة، وهو ما يفسر التلون و"المرونة" السياسية التي تميزهم. وأمام موازين القوى السياسية الحالية لا يستطيعون الالتزام بكل أفكارهم، خصوصًا أنَّ القوى العلمانية قوية، كما يمس مشروعهم مصالح فئات ضخمة في المجتمع، تتعامل في مجال البنوك والسياحة والفن.. إلخ. فيضطرون إلى إصدار التصريحات المطمئنة ويقدمون مصلحة استمرار التنظيم على الالتزام بكل المبادئ المذكورة. ولأنهم يعرفون أنَّ أفكارهم تؤدي للتدخل في شؤون الناس الشخصية، وتعطل مصالح الملايين منهم، أعلنوا بعد ثورة 25 يناير أنهم لا ينوون الاستيلاء على السلطة، كشبه اعتراف بأنهم خطر على المجتمع.
ويختلف السلفيون مع الإخوان، حيث لم يتخلوا عن شعاراتهم إلا في أقل الحدود؛ وهم لا يجيدون بوجه عام لعبة السياسة ولم يعتادوا الاهتمام بشؤون السلطة السياسية، وإن بدأ بعضهم يشكل حزبًا، وكثير منهم يتعاطف مع الإخوان.
وواضح من هذا أنَّ النظام الذي يبشر به الإخوان به هو نظام شمولي؛ فلا شيء يمكن أنْ يعمل خارج سيطرة الدولة، بحكم أنها المشرف على تطبيق الشريعة. فلا يمكن أنْ يكون هناك إعلام وتعليم وإنتاح ثقافي حر، بل لابد من الالتزام بما تقره الشريعة الإسلامية، كما يفهمها أهل السنة، وكل كلامهم عن الحرية وتداول السلطة يفترض أنَّ كل ذلك يتم على أرضية الشريعة الإسلامية، أيْ الخلاف داخل أيديولوجية واحدة.
هذا الفكر معاد للآخر؛ غير المسلم، والعلماني وكل المنتمي ثقافيًّا للغرب، وهي نزعة فاشية واضحة، فلا شيء من خارج الإسلام ولا شيء يتجاوز دولة الشريعة.
ولأن الإخوان يدركون ولو شعوريًّا أنهم لا يستطيعون الانخراط في الحياة السياسية كحزب ديموقراطي، قرروا إنشاء حزب باسم "الحرية والعدالة"، قدم مشروع برنامج يبدو ديموقراطيًّا من حيث الشكل؛ فينص على المساواة، وأقر مبدأ المواطنة، ونادى بالحريات العامة، واستقلال القضاء، والنظام البرلماني؛ إلا أنه لم يتخل عن الشريعة، التي يجب أنْ تشمل كل شيء؛ مبشرًا بشمولية دينية، لن تجد شعبية تذكر في الوقت الحاضر، لأنه تخلى عن الشعارات التقليدية للجماعة، دون أنْ يقدم برنامجًا ديموقراطيًّا بالفعل؛ فوقع في التناقض الذي حاولت الجماعة الهروب منه بتشكيل حزب ينسجم مع الديموقراطية المرتقبة بعد الثورة([10]).
هؤلاء ليس لديهم مشروع تنويري، وهم في الواقع نتاج لأزمة التحديث غير المكتمل، واكتماله يزيل أساس وجودهم أصلًا، ولذلك لم يتخذوا هم وبقية الجماعات الإسلامية المتشددة أبدًا مواقف تقدمية واضحة، ولم يشاركوا في الثورة الحالية إلا بعد أنْ ضمنوا نجاحها، وفي الوقت نفسه لم يقطعوا صلتهم بالنظام؛ فأيدوا التعديلات الدستورية الكسيحة، وكل قوانين وقرارات العسكر المعادية للديموقراطية، لأنها لم تمسهم في شيء. فالجماعة في حد ذاتها فوق المجتمع، والمهم أنْ تستحوذ على النفوذ، لا أنْ تساهم في إعادة بناء النظام السياسي والاجتماعي على أسس ديموقراطية تقدمية.
ويتبنى هؤلاء في الوقت الحاضر إعلاميًّا مبدأ الديموقراطية، التي يساوون بينها وبين "الشورى"، رغم الفرق الشاسع. والديموقراطية لديهم هي في حدود صناديق الاقتراع، وليست الثقافة الديموقراطية، وليست تحرير إرادة الناس. وفي الاستفتاء الأخير طبقوا مفهومهم للديموقراطية بصراحة؛ فخدعوا الناخبين باسم الدين حتى يصوتون بنعم. وقد كان تعبير "غزوة الصناديق"، الذي أطلقه شيخ سلفي بالغ الدلالة؛ إذ يلخص ديموقراطية الإسلاميين([11]). ويساعدهم على التجرؤ بتبني هذه "الشورى" ضخامة عدد السكان غير المسيسين؛ فقد دشن وقاد الثورة قلة من المتعلمين وعناصر مهتمة بالشؤون السياسية، بينما يحق التصويت للجميع، وأغلبهم أميون وأشباه أميين، وبلا رؤية سياسية.
وقد رحب مكتب إرشاد الإخوان تمامًا بالسلطة الجديدة وخططها؛ فدعا أعضاء الجماعة إلى التصويت مع التعديلات الدستورية التي أدخلتها الحكومة، ثم رحب بالإعلان الدستوري، ولم يبد اعتراضًا على القوانين القمعية، ولا على عمليات قمع الثوار. وقد أسرعت جماعة الإخوان بإنشاء حزب جديد دون ما اعتراض على قانون الأحزاب، ذلك أنها تضمن الاعتراف بحزبها بالذات. وتروج الجماعة لفكرة تطبيق الشريعة الإسلامية وتصر على الشعار الغامض: الإسلام هو الحل، وتتبنى بالطبع النص على نفس المادة الثانية في الدستور المزمع وضعه فيما بعد.
وإعلان الإخوان عدم نيتهم المنافسة على الحكم ليس مجرد دعاية بل هي حقيقة فعلًا. فالمشاكل الاجتماعية المتراكمة منذ عقود يصعب حلها، وسوف تواجه أيَّ حكومة خلال السنوات القادمة تحديات ضخمة قد تضطرها لاتخاذ قرارات لا تحظى بإجماع شعبي ولا يملك الإخوان رؤية واضحة لتحقيق نتائج مضمونة، وسيكون عليهم اتخاذ قرارات تتعلق بإسرائيل والقضية الفلسطينية وسيضطرون إلى مخالفة "الشريعة" إذا مارسوا الحكم مما يهدد بفقدانهم قواعدهم وتآكل جمهورهم.
أما السلفيون المعارضون للثورات عمومًا فقد بدأت أجنحتهم الأكثر محافظة بعد الثورة تظهر أنيابها من حرق الأضرحة إلى تطبيق الحدود.. دون أنْ يحاكم أيٌّ منهم، بل أفرجت النيابة عمن دمرا أضرحة بالقليوبية، حيث أكدا أنهما قاما بذلك من باب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف وتحت دعوى أنَّ الأضرحة حرام شرعًا وبدعة([12])، ووفقًا للمصدر نفسه: كان عدد من مشايخ ورءوس العائلات بمدينة قليوب قد تدخلوا لإنهاء الأزمة بشكل ودِّي، وتحويل المشكلة إلى مجرد مشاجرة ويتم التنازل عن المحضر حفاظًا على مستقبل الأشخاص الذين قبض عليهم وهم من أبناء المدينة، مع التعهد بعدم الإقدام على مثل تلك الأفعال مرة أخرى فيما بعد! كما لم تعاقب السلطة من قطعوا أذن المواطن في الصعيد، ولا الذين طردوا سيدة من شقتها لأسباب خاصة بسلوكها الشخصي، وقيل إنهم من السلفيين. ويبدو أنَّ حكومة العسكر قد أطلقت يدهم لترويع المجتمع لدفعه لقبول حكم شبه عسكري لحمايته من هذه الوحوش، أو على الأقل تركتهم دون اتخاذ أيِّ إجراءات عقابية، ولم يردعهم مؤقتًا سوى تذمر شعبي واسع منهم وخوفهم من غضب الصوفيين الذي صار شديدًا. وقد بدأ تشكل حزب بمرجعية سلفية تحت اسم حزب النهضة([13]). ويشكل نمو المتشددين من هؤلاء تهديدًا كبيرًا للغاية للاقتصاد: خصوصًا السياحة، وسوف يسببون اضطرابات اجتماعية مستمرة، لذلك ستضطر السلطة في لحظة ما إلى تحجيمهم، ربما بقسوة.
يوجد أيضًا على الساحة "حزب الوسط الجديد"، وهو يتبنى مبادئ قريبة من مبادئ حزب العدالة التركي والأحزاب المسيحية الأوربية؛ فمرجعيته هي الحضارة (وليس الشريعة) الإسلامية، وهو يؤمن بحرية الاعتقاد بالفعل، بمعنى حرية التدين من عدمه، ويؤمن بالحداثة، ويتبنى فكرة المواطنة فعلًا لا قولًا مثل الإخوان، ولا يقترب الحزب من موضوع تطبيق الحدود؛ فهو يستلهم مبادئه كما يقول من الحضارة العربية الإسلامية، التي ساهم في صناعتها غير المسلمين، ولا يتمسك بالنصوص وأحكام الفقه. وقد صار الحزب مشروعًا بعد ثورة 25 يناير، وراح يكتسب مزيدًا من النفوذ، ساحبًا البساط تدريجيًّامن تحت أقدام الإخوان. ومن المحتمل جدًّا في ظل انتشار الفكر الليبرالي حاليًّا في مصر أنْ يكتسح هذه الحزب قواعد الإخوان، وأن يصبح الحزب الأكبر على الساحة المصرية، وقد قدم برنامجًا ديموقراطيًّا بورجوازيًّا ([14])، ويمكن اعتباره على هذا الأساس ضمن الأحزاب الليبرالية. ويتميز حزب الوسط على الإخوان في مسألة جوهرية أخرى؛ فهو يقدم نفسه كما هو فعلًا؛ بوجه واحد وإذا استلم الحكم لن يجد حرجًا في تنفيذ برنامجه، ولن يفقد قواعده، بل ربما يكسب المزيد، بفضل انفتاحه وجديته في طرح مشروع نهضوي بالفعل.
أما بقية الجماعات الإسلامية فلا يبدو أنَّ لها أيَّ مستقبل في اللعبة السياسية طالما ظلت تتمسك بالنصوص وأحكام الفقه التي تجاوزها التاريخ، بالإضافة إلى تاريخها في ممارسة العنف.
3 - القوى العلمانية الليبرالية:
ومنها الشباب المنظم على الانترنت، الذي بدأ الثورة وشكل قوتها الرئيسية وبدأ يشكل جماعات وأحزاب. بالإضافة إلى بعض الأحزاب القائمة والجديدة، أهمها حتى الآن حزب المصريون الأحرار. وهذه القوى تتبنى النظام الديموقراطي، واقتصاد السوق، والتحديث الناجز، وتميل إلى تحرير إرادة الدولة المصرية من هيمنة الغرب دون قطيعة معه، واستعادة دور مصر الإقليمي([15]). وهي لم تتبلور ككيانات سياسية حتى الآن. شكل الليبراليون رأس الثورة، والآن تنتشر أفكارهم في أوساط واسعة، بل فرضوا لغتهم حت على بعض الإسلاميين، ويمكن حتى اعتبار حزب الوسط الإسلامي حزبًا ليبراليًّا، بل وتمثل الحزب الوطني المنحل أفكارهم في الآونة الأخيرة.
يسير المزاج العام حاليًّا وسط المثقفين المصريين من مهنيين وصغار أصحاب أعمال وطلاب مع الأفكار الليبرالية، مما يجبر كل التوجهات الأخرى لتمثل لغة ليبرالية، حتى المتشددين الإسلاميين، مما يشير إلى أنَّ الفترة القادمة ستشهد سيطرة لهذا الاتجاه على الأقل نظريًّا. ولكن سيظل إقناع الجماهير الأمية والمعدمة والمهمشة مشكلة المشاكل، ليس فقط لليبراليين بل لكل الاتجاهات الفكرية والسياسية.
4 - الاشتراكيون
تم الإعلان عن 4 أحزاب اشتراكية تحت التأسيس حتى الآن على الأقل([16])، ليست كبيرة. ورغم تقارب البرامج وقلة عددهم لم يكون الاشتراكيون حزبًا موحدًا، غالبًا لخلافات أيديولوجية بالأساس. والتوجه العام لهذه الأحزاب يتلخص في إعادة سيطرة الدولة على الاقتصاد، وحمايتها للطبقات الفقيرة، وإقامة نظام ديموقراطي يقوم على التعددية؛ أما أكثر التيارات الاشتراكية ديموقراطية فيدعو إلى نظام عماده التعاونيات، دون أيِّ عمل مأجور، والإدارة الذاتية للجماهير، وتصفية الملكية الخاصة الكبيرة وسلطة الدولة (وهو تيار محدود للغاية وبلا نفوذ)([17]). ومن مطالعة برامج هذه الأحزاب يتضح أنها مشاريع بعيدة المدى وليست أهدافًا للتطبيق الآن؛ فهي مشاريع تحتاج لحشد شعبي ضخم وصراع طبقي واسع النطاق وسلطة دولة عمالية – فلاحية حتى يتم تنفيذها؛ فهي إذن مشاريع تثقيفية وتعبوية أكثر منها برامج أحزاب تسعى للاستلام الحكم من خلال الانتخابات.
ويتواجد الاشتراكيون المصريون أساسًا وسط المثقفين؛ أما علاقتهم بالطبقة العاملة التي يعتبرون أنفسهم معبرين عنها فمحدود للغاية. والبعض منهم يعمل في قطاعات ثقافية حكومية، وهم يفتقدون بوجه عام للقواعد الجماهيرية.
وقد صارت فكرة الاشتراكية والتأميمات سيئة السمعة بعدما أثبتت فشلها من قبل في بلدان كثيرة ومنها مصر الناصرية. وإن قوى اجتماعية ضخمة الآن تنخرط في اقتصاد السوق لن تقبل برامج دولتية الطابع. ولذلك ليس من المتوقع أنْ يكون للاشتراكيين دور مهم في الحياة السياسية في الفترة القادمة، مالم يتبنوا برامج حد أدنى تتمتع بقبول اجتماعي أوسع وقابلة للتطبيق في المدى القصير. من المحتمل أنْ يكون لهم دور ملموس في الحياة الثقافية والصراع مع الفكر الديني المتشدد، بما لديهم من نزعة علمانية جذرية، مع خلفية نظرية قوية نسبيًّا، وقدرات سجالية ونقدية عالية بالنسبة لمجمل المثقفين المصريين.
5 - الأنظمة المحلية والغرب:
 ذكر الكثير عن تآمر السعودية وبقية دول الخليج على الثورة التي تشكل لها شبحًا مخيفًا وتهديدًا كامنًا؛ فتضغط لعدم محاكمة مبارك وتشجع الجماعات الإسلامية. أما إسرائيل فليس لها مصلحة في إزالة النظام وتحديث مصر. أما الدول الغربية فرغم تشدقها بشعارات الديموقراطية والحريات لم توجه نقدًا مهمًّا للقرارات القمعية التي أصدرتها السلطة العسكرية وتوقفت عن مطالبة الدولة بالإصلاح الديموقراطي. ومنذ بداية الثورة أعلنت الولايات المتحدة أنها لن تسمح للجيش بضرب المتظاهرين بالرصاص، وهي تملك إصدار الأوامر إلى حد كبير لمجلس طنطاوي، حيث إنَّ الجيش المصري يعتمد على المعونات الأمريكية المادية والفنية، وهي تعرف أدق أسراره بحكم التعاون الوثيق مع القيادات وكثير من الضباط.
وليس من مصلحة الولايات المتحدة أنْ تصبح مصر ديموقراطية ومتقدمة؛ فحكومة ديموقراطية هنا ستكون بالضرورة شفافة وبالتالي غير عميلة بفضل الضغوط الشعبية وهذا لا يناسب الأمريكيين ولا الإسرائيليين بالطبع. كما أنَّ تقدم مصر يؤدي لا محالة لدور كبير في الشرق الأوسط ويشجع شعوبًا عربية أخرى مما يهدد الهيمنة الأمريكية – الإسرائيلية في المنطقة.
كما لا يناسب الغرب عمومًا سيطرة الإسلام السياسي المتشدد أو السلفيين، لأن ذلك يهدد بمنح زخم للجهاديين في المنطقة، مما قد يشكل تهديدًا لأنظمة "صديقة"، على رأسها السعودية ودول الخليج.
لذلك ستسعى الدول الغربية وإسرائيل إلى الإبقاء على النظام بعد إجراء بعض الإصلاحات الديموقراطية المحدودة، وطبقة رجال الأعمال الطفيليين والمؤسسة العسكرية المعزولة عن المجتمع، بأيديولوجيا شبه ليبرالية -إسلامية معتدلة، مع توجيه ضربات قوية للسلفيين والجهاديين وربما الإخوان المسلمين في مرحلة ما.
سيناريو المستقبل :
لم تتم الثورة المصرية بعد، وكل ما حدث هو انطلاق عملية ثورية ماتزال في مراحلها المبكرة؛ فالنظام الشمولي مازال قائمًا والسلطة في أيدي جيش النظام، والحركة الشعبية تتعرض للقمع وتقاوم. أما الطبقة الوسطى التي قادت الانتفاضة، فيبدو أنها قدمت آخر ما في جعبتها وسلمت للعسكر باعتبارهم حماة ثورتها، وتنتظر نتائج خطة الحكومة الحالية، التي لم تتخذ خطوة واحدة فعالة لتثوير النظام.
يمكن تصور أكثر من سيناريو لمسار هذه الثورة المتعثرة:
1 - إذا استمرت قوى الثورة كما هي الآن، أيْ دون نمو مشاركة الطبقات الأدن؛ الأكثر جذرية ودون تصاعد العملية الثورية المستمرة حتى الآن، فستظل الأهداف الديموقراطية للثورة مهددة من قبل النظام نفسه، بالإضافة إلى المنظمات الإسلامية ذات التوجه الفاشي، والتي تشكل خطورة أشد من النظام على الديموقراطية المنشودة. ويبدو في الأفق أنَّ الليبراليين قد يضطرون إلى التحالف مع النظام وغض الطرف عن قمعيته دراءا لخطر الفاشية الدينية، وسوف يكون من دواعي السخرية أنْ تتحالف أو تستعين الثورة برأس الثورة المضادة؛ بالسلطة العسكرية، لحمايتها من الفاشست. إنَّ شعار: الجيش والشعب يد واحدة، يعبر عن الخوف من "فوضى" قد تنشأ إما عن طريق أنصار القوى المزاحة من السلطة أو عن انتفاضة للمهمشين لا أحد يعرف شعاراتها بالضبط. وقد مثلت انتفاضة قنا بروفة عملية على ما يمكن أنْ يحدث؛ فقد خرج عشرات الألوف من الجمهور العادي ووراؤهم مثقفون من تيارات مختلفة في المحافظة تحت شعارات يسود عليها الطابع الديني الطائفي ويؤججها الفاشست، مما أصاب ثوار الطبقة الوسطى في القاهرة بالفزع ودفعهم للنقد العنيف للانتفاضة ونعتها بكل السوءات، مطالبين العسكر ضمنيًّا بقمعها. هذا لا يعبر فقط عن الخوف من شعارات الانتفاضة بل أيضًا عن العجز عن قيادتها، رغم أنَّ كثيرًا من المتمردين كان يخجل من ذكر دوافعه الدينية مما يعني إمكانية تبني شعار أكثر ثورية: انتخاب المحافظين. وكما أشرت من قبل سبق أنْ تحالف الثوار مع الجيش لفض اعتصام مهمشين وثوار معادين للمجلس العسكري من التحرير.
إنَّ أهم معضلات الثورة الأساسية تتمثل في: سيطرة العسكر على السلطة السياسية، وفي تناقض شعاراتها الديموقراطية مع وجود عناصر كثيرة لا ديموقراطية مشاركة فيها، والأهم: مع الثقافة السائدة في مصر؛ الدينية المتعصبة واللاعقلانية والمعادية – عمليًّا – للديموقراطية([18]). وهذه أكبر تهديدات لطموحات الثوار، العلمانيين بالتحديد. فهل يقبل العلمانيون معيار صناديق الاقتراع التي يتمسك بها الإسلاميون أم يطالبوا الجيش بحمايتهم من هذه الديموقراطية؟ وإذا قبل هذا الخيار فسوف تكون النتيجة استمرار نفس النظام مع إجراء عمليات تجميل وترقيع فحسب.
2-    السيناريو الأكثر واقعية أنْ تنضم للثورة قوى اجتماعية أكثر جذرية، مثل المهمشين، خصوصًا غير المثقفين منهم، وأشباههم مثل عمال اقتصاد الظل ومعظمهم شديدو الفقر، وصغار ضباط الجيش. ذلك أنَّ الجماهير صارت تملك إدراكًا أكثر وضوحًا لحقوقها المهضومة وقد عرفت كمية ما تم نهبه من أموال فلن تصدق أيَّ ادعاءات بنقص الإمكانيات، ولن يصبح الملايين قادرين على تدبير معاشهم بوسائل غير قانونية بنفس القدر بعدما أصبح الرأيُ العام يرفض ويدين هذه الوسائل إلى حد ما (مثل الرشاوى والإكراميات، والاختلاس..) بخلاف المحاكمات الدائرة للمتهمين بالفساد، مما سيرفع من معدل الفقر. في هذه الحالة سيضاف بعد اجتماعي عميق للثورة، ولن يكتفي الناس بإصلاحات مسكنة، وقد تمتد الاضطرابات إلى عموم البلاد، وتحدث صدامات عسكرية مع الجيش. هذه الفئات شبة البروليتارية لا تملك طموحات ديموقراطية من النوع الذي يستهوي المثقفين، ولا يعنيها تطبيق الشريعة في صورة فصل النساء وتحجيب المجتمع وضبط العلاقات الجنسية، بل تطلب أساسًا تأمين عيشها وتحقيق قدر من المساواة الاجتماعية، مما يتطلب تصفية الفساد ورفع الأجور والاهتمام بالمشاريع الصغيرة.
في هذه الحالة يصعب التنبؤ بمسار الثورة؛ فالمهمشون قوى اجتماعية هائلة من ناحية الحجم([19]) وتميل إلى العنف، وهي قابلة للانفجار الحاد، ويمكن استخدامها بواسطة قوى فاشية أو شعبوية، كما قد تنتج عن ثورتها فوضى شاملة، ومن المحتمل أنْ تتكون قيادات جديدة وتتحول الثورة إلى ثورة اجتماعية تنشد تغيير النظام الاقتصادي إلى نظام أكثر استيعابًا لصغار رجال الأعمال والأنشطة المنتجة والمشاريع الفردية الصغيرة والتعاونيات على حساب كبار رجال الأعمال، اللصوص في مجملهم، مما يمهد لتحول مصر إلى رأسمالية حقيقية. في هذه الحالة قد تتعرض البلاد إلى أزمات حادة. في كل الحالات ستميل الطبقة الوسطى إلى التحالف مع النظام بأيِّ ثمن تفاديًا لعاصفة انتفاضة الجياع.
 لن تستطيع السلطة أنْ تستوعب مطالب هذه الجماهير الغفيرة والشديدة الفقر إلا إما بتدفق قدر هائل من المعونات الأجنبية وفتح أسواق العمل في الخليج على أوسع نطاق (على حساب العمالة الآسيوية)، وهذا أمر يصعب تصور حدوثه لأسباب تخص المصالح الاقتصادية لهذه الدول، وهو الحل الذي تسعى الحكومة إليه في الوقت الراهن؛ فبدأت تطلب دعم البنك الدولي والدول الغربية ودول الخليج. وإما بإجراء تغيرات بنيوية في النظام ككل لا تستطيع أنْ تجريها إلا سلطة تشارك فيها الطبقات الفقيرة والوسطى بشكل فعلي، أو من يمثلها. فالأرجح أنَّ خطة العسكر ومن ورائهم الأمريكان لن تكفي لتسكين الجماهير الفقيرة والمهمشة والتي تستمر في الاحتجاج الآن.
والواضح أنَّ المطالب الاجتماعية أصبحت تمثل التحدي الأهم للسلطة ولأيِّ حكومة قادمة، بعد أنْ هدأت المطالب الديموقراطية ورضيت معظم قوى الثورة الديموقراطية بمكاسب شكلية. وهذا ما يهدد بسنوات من الاضطرابات والصراعات الاجتماعية الحادة. وقد يدفع شبح ثورة الفقراء إذا ظهر بوضوح النظام إلى التضحية بالمزيد من أجنحته وقبول إجراءات إصلاحية جذرية.
ويوجد ما يدل على وجود تذمر داخل قواعد الجيش، يستشف ذلك من تصريحات وتمرد بعض الضباط أثناء اعتصام التحرير قبل تنحية مبارك، واعتصام عدد آخر يوم 9 أبريل، وما يصدر على الانترنت من بيانات وأطروحات منسوبة لضباط تنتقد المجلس العسكري وتدعو لاستمرار الثورة. كل هذا ينبئ باحتمال حدوث تمر داخل الجيش إذا ما استمر تدهور الأحوال الاقتصادية وتفاقمت حركة الاحتجاجات الشعبية وانخرط الفقراء في العملية الثورية بقدر أكبر.
وإذا سدت السبل وتوقف قطار الثورة الشعبية ولم تلجأ السلطة للإصلاحات الضرورية لتسكين الفقراء، فقد ينفجر العنف وتتسع أعمال الإرهاب والاغتيالات.. ويوجد ما يدل على هذه الإمكانية؛ فقد هدد بعض أهل قنا باستخدام السلاح وقتل المحافظ كما تمت مؤخرًا عملية تفجير خط الغاز في سيناء للمرة الثانية منذ بداية الثورة.
مما سبق يمكن التنبؤ بفترة طويلة من عدم الاستقرار والاضطرابات المتتالية ومهما كانت النتائج النهائية فلن تعود عقارب الساعة وعلى الأقل ستحقق مصر حلقة من ثورتها الديموقراطية.





([1]) بخصوص هذه الوقعة يمكن الاطلاع على مقال خليل أبو شادي: اعتصام المهمشين، http://elbadil.net/%d8%ae%d9%84%d9%8a%d9%84-%d8%a3%d8%a8%d9%88-%d8%b4%d8%a7%d8%af%d9%8a-%d8%a7%d8%b9%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d9%85-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%87%d9%85%d8%b4%d9%8a%d9%86/
([2]) حللت هذا الأمر بالتفصيل في: المجلس العسكري هو العدو الرئيسي للثورة المصرية، http://modernization-adil.blogspot.com/2011/02/blog-post_28.html
([7]) من هؤلاء مايكل نبيل، المدون المعارض للعسكر. رابط مدونته: http://www.maikelnabil.com/
([9]) دعا القرضاوي إلى معاقبة العلمانيين حتى غير الملحدين منهم متهما إياهم بالردة معتبرًا أنَّ”العلماني الذي يرفض (مبدأ) تحكيم الشريعة من الأساس، ليس له من الإسلام إلا اسمه، وهو مرتد عن الإسلام بيقين، يجب أنْ يستتاب، وتزاح عنه الشبهة، وتقام عليه الحجة، وإلا حكم القضاء عليه بالردة، وجرد من انتمائه إلى الإسلام، أو سحبت منه (الجنسية الإسلامية) وفرق بينه وبين زوجه وولده، وجرت عليه أحكام المرتدين المارقين في الحياة وبعد الوفاة”، الإسلام والعلمانية وجها لوجه، الباب الثاني، تحديد المفاهيم، العلمانية والإلحاد،
([10]) مشروع البرنامج منشور على:
أما البرنامج النهائي للحزب فما زال يعد في أروقة الإخوان ومن المنتظر أنْ يصدر بعد شهر من الآن. وقد صرح المتحدث الرسمي للإخوان بأن النسخة النهائية للبرنامج لن تختلف بشكل ملموس مع المشروع الحالي (قناة دريم 2؛ 29 -30 ابريل 2011).
([13]) الصفحة الرئيسة للحزب:
([15]) إنَّ البسالة التي ناضلت بها الجماعات الليبرالية فى الثورة ترجع جزئيًّا إلى الشعور بالمهانة القومية التي تسبب فيها نظام مبارك المنبطح أمام القوى الغربية والخليجية وغيرها مثل دول حوض النيل.
([16]) هى: الحزب الاشتراكي المصري – الحزب الشيوعي المصري – حزب التحالف الشعبي الاشتراكي –حزب العمال الديموقراطي.
([17]) صفحتهم على النت: http://www.facebook.com/Egy.Anarchism
([18]) من الظواهر ذات الدلالة أنَّ معظم النساء المشاركات في الانتفاضة يرتدين الخمار، أيْ تعتبر الواحدة منهن نفسها عورة..فأيَّ ثورة تريد؟
([19]) قدر رئيس اتحاد الجمعيات الاقتصادية المصرية عدد العمال الجائلين بخمسة ملايين، http://forums.fatakat.com/thread686926 كما بلغت نسبة العمال الأفراد (اليومية) إلى 18% من قوة العمل، حيث بلغ أكثر من 3 مليون عامل طبقًا لتقرير التنمية البشرية لعام 1996). نقلًا عن سامح سعيد عبود، انحطاط الرأسمالية..مصر نموذجًا،