هذه دعوة للعمل على مناهضة قوى الظلام

واستمرار ركب الحضارة الحديثة

This Is A Call To Work Against The Forces Of Darkness And For Promotion Of Modern Civilization


أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 18 أبريل 2023

ظاهرة الهوس الديني في مصر - مقال تحليلي

         

عادل العمري

 

أبريل 2023

 

                 

تقديم

ما هو الهوس الديني

تجليات ومظاهر من الهوس الديني

علاقة الهوس الديني بالإسلام السياسي

عوامل انتشار الهوس الديني

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تقديم:

 سنستخدم في هذا المقال مصطلح الهوس بالمعنى الاصطلاحي للفظ وليس بالمعنى الطبي.

تنتشر ظاهرة الهوس الديني في مختلف البلدان بدرجات متباينة. ويُعد أكثر انتشارًا بين المسلمين. وهو يتخذ أشكالًا أكثر فجاجة في بلدان على رأسها أفغانستان ومصر. كما يوجد في إسرائيل بين قطاعات يهودية من المجتمع مهووسة بخرافات دينية من وعد الرب والأرض مقابل الختان وأرض الميعاد، وهي المجموعات التي استخدمتها الحركة الصهيونية. كما نشهد حاليًا طائفة الحريديم الأشد هوسًا بالدين... إلخ. وفي بقية بلدان الشرق الأوسط العربية بدرجة أو أخرى. بل وتوجد جماعات متعصبة مشابهة في بلدان أخرى عديدة لكنها قليلة العدد، مثل طائفة أوم شيرنيكيو باليابان، وهي تقوم على أسس من البوذية والهندوسية، التي تعتبر نفسها الفرقة الناجية من الجحيم، وقد قامت بقتل مواطنين بالغاز السام "لتطهير الأرواح الملعونة"..

كما وُجد هوس بالأيديولوجيا مثل الفاشية والقومية العربية التي تحولت على أيدي معتنقيها إلى أديان أرضية، وقد شكلوا جماعات متعصبة وعدوانية.

في هذا المقال سوف سنركز أكثر على الهوس الديني بين المسلمين في مصر حيث تشهد الظاهرة انتشارًا شديد الاتساع والعمق والتأثير على سير الحياة في هذا البلد.

ويسمى الإسلاميون ظاهرة الهوس الديني بـ الصحوة الإسلامية، والتي بدأت في أواخر ستينات القرن العشرين.

 

ما هو الهوس الديني:

 * قد يكون سلوكًا فرديًا كما أنه ظاهرة مجتمعية. ويمكن تعريفه بأنه حالة نفسية تدفع المرء إلى التعصب والتطرف والمبالغة في إظهار التدين. وهو بذلك يجرد الدين من كونه علاقة بين الفرد وربه، فيصبح الإعلان المستمر عن التدين أحد أهم مظاهره، بالرغبة التطهر وفي التمتع بإحساس التميز على الآخرين، والهروب من واقع يفرض على المرء أن يسلك بطريقة منافية للقيم النبيلة المتعارف عليها. إنها حالة قد تدفع المرء إلى تصورات غير واقعية مثل التعرض للاضطهاد من كل المخالفين في العقيدة. وإذا بلغ الأمر درجة متقدمة قد يفسر الإغراق في نظريات المؤامرة وتفسير الظواهر الاجتماعية على أساس ذلك، كما قد يفسر ظاهرة الإرهاب الديني (=الاعتداء على أو ترويع أناس مدنيين مسالمين بحجة خروجهم على الدين أو العداء له، بغرض خدمة أهداف دينية، سواء أكانت سياسية، أو اجتماعية، أو عقائدية).

* قد يتخذ الهوس الديني شكل الوسواس القهري في جوانب معينة، مثل المبالغة أو تكرار الطقوس الدينية أو إطالة وقتها، أو بذل الوقت والجهد أكثر مما يلزم للتطهر البدني والوضوء أو إعادة الوضوء أو الصلاة على سبيل الاحتياط. وذلك للتأكد بقدر الإمكان من القيام بالواجبات الدينية على نحو كامل.

* وتنتشر بشكل واسع ظاهرة الهوس بالجنس - بالمعنى الاصطلاحي للتعبير - لدى الجنسين. وإذا كان الإعلان عن هذا عملًا منافيًا للدين بوضوح، فالهوس الديني هو الآخر مناف لتعليمات الدين الصريحة في معظم الأحيان. ونعتقد أن الاثنين متقاطعان، خاصة أن الهوس الديني يعتبر جسد المرأة من أهم موضوعاته كما سنرى. وقد يعلل هذا تعمق وتجذر الكبت الجنسي في المجتمع وضعف مجالات تفريغ الطاقة مثل لعب الرياضة وممارسة الفن والبحث العلمي والعلاقات الاجتماعية القائمة على الحب والاحترام..

ويجد الهوس الجنسي أساسًا في الفقه الإسلامي عمومًا. كما يحتل جسد المرأة مكانة مهمة في الخطاب الإسلامي القديم والمعاصر، خاصة في الدول العربية، ومنها مصر. وقد حدد مؤشر الفتاوى لعام 2019 أن فتاوى المرأة تمثل 25% من الفتاوى على مستوى العالم، وفي الدول العربية 40%، أما في مصر فتمثل 45% من الفتاوى، وفي الدول غير العربية 15%. ومع انتشارة الهوس الديني صار هناك هوس بحجب المرأة لدى الرجال والنساء: فيهتم المتعصبون بالحجاب والنقاب. بل تتعامل جماعات الإسلام السياسي مع الحجاب كرمز لسطوتها واتساع تأثيرها. ومن الملفت كثرة الشعارات التي تتناول حجاب وتغطية المرأة عمومًا، وتنتقد ما يسمونه بـ التبرج. إنه علاوة على كونه يقوم ( بجانب اللحية بالنسبة للرجال) بدور الصليب المعقوف عند النازيين؛ رمز التميز، فإنه يُعامل كتعويذة تجلب الخير وتضمن النصر. والأهم أنه آلية للتغطية على الهوس الجنسي لدى الرجال والنساء ونفي وجوده.

ويجد الهوس الجنسي متنفسًا له عند الإرهابي أو الجهادي الذي يموت في سبيل الله كما يزعم، طمعًا في الجنة بما فيها من ملذات أهمها العشرات من الحور العين. وهذا الطمع في الحور معلن وصريح في أوساط الجهاديين ويتم استخدامه في إغراء الشباب الانتحاري. بل تم سبي النساء من قبل جهاديين مثل الدواعش، كما تم تزويج شباب وشابات فقراء في الجماعات الإسلامية المختلفة إرضاء لنزواتهم وجوعهم الجنسي.

كما تكثر الكتابة والكلام عن عدم حق المرأة المسلمة في الزواج من غير مسلم، وعدم أحقيتها في إمامة المصلين، وفي الولاية العامة... إلخ. كما يأتي الاهتمام بتحقير الفن والفنانين من اعتبار المرأة عورة، ابتداء من صوتها وحتى قدمها، وتحريم اختلاطها بالرجال وتحريم الرقص والغناء.. بينما لا تحتل الأخلاق من نوع الصدق واحترام الآخر والأمانة اهتمامًا يذكر.

* الهوس الديني له درجات مختلفة، وقد يختفي أحيانًا ويعود من جديد، وقد يختفي تمامًا.. كل هذا حسب الظروف المحيطة بالفرد ومسار حياته.

* من سمات الهوس الديني المجتمعي ميل هذا الجمهور وأفراده إلى فرض نفس السلوك على الآخرين، بمختلف الضغوط المعنوية أو المادية أو كليهما، لدرجة قد تصل إلى حد إرهابهم أو الاعتداء عليهم. فتوسيع مدى انتشار تلك الحالة يثبت لأصحابها أنهم على الحق، كما يجعل صوتهم أعلى ويمنحهم نوعًا من المشروعية والسلطة المجتمعية.

* هناك أيضًا اللجوء إلى السلفية، فبدلًا من الاستناد إلى نصوص مقدسة صريحة يتم الاستناد إلى ما يُسمى بالسلف الصالح، مثل الاستناد إلى سنة الخلفاء "الراشدين" وبعض مشاهير الصحابة. فصارت مصادر الدين تُعد بالعشرات، ترضي التشدد وحالة الهوس بالدين. فالهوس هو الأصل لا النصوص المقدسة.

إن تقليد السلف هو آلية للهروب من الواقع والتعالي عليه. إنه نكوص تاريخي وثقافي إلى ثقافة لم تعد تتماهى مع الواقع المعاصر. وهذه الحالة النكوصية هي بديل لمواجهة الحاضر والنضال ضد عقبات تحقق الفرد وتحرره. وهي حالة تشبه ما يحدث أحيانًا للمصابين بالعصاب. وهو أحد ردود أفعال الإنسان المستَلب في العالم المعاصر. يُعرف النكوص Regression في علم النفس بأنه عودة إلى المراحل السابقة من العمر من خلال التصرفات والسلوكيات التي تميز تلك المرحلة، وذلك لتحقيق نفس النتائج التي كان يحققها الفرد خلالها، مثل تحقيق قدر من الأمن والتوازن حين تعترض الفرد مشكلة أو موقف محبط. فهذه الظاهرة ذات علاقة قوية بالحاجة إلى الأمان والرغبة في تحقيق النجاح. وقد أثبتت الدراسات النفسية أن النكوص استجابة شائعة للإحباط والفشل والعجز.

 

تجليات ومظاهر من الهوس الديني:

* إذا كان الجمهور العادي يتحرك وفقًا للمشاعر وليس العقل، ففي مصر ومعظم البلدان العربية تخضع النخب أيضًا للمشاعر وحتى للخرافات.

لقد انتصر الدين على العلم والفلسفة أو الفكر العقلاني في مصر ومعظم البلدان الإسلامية وأصبح للغيبيات والتفسير الديني للواقع وللتاريخ اليد العليا، حتى لدى أساتذة جامعات ومفكرين. أصبح من المعتاد أن نقرأ عن تاريخ يتضمن دور النبي موسى أو النبي يوسف أو طوفان نوح. وبالطبع لا تحظى نظرية التطور سوى بجمهور محدود، حتى من جانب أساتذة في العلوم الفيزيائية.

كما أننا كثيًرا ما نقرأ أو نسمع خطبًا للمشايخ تقلل من شأن العلم وتتهمه بالعجز والفشل، من ذلك تفسير شفاء بعض المرضى تلقائيًا بعد فشل الأطباء، وذلك للتدليل على قدرة الله، والتشكيك أو نفي هبوط الإنسان على القمر أو هبوط سفن فضاء على المريخ وغيره لاستحالة ذلك زعمًا، وهي قصة شائعة. وهناك ظاهرة سابقة على عصر الحداثية Modernity عاد انتشارها بشكل واسع، هي تفسير أحداث الطبيعة تفسيرًا غيبيًا؛ كعقاب من الله للبشر أو كمكافأة منه للصالحين.  وكثيرون هم من يؤمنون بصلاة الاستسقاء.. وغير ذلك الكثير.

وقد صار رجال الدين نجوم الفضائيات الأكثر انتشارًا، يُستفتون في كل شيء بما في ذلك تفسير الأحلام ومختلف القضايا الاجتماعية والسياسية. وقد أصبحوا أكثر شهرة وأهمية من رجال العلم والفكر.

بل صار كثير بعض يبدو بمظهر رجل الدين الذي يفسر الطب على ضوء النصوص الدينية ولا نعدم تهجم طبيب نفسي متعصب على مريض نفسي متهمًا إياه بالبعد عن الله كسبب لإصابته بالمرض! ومن الأمور الغريبة أن "الرقية الشرعية" أصبحت سلاحًا معتمدًا لدى جماهير غفيرة، بل نعرف أن هناك قنوات فضائية تقدم لها الدعاية، وهي كانت موجودة من قبل لكنها أصبحت واسعة الانتشار بشكل ملفت بين أهل المدن. وقد انتشر الاعتقاد بالمس الشيطاني ولبس الجن للإنسان على حساب علم النفس. كما أصبح هناك جمهور مهم لبرامج تفسير الأحلام بطريقة السلف وبالمخالفة لعلم النفس. كذلك أصبحت ظاهرة الطب النبوي منتشرة وقد تخصص فيها كثير من المشايخ، وهي ظاهرة قديمة لكنها ضعفت بعد عصر الحداثة Modernism ثم عادت للانتشار من جديد.

وكثيرًا ما رأينا زعماء إسلاميين وحتى رجال دين غير مسيسين يروجون لختان الإناث ولاعتبار عمل المرأة الأساسي هو شؤون المنزل، ويحرمون التبرع بالأعضاء وزراعتها، بل دعا أحدهم (الشيخ الشعراوي) إلى عدم معالجة الفشل الكلوي. وطبعًا تتلقى نظرية التطور أكبر قدر من العداء والهجوم، نراه ونقرأه على مدار الساعة، خصوصًا من خاصة وعامة المتدينين.

ويحفز الهوس الديني انتشار الخرافات. فالمبالغة في التدين الشكلي تمتد على استقامتها لتبالغ في الغرق في عالم الغيبيات الموجودة في الدين أصلًا. فمن الظواهر التي تصادفنا كل يوم تفسير الكثيرين لحدوث وقائع تتم كثيرًا بالصدفة بأنها من تدابير الغيب. من ذلك مثلًا حين يقدم أحدهم خدمة لشخص ما أو حتى لحيوان جائع أو مريض فيجني مكاسب كبيرة في نفس اليوم، كأنها تعويض من الرب على الخير الذي فعله. ومثل هذه الحواديت واسعة الانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات يوتيوب. وفي العقود الأخيرة أصبح هناك اعتقاد شعبي شائع عن صب الماء الساخن في الحمام يثير الجن وأن الوقوع في الحمام من أسباب مس الجن وتلبسه جسم الإنسان، وهناك كثير من المشايخ يروجون لمثل هذه الخرافات. كما صارت ظاهرة الخوف من العين الحسود منتشرة بشكل واسع للغاية، خاصة بين محدثي النعمة. وضمن الخرافات الزعم بظهور ملائكة حاربت مع هذا الجيش أو ذاك. مثل ادعاء بعض المسلمين أن ملائكة حاربت بجوارهم فى حرب أكتوبر 1973 وفي أفغانستان. ومن الطريف أن ذهب جنود إسرائيليون وأمريكيون نفس المذهب! كما راجت كثير من الحوادث الوهمية، منها قصة الفتاة العمانية التي تحولت لعنزة مشوهة لانها استهترت بقراءة القرآن، وسماع نيل أرمسترونج للأذان على سطح القمر (وقد نفى الرجل هذه الفرية وعقد مؤتمرًا صحفيًا أعلن فيه ذلك)، واكتشاف آثار لانشقاق القمر الذي ذكره القرآن على سطحه، وهي صورة مصنوعة ببرنامج فوتو شوب، وقد وزع الأفاقون الذين طبعوا صورة أشجار على هيئة "لا إله إلا الله" وزعموا أنها غابة في ألمانيا مئات الألوف من النسخ وربحوا الأموال الوفيرة بينما هي لوحة رسمها فنان مصري أزالوا توقيعه من عليها! وتكثر الإشاعات عن دخول بعض المشاهير إلى الإسلام، مثل مايكل جاكسون وابنة الرئيس السابق ترامب.. كل هذه القصص الوهمية وجدت رواجًا هائلًا وسط الجمهور المصاب بالهوس الديني. وإن شعور هذا الجمهور المهووس والمصاب بمركبات النقص إزاء العالم الحديث يجعله مرتعًا خصبًا للكذابين والأفاقين ومروجي تلك الإشاعات.

كما أصبحت الدعاية لما يُسمى بالإعجاز العلمي واسعة الانتشار وذات جمهور عريض. فأصبح – كمثال - استخدام النصوص في الدعاية لبعض المنتجات شائعًا، مثل التمر والعسل وحبة البركة واللبن والتلبينة النبوية (حساء يُحضر بطبخ الشعير المحمص المطحون مع الحليب ثم إضافة العسل إليه)، بل وأحيانًا بول الإبل والحجامة. بل بلغ الهوس بهذا الإعجاز حد الادعاء كذبًا بوجود دراسات علمية تؤكد إعجاز القرآن والأحاديث، مثل الزعم بفوائد بول الإبل، وبوجود مضادات حيوية في الذباب تؤكد إعجاز حديث الذبابة الشهير ( إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء)... إلخ.

في الحقيقة يتطلب انتصار العلم والعقلانية على الخرافة توفر القدرة ورغبة الذات في التحكم في الواقع المادي أو الاجتماعي. أما في حالة غياب هذه القدرة أو الرغبة فيلجأ الافراد والجماعات – بشكل لا إرادي بالطبع - إلى حيل دفاعية بدائية والي الخرافة في تفسير ومحاولة تغيير الواقع أو للتعبير عن نفسها عمومًا. وهذا هو الحال لدينا هنا.

* نمو النزعة الطائفية والعداء للآخر بدون أي مبرر واقعي: الطائفية ناتجة عن اتخاذ التمرد والهوس صورة دينية. وقد دفع التمييز المسيحيين في مصر إلى التقوقع والالتفاف حول الكنيسة الأرثوذكسية. ونجد تحريض الآباء لأبنائهم ضدهم باعتبارهم كفارًا ومنعهم حتى في أحيان كثيرة للغاية من اللعب معهم. كما كثر الدعاء على غير المسلمين في المساجد وإعلان ذلك بالميكروفون في أحيان كثيرة، لدرجة دفعت شيخًا مثل القرضاوي، صاحب فقه الأولويات، إلى الدعوة إلى وقف هذه الممارسات. بل حدث مرارًا تعاطف من قبل الأمن مع المتعصبين المسلمين في الأحداث الطائفية والمذابح، مثال ذلك مذبحة الكشح في 1999 -2000، وفي حادث الاعتداء على الكاتدرائية بالقاهرة في أبريل 2013.

ونجد أن كثيرًا من عامة المسلمين يحملون أفكارًا خرافية عن المسيحيين المصريين، مثل أن للكاهن "حق الليلة الأولى" للتأكد من عذرية العروس، وأنه مسموح لنسائهم بارتداء ملابس مثيرة، وأن الزنا عندهم شيء معتاد ومقبول. كما يشيع تصور بين كثير من عامة المسلمين أن المسيحيين يتبادلون القبلات داخل الكنيسة ليلة الميلاد، كما يمارس الرهبان اللواط داخل الأديرة، وكذلك تمارس الراهبات والقساوس الجنس في الكنائس. كما يتصور الكثيرون أن هناك أسلحة داخل الكنائس وأن هناك مؤامرات مسيحية مصرية تهدف إلى تقسيم البلاد و محاربة الإسلام... إلخ. ومن التخاريف ان المسيحيين لا يغتسلون عقب قضاء الحاجة، وأن رائحتهم كريهة... إلخ. كل هذا التقليل من شأن الآخر يهدف إلى رفع شأن الإسلام والمسلمين. وتتكرر عبارة غريبة هي: الحمد لله على نعمة الإسلام، لدى الحديث عن ظواهر غير أخلاقية في الغرب، كأن الإسلام هو كائن يحمي أصحابه! ومثل تلك التخاريف يروج لها شيوخ السلفية، وكان الشعراوي يفعل ذلك (قال ذلك في تفسيره لآية: "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس").

وبعد الصحوة انتشرت أيضًا فكرة تقول بأنه لا يجوز اتخاذ غير المسلمين أصدقاء، بناء على فكرة الولاء والبراء. ومن قبل لم يكن الناس يتحفظون على إقامة صداقات مع غير المسلمين عدا قليلين.

 وعلى الجانب الآخر أصبحت هناك فوبيا عند كثير من المسيحيين من المسلمين. من أمثلة ذلك تصوير أحداث اختفاء بنات أو سيدات مسيحيات على أنه خطف وأسلمة بالقوة من قبل جماعات إسلامية، بينما يكون الدافع وراء هروبهن هو إما الوقوع في حب مسلمين أو الرغبة في اعتناق الإسلام، أو التعرض للخطف مثل أي حادث خطف لأنثى. فلم يثبت هذا الادعاء أبدًا ولم تقل به أي فتاة أو بنت مختفية بعد عودتها أو إعادتها. ربما تحدث حالات أسلمة لقاصرات أو تحت ضغط الحب، لكن كعملية منظمة ومخططة أو تتم بالقوة فلا دليل عليها.

* استسهال التكفير للمخالفين، مثل الشيعة والصوفية والمسيحيين والعلمانيين حتى المؤمنين منهم بالدين. وقد بلغ الشطط من شيخ كبير مثل القرضاوي إلى تكفير والمنادة بمعاقبة العلمانيين في كتابه: الإسلام والعلمانية وجهًا لوجه: "العلماني الذي يرفض مبدأ تحكيم الشريعة من الأساس، ليس له من الإسلام إلا اسمه، وهو مرتد عن الإسلام بيقين، يجب أن يستتاب، وتزاح عنه الشبهة، وتقام عليه الحجة، وإلا حكم القضاء عليه بالردة، وجرد من انتمائه إلى الإسلام، أو سحبت منه الجنسية الإسلامية وفرق بينه وبين زوجه وولده، وجرت عليه أحكام المرتدين المارقين، في الحياة وبعد الوفاة".

* يشكل الجمهور المصاب بالهوس الديني وسطًا ملائمًا لتسيد أشخاص من الانتهازيين الذين يقدمون أنفسهم كدعاة دينيين، والذين يعرفون كيف يستفيدون من هذا الوسط، فيمثل الواحد منهم دور القديس الهائم في حب الله والغارق في حالة ورع، فيحققون شعبية واسعة تجلب لهم المكانة والمال الوفير. وفي هذا الحالة نقول إن الجمهور هو المهووس بالدين وليس الشخص النصاب.

* يجتهد البعض في البحث والتحري عن اكتشاف ظواهر تبدو عجيبة تبين عظمة الخالق وصحة الإسلام، مثل اكتشاف كلمة الله على حبة طماطم، أو لفظ محمد منحوتًا على صخرة، وغالبيتها مشاهد وهمية وبعضها صور مختلقة أو صدف متكررة. كما يتم تفسير سلوك الحيوان أحيانًا بأنه شكل لعبادته لله، فالحيوان يركع ويسجد، والطيور تلف حول الكعبة كطقس ديني!. وهناك الكثير من الصور والفيديوهات المفبركة لذلك (ونجد أصلًا لذلك في النص المقدس).

* أحيانًا يتخذ الهوس الديني شكل الهستريا الجماعية، وهي تنتقل بالإيحاء والتأثير والتقليد، والتعاطف المتبادل. وقد شهدنا ذلك في مناسبة الرسوم المسيئة للنبي محمد، وفي حادثة قتل مواطنة مصرية في ألمانيا حيث خرجت مظاهرات تندد بالألمان عمومًا وتصفهم بأعداء الله، رغم أن الحادث كان فرديًا ولم تقصر السلطات الألمانية في اتخاذ الإجراءات القانونية ضد مرتكب الجريمة. لكن الجنون الديني تغلب، فتم إلباس القضية ثوبًا دينيًا وعنصريًا، خاصة أن القتيلة كانت محجبة ووصفها القاتل بالإرهابية بسبب حجابها. وكانت الحكومة المصرية قد نفخت في النار، كما اتهم الرئيس الإيراني القاضي الألماني وأعضاء هيئة المحلفين والحكومة الألمانية بالمسؤولية في هذه القضية رغم الإجراءات التي اتخذوها ضد القاتل. وإذا استرجعنا للذاكرة مشاهد مظاهرات المسلمين في لندن حين أصدر سلمان رشدي روايته آيات شيطانية، والمظاهرة الهستيرية التي شارك فيها مليون مواطن في مالي في نوفمبر 2022 لوجدنا أناسًا مصابين بلوثة تشبه ما يُسمى في الطب النفسي بنوبات الغضب Tantrum .

كذلك تحدث نوبات من الهوس المصاحب للهستريا الجماعية في بعض احتفالات الشيعة مثل ذكري الحسين، حيث يقوم الجمهور بأعمال عنيفة ويؤذي الأفراد أنفسهم بطريقة قاسية. كذلك نشهد نوبات من الهوس الجماعي في بعض احتفالات الصوفية، مثل حلقات الذكر (الحضرة) والاحتفال بموالد بعض "أولياء الله الصالحين"، إذ قد تحدث حالات إغماء لبعض الأفراد. وقد يتصرف هذا الجمهور وذاك بشكل طبيعي قبل وبعد انتهاء النوبات المذكورة. ولا شك أن هناك من يبالغ في انفعالاته بطريقة واعية ومصطنعة، لكن هذا نفسه يعكس رغبته في الإعلان عن إيمانه الشديد وورعه، ويظل أيضًا أحد مظاهر الهوس الديني.

* يتم في أحيان كثيرة تصوير أحداث فردية وشخصية ودوافعها متعددة مثل المصالح الاقتصادية كأحداث ذات جذور ومحتوى ديني. نجد هذا في عناوين للصحف مثل: أسرة مسيحية تفعل كذا ضد أسرة مسلمة – شاب مسيحي يعتدي على فتاة مسلمة أو العكس، لتشتعل الهستريا الجماعية ويتم حرق بيوت مسيحية أو كنيسة وقتل والتنكيل بأسر كاملة لا علاقة لها بالحدث نفسه.

* المبالغة في الاستماع إلى القرآن والدروس الدينية وتجويد القرآن حتى على حساب وقت العمل والواجبات تجاه الأبناء والأهل، وهو تعبير عن الوسواس ذو الأعراض الدينية. وعادة يكون الدافع وراء ذلك الرغبة في جمع قدر كبير من الحسنات لتحقيق شيء من الضمان لدخول الجنة. وفي غالبية الحالات يكون الدافع الخفي هو غسل الذنوب.

* قراءة القرآن في وسائل المواصلات بصوت مرتفع فرضًا على بقية الركاب، مع أنه من الممكن قراءته بدون جهر، بل إن الجهر مكروه في النص المقدس (في هذا الحديث النبوي: الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة).

* أسماء الناس: معظم الذكور في مصر لهم أسماء النبي: 24 مليون يحملون أحد الأسماء الثلاثة: محمد – أحمد – محمود عام 2020، وآخرون يسمون طه ومصطفى، صادق، وأسماء أخرى مثل أسماء شخصيات دينية مقدسة مثل علي – حسن – حسين، ثم عبد كذا... أما فيما يتعلق بالإناث فراحت تنتشر أسماء لها علاقة مباشرة بالقرآن مثل: بسملة – إسراء - آلاء – تقوى – سجدة - سجود.. والأسماء الدينية كانت دائمًا موجودة، لكنها صارت أكثر انتشارًا واشتقاقًا من القرآن بعد الصحوة الإسلامية.

* تستخدم كلمات دينية في غير موضعها، وهناك مبالغة في التلفظ بعبارة: "إن شاء الله" حتى بخصوص شيء حدث بالفعل وليس سيحدث. مثل الرد على سؤال: ما اسم ابنك، فيقال: إن شاء الله كذا. كما كثر بشدة استخدام عبارة: صلي على النبي وفي غير مناسبة.

* كثرة الدعاء استنادًا إلى السلف الصالح والأحاديث النبوية، الموضوعة في الغالب. ويشيع اللجوء إلى الدعاء أكثر من إتقان العمل، والتطلع إلى تدخل الرب أكثر من السعي نحو تغيير الواقع. بل وصل الأمر بواحد من أشهر المحرضين على السلطة (معتز مطر) أن يقدم فكرة الدعاء كأهم أسلحة النضال السياسي. هكذا ترسخت فكرة تدخل الرب في الحياة اليومية للناس وتشجيع الأفراد على انتظار المعجزات ووضعها قبل الاجتهاد البشري. وتستمر هذه الفكرة رغم استمرار المعاناة والفشل، معبرة عن الشعور بالعجز وقلة الحيلة.

* أحكام القضاء: نظرًا لانتشار حالة الهوس الديني شهدنا أحكامًا تتم باجتهاد القاضي ومتمشية مع تلك الحالة. من ذلك رفض الحكم لسيدة مسيحية بحضانة أطفالها من الزوج المسلم. ومؤخرًا شهدنا حكم محكمة بعدم الاختصاص في قضية تبني طفل بواسطة عائلة مسيحية إما حسب قناعة القاضي الدينية أو خوفًا من ردود أفعال الجمهور عند إصدار الحكم بالقبول أو الرفض. وهذان المثالان يخالفان الفقه الإسلامي، أي الشريعة.

* الإعلان عن تقديم الصدقات، سواء للأصدقاء والأقارب أو شيء مثل موائد الرحمن أو حتى الإعلان في وسائل الإعلام، رغم أن النصوص الدينية تحض على العكس. وكان يكفي تقديم المساعدات دون أن يعرف أحد للحصول على رضا الرب. وفي بلد كمصر تلجأ الدولة نفسها إلى هذا السلوك المشين، ونقصد الإعلان.

* تسمية مشروعات اقتصادية بصفة إسلامي، مثل فندق كذا الإسلامي، مطعم إسلامي، ربما لأنه لا يقدم الكحوليات. وكأن المطعم المسيحي أو البوذي لا يستطيع رفض تقديمها! وهذه مجرد دعاية تجارية رخيصة تُستخدم لجذب المتدينين.

* قبل الصحوة الإسلامية كانت كثير من المحلات تبيع البيرة وكان تقديم بقية المشروبات الكحولية يتم بسهولة في كثير من الكافتريات والمطاعم. لكن بعدها تقلص عدد المحلات التي تبيعها وأصبحت تباع في أماكن محدودة، إما خوفًا من غضب المتعصبين بعد قيامهم بتحطيم بعضها، أو كنتيجة لانتشار الهوس الديني بين أصحاب المحال. بل أصبح البعض يرفض بيع السجائر اعتقادًا منهم بحرمانيها.

* كتابة عبارات دينية خادعة على وسائل المواصلات والمحلات، مثل "حجابك عفافك"، "يستمر الغلاء مالم تتحجب النساء". كما يتم نشر ملصقات إعلانية على المباني أو السيارات، منها: لا إله إلا الله محمد رسول الله - هل صليت على النبي... إنه الإعلان عن التدين، مما يعبر عن تبرك الجمهور بهذه الشعارات.

* بعض الناس يقوم بالصلاة في وسط الشارع أو أمام مسار مركبات مثل الترام (حدث هذا حديثًا في بلد أوروبي)، لتأكيد تدينهم وإعلانه على الناس ولو بخلق المشاكل لهم. كما يعتبرون الآخرين من الكفار الذين لا يستحقون أي اعتبار. وهي لحسن الحظ ظاهرة محدودة الانتشار.

* رفض إذاعة أغاني أو برامج اجتماعية وسياسية في وسائل النقل العامة وحتى التشاجر مع السائق لمنعه بالقوة من إذاعتها حتى لو كان جمهور الركاب يرغب في سماعها. كما شاهدنا جماعات إسلامية تقوم بمنع أو تخريب حفلات فنية في الجامعات.

* تركيب وإذاعة تسجيلات للأدعية أو الآيات الدينية في المصاعد الكهربائية، وهو أمر ليس من فرائض أي دين.

* البحث عن جذور دينية تبرر بعض العادات مثل تربية القطط، حيث توجد أحاديث نبوية ومأثورات للصحابة حول هذا الأمر.

* تم نقل بعض السلوكيات والعادات من السعودية بعد سفر الملايين إليها. وليس هذا عائدًا إلى اقتناعهم بالوهابية. بل انتقى المصريون بعض الأشياء اعتقادًا منهم أنها لأنها تمارس في السعودية تكون أقرب للدين، ومثل الاحتفال بسبوع المولود الذي أصبح في مصر يُسمى بالعقيقة ( الذبيحة التي تذبح عن المولود) بدلًا من السبوع، استنادًا لأحاديث نبوية، بينما هي عادة مصرية منذ آلاف السنين، والتعزية بكلمات: "البقاء لله" بدلًا من "البقية في حياتك"، وعادة لبس الجلباب بين المتعلمين لكن بتصميم مصري.

* وبدلًا مما اعتاده المصريون الذكور من لبس دبلة من الذهب في فترة الخطوبة ثم بعد الزواج، أصبحوا يلبسون دبلة من الفضة منذ الثمانينات، استنادًا إلى حديث نبوي يحرم الذهب والحرير على الرجال. وهذا ما يفعله المسلمون عمومًا وحتى العلمانيين وجل الملحدين منهم. وقد أصبح من النادر أن نري مسلمًا يلبس دبلة من الذهب. مع ملاحظة أن الدبلة الذهبية مجرد رمز وليست للزينة.

* وحتى تبادل التحية قد اقتصر لدى قطاعات واسعة على "السلام عليكم" حتى على التليفون وتوارت – إلى حد كبير - تحيات أخرى مثل صباح الخير ومساء الخير رغم أنها ليست محرمة في النص المقدس، كما جاء في القرآن: "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها".. وكل هذا لا علاقة له بالوهابية، بل بالهوس بالدين. وقد أبدع المصريون بدعة جديدة، وهي تحية جديدة تمامًا وغريبة، هي: لا إله إلا الله ويكون الرد هو: محمد رسول الله. وقد ظهرت بعد الصحوة الإسلامية ولم نسمع عنها من قبل.

* تحريم الفن: منع الاستماع للأغاني أو الموسيقى، وهذه ظاهرة محدودة الانتشار لكنها جديدة على المجتمع المصري. وقد أفتى علنًا المتحدث الرسمى للدعوة السلفية، عبد المنعم الشحات، بإباحة الغناء مع تحريم الموسيقى، بينما اشترط مفتى مصر السابق، نصر فريد واصل، "أن يكون الغناء بألفاظ حسنة، وله معانٍ شريفة وأهداف كريمة، ويؤدي بطريقة لا تتنافى مع مكارم الأخلاق، ولا يشغل الإنسان عن أداء ما كلَفه الله به، ويقصد الترويح عن النفس فلا بأس به، أما إذا كان غير ذلك فإنه يحرم الاستماع إليه". كما حرم مفتٍ آخر للجمهورية رسم الموديل العاري. وكان تدريس رسم وتجسيد المويل العاري أساسيًا في كليات الفنون لكن أصبح الطلاب يرفضون رسمه منذ صعود الصحوة الإسلامية.

وتنتشر ظاهرة التنمر على وإهانة الفنانين والسيدات منهم خصوصًا واتهامهن بالفجور وارتكاب "الرزيلة" و"الفحش" وممارسة الجنس في الأعمال الفنية. كما سعى بعض ذوي النفوذ إلى تحجيب الفنانات (مثل جهود الشعرواي والوهابية السعودية). بل تحولت بعض الـ "تائبات" منهن إلى دعوة أخريات لاعتزال الفن والتحجب. ومن المرجح أن هذه الممارسات تتم بوعي وقصد بهدف تغييب الجمهور وتعميق حالة الهوس الديني.

وفي فترة الثمانينات كان يتم تحطيم محلات الفيديو بواسطة الجماعات الإسلامية الأكثر هوسًا بحجة حرمانيتها.

ونحن لا نثير هنا قضية الحلال والحرام، بل نرصد التغير الذي حدث في المجتمع، وفرض رؤية المتدينين أو تنمرهم واعتداءهم على الآخرين وعدم ترك الناس أحرارًا، وقوة انتشار هذه النزعة الدالة على انتشار الهوس الديني.

* الصلاة في أماكن العمل لمدة طويلة في أغلب الأحيان. والأهم هو أن هذا يتم بشكل معلن ويعطل الأعمال ورغم أن هامش وقت الصلاة متسع ويمكن تأجيلها لحين العودة إلى المنزل. لكن يتم تفضيل الصلاة على مصالح المواطنين (شاهد الكاتب بنفسه في السعودية أطباء مصريين فقط يتركون العناية المركزة أو مريض يحتاج إلى إنعاش قلبي – رئوي من أجل الصلاة لدى سماع الأذان).

* في ممارسة الألعاب الرياضية تجد لاعبًا يركع أو يسجد حين يلعب لعبة جيدة، فى حين أنه كان يكفي أن يشكر ربه في قلبه دون أن يمارس هذا السلوك المعلن. فهل المقصود هو شكر الرب أم إعلان ذلك للجمهور؟!

* الإقبال المتزايد على رحلات الحج والعمرة رغم التكلفة المرتفعة وعلى حساب الحاجات الأساسية في كثير من الأحيان. بل قد ينفق المعتمر أو الحاج كل ما جمعه من مال للقيام بهذا الطقس على حساب أبنائه وحتى على حساب علاجه. إنها الرغبة الشديدة في التطهر وغسل الذنوب. وكثيرًا ما يقوم بالحج لصوص وأفاقون فينفقون المال للحصول على لقب "حاج" ولتطهير أنفسهم أمام الناس. وكل هذا كان يحدث طول الوقت لكنها أصبحت ظاهرة منتشرة للغاية بعد الصحوة الإسلامية. كما انتشرت مؤخرًا ظاهرة حالة سيلفي الكعبة. وهي ظاهرة تتسع، وتتلخص في نشر الحجاج والمعتمرين لصورهم وهم في الحرم والكعبة في خلفية الصورة. فهكذا تصبح العمرة والحج معلنين ويحوِّل الإعلان عن علاقة المفروض أنها بين الفرد وربه إلى إعلان رخيص عن تدين الشخص.

* توسيع الشخصيات الدينية المقدسة لتشمل الصحابة مع كل الأنبياء، مع تحريم تجسيد أحد منهم في الأعمال الفنية كالرسم والتمثيل. ويضاف لهذه الرموز الدينية بعض كبار رجال الدين، ويتم تحريم نقدهم ويهاجَم من يفعل ذلك. كما يتم تفخيم الكلام عنهم (وكل هذا لا يوجد له أصل في النص المقدس).

* نجد مظاهر هذا الهوس واضحة في تعليقات المتابعين لليوتيوب، فتتكرر الأدعية الدينية والدعوة للصلاة على النبي محمد وكتابة آيات قرآنية بشكل ملفت للغاية، ويكون كل هذا بلا أي علاقة بالموضوع المطروح وطبعًا بلا أي قيمة دينية حقيقية.

* كما نجد كثيرين يملأون صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بآيات قرآنية وأحاديث وأدعية بدون مناسبة. يريد هذا وذاك أن يقول إنه مسلم جدًا.. فما ضرورة ذلك؟! هل هذا السلوك فريضة دينية أم قياسًا على سنة السلف؟ لا هذا ولا ذاك.. إنه مجرد حالة هوس بالدين.

* بل كثيرًا ما يتلقى المرء على تليفونه دعاء يطالبه من أرسله ويستحلفه أن يعيد إرساله إلى الآخرين حتى لا تصيبه اللعنات وعقاب الله. كما توجد ظاهرة واسعة الانتشار هي إرسال صور مكتوب عليها "جمعة مباركة". والبعض يرسل رسائل تدعو إلى حملة للصلاة على النبي بدون أي مناسبة لإطلاق الحملة. كما يرسل البعض هذه السؤال الغربي: "هل صليت اليوم على النبي؟".

* التنقيب واستدعاء الفتاوى المتعصبة والأحاديث "الضعيفة" في العادة واستخدامها في الترويج للتدين الشكلي والمغالاة في تطبيق الشريعة وتبرير العدوان، مثل آية الرجم وحديث إرضاع الكبير وحديث الذبابة، وحديث تضييق الطريق على "الكفار": "وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه".. والأمثلة لا تحصى.

* كثرة التحريم بدون سند من النص الديني، مثل تحريم السلام على النساء.

* كما نجد كثرة الفروض التي لا تتعلق بجوهر الدين وبالاستناد إلى آيات "متشابهات" أي تقبل تفسيرات عدة. من ذلك فرض غطاء الرأس للنساء والنقاب وانتشار لبس العباءة السوداء، وهي ملابس بدوية، أو تقصير الجلباب للرجال أسوة بالخليفة عمر بن الخطاب.

ويُعد الاهتمام المبالغ فيه بغطاء رأس المرأة من أبرز أعراض الهوس الديني. فمن الشعارات المستخدمة حول هذا الشيء: حجابك عنوان عفافك - حجابك زينتك وللجنة وسيلتك - يزداد الغلاء ما لم تتحجب النساء - امرأة بلا حجاب مدينة بلا أسوار، وغيرها. ومن الملفت أن الإخوان المسلمين وشيوخ الأزهر وغيرهم من رجال الدين لم يفرضوا الحجاب على نسائهم وبناتهم قبل "الصحوة الإسلامية"، بل سمح بعضهم من قبل بالرقص الشرقي في أفراح أبنائهم، بينما تم منعه بعد الصحوة. ومن الأمور الملفتة أيضًا ابتكار شيء عجيب حقًا هو المايوه الشرعي للنساء، وهو يغطي الجسم كله، وحتى نزول بعضهم البحر بالملابس كاملة. ومن الظواهر الملفتة كذلك أن هناك نسبة عالية من الممرضات قد تحجبن، والأدهى أن بعضهن قد ارتدين النقاب والقفازات أثناء العمل حتى في أقسام الأطفال!

* الميل إلى فصل النساء عن الرجال باعتبار الاختلاط حرامًا: وقد بدأ ذلك مبكرًا، في سبعينات القرن الماضي، فتم – على سبيل المثال – تم تقسيم المدرجات الجامعية بأمر السلطات لمدة سنوات، ثم تم تخصيص عربات في المترو للنساء، ثم تم تخصيص شواطئ للنساء فقط حتى في قرية سياحية غنية ومشهورة. وكثير من الناس يفضلون عدم جلوس النساء والرجال متجاورين، في أي مصلحة حكومية أو عيادة طبيب مثلًا، فنجد السيدة تبحث عن مقعد يجاور سيدة أخرى والرجل يبحث عن مقعد بجانب رجل، بل يضطر أحدهما للوقوف إذا لم يجد مبتغاه!

* البعض يقيم الأفراح بإذاعة القرآن بدلًا من الأغاني والرقص، وهذه ظاهرة جديدة لكنها ليست واسعة الانتشار.

* استخدام الميكروفون في المساجد لإذاعة الأذان وأحيانًا الصلاة وما يليها من أدعية ومدائح وتسابيح، وحتى الخطبة، دون اعتبار للنائمين والمرضى والطلاب والأطفال في البيوت المجاورة . بل تتنافس بعض المساجد في رفع صوت الميكروفون وإطالة وقت الصلاة – خصوصًا – صلاة الجمعة، وبخاصة إذا كان المسجد يقع قرب منازل يقطنها مسيحيون.

* محاربة أفكار تدعو إلى تحرير المرأة، بالدعوة إلى منع تعيينها في المناصب الرفيعة مثل القضاء، ودعوتها للبقاء في المنزل، بحجج دينية مصطنعة...

* الدعوة إلى تقييد الحريات الشخصية شاملة حرية الفرد في جسده وفي عقله، أي حرية الاعتقاد والتعبير، ووضع قيود على الملابس وعلى الأدب والفن والموسيقى وغيرها من أشكال التعبير عن النفس والاستمتاع، تحت عنوان أسلمة الأدب والفن والثقافة وعلم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس..

* ممارسة طقوس دينية غير مفروضة والتوسع فيها: من أمثلة ذلك انتشار صلاة التراويح وصلاة التهجد وغيرها من الصلوات، وزيادة عدد أيام ومناسبات الصوم لم نكن نسمع عنها من قبل وهي غير مفروضة شرعًا، وصيام التطوع، مثل صوم ثلاثة أيام من كل شهر استنادًا لحديث عن أبي هريرة، صوم تسعة أيام من أول ذي الحجة وصيام يوم وقفة عرفات، والصيام يومي الإثنين والخميس... والأهم هو الإعلان عن ذلك.

* كثير من المدارس تجبر الطالبات على ارتداء الحجاب، حتى صغيرات السن، غالبًا عن طريق المعلمين. كما تمنعهن من ممارسة الألعاب الرياضية في حصة الألعاب حتى لا يتابع الأولاد حركة أجسادهن!

* ينتج عن إرهاب المتعصبين دينيًا إجبار عناصر علمانية أو معتدلة على التصرف مثلهم في الملبس وبخاصة بالنسبة للنساء، وحتى للرجال (مثل لبس دبلة من الفضة بدلًا من الذهب) وفي استخدام شواطئ البحر وحتى في الأكل أو ممارسة عبادات لا يتوقون إليها أو حتى قد لا يؤمنون بها. كما أصبح الإفطار العلني في رمضان جريمة اجتماعية تعرض من يقوم بها للتنمر، وحتى للاعتقال – أحيانا - من قبل قوات الأمن بالمخالفة للقانون. بل صار فتح المطاعم والمقاهي في نهار رمضان مخاطرة قد تعرض صاحبها للأذى. وكان هذا وذاك أمرًا معتادًا قبل الصحوة الإسلامية.

* التوسع في إنشاء المساجد والزوايا رغم وفرتها حتى حين لا تكون هناك حاجة إليها، وحتى إذا كان الناس أشد احتياجًا للمدارس والمشافي وغيرها من الضروريات الحياتية.

* وبعض الحكومات تنفخ في هذه الروح لصرف الجماهير عن قضاياها الواقعية ولترسخ السلطة القائمة. فتشجع التوسع في إنشاء المساجد، وتحفيظ القرآن في زمن لم يعد يحتاج المرء فيه إلى الحفظ مع تقدم التكنولوجيا كما أنها مسألة شخصية بحتة. وقد لعبت حكومة السعودية طوال عقود هذا الدور. وفي مصر شجعت الحكومة الناصرية هذه الظاهرة والتي رسخها أنور السادات بعد ذلك باللجوء إلى الخطاب الديني، الذي توسع فيه السيسي إلى أقصى حد. وتصر السلطات على إذاعة الأذان خمس مرات يوميًا وفي بعض القنوات تتبعه إذاعة أدعية دينية، رغم كثرة المساجد بميكروفوناتها. كما تشجع ظهور شيوخ الدعاة إلى الإسلام في بلد شعبه مسلم في غالبيته العظمى، والذين أصبحوا نجومًا. وفي عهد مبارك بادرت الخارجية المصرية بتشجيع وإثارة قضية "الرسوم الدانمركية" وإحيائها بعد شهور من نشرها، وخاض وزير الثقافة وقتها حملات دولية للحد من التعبير بدعوى حماية المقدسات.

 

علاقة الهوس الديني بالإسلام السياسي:

* من تجليات الهوس الديني إقبال الكثيرين على تكوين أوالانضمام إلى مختلف الجماعات الدينية شاملة جماعات الإسلام السياسي، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية، والمنظمات الجهادية. فالإسلام السياسي هو بوضوح قمة تجليات الهوس الديني.

فبالإضافة إلى المبالغة في الطقوس واللجوء إلى التطرف في إبراز المظهر الديني، يصل الهوس الديني إلى إعلان العداء لثقافة الحداثة ويسعى المتعصبون إلى محاربتها والقضاء عليها، حتى باستخدام تقنيتها. وهذا يدفعهم إلى طرح مسألة السلطة وتدخل الدولة.. ومن هنا يظهر الإسلام السياسي. فنجدهم يطالبون بتدخل الدولة في حياة الأفراد إلى درجة فرض الشرائع الدينية. وعلى سبيل المثال بمنع الخمور وفرض الحجاب وفصل الجنسين ومعاقبة الإفطار العلني في رمضان، ومعاقبة العلمانيين والملحدين وتاركي الصلاة ومنع الفن... إلخ. وكل هذا يتطلب بالطبع دورًا جديدًا للشرطة والمحاكم، بل يحتاج إلى محاكم تفتيش والعودة إلى فرض عقوبات موجودة في تراث الفقه منها الجلد، والرجم، والاستتابة التي قد تكون مصحوبة بالتعذيب. والهدف الجوهري للإسلام السياسي هو في النهاية حكم الله كما يسمونه، أي تطبيق الشريعة بالقوة. وكأن الشريعة هي مجموعة من القوانين الواضحة المحددة والكفيلة بتحقيق السعادة والعدالة للجميع. وقد يعرف أفراد جماعات الإسلام السياسي أن الشريعة في كل تفاصيلها مختلف عليها وتقبل مرونة كبيرة للغاية، لكن المهم عندهم قبول المبدأ ثم نرى كيف نطبقها. ويرى الأكثر تعصبًا منهم أنه كلما قٌبِلَ المرء الفتاوى الأكثر تشددًا وقسوة يعد أكثر قربًا من الله. ويصل الإسلام السياسي إلى قمة تشدده لدى الجهاديين الذي يعملون على الاستيلاء على السلطة بالقوة، وإلى حين يتمكنون من هذا يعملون على تطبيق الشريعة بأنفسهم واغتيال دعاة العلمانية.

* يقدم الإسلام السياسي مشروعات متعددة، كل منظمة حسب رؤيتها. لكن الجوانب المشتركة واضحة. فمشروع الخلافة، أي إقامة دولة إسلامية عالمية، هو الهدف المركزي للجميع، وهذا هو الوهم الأكبر. وإلى أن يتم تحقيق هذا الهدف – فرضًا - يمكن للإسلاميين السعي إلى الاستيلاء على السلطة في بلد أو أكثر وجعله قاعدة للثورة الإسلامية العالمية، ولذلك تكون هذه الدولة إسلامية، أي تنبذ المواطنة، فتعامل الآخرين كأهل ذمة أو أقلية تعيش في كنف المسلمين. ولأن الشريعة ستطبق على الجميع ستتولى الدولة صياغة حياة الفرد من المهد إلى اللحد لتضمن أسلمة الجميع فتقيم نظامًا شموليًا. ولأنها قاعدة للثورة العالمية فيكون عليها التحضير لغزو الدول الأخرى أو لإثارة القلاقل الإسلامية بها. هكذا يُقدم مشروع منتهي الصلاحية تجاوزه العالم المعاصر. فمن يتقبل الآن مشروع دولة الخلافة العالمية؟ بل من يتقبل الآن عقوبات قطع اليد والجلد والرجم وقتل تارك الصلاة واستتابة المرتدين عن الإسلام تحت التعذيب أو حتى بدون تعذيب.

والقادة الأكثر عملية من الإسلاميين يقدمون التنازلات تلو التنازلات لجعل مشروعهم أكثر معقولية وقبولًا من الجماهير، ويسمون هذه المرونة بـ فقه الأولويات. بل كثيرًا ما يرفعون شعارات علمانية بينما في الشروح يقولون عكسها، مثل شعار حقوق الإنسان. وبينما يمارسون هذه المرونة تتحرك قواعدهم وجمهورهم المتعصب لقمع المجتمع تحت راية الأمر بالمعروف أو محاربة الفسق والرذيلة... إلخ. وقد رأينا هذا النموذج في فترة حكم الإخوان المسلمين في مصر في 2011 -2012. بل نجد أن برنامج حزبهم وهو يقدم التنازلات اللفظية يمتلئ بعكسها، من طائفية، وقمع الحريات، ودولة شمولية. ولنقرأ هذه الفقرات من البرنامج: "ولذلك فالجانب الأول في برنامج حزبنا يعتمد على تزكية النفوس وتطهير القلوب وترقية المشاعر وتهذيب الطباع بالدعوة إلى الالتزام بالعبادة ومكارم الأخلاق وحسن المعاشرة والمعاملة والتذكير بالله واليوم الآخر حتى تستيقظ الضمائر وتتكون المراقبة الذاتية، وتستقر قيم الخير في النفوس وتنفر من الشر ودواعيه، إضافة لتكوين المناخ الصالح الذي يحض على الاستقامة والصلاح، وتقديم القدوة الحسنة، وتوظيف المدرسة والبيت والمسجد والكنيسة وأجهزة الإعلام في ذلك".. "نشر وتعميق الأخلاق والقيم والمفاهيم الحقيقية لمبادئ الشريعة الإسلامية كمنهج تعامل في حياة الفرد والمجتمع، والتي قررتها أيضًا سائر الأديان السماوية". ويتضمن هذا البرنامج الكثير من هذه التعبيرات الدينية والهوياتية قبل الحداثية: القيم الأساسية للمجتمع وقواعد النظام العام - والحفاظ علي الذات والهوية الحضارية - وفق هويتنا الحضارية الإسلامية - تحقيقًا للأمن المصري والعربي والإسلامي - قضية فلسطين … لكونها قضية عربية وإسلامية - تعليم متميز منافس يعمق الهوية العربية والإسلامية - مراجعة مناهج وخطط التعليم الأزهري والارتقاء به وتحسين جودته وربطه باحتياجات الدولة والعالمين العربي والإسلامي من دعاة وعلماء وهيئة تدريس - يستمد الحزب رؤيته الاقتصادية من مرجعية النظام الاقتصادي الإسلامي، والذي تتمثل غايته في عبادة الخالق تبارك وتعالى، عبادة بالمعنى الواسع، التي تتضمن كل تصرفات الفرد، وعلى رأسها تعمير الأرض تحقيقًا لطيب الحياة، وتوفيرًا لتمام الكفاية لكل فرد يعيش في المجتمع، مسلمًا كان أم غير مسلم - وحرية اقتصادية مقيدة، تحكم إنتاج "الطيبات"...إلخ.

وقد شاهدنا نماذج حية للدولة الإسلامية في السعودية والسودان وأفغانستان وإيران بكل بشاعاتها وشعاراتها الوهمية مع تباين دور الإسلام السياسي بها. لقد استطاع المشايخ والعسكر والملالي استغلال الشعارات وحالة الهوس الديني لدى الجمهور في نهب الشعب ومراكمة الثروات، مع استمرار الفقر والجهل والتهميش.

أما إذا تنازل الإسلاميون فعليًا عن كافة أطروحاتهم العجيبة فيكونون قد تحولوا إلى حزب علماني عادي وينتهي إسلامهم السياسي، على غرار حزب العدالة والتنمية في تركيا.

* تشكل الجماعات المصابة بالهوس الديني وسطًا Medium مناسبًا لانتشار الإسلام السياسي الذي يُعد أحد تجليات هذه الحالة في نفس الوقت. فالهوس هو الأصل والإسلام السياسي هو أحد تجلياته. كما تقوم جماعات الإسلام السياسي بتشجيع الهوس الديني من خلال قنواتها ووسائلها الإعلامية المختلفة وإرهاب الخصوم. فهي توسع من الوسط الملائم لانتشارها وجلب المؤيدين والأنصار وجمع الأموال لتوسيع نشاطها. لكن ينتشر الهوس الديني بين جماهير غفيرة من الطبقات الدنيا والوسطى بينما يقبل على الإسلام السياسي عناصر من الفئات الوسطى أكثر من غيرها.

* يعد الهوس الديني حاضنة للإرهاب الديني. والشخص المتعصب دينيًا بدرجة عالية هو مشروع إرهابي، وما جنونه بالدين إلا مقدمة لتحوله المحتمل إلى قاتل باسم الدين. فهوسه الديني يقوده إلى الشعور بالثقة في النفس وبالتعالي على من وما حوله، فيبدأ في ازدراء المجتمع والتعامل معه كموضوع للتغيير بكل الطرق الممكنة. وبما أنه يشعر أنه على الحق  المطلق تصبح كل وسائل التغيير مشروعة في ذهنه بما في ذلك الجريمة. ويستخدم الإسلاميون والجمهور المتعصب دينيًا النصوص المقدسة بقراءاتها وتفاسيرها التي تبرر الوحشية والعدوان على الآمنين لتبرير اعتداءاتهم الهمجية. وقد شهدنا في مصر عشرات الاعتداءات الهمجية من جانب جمهور مسلم في قرى وأحياء شعبية على كنائس ومسيحيين وحتى على الكاتدرائية، باسم الإسلام. كما شهدنا تصرفات شديدة البشاعة من قبل المنظمات الجهادية في الشام والعراق وأفغانستان والجزائر.

* يقدم إلإسلام السياسي ثلاثة أنواع من الخطابات:

الأول هو خطاب الكراهية الذي يطرح الكراهية مباشرةً، فيقدم من الصياغات والمقولات ما يؤدي إلى شيطنة الآخر وإدانته وتبرير النضال ضده والعنف تجاهه.

والثاني هو خطاب المظلومية الذي يطرح الكراهية بآليات وسيطة، غير مباشرة. فجماعات الإسلام السياسي تقدم نفسها في صورة المخلّص للبشرية وكمثال للطهر والنقاء، مفسرة هزائمها المتكررة بتآمر الآخرين واعتدائهم عليها. وفي الواقع فإن الفئات الاجتماعية التي هزمتها الحداثية وقهرتها هي فعلًا ضحية التحديث. أما الجماعات الدينية المناضلة فلا يمكن وصفها بذلك، فالمناضل يَضرب ويُضرب مثلما الحال في الحرب حيث كل شيء مباح. أما تصوير ذاتها كضحية لاعتداءات الآخر الشرير، فهي محاولة لدفع العالم لإدانته وتبرر العدوان عليه وتباركه، وتظهر فيه الشماتة حين يتعرض لهذا العدوان، وهكذا تبرر المظلومية خطاب الكراهية رغم أنها تبدو كنقيضه. إنهما إذن آليتان تشكلان وجهين لنفس العملة.

خطاب المظلومية هو فعلًا خطاب يلائم الفئات الاجتماعية التي تعرضت للظلم التاريخي والتي يتبنى بعضها الإسلام السياسي؛ يلائمها كقوى اجتماعية، لكن لا يتناسب مع منظماتها السياسية. فهي في الواقع تسبب المشاكل للمجتمع ولا تقدم أي حل، بل مجرد صراخ وعويل وإرهاب تمارسه كتيارات سياسية وطوائف دينية. إنها تطلب حقوقها لكن في صورة العدوان على المجتمع ككل ثم تشكو من رد فعل هذا المجتمع والدولة.

وتتحد الآليتان في الخطاب الثالث: نظريات المؤامرة التي تبلور العلاقة بين الإسلام والغرب (شاملًا كل عالم الحداثة في أمريكا وأوروبا واليابان والصين وغيرها من البلدان المتقدمة) ومن تعتبرهم أنصاره وحلفاءه في الداخل؛ في تآمر عالم الشر ضد عالم الخير المسكين المسالم المعرض للاضطهاد حتى في بلاده. ومازلنا نقرأ كلامًا غير حقيقي عن مؤامرة ماسونية عالمية وعن تاريخ أسود للماسونية بعكس الحقيقة، بل يتم تصوير الماسونية كمنظمات يهودية صهيونية سرية بينما هي بعيدة تمامًا عن ذلك، بل كانت لفترة طويلة ترفض انضمام اليهود إليها، كما أنها ليست سرية أصلًا وليست منظمة عالمية. بل ما زال الكثيرون يتصورون أن عائلة روتشيلد التي تفككت وفقدت معظم ثروتها مازالت موجودة بقوتها وأنها تحكم العالم، بل ذُكرت تقديرات لممتلكاتها تساوي ضعف الثروة العالمية الموجودة! وتصل السذاحة من جانب الإسلاميين وحتى كثير من عامة المسلمين إلى اختلاق تصور عن مؤامرة مسيحية مصرية واستعداد مسيحي للحرب وإبادة المسلمين. بل ويصورون المسلمين على أنهم مضطهدين بصفتهم مسلمين في بلدهم وأن المسيحيين هم الأقوى والأكثر تميزًا من قبل السلطة. بل أحيانًا تم تصويرهم على أنهم الحكام والسلطة، خاصة بعد انقلاب الجيش في 2013. إنهم يتصورون أن العالم كله شرقًا وغربًا متفرغ للعمل على القضاء على الإسلام منذ ظهوره. ويتناسى هؤلاء الناس أن منظماتهم طالما تلقت الدعم والمساندة المادية واللوجستية من الغرب "الكافر" وأنهم طالما تم استخدامهم من قبل دول لمحاربة دول أخرى. إن هذه لحالات تكاد تشبه الهذيان.

* القطاع الأكبر من الإسلام السياسي هو توجه فاشي. فهذا القطاع (خاصة جماعة الإخوان المسلمين) يتساوى مع الحركة النازية والفاشية في الغرب في السمات الأساسية: فأصحابه لا يؤمنون فعليًا بحقوق الإنسان التي أقرها العالم في الأمم المتحدة، ويحملون أيديولوجيا هوياتية، ومشاعر شوفينية شديدة العداء للآخر، وخصوصًا الغرب، ومشروع نظام شمولي إقصائي، بجانب الميل للعنف. كما أنه أيديولوجيا الفئات الوسطى في المجتمع بشكل أساسي. وهو يشبه الفاشية الأوروبية أيضًا في أنه يسعى للوصول إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع لكي يقيم نظامًا شموليًا لا يسمح بالمزيد من الاقتراع!

* لا يعبر الإسلام السياسي – في رأينا – تعبيرًا مباشرًا عن مصالح طبقية، بل هو حالة هوس بالدين لحقت بالفئات الاجتماعية التي أصابها التحديث الجزئي في قيمها ولم يحقق لها طموحاتها، والتي أمَلَت في اقتناص الفرص من التحديث لكنها لم تحصل إلا على القهر والظلم. وإنها تشبه إلى حد كبير من الناحية النفسية الطبقة الوسطى في ألمانيا النازية، والتي حللها إريك فروم. فهي تتشكل من شخصيات مقهورة، تتسم بالغلظة والقسوة، تحقد على العالم المحيط، وتسعي إلى آلية تعويضية للتسلط على الآخرين أو الانتماء إلى جماعة تمنحها الوهم؛ وهْم القوة، وتجد ضالتها في أيديولوجيا مقدسة. وهذا لا ينفي انضمام أفراد ومجموعات أخرى للمسيرة الفاشية لاقتناص المصالح وتحقيق النفوذ على حساب الجمهور المصاب بالهوس الديني، والذي يدفعه هؤلاء مع بقية القادة والزعماء للموت انتحارًا في سبيل الوهم، ثم المتاجرة بدمائه. من هؤلاء القادة الملالي أو عناصر من المثقفين. ويضاف أفراد أو مجموعات صغيرة ممن انتهجوا خط الثورة الاشتراكية تحت راية الماركسية أو الناصرية لكنهم واجهوا الفشل المحبِط في تحقيق آمالهم في الاستيلاء على السلطة ومن ثم تحقيق الزعامة والنفوذ، فولوا ظهورهم لهذا الفكر وراحوا يركبون موجة الصحوة الإسلامية عسى أن يصلوا إلى بعض غاياتهم على ظهور جماهيرها المستلبة. وهناك من الحكام من قرر امتطاء الإسلام السياسي للمحافظة على عرشه (مثل آل سعود والسادات والنميري). وهناك جماعات من المهاجرين المسلمين إلى بلدان الغرب ممن لم يتم استيعابهم في تلك المجتمعات وظلوا على الهامش، فوجدوا لهم سندًا في أيديولوجيا ومنظمات الإسلام السياسي. ثم تأتي جماعات المصالح التي تستفيد من الصحوة إياها.

فالأصل في الظاهرة الفاشية الإسلامية هو إذن ركائزها الاجتماعية.

وبشكل أوضح نقول إن الإسلام السياسي بوجه عام يعبر عن آلام الطبقات والفئات التي عانت من مضاعفات التحديث الناقص دون أن يمثل مصالحها؛ بل إنه مجرد زفرة ألم وصرخة فئات اجتماعية محبطة ومهزومة تشكل ركائزه الأساسية، تعبر عن حالة من حالات الهوس الديني فيما يخص القاعدة العريضة من الإسلاميين. وفي نفس الوقت استخدمته قوى مختلفة لتحقيق مصالحها بركوب موجات التمرد الشعبي. فهو لا يقدم مشروعًا سياسيًا واضحًا قابلًا للتطبيق العملي. وبالطبع يختلف الوضع بالنسبة لكبار القادة والمنظرين والحكومات التي تدعم هذا التوجه، والذين يستفيدون من هذا المشروع الوهمي. فلا يوجد جناح إسلامي من الرأسمالية كما يزعم كثير من الماركسيين، الذين يبحثون عن الرأسمالية وراء كل حجر، لكن تنفخ الحكومات والطبقة المسيطرة وحكومات الغرب في الهوس الديني هنا وعلى قمته الإسلام السياسي في حدود جعله قابلًا للاستخدام في تخدير الجمهور وشحن حالته العصابية مع ضربه وتحجيمه إذا تجاوز حدود المطلوب منه. وهذا لا يعني أن الإسلام السياسي مجرد صنيعة حكومية - غربية، لكنها تستفيد منه وتستخدمه هي والقوى الرأسمالية العالمية أيضًا في صراعاتها مع البلدان المناوئة وغير الخاضعة. بالتأكيد لعبت الأنظمة دورًا في تشجيع الإسلام السياسي في حدود أن تستطيع التحكم فيه واستخدامه. لكن هناك عوامل مجتمعية وراء ظهوره، هي نفس عوامل ظهور الهوس الديني الذي حين نمده على استقامته نصل إلى الإسلام السياسي. صحيح مثلا أن السلطة شجعت حسن البنا، لكن قبل أن يصبح سياسيًا، ثم ضربت تنظيمه بعنف عدة مرات (في عهد الملك ثم الناصرية مرتين ثم في عهد السادات حين أعلن أنه لا دين في السياسة منهيًا علاقة الود بعد أن ساهموا معه في ضرب اليسار. ثم اصطدم مبارك بشدة مع الجهاديين وشجع وضرب الإخوان في نفس الوقت، أما السيسي فيحارب كل المنظمات الإسلامية ماعدا السلفيين. ولا يمكن في العموم خلق هذه التنظيمات الهائلة الحجم بواسطة الحكومات بشكل مصنوع. بل يوجد أصلًا جمهور غفير جاهز للاندماج في الحركة الإسلامية، وهناك من يسعون لكي يكونوا قادة وزعماء ويحملون شحنات ضخمة من الغضب إزاء كل من السلطات والحداثة.

وتتحول مشاعر الجماعات الإسلامية وجماهيرها العريضة من الانسحاق واليأس – عبر الأيديولوجيا المقدسة – إلى شعور الجماعة المؤمنة والفرقة الناجية وأستاذة العالم وحاملة لواء المقدس؛ حزب الله نفسه، فتصير – في نظر نفسها - من لا شيء إلى قوة مطلقة واثقة من النصر. وتضج أدبيات الإسلام السياسي بعبارات التعبير عن هذه الحالة. من ذلك: أستاذية العالم - خير أمة أخرجت للناس (آية قرآنية تُستخدم بغير معناها) – قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار. ويصبح الإسلام هو المعيار المطلق للحسن والقبيح. هكذا تتشكل حالة بارانويا لدى الجماعات الإسلامية، حيث تتضافر حالة الشعور بالعظمة بالشعور بالاضطهاد والتعرض للتآمر العالمي في كل زمان، وهو شعور يشبه بالضبط عقدة الاضطهاد اليهودي المرتبطة بعبقرية وعظمة وتفوق العرق اليهودي المزعوم، والتي نفخت فيها الصهيونية بشدة.

ومع ذلك يظل هذا الشعور بالقوة شعورًا زائفًا؛ فكلما اشتم هؤلاء رائحة نقد لشيء من مقدساتهم، نصًا أو أشخاصًا أو تاريخًا انتفضوا فزعًا، مرعوبين من التهديد الموجه للإسلام حسب تخيلاتهم ومذعورين من فكرة انهيار الإسلام تحت أي طرقة من هنا أو هناك. فمجرد نشر رسوم كاريكاتورية أو رواية أدبية ولو ركيكة تمس مرجعيتهم ولو بالتلميح، وحتى أحيانًا مجرد عرض جزء من تراثهم كما هو، نجدهم ينتفضون ويظهرون أنيابهم ويمارسون الإرهاب. وإن منظر ركائز الإسلام السياسي؛ الجماهير الغاضبة في مظاهرات هستيرية في طهران ولندن وغيرها بعد نشر رواية "آيات شيطانية"، ومشاهد اعتدائهم الوحشي على المسيحيين في مصر حين يصلُّون بدون تصريح، ليفصح عن نوبات جنون مطبق، لا يدل أبدًا على الشعور بالقوة، بل بالعكس. وهم دائمًا ما يطالبون الدولة بحماية الإسلام، مقدمين بذلك اعترافًا ضمنيًا بضعف حججهم وتهافت خطابهم. ومن الغريب أنهم طالبوا الدولة الدانماركية والدولة الفرنسية بمنع عرض رسوم كاريكاتورية ساخرة من النبي محمد، فيريدون حتى تحويل أنظمة بها قدر كبير من حرية التعبير (ليست مطلقة بالتأكيد) إلى أنظمة متسلطة، في سبيل الإسلام!

هذا الشعور بالضعف الداخلي والخواء والاستلاب والظلم يفسر لنا كمية الغل والكره الذي يظهره دعاة الإسلام السياسي وركائزهم الشعبية إزاء مخالفيهم، ويعلل القسوة المرعبة في تعاملهم مع الآخر. ولنتذكر فقط مذابح وإرهاب طالبان وداعش وجبهة الإنقاذ في الجزائر، وتعالِي الإخوان واستقوائهم بالجيش ضد الثوار في مصر، ووحشية ميليشياتهم وهي تسحق الثوار أمام مبنى البرلمان وكذلك المعتصمين أمام القصر الجمهوري، وتشهيرهم الرخيص بثوار يناير في مصر واتهامهم بالبلطجة والعمالة وتعاطي المخدرات وممارسة الجنس في اعتصامات التحرير وشراء البلطجية، وبإظهار الشماتة فيما تعرضوا له من مذابح على أيدي الأمن والجيش، قبل أن ينقلب السحر على الساحر ويخونهم حلفاؤهم ويقتلون المئات منهم.

 كما يفسر لنا هذا الشعور بالضعف استعانة المتعصبين بالعنف وبالسلطة لمعاقبة المرتدين والمفطرين في رمضان وفي إغلاق المواقع " الإباحية" وإصدار قوانين القمع ضد المخالفين مثل قانون ازدراء الأديان.

ومع ذلك يكشف الإسلاميون من حين لآخر عن الشعور الداخلي العميق بالدونية، الناتج عن مركب نقص، ويتبلور ذلك في عملية جلد الذات، التي يلجأ بعضهم إليها من حين لآخر، متهمين "أمة الإسلام" عمومًا بالبعد عن الدين؛ بخيانته وخيانة الرسالة السماوية. وتتسم عملية جلد الذات بالتحول من اتهام الآخرين بالمسئولية عما يحدث لها، إلى اتهام النفس بالتقصير والفشل الذاتي، ليس نتيجة أخطاء يمكن علاجها بروية وفهم، وهو النقد الذاتي العادي الذي يمكن أنْ يقوم به كل شخص متعقل؛ ولكن باتهام الذات بخيانة نفسها، وتقاعسها عن تحقيق مآربها، بل وعدم أهليتها وفسادها المطلق وانحطاطها. فالفشل يُفسر بـتآمر الذات على نفسها لصالح الآخر؛ فتكون هي سبب تفوقه وسيطرته عليها؛ لذلك تستحق كل ما يجري لها، وبدلًا من نقد الذات تتم إهانتها وتوبيخها، دون ما خطة لمعالجة أوجه القصور والخلل بشكل عملي وفعال. وهو شيء يفعله بعض الإسلاميين، في ساعات اليأس خاصة.

* لقد كان ظهور وانتشار الإسلام السياسي من أبرز مضاعفات التحديث الناقص وضمن أبرز العقبات أمام مشاريع التحديث الكامل. بل وحتى القراءة السائدة للإسلام كدين تلعب الدور نفسه. فهو يمتص طاقة جماهير هائلة ويبددها في معارك عقيمة، ويحرفها عن الصراع الطبقي. هكذا يقدم خدمة جليلة للأنظمة القائمة رغم صداماته المتكررة معها. وهو تجسيد واضح لظاهرة النمو المركب: فالتحديث أنتج توجهات أيديولوجية قبل حداثية ومعادية له، إذ فشلت الأيديولوجيات التي عبرت عنه وعن القوى التي قامت به.

إن هؤلاء الناس ليسوا من دعاة الحرية ولا المساواة بين البشر ولا التقدم. وتقتصر ديموقراطيتهم على صناديق الاقتراع، فقط حين يضمنون الأغلبية، وإذا انقلب الحال يعلنون بلا خجل أن الديموقراطية من "الكفر" لأن الشريعة مقررة من السماء وليس للبشر حق التشريع واختيار نظام الحكم، فيتحولون إلى العنف. بل وحين أمسكوا بسلطة الدولة أعلنوا أنها الانتخابات الأخيرة (الجزائر) أو أنهم سيبقون في الحكم 500 سنة (مصر).

كما أنهم يتخفون خلف شعار "الدولة المدنية" للتضليل، قاصدين من هذا التعبير دولة تحتكم إلى الشريعة لكن يقودها أفراد ليسوا من رجال الدين. لكنها مغالطة مفضوحة. فدولة تستند إلى النص المقدس أو لرؤية معينة له لابد أولًا أن تحتاج إلى مفسرين ومؤولين متخصصين كمراجع للنصوص، أيْ تستند – عمليًا - إلى شبه كهنوت، عكسما يزعم الخطاب الإسلامي عمومًا، فتوجيه النقد لهؤلاء عادة ما يواجهونه بقسوة. وثانيًا ليس المهم شخصيات الحكم بقدر أن أساس الحكم يكون هو النص المقدس أو تفسيرًا معينًا له. فهذه دولة دينية بلا شك.

كما نراهم يطلقون الفتاوى التي تشغل الرأي العام، مثل ما يخص حجاب المرأة وكونها عورة، وحول رضاعة الكبير، والفصل بين الجنسين، وعدم الاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة، وحديث الذبابة إياه، وحول تهنئة غير المسلمين بأعيادهم... إلخ. مما يشغل الناس عن همومهم الحقيقية ويبعدهم عن الصراع ضد الأنظمة الفاسدة لصالح مسائل تافهة ومشاكل وهمية.

ويرصد الإسلاميون فشل الأنظمة العربية وغيرها، شبه الحداثية؛ القومية والاشتراكية، مقدمين حلًا لمضاعفات التحديث غير الناجز، هو العودة إلى الماضي؛ الخلافة والحكم بالشريعة، كما يفسرون هذا الفشل في البعد عن الدين واللجوء للحداثة. بل يقدمون مشروعات تجمع بين التقدم العلمي الحديث ومنظومة القيم الدينية القديمة، وبالتالي جعل العلم والصناعة في خدمة شعاراتهم الماضوية أو السلفية.

* إن رفع شعارات ديماجوجية طنانة وفارغة من المحتوى أكثر ما يسم التيارات الدينية، مثل شعارات: الإسلام هو الحل – القرآن دستورنا - الحاكمية لله – لهم ما لنا وعليهم ما علينا - نحمل الخير لكل الناس - نحمل الخير لمصر، ثم تقديم وعود كاذبة للجمهور مثل مشروع النهضة الذي طرح أثناء الدعاية لمحمد مرسي رئيسًا.

وتصل قمة الخداع إلى إضفاء جماعات الإسلام السياسي صفة القداسة على مشاريعها السياسية بتقديمها كمشاريع إسلامية ذات مرجعية من القرآن والسنة، واعتبار النبي والصحابة مثلها العليا. إنه في الواقع مشروع نكوصي إلى عصر ما قبل الحداثة.

* ويتباين الإسلاميون في درجة هوسهم. فالبعض أكثر اعتدالًا في الظاهر على الأقل، ويتبع ما يسمونه بـ فقه الأولويات، بالتدرج في نشر أفكارهم وأهدافهم. أما البعض الآخر فيتبارون في إظهار تعصبهم وتطرفهم في معاداة الآخرين واتهامهم بالتآمر على الإسلام، وأيضًا في وسائل العمل السياسي والدعوي، من حيث وقت ودرجة وأشكال العنف المستخدم.

* يعيش الإسلاميون وحتى الجمهور المسلم في كهف مغلق من التصورات الوهمية عن الدولة الإسلامية في الماضي، حيث العدالة والحرية والثراء لكل الناس والمساواة أمام القانون.. أي يوتوبيا متخيلة تنفي سرديات التراث الإسلامي نفسه وجودها بالمرة. وبدلًا من تلك الأوهام صور التراث الدولة الإسلامية في صورة الوحشية والظلم واستغلال الفلاحين وأهالي البلاد التي احتلتها وسبي نسائها وممارسة السخرة المعممة.. كل هذا مقابل ترف الحكام وفسادهم وقسوتهم. بل نجد من المصريين من يدافع عن الاحتلال والحكم العثماني لمصر رغم بشاعته ودوره في عرقلة تطور البلاد لقرون. كل هذا لأن العثمانيين قد حكموا باسم الإسلام واحتلوا الكثير من بلاد الكفار وحافظوا على الإسلام كما يقولون. إن الهوس الديني في هذه الحالة بصل بالمرء إلى درجة حب جلاديه ومستغلي وقاتلي أجداده لسبب وحيد: أنهم مسلمون.

* لا شك في وجود أشكال من "الظلم" السلطوي، القانوني والإنساني، من تعذيب واعتقالات تعسفية وتلفيق تهم وسوء معاملة في السجون للإسلاميين ولغيرهم أيضًا. لكن خطابات الكراهية والمظلومية والمؤامرة للإسلاميين تقصر التعرض للظلم على الإسلام وأتباعه فحسب، وتؤيد ضمنًا أو علنًا تعرض العلمانيين للظلم نفسه.

 

عوامل انتشار الهوس الديني:

 وتشمل العوامل النفسية لدى الأفراد والعوامل الاجتماعية العامة.

على مستوى الفرد:

 1- الفشل وعدم القدرة على الوصول إلى التطلعات في مجتمع يسد باب الأمل في وجه الأفراد يخلق حالة تختلط فيها كل نتائج الإحباط والنزوع إلى التمرد. فتختلط العواطف الملتهبة مع الخرافة والتطلعات المادية والجنسية والطقوس المقدسة. وإذا وجد الفرد نفسه في بيئة حاضنة مناسبة، تقدم له الشرعية والحماية والأمان، وتعده بمصير أخروي واعد، وتسهل له أشياء مثل الزواج بدون تكلفة وارتداء أبسط الملابس... إلخ، وبالأخص إذا كانت خلفيته الثقافية قبل حداثية، تكون النتيجة هي إشباع رغبته في الخلاص من عذاب الحياة اليومية التي لا يستطيع مواجهتها.

2- وجود شعور بالدونية تجاه الحداثية والحداثة (المقصود العصر الحديث ماديًا وفكريًا) مع غياب ثقافة عقلانية تقدم له تفسيرًا معقولًا للواقع وطريقًا لتجاوز شعوره، فيلجأ للمبالغة في التمسك بهويته الأصلية. وهذا يقدم للفرد تعويضًا عن هذا الشعور، فيمنحه شعورًا زائفًا بأنه الأفضل؛ إذ يصبح معتقدًا أنه أقرب إلى الله، متسائلًا: هل هناك ما هو أفضل من القرب من الله؟

على المستوى العام:

 يكثر توجيه الاتهامات للوهابية السعودية في ريادة نشر الهوس الديني في مصر، وهذا الكلام لا يؤيده الواقع أبدًا. فعموم المصريين لا يؤمنون بالتوحيد على النمط الوهابي، ومازالوا يحبون الأضرحة وأولياء الله الصالحين، ويتمسحون بالرموز الدينية مثل الحسين والسيد البدوي والإمام الشافعي.. فأساس فكرة الوهابية كان في قضايا مثل التوحيد والنذور والقبور... إلخ. وفي الواقع لم تكن الوهابية مصدرًا فكريًا لحركات الإسلام السياسي في مصر. بل لم ينكر مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الصوفية؛ العدو الأول للوهابية، بل كان يتقبلها. وقد قدم تعريف جماعة الإخوان بأنها دعوة سلفية.. وطريقة سنّية.. وحقيقة صوفية.. وهيئة سياسية.. وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية.. وشركة اقتصادية.. وفكرة اجتماعية. وكان بعض قيادييها يواظبون على حضور بعض الموالد (منهم عصام العريان، وجمال حشمت). كما أن المنظمة الوهابية في مصر؛ جماعة أنصار السنة المحمدية، لم تَسُد على بقية المنظمات الإسلامية. ولم تنشأ في مصر جماعة للأمر بالمعروف كما حدث في السعودية، بل يقوم الجمهور العام بهذا الدور بدون سلطة رسمية وبأسلوب ناعم. ولم يتوقف المصريون عن الاحتفال بالمولد النبوي وبموالد "أولياء الله الصالحين"، ولم يمتنعوا عن الرقص في الأفراح والاستماع للأغاني – حتى كثير من المتدينين منهم - عكسما تطالب الوهابية. فليس كل هوس ديني يكون وهابيًا. وهذا لا ينفي أن السعودية قد حاولت وأنفقت المليارات لنشر الوهابية في العالم وفي مصر بالطبع وحققت نجاحًا جزئيًا. ولأنها لم تَسُد في الحركة الإسلامية المصرية، وجدنا تبادل النقد والهجوم بينها وبين جماعة الإخوان المسلمين والذي انتهى بتصنيف السعودية لها كجماعة إرهابية في 2014. كذلك لم نر تحالفًا بين السعودية والجماعات الجهادية إلا أثناء حرب "المجاهدين" في أفغانستان ضد السوفيت حيث شاركت في التمويل وسمحت بانتقال عناصر جهادية للقتال.

ومن الناحية المنهجية يكون دائمًا للعوامل الداخلية اليد الأعلى في التحولات الداخلية للمجتمعات، سواء التحولات الفكرية أو المادية:

1- فشل التحديث:

ما يُقصد بالتحديث عادة هو الانتقال من التنظيم الاجتماعي قبل الرأسمالي إلى التنظيم الذي أقامته الرأسمالية في أوروبا الغربية ثم امتد إلى مناطق أخرى، من تصنيع وميكنة، ومؤسسات اقتصادية واجتماعية وسياسية، ومنظومة حقوقية تلتزم بالقانون الذي يتم وضعه انطلاقًا من مصالح النظام الاجتماعي لا من نصوص مقدسة أو تعليمات السلف، وبالتالي يتم التشريع بواسطة الناس أنفسهم حسب الطريقة التي يرتضونها... أما إذا أردنا أن نقدم تعريفًا واضحًا ومبسطًا للحداثة Modernism قول بكل اختصار إنها = العقلنة، بمعنى اعتماد العقل حكمًا على قرارات البشر واعتبار أيِّ شيء وكل شيء قابلًا للبحث وللنقد والتحليل العقلي. وهذا يتضمن العلمنة، بمعنى جعل الدين مسألة شخصية تخص الفرد. وبالتالي يتم اللجوء إلى البحث في كافة جوانب الحياة استنادًا إلى المناهج العلمية (التجريبي، والرياضي، بالاستقراء والاستنتاج...). هذا بعكس ما قبل الحداثة: الإقرار بقصور العقل وحاجته إلى توجيه من خارجه ومن ثم الانصياع لاعتقادات دوجمائية.

* كيف فشل التحديث:

شهدت بعض البلدان الإسلامية في العصر الحديث تغيرات هامة، في اتجاه تبني الحداثة والعلمانية جزئيًّا، ولكن لم تنجح التوجهات العلمانية في تحقيق تحديث ناجز ومجز لكل الطبقات، لأسباب لا تخص علمانيتها على الإطلاق. بل ربما ساهم موقفها الربع أو النصف علماني في فشلها؛ فاستفادت الطبقات الثرية، بل أكثر العناصر طفيلية وأقربها للعمالة للاستعمار الأوروبي. كما كان التحديث مرتبطًا باستعمار تلك البلاد، وقهر شعوبها من قبل الغرب، وفي النهاية خرج الاستعمار العسكري، ولكن استمرت أشكال الاستغلال والقهر قائمة بين الطرفين. كما صارت الفجوة الحضارية بين الغرب والشرق العربي الإسلامي متزايدة الاتساع. وموضوع أسباب فشل التحديث كبير وخارج عن نطاق هذا المقال.

لقد كان - بوجه عام – معدل هدم النظم القديمة أسرع بكثير من معدل بناء نظم حديثة، فأنتج هذا لظاهرة التهميش ولظاهرة النمو المركب والأزمة الاقتصادية الدائمة.

 هذا هو المحتوى الجوهري للتحديث الناقص، والذي أنتج ما يُسمى بـ نمو التخلف (مفهوم ابتكره أندريه جوندر فرانك؛ باحث في الاجتماع ومؤرخ اقتصادي ألماني – أمريكي). ومن أهم سمات نمو التخلف هذا هو تبعية البلدان المتخلفة للبلدان الإمبريالية، وبالأخص البلدان العربية والأفريقية. فهذه مجرد توابع للسوق العالمية، لا تساهم بشيء يذكر في صنع الحضارة الإنسانية الحديثة، ومجرد مستهلك لمنتجاتها. وهو نمط من النمو المتفاوت والمركب. فهو نمو غير متوازن لمختلف مكونات المجتمع، وتنتمي مكوناته لأكثر من عصر تاريخي، مما يضعه في أزمة دائمة. فبجانب قطاع اقتصادي بالغ النمو توجد قطاعات بدائية، ومع انتشار التعليم العصري مازالت الأمية واسعة الانتشار، وبجانب الثقافة العقلانية الحديثة توجد ثقافة بدائية تعتمد على النقل والتلقين، بل وتنتشر الخرافات على نطاق واسع. ونجد تطبيقات لأحدث تكنولوجيا رقمية تستخدم بعضها في نشر التعاويذ والأدعية وأوهام الإسلام السياسي والغيبيات لكل الأديان اللاهوتية. ومن أهم مكونات النمو المركب والمتفاوت دخول عصر الصناعة الحديثة بدون عمالة مؤهلة للتعامل معها. والآن تنتشر الخدمات الإلكترونية دون كفاية العنصر البشري القادر لا على الإشراف عليها ولا على استخدامها، مما ينتج ظاهرة سقوط السيستم مثلًا أو عدم استجابته، ومشاكل أخرى عديدة. وهناك ظاهرة إنشاء بنية أساسية ضخمة لا تخدم قطاعات إنتاجية، أو العكس؛ إنشاء مشاريع بلا بنية أساسية مناسبة. هذا التفاوت ينتج عنه ارتفاع تكاليف الإنتاج والخدمات ورداءتها. كذلك انخفضت معدلات وفيات الأطفال دون أن ينخفض معدل المواليد تحت تأثير الثقافة الدينية التواكلية، مما أدى إلى الانفجار السكاني دون ما يقابل ذلك من معدل تصنيع ونمو، فقاد إلى بطالة واسعة. كما يتم إنشاء صناعات متقدمة دون الاهتمام بالبحث العلمي وتطوير التكنولوجيا، وهذا يؤدي إلى خراب هذه الصناعات بعد فترة قصيرة، بعد توقف إنتاج قطع الغيار المناسبة لها في الغرب، وبعد أن تصبح عاجزة عن منافسة مثيلتها الأحدث في السوق العالمي. وضمن أبرز مظاهر التحديث الناقص بقاء الأعراف والقوانين المستمدة من الشريعة بجانب بجانب القانون.

ومازالت بنية المجتمع تشمل قبائل وعشائر وطوائف دينية... إلخ.

أما الفئات الشعبية التي عانت أكثر من فشل التحديث، فهي القطاعات ذات الأصول الريفية من الطبقتين الوسطى والدنيا من تجار صغار وموظفين وعمال وفلاحين وأصحاب ورش، كما نجد نفس الظاهرة لدى محدثي النعمة من أصول ريفية فقيرة. وهذه الفئات من المجتمع متأثرة أكثر بالتراث الديني لعوامل مختلفة ولم تتمكن من استيعاب الحداثة. ولذلك تظل هي الوسط المرشح لانتشار الهوس بالدين كرد فعل عكسي على صدمة التحديث الذي لم يقدم لها ما يرضيها، بل نزع عنها القيم القديمة وانتزع منها نمط الحياة الأكثر أمنًا. وهي لا تعاني لأنها خسرت فقط، بل يضاف أنها تنظر إلى حضارة الغرب وما تعتبرها امتدادًا لها في الداخل من الطبقات المترفة بعين الحسد والحقد. فهذه الحضارة وهذه الطبقات تذكّرها بعجزها وضعفها. أما أغنياء الإخوان المسلمين أو من شيوخ الفضائيات فمعظم هذه شخصيات انتهازية عرفت كيف تستغل "الصحوة" إياها وتراكم من ورائها الثروات؛ شيء يذكرنا بأغنياء الحرب. وهذه لا تشكل كتلة ذات وضع خاص من الطبقة المسيطرة، بل وتتعامل معها في السوق بشكل عادي تمامًا. أما القلة منهم فمصابة فعلًا بالهوس الديني ولم تستطع أن تتجاوز ثقافة ما قبل الحداثة.

ويمكننا رصد مضاعفات هذا التحديث الناقص في بلد كمصر فيما يلي:

* ازدادت السخرة المعممة بشاعة مع إدخال زراعة القطن في القرن التاسع عشر؛ المحصول الذي دخلت به البلاد للسوق العالمية، وكانت مصحوبة بالضرب والإهانة، وبالتالي تضاعفت معاناة الفلاحين كثيرًا.

* الانفجار السكاني الكبير كما أشرنا. وهذا أدى لتفاقم البطالة والتهميش وظهور عمال التراحيل بأعداد ضخمة ثم استفحال ظاهرة العشوائيات. وقد اتسعت ظاهرة التهميشن فبلغ عدد المهمشين في تقدير نبيل القط، القيادي في الحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي، نحو 32 مليون شخص قبل 2011.

* قمع تمردات الفلاحين الذين سحقتهم السخرة والتجنيد الإجباري والفقر بقسوة مفرطة، خاصة أثناء موجات التصنيع الأولي، في عصر محمد علي والخديو إسماعيل، إلى حد قصف القرى بالمدافع. وقد هُزمت بهذه الطريقة كافة انتفاضات الفلاحين ولم تحقق أي مكاسب واستمروا يدفعون ضريبة التحديث. واستمروا يدفعون كثيرًا من تكلفة النمو الاقتصادي في العصر الناصري وبعده.

* نمو الإنتاج السلعي وتمليك الأرض منح التجار والمرابين الأجانب فرصة اكتساح السوق واعتصار الفلاحين وشراء أراضيهم بأبخس الأثمان عن طريق الرهونات ذات الشروط المجحفة.

* الطبقة العاملة الصناعية عانت بشدة ولم تتحسن أحوالها إلا بعد مدة طويلة، ثم ظهرت العمالة المؤقتة وتنامت بشدة.

* نمو الطبقة المتعلمة، والتي تم استيعابها في الفترة الناصرية جزئيًا ومؤقتًا ثم عادت من جديد تعاني الفقر وحتى التهميش.

* الهجرات من الريف تحت وطأة الفقر، خلقت صدمة حضارية للريفيين دون أن تقدم لمعظم المهاجرين العمل والحياة الكريمة. فتم ترييف المدن وظهرت العشوائيات في محيطها. إذ ظل معدل طرد السكان من الريف أعلى بكثير من قدرة المدن على استيعاب المهاجرين.

* انهيار أخلاقي عام وعميق: حدث هذا بفضل عدة عوامل، من أهمها التنقيد الواسع واقتصاد السوق، ثم سيطرة الدولة على المجتمع المدني بشكل تام، خاصة بعد انقلاب 1952 وتحكم البيروقراطية في كل شيء. لقد أدى ذلك إلى انتشار الفساد وانهيار قيم المجتمع التقليدية لصالح قيم الفهلوة والنفاق الذي زادت حدته بفضل سيطرة أهل الثقة. والأهم تغير تركيب الطبقة الغنية بحيث صارت تعمل في الأنشطة التي أتيحت لها؛ التداولية وغير المشروعة والطفيلية بالتعاون مع موظفين فاسدين. كما تغير تكوين طبقة عمال الصناعة بقطاع الدولة والعاملين بالدولة ككل بحيث صار جزء كبير منهم عبارة عن بطالة مقنعة.

كما أدى نمو التفاوت الاجتماعي والتهميش إلى انتشار جرائم من كل صنف.

وأدى غياب حكم القانون –إلى حد كبير - وعدم الثقة في جهاز العدالة كنتيجة لهيمنة الدولة على المجتمع المدني وغياب المشاركة الشعبية إلى خلق نزوع نحو البلطجة.

التهميش والفقر أديا إلى اتساع ظاهرة التسول. ولنتصور نفسية أشخاص يمدون أيديهم ويبتكرون طرقًا شتى للتسول (منه بيع الكلام مثل صباح الخير وحمد الله على السلامة... إلخ). ولنتصور نفسية أشخاص احترفوا بيع دمائهم كمصدر للدخل، أو من يعمل بوظيفة: مريض، في خدمة طلبة الطب!

وإن غياب التأمين الاجتماعي والصحي، والسكن في عشوائيات والبطالة السافرة أو المقنعة لقطاعات واسعة من السكان يفقدها الشعور بالأمان من الغد.. ولك أن تخيل مشاعر هؤلاء الأشخاص وماذا يمكن أن يفعلوا لتعويض هذا الخوف من المجهول، وكيف تنمو بداخلهم الأنانية المفرطة. زد على ذلك التفاوت الاجتماعي الرهيب الذي ضاعف من الحقد الطبقي خاصة مع الشعور بالظلم، وبالذات حين يرى الناس تكوّن الثروات بدون مجهود وبطرق غير مسبوقة مثل تجارة المخدرات أو استغلال المناصب ونهب أموال الدولة وأموال القروض الأجنبية... إلخ.

ومع انتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادي في السبعينات، انطلقت الطبقة الطفيلية دون ضابط ولا رابط ومع إطلاق الدولة لحرية التربح من أي طريق دون أي رادع. وصارت قيم مثل النفاق والانتهازية والمحسوبية واستغلال النفوذ والارتشاء... إلخ مقبولة من جانب الدولة بشكل شبه معلن، والأهم أنها أصبحت مقبولة اجتماعيًا. كما تحول الآلاف من المجرمين المحترفين إلى مليونيرات بسرعة وبطرق طفيلية وإجرامية بالمشاركة مع موظفين فاسدين. وهذه الفئة من الناس من محدثي النعمة مجردة من القيم الإنسانية، وهو ما انعكس على المجتمع ككل وعلى الدولة.

ومع انفتاح الطريق للعمل في الدول العربية الغنية، وهو طريق واعد جدًا للصعود الاجتماعي، أصبحت الهجرة أهم من الوطن والأسرة والروابط الاجتماعية. تفككت ملايين الأسر وتكسرت العلاقات الزوجية وعلاقة الأبناء بأبويهم ولا نبالغ إذا قلنا ازدادت الخيانات الزوجية وبالتالي تلاشىت روابط الحب داخل كثير من الأسر.

ومع غياب أو ضعف الآليات القانونية والأخلاقية لتحقيق مكانة اجتماعية وتكوين الثروة يضطر الأفراد إلى ارتكاب كل الشرور والجرائم في سبيل ذلك، خاصة مع ضعف جهاز العدالة. وقد انتشر الجشع والطمع والتكالب على جمع المال بأي طريقة، وحيث إن الطريق الرئيسي المتاح هو الفساد فقد صار الفساد مقبولًا من عموم المجتمع.

ولقد كان الهوس الديني - في جانب أساسي منه - رد فعل تعويضي لهذا الانحطاط الأخلاقي. فهذا الهوس يعبر عن عجز المرء عن الحياة بدون الإيمان وعجزه في نفس الوقت عن الإيمان الحقيقي؛ فيتضافر "الكفر" الأخلاقي مع التدين الشكلي. فيضطر المرء لممارسة "الكفر" الأخلاقي لكي يواصل حياته في الظروف المحيطة، ولكنه في نفس الوقت يسعى لنيل رضا الرب، فلا يجد إلا اللجوء إلى التدين الطقسي دون التخلي عن "الكفر" الأخلاقي، ويظل في هذه الدوامة. فيزداد "كفرًا" أخلاقيًّا ويزداد تدينًا شكليًّا، فيصل لحالة الهوس الديني. إنه الوعي الشقي بعبير هيجل. قد يفسر لنا ذلك ظاهرة كون الشخص شديد التدين في العادة أسوأ خلقًا وأكثر أنانية وعدوانية من الشخص غير المتدين. وكثيرًا ما نجد الشخص شديد التدين الشكلي يسب الدين نفسه، والكثيرون منهم يمارسون أشكالًا وألوانًا من الفساد. فالهوس الديني هنا مرتبط بانحطاط أخلاقي عام. فلا توجد قيم عامة متفق عليها اجتماعيًا؛ بل يرفض الفرد سلوكًا معينًا أحيانًا ويقبله في أحيان أخرى، بحسب مصلحته أو رغبته الشخصية. ولقد أصبح كل شيء مباحًا. فقد انهارت قيم مثل احترام العلم والعمل والصدق والأمانة والإخلاص والانتماء للأسرة والوطن.

إن "الكفر" الأخلاقي يخلق شعورًا بالذنب يتم تعويضه عن طريق الهوس الديني. إنه في أحد جوانبه إذن آلية للتطهر. وفي جانب آخر يكون آلية للتغطية على الجانب المظلم من النفس البشرية؛ آلية تعويضية وقناعًا يوحي كذبًا بحسن الخلق لشخصيات فقدت ارتباطها بأي قيم إنسانية.. لذلك عادة ما يرتبط الهوس الديني بالبعد عن الأخلاقيات النبيلة، وأخلاقيات الدين، الذي يتم  تجريده من قيمه الأخلاقية في المعاملات الإنسانية، وينظر إليه على أنه مجرد رموز وشعارات منفصلة عن الأخلاق، يتفرق حولها المتعصبون، بل يتناحرون ويقتتلون من أجل تلك الرموز والشعارات فيما بينهم ومع غيرهم أيضًا. إن كل شيء أصبح مباحًا رغم اعتقاد تلك الشخصيات بوجود الله، عكس العبارة الشهيرة لديستويفسكي: "إذا لم يكن الله موجودًا فكل شيء مباح".

من أمثلة ذلك الجنون الجماعي الذي يلي تصرفات فردية وقليلة التأثير مثل نشر رسوم أو كتابة كلمات مسيئة للنبي، أو حرق أحدهم للمصحف، أو إطلاق نقد للإسلام أو المسلمين. والدعوة وحتى محاولات قتل الخصوم مثلما تم إهدار دم سلمان رشدي وتهديد الراحل سيد القمني وكثيرين غيرهما، بل وقتل البعض مثل فرج فودة ومدرس فرنسي مؤخرا وغيرهم. ولا نظن أنه من قبيل الصدف أن الأفراد المهووسين دينيًا يستخدمون خطابًا عدوانيًا ويسبون مخالفيهم بكل الألفاظ ولا يتورعون عن سب الأمهات والآباء، ولا عن وصف محاوريهم بالانحراف الجنسي. كما يتم أحيانًا وصف النساء غير المحجبات بالتبرج والعهر وغيرها من الصفات، أو إطلاق عبارات مثل: السيدة المحجبة لا تخون زوجها. ولا يتورع مشايخهم عن التطاول على غير المسلمين على المنابر ووصفهم بأبشع الصفات، مثل أحفاد القردة والخنازير والتشكيك في أخلاق نسائهم. وفي نفس الوقت لا يتقبل هؤلاء المتعصبون نقد الآخرين لهم ولأفكارهم أو دينهم. ففي الاحتكاك الفكري يتبلور التضافر بين "الكفر" الأخلاقي والهوس الديني. فالتطاول والتشهير وإهانة غير المتدينين والعلمانيين هي سلوكيات لا تتسق مع القيم الأخلاقية النبيلة المتعارف عليها.

ويصل تناقض عامة الجمهور المتعصب مع نفسه إلى قمته، بل إلى تمزقه الداخلي، في إيمانه بحرمانية الفن وضرورة تجريمه وفي نفس الوقت يسمح لنفسه بالاستمتاع به وممارسته أحيانًا، مثل الرقص وخلع الحجاب في الحفلات. إنه التناقض بين الاعتقاد والحاجة الإنسانية.

* بلغ التحديث الناقص قمة فشله تحت شعارات القومية والاشتراكية في هزيمة 1967 التي كشفت كل عورات النظام الناصري والقومية العربية ككل. إذ رفع النظام الناصري شعارات تفوق قدراته، ووضع أمام الجمهور آمالًا وأحلامًا يعجز عن تحقيقها، وقدم وعودًا تفوق قدرته على الوفاء بها. وقد تلا الهزيمة تراجع الناصرية بقبول قرارات الأمم المتحدة التي تتضمن الاعتراف بإسرائيل واعتبار القضية الفلسطينية مجرد مشكلة لاجئين، وبالتالي التخلي عن الشعارات القومية الرنانة، كما صار وئامٌ بين الناصرية والدول الخليجية، ثم استمر تراجع الأنظمة القومية والاشتراكية العربية.

لذلك كله راحت الجماهير تخرج من حظيرة النظام، وقد كانت هذه الظاهرة واضحة كذلك قبيل انقلاب 1952 الذي تمكنت الحكومة الناجمة عنه من امتصاص الصراع الاجتماعي وتجميد الإسلام السياسي (والشيوعية) مؤقتًا. إلا أن تلك العملية قد توقفت بعد ذلك بسبب عجز النظام وهزيمته في النهاية، فعادت غالبية الجماهير تنفض من حوله دون أن تجد بديلًا إلا العودة إلى تراثها بعد أن بلغ التحديث أوجه وفشله. كما لو كان الأمر هو هجرة الفلاح الأصيل إلى المدينة وتعرضه لصدمة حضارية دون أن يجني أي مكسب فعاد إلى قريته من جديد. فقد أثبتت الليبرالية قبل 1952 فشلها في تحقيق آمال الطبقات الفقيرة، كما لطخ النظام الناصري سمعتها في الوحل، لكنه فشل في تطبيق الاشتراكية، وعجز عن تحقيق مشروعه القومي.

لقد أدى تحطيم النظام قبل الحداثي في مصر دون بناء نظام حداثي جديد بشكل ناجز إلى أزمة متعددة الجوانب والمستويات للمجتمع؛ يمكن أن نصفها بأنها أزمة تاريخية؛ حالة انتقال محتجز، بتعبير سمير أمين؛ الاقتصادي المصري - الفرنسي.. وهذه الحالة قد أصابت الوعي العام للجمهور بأزمة عميقة؛ هزة تاريخية أفقدته وعيه الذاتي وجعلته فريسة للوساوس والتخبط والغرق في عالم الخرافات والأوهام.

هذا السيناريو المصري تكرر بأشكال ودرجات مختلفة في كثير من البلدان الإسلامية (باستثناء دول الخليج، المغطاة بعوائد النفط الضخمة)، وخصوصًا إيران. مما دفع شعوب تلك البلدان إلى الارتداد إلى ثقافتها القديمة، فراحت تستخرج من تراثها ما تتصور أنه يتجاوز أزماتها المتنامية. لقد أدى ذلك التحديث إلى تغيرات قيمية عميقة، دون أن تصاحبها أو تترتب عليها مكاسب هامة للطبقات الشعبية، التي هُمشت من أفرادها أعداد كبيرة، ففقدت قيمها وأمنها، ولم تكسب شيئًا، بينما قام الاستعمار بقهر تلك الشعوب والسيطرة على مقدراتها. كما سقطت مكاسب الاستقلال في فم نخب صغيرة من العسكريين والبيروقراطيين، إلى درجة أن صارت مقارنة الجماهير حكم المستعمرين بحكم الوطنيين لصالح الطرف الأول.

وكان من الواضح أن مظاهر "الصحوة الإسلامية" قد راحت تنمو بسرعة بعد هزيمة الاشتراكية القومية في 1967، حتى في فلسطين. وتصاعدت بعد انتصار الملالي في إيران. ثم جاءت موجة أعلى بعد هزيمة مشروع حزب البعث في سوريا والعراق. ومن المحتمل أنه بعد انخفاض عوائد النفط سوف تنفجر موجة جديدة في دول الخليج، حيث ستنكشف حدود التحديث الذي ظل شكليًا إلى حد كبير واعتمد على غطاء الرشاوى الضخمة للجماهير.

2- تراجع حضاري عام:

* تمثلت الصحوة الإسلامية في انتشار الهوس الديني وعلى قمته الإسلام السياسي، وقد سبقها بدء تراجع حضاري عام لمصر والبلدان العربية يشمل الفن والثقافة... فتدهور مستوى العمالة، وانهار التعليم والبحث العلمي، وساد الطابع النهبوي للنظام، المعيق لاقتصاد السوق، وصارت ثقافة المصريين أقل ملائمة للتحديث.

وتُعد ظاهرة الهوس الديني أحد تجليات تراجع الحداثة في تلك البلدان بعد هزيمة مشروع التحديث نفسه. وتعد مصر النموذج الأوضح لتراجع الحداثة وانتشار الهوس الديني. فيوصف الشعب المصري بأنه أكثر شعوب العالم تدينًا. وإذا كان هذا موروثًا تاريخيًا ظهر مع نشوء الدولة القديمة، فقد صار إلى حالة هوس جماعي في العصر الحالي.

ومن ضمن مظاهر التراجع الحضاري: علاقة الحاكم بالمحكوم عمومًا - أساليب الدولة في تحصيل الأموال من الشعب بالنهب المباشر والابتزاز – شخصنة الحكم وسياسة الانتقام وترويع الجمهور بدلًا من سياسة الدولة الحديثة في تطبيق القانون - تمييز القوانين ضد غير المسلمين في مسائل مثل حضانة الأطفال وعقوبة الزنا – اعتماد القضاء العرفي وجلسات التصالح بديلًا عن قانون الدولة - تلجأ الدولة كثيرًا إلى العقاب الجماعي - تهجير المسيحيين على الهوية أحيانًا من منطقة إلى أخرى - الاعتقال بدون تهمة والانتقام الشخصي من الخصوم مثل هدم منازلهم أو طرد أبنائهم من العمل - والقتل خارج القانون - والاستيلاء على ممتلكات الأفراد بحجج غير قانونية..

 ويأتي على رأس التراجع الحضاري ظاهرة انتشار الهوس الديني.

3- الحياة غير المعاشة: الإنسان اللاإنسان:

ليس المقصود هو الفقر المادي، بل الفقر المعنوي والمعاناة النفسية: فقد حطم التحديث في هذه البلاد القيم القديمة للمجتمع، وجعل الكثير من الأفراد يعيشون حياة ليست حياتهم دون أن يجنوا شيئًا من الوضع الجديدة. لقد هاجر الملايين من القرى والبلدات الآمنة إلى أطراف المدن وأقاموا في عشوائيات تفتقد لأقل من المطلوب للحياة الإنسانية.. بل سكن مئات الألوف في ملحقات المقابر أو في شقق مشتركة أو في الشوارع، وبذلك فقدوا الخصوصية والأمان ودفء الحياة وسط أحبابهم. وقد تعلم الملايين في مدارس حديثة لكنهم لا يعملون حسب ما تعلموه، بل حسب ما يريد لهم سوق العمل أو الدولة. فيوجد كثير من العلماء والأطباء والمهندسون لا يمارسون عملهم حسب الأصول المهنية، بل حتى لا يمكنهم العمل حسب ما يمليه عليهم ضميرهم المهني والإنساني تحت ضغط نظام العمل القائم. بل هناك الكثيرون من خريجي الجامعات يعملون في مهن لا تحتاج إلى مؤهلاتهم، مثل سائق توكتوك، دليفري، بائع متجول أو بائع رصيف... إلخ. لقد تحول الملايين من أبناء الفلاحين إلى مؤهلين دون أن يمارسوا عملهم الجديد طبقًا للأصول المهنية، علاوة على اضطرار الكثير منهم إلى ممارسة الفساد في أعمالهم حين يكون ذلك هو الوسيلة الوحيدة المتاحة لتلبية متطلبات المعيشة، مثل أخذ الرشاوى وتزوير الأوراق الرسمية وغش المباني والنصب على المرضى. بل ومع انهيار مستوى التعليم والتدريب أصبحوا أقل مهنية بكثير. وإن القاضي الذي يحكم دون مراعاة روح الحق بل بأوامر السلطة التنفيذية أو بالأوراق الرسمية والأدلة المفبركة وتحريات الأمن الملفقة وهو يعرف ذلك لا يمكن أن يشعر أنه قاض بالفعل ولا ينام مرتاح الضمير. هكذا فقد كل هؤلاء حياة الاستقرار القديمة دون أن يحققوا أنفسهم في النظام الاجتماعي الحديث. ولذلك لا نرى أي مصادفة في تغلغل الهوس الديني، في صورة الإسلام السياسي، بين طلاب كليات الطب والهندسة بالذات وبين الأطباء والمهندسين والمهنيين عمومًا. أما من يسافرون للعمل في دول البترول بأجور مرتفعة فقد وجدوا أنفسهم يُخلعون خلعًا من بين أحبائهم ويفقدون – في الغالب – كرامتهم ويخدمون أناسًا لا يحترمونهم وكثيرًا ما يهدرون آدميتهم، ثم يقدمون في لحظة ما جنوه من أموال في سنوات من العمل الشاق لمقاولين أو ملاك عقارات لصوص ومستغلين في سبيل امتلاك شقة أو محل..

فأي حياة هذه؟

كل هذا يدفع إلى النكوص إلى الماضي دون وعي؛ إلى البحث عن الذات المفقودة؛ إلى الأصالة بدلًا من المعاصرة، إلى الله بدلًا من شيطان الحداثة، حين لا يجد المرء بديلًا واضحًا وطريقًا مجديًا.

إن غياب الشعور بالأمان كان من أهم الدوافع النفسية للبحث عنه في المبالغة في التدين الشكلي. فالإنسان في حاجة دائمة لهذا الشعور، وإذا فشل المجتمع في جعل الفرد يشعر بأنه آمن يدفعه للبحث عن ذلك خارج المجتمع؛ في عالم الغيب. وإذا كان من عوامل نشوء الأديان البحث عن الأمان الوجودي، فالهوس الديني يكون آلية للبحث عن الأمان الشخصي الاجتماعي.

وقد يفلت من هذا الطريق البعض ممن أتيحت له فرصة استيعاب الثقافة الحديثة وامتلاك منهج عقلاني لتحليل الواقع المزري، فيصبح أكثر وعيًا بذته، وكذلك من يتمكن بشكل أو آخر من الاندماج في الطبقة المسيطرة.

4- دور اللاوعي الجمعي: ومع وجود الخلفية الدينية وجاهزيتها يسهل اندفاع المتدينين نحو تبني الأفكار والشعارات الدينية المتطرفة، أو تشكل عاملًا مساعدًا على انتشار الهوس الديني. كما أن الذهن البشري مليء أصلًا بالضلالات والأوهام، بالإضافة إلى أن الدين مليء بقصص المعجزات والغيبيات مما يجعل خلق الخرافات أكثر سهولة لدى المتدينين. وهذا يكون أكثر سهولة بين الفئات الأقل تعليمًا من السكان، وخاصة ذوي الخلفية الريفية.

حين يفقد المرء القدرة على موازنة الأمور كنتيجة لشدة المعاناة يصبح من السهل تلقينه، خاصة أن عقليته أصلًا تعتمد التلقين الديني.. عقلية معدة سلفًا.

5- دور الخطاب الديني السائد في حفز حالة الهوس: تصوير الله ككائن متوحش ومفترس - التخويف من عذاب القبر – تحريم أشياء كثيرة يمارسها الناس بشكل معتاد وليست محرمة في النصوص المقدسة مثل الاستماع للموسيقى والأغاني – ترويج أحاديث طائفية بشعة - تكفير المخالفين لأتفه الأسباب - وتكفير الفنانين وشيطنتهم. وهذا النوع من الخطاب الديني يتزعمه السلفيون والإخوان ومشايخ مصابون بالهوس الديني. كما تشجع الدولة هذا النوع من الخطاب، فهي تملك جامعة الأزهر والمعاهد الأزهرية التي تعد بالآلاف وتتبنى هذا الخطاب. كما تفتح الفضائيات لشيوخ يروجون لهذا النوع من الأفكار، وتسمح بالإعلانات عن الرقية الشرعية وتقديم برامج عن الطب النبوي والتكميلي. ولا يوجد أي قانون يعاقب من يروج للخرافة..

إن غموض الواقع وصعوبة فهمه مع المعاناة غير المبررة تفقد المرء القدرة على الحكم العقلاني ويصبح بالتالي فريسة للدعاية والتحريض. وبخاصة لو قدمت له أفكار تفتح له باب الأمل في تجاوز المعاناة والأوضاع غير المفهومة.

 

**************************

وفي النهاية نقول إنه إذا تحققت الجماهير من فشل الإسلام السياسي والهوس الديني ككل ولا واقعيتهما وما يسبباه من مشاكل للمجتمع، فسوف يكون أمامها أن تبحث لنفسها عن طريق آخر يصعب التنبؤ به.