هذه دعوة للعمل على مناهضة قوى الظلام

واستمرار ركب الحضارة الحديثة

This Is A Call To Work Against The Forces Of Darkness And For Promotion Of Modern Civilization


أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 21 يناير 2021

حاجتنا إلى استراتيجية جديدة

  

قراءة ثانية في أحدات يناير 1977

 

أحمد صادق سعد

( نُشرت لأول مرة عام 1988)

 

 

البركة في اللمة

 (مثل شعبي)



"واسأليلي كل عالم في بلادنا

وكل برج وكل مدنة

وكل صاحب من صحابنا

وكل عيل من ولادنا

حد منهم شاف علامة من علامات القيامة

قبل ما تهل البشاير يوم 18 يناير؟"

                                                                (فؤاد نجم)



مقدمة الناشر:

نُشر هذا المقال في سبتمبر 1988 في " الراية العربية" – كتاب غير دوري، كان يصدر تحت إشراف عادل العمري وشريف يونس - العدد الثاني – مودع بدار الكتب المصرية تحت رقم:5621 / 1988. وقد أعيد نشره على الإنترنت في عدة مواقع. ولكن لاحظنا وجود العديد من الأخطاء المطبعية وعدم نشر الملحق ومعظم (وأحيانا) كل الهوامش. وقد وجدنا أنه من الأمانة واحتراما للكاتب الراحل العظيم أن نقوم بإعادة نشره على الإنترنت بعد إجراء التصحيحات الضرورية. وقد تم هذا النشر في نوفمبر 2002.

وأعيد الآن نشر المقال بعد تنقيحه لتصحيح الأخطاء المطبعية وأخطاء في العرض.


                                              عادل العمري – يناير 2021  


1- تقديم

يزداد التوتر حدة في منطقة الشرق الأوسط، ومصر منها. وثمة من الأسباب الداخلية ما يزيد من عوامل غليان الأزمة في بلادنا. وتجربة لبنان وتجربة السودان عبرة لمن يتعظ إذا أبصر.

وقد أنسى الكثيرين تلاحق الأحداث وتقلبات الأحوال بعد انتفاضة يناير 1977 رغم ما أثارته من جدل عنيف ومتشعب فترة قصيرة بعيدها. وبقيت هذه الأحداث في إنشاء الدوائر الحكومية ولدى المتسترين وراءها – أو قل أغلبهم – من فعل التحريض الإجرامي لقوى متآمرة من الماركسيين الذين يعملون في الظلام. وفي نظر الحركة الماركسية نفسها وأغلب الدوائر المعارضة الواسعة بقيت تلك الأحداث رد فعل تلقائيا لاستفزاز السياسة الحكومية. وفي كلتا الحالتين، تكون الجماهير الحضرية التي صنعت تلك الأحداث يومين كاملين أو يزيد في ما يربو على عشر مدن رئيسية – بما فيها العاصمة الكبرى – نقول تكون الجماهير عبارة عن "كومبارس" في مسرحية ليست من تأليفها، ونكرات انتابتها حالة من التيه أو فقدان الوعي أو "الهلوسة".

وغرض هذه الدراسة التأكد من عدم صحة هذه المقولات الشائعة، ومحاولة تفهم لماذا اتخذت تلك الأحداث الأشكال التي تحققت، والبحث عن العلاقة بينها وبين السياق الذي أحاط التحدي وردود الفعل المختلفة.

وكانت الانتفاضة حدثا استثنائيا، وإن كانت وقعت أحدات مشابهة ولكن على نطاق محلي وأصغر كثيرا خلال السنوات العشر السابقة. ففي الأوقات العادية تقبل الطبقات الخاضعة مصيرها بصورة أساسية أو في الجوهر، ويعتبر هذا القبول أمرا مسلما به مقدما ومن حسن الأخلاق "والأدب"، بدليل أن الذي يثار عادة هو الإصلاح (وإن كان كتكتيك من طرف الجذريين). واذا كانت العلاقات الاجتماعية المقرة والمقررة تأتي بالغرم على الطبقات الشعبية والغنم للقلة المسيطرة، فالأولى تمارس احتجاجها على ما تعتبره تجاوز الثانية في حقها، وذلك من خلال أساليب داخلة في النسق وجزء من تركيبه العضوي (التقاضي، التهرب والتحايل، الشكوى إلى الدولة فردية أو جماعية، الشكوى لله).

وأما إذا كانت تغيرات عميقة في المجتمع وقعت على نطاق واسع، فقد تنعكس في هبات تخرج الطبقات الشعبية بها من إسار الهيكل المؤسساتي. وإما أن يترتب على ذلك إقامة هيكل آخر يختلف عن الأول كثيرا أو قليلا، وإما أن يتمكن النسق القائم من استيعاب الهبة بطرق شتى، وليس القمع إلا أحدها، إذ قد ُتستحدث طرق جديدة.

ووقوع الهبة دليل على أن القائمين بها أدركوا بصورة أوضح – ولو عابرا – حالة الحرمان التي يتحملونها وأنها ظالمة من حيث الكيف وليس من حيث الكم فقط، وأن بأيديهم فرصة ما للتغيير([1]). فأحدات يناير 1977 لم تكن في حجم الاحتجاج فقط، وانما كانت أشكالا من التحدي، كفت فيها وبها مئات الألوف عن خضوعها المعتاد، وسحبت تعاونها المخزي للآليات الجارية في المجتمع، وتسببت في كسور وتفككات هيكلية. وكانت المشاريع البديلة للشأن القائم إما منعدمة أو موغلة في الغموض، مع وجود أكثر من بديل في نطاق الوضع القائم (أي مع وجود أكثر من لا "بديل" واحد). الأمر الذي مكن أطراف ذات سلطة وقدرة على التدبير من إعادة الأحوال إلى ما هو أقرب إلى الظروف السابقة للهبة. ولكن هذا لا ينفي من ناحية أخرى أن أحدات يناير 1977 أشارت إلى حالة ارتفع فيها وعي الجماهير من الناحيتين الاجتماعية والسياسية. وهذا ما يوضحه أحد الأبحاث الصادرة عن أكاديمية الشرطة([2])، حيث رأى كاتبوها أن بالهبة خروجا عن السلبية وأن بها "الجماهير بدأت تعبر بشكل إيجابي عن موقفها من قرارات السلطة". كما أن تعليقات العديد من الصحف الأجنبية اعتبرت تلك الأحداث أمرا أقرب إلى الثورة وأشد أهمية من حريق القاهرة عام 1952.

وتثير انتفاضة يناير 1977 قضية أخرى، مرتبطة بالسابقة المتعلقة "بالوعي"، ونقصد قضية التنظيم. فالاعتقاد السائد في الحركة الماركسية المصرية أن فعالية الحركة الجماهيرية ترتبط طرديا دائما وبصورة مطلقة، بدرجة تنظيمها، أي انتظام المشتركين فيها في هيئات مهيكلة، ذات قاعدة وقيادة، ولائحة مكتوبة أو عرفية توضح العلاقات المقننة بينهما..إلخ، وإن عدم توافر هذه الخصائص في حركة 1977 ساعد على اعتبار أحدات العنف نتيجة للاستفزاز، أي أعمالا ذات وعي متدن. هذا في نفس الوقت الذي تؤكد فيه الحركة الماركسية المصرية الدور الحاسم للحركة الجماهيرية في صنع التاريخ من الناحية النظرية، وتؤمن على التغييرات الجوهرية التي ترتبت على ثورة 1919 مثلا، من الناحية العملية. ومع ذلك فلا شك أن هبة 1977 لم تنجح فقط في إلغاء قرارات رفع الأسعار بالجملة، وهزمت – ولو مؤقتا – ضغوط البنك الدولي وواشنطن والعواصم النفطية لإلغاء الدعم، بل كانت من العناصر الرئيسية التي حكمت تطور الأحداث التالية، من زيارة القدس إلى كامب ديفيد إلى حملة سبتمبر 1981 واغتيال السادات.

فالانتفاضة كانت تدل على أن الأشكال المعروفة في مصر مما يسمى بالرأي العام – وأغلبها سلبي – قد تنتقل إلى التحدي المباشر رغم فقدانها الصفة التنظيمية ولعل هذا الاحتمال ما زال يثقل على كافة التوازنات الاجتماعية والسياسية الحالية.

إن قوى الانتفاضة لم تكن في تنظيمها، ما دام مفتقدا، وانما في أثرها المفكك للنواميس المقررة للنسق المؤسساتي القائم، وعلى العكس، فجل التنظيمات القائمة، أو كلها، وسواء كانت جماهيرية واسعة شكلا (النقابات العمالية) أو أقل اتساعا وانما معارضة (النقابات المهنية) بل وسياسية (أحزابا) لم تكن أكثر من بؤر من أفراد مبعثرين على سطح المحيط الهادر عندما وجدوا. وهذا لا ينفي الدور الذي لعبته تلك التنظيمات بدرجات مختلفة في تقديم بديل فكري خارج عن التكييف الذهني المهيمن الذي تمارسه الدولة في مصر، إذ كان النشاط الماركسي من العوامل التي هيأت الظروف المواتية للانتفاضة، ولكن تلك التنظيمات – بالقطع – لم تكن من العناصر الرئيسية التي أعطت الانتفاضة تلك القوى الصدامية الطويلة الأثر في الميدان السياسي. ولم يكمن ذلك الأثر السياسي في التنظيم الجماهيري إذن، وانما في التعبئة الجماهيرية. وفرق بين الاثنين، وإن كان في استطاعة بؤر منظمة نشطة أن تأتي باسهام في تلك التعبئة.

احتوت هبة يناير 1977 على اتجاهات واستهدافات سياسية شتى، وكانت من بينها المطالبة بإلغاء قرارات زيادة الأسعار، وهو الاتجاه الذي نجح من حيث أن السلطة تراجعت يوم 19 عن القرارات القيسونية. ولكن الهبةُ هُزمت في إتجاه آخر من اتجاهاتها وهو المتجه نحو النظام السياسي القائم ساعة ذاك. ولا شك أن الهزيمة عادت إلى التفوق الحربي والتنظيمي لقوات الجيش التي دخلت فانهت الأمر. ولكن هذا لم يكن الأمر الوحيد، وإن لم يكن السبب الأدنى فعالية أيضا. وسبقت الإشارة إلى أن الحركة تضمنت مشاريعا مختلفة كان أكثرها وضوحا وتحديدا المشروع الاحتجاجي المطالب بإلغاء القرارات القيسونية. وكانت المشاريع الأشد غموضا وترددا تلك المستهدفة القضاء على النظام السياسي الساداتي وإيجاد آخر مقامه. كان هذا النظام الآخر البديل ضبابيا، تظهر أحيانا فيه معالم النظام الناصري ولكنه في أغلب الأحيان أقرب إلى حلم التخلص من الدولة القاهرة أي ذو محتوى فوضوي بالمعنى العلمي للكلمة. وقد وقعت الهزيمة الحربية بالتحديد بعد أن كف المشروع المحدد عن كونه محركا للنضال مع قرار إعادة الأسعار إلى ما كانت عليه قبلا. وأصبحت المجموعات المتبقية التي قاومت القوات الحكومية حتى فجر 20 يناير مستمرة في رد هجوم فقط، أي دون أمل في الوصول إلى المشروع الحلم.

وسوف نشير فيما بعد إلى بعض الظروف الموضوعية، الاجتماعية الاقتصادية التي تقدم شيئا من التفسير لبعض أعمال النهب والسرقة التي ارتكبت أثناء الهبة ولكنا نود الإشارة هنا إلى أن طبيعة التكوين الجماهيري للانتفاضة من الناحيتين السياسية والتنظيمية جعلت قائمة الإمكانية أن تدخل فيها عناصر غوغائية. غير أن ما سمى "بالأعمال التخريبية" لم يكن في الأغلب الأعم يعود إلى عناصر معتادي الإجرام فقط، بقدر ما كان تعبيرا عن موقف طبقي عام واسع وعن تبني أشكال خاصة من القتال المادي والنفسي. وثمة القرائن على أن هذه بدورها لم تكن مستوحاة بالضرورة من تلك العناصر الغوغائية أو منها دون غيرها، بل إن مخزونا كبيرا من أمثالها كان معروضا في الترسانة الفكرية والممارسات العملية لعناصر الصفوة الساداتية ذاتها، لا بل ولأوساط الشرطة وقوات الأمن والمباحث والسجون، وهي التي يحتك بها الشعب أفرادا وجماعات كل يوم. فأساليب البطش الأعمى والتعسف والاستبداد بلا قانون أو معيار من أخص خصائص أجهزة الدولة لدينا بحيث أن الانتفاضة، إذ ملكت ساعات أزمة المدينة، قلدت في تعاملها مع ما يقف دونها الأساليب التي مورست عليها.

وقد خالفت الانتفاضة نموذج السير الأمثل للحركة الثورية كما تتصورها آمال البعض حقا.. ولكن السير الواقعي الذي صار توقف على ظروف محددة في زمن تاريخي عيني وعلى شكل لرد الفعل على تلك الظروف، كما خضع لها في الوقت نفسه. وبطبيعة الحال اذن، فالأفضل أن تتم محاكمة ما وقع لها في ضوء الأهداف والأشكال التي يحددها المرء في ذهنه بل على أساس ما كان ممكنا تحقيقه في تلك الحالة وما كان المطلوب لذلك.

ملحوظة: اعتمدنا بشكل أساسي على كتاب حسين عبد الرازق: مصر في 18، 19 يناير – دراسة سياسية وثائقية، ط3، القاهرة، دار شهدي 1985. وكذلك على الجرائد المصرية (وخاصة الأهرام)، والأجنبية (وخاصة نيويورك تايمز)، وتقارير الوكالات الصحفية (وخاصة كيسينجز) ونشرة " تقرير الشرق الأوسط.."(ميريب).


                         **************************
2- القاهرة: الخلفية الاجتماعية

انتفاضة 1977 حركة حضرية، إذ جرت في المدن الكبرى دون الريف. ويجب علينا أن نبحث عن أسباب أشكالها الخاصة في مميزات التحضر المصري. وسوف نكتفي هنا بالإشارة إلى بعض ما يتعلق بالقاهرة، وهي التي كانت مسرحا للأحدات الأهم من حيث الحجم وطول الزمن، وإن كان من المحتمل أن تلك التي وقعت بالإسكندرية اتصفت – في حوادث معينة – بمستوى أعلى من التحدي للنظام القائم ومن حدة الإحساس الطبقي.

كان عدد سكان القاهرة يزيد قليلا على مليونين في 1947 فوصل إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين ونصف عام 1960 وخمسة ملايين في تعداد 1976. وإن هذه الزيادة السريعة تعزى إلى حركة التصنيع أيام الحرب العالمية الثانية ثم في ظل الناصرية، وكذلك إلى حركة انتشار التعليم وخاصة الجامعي. وإن الدخول بالعملة الصعبة التي حققتها العمالة المصرية المهاجرة اتجهت أيضا في معظمها إلى القاهرة حيث الأسواق الكبرى للكماليات وتجارة السوق السوداء. واذا كانت القاهرة شهدت نهضة صناعية – وخاصة في ضواحيها المحيطة (شبرا الخيمة، امبابة، الجيزة، الحوامدية، حلوان.. إلخ)، حتى أواخر العهد الناصري – فإن القطاع الثالث (الخدمي في ميادين التجارة والمال والترفيه والخدمة الاجتماعية الحكومية) قد اتسع فيها أيضا بوتيرة سريعة، بل بمعدل أسرع في ظل السادات. وجمع سكان القاهرة بين الطبقة العمالية الصناعية والإجراء في الميادين الأخرى، والموظفين الحكوميين وطلبة الجامعات والمدارس الثانوية.. ومع كل التحديث الذي أصاب القاهرة، فانها تظل في معظمها مدينة شرقية أي مركزا اداريا ودينيا. ومع كونها مكانا كبيرا للنشاط الاقتصادي، فهي قبل هذا مسرح سياسي، يتقرر فيه كل يوم مصير مصر كلها. فينزح إليها الناس بحثا عن الوسائط والاتصال بمن في يده الأمر، خاصة بعد أن اشتد تمركز السلطة في العاصمة في ظل عبد الناصر والسادات معا.

ولكن الفعل السياسي ليس باتجاه واحد فقط. بمعنى أن هذا التركيز السكاني المتعلق بمراكز السلطة يلعب ثانية دورا ضاغطا عليها بحيث يكون لسكان القاهرة وزن أكبر نسبيا من سائر المصريين في حسابات الحكم وتعطى لهم أفضلية على حساب الباقي. وخلال الفترة 1966-1967 إلى 1978، ارتفعت تكاليف المعيشة في الحضر بنسبة 112.6 في حين كان الارتفاع في الريف 138.4([3]). أي أعلى بما يقرب الربع. وبعد أن كان تفوق الحضر على الريف قد خفت حدته في ظل عبد الناصر، عاد يشتد في عهد السادات. وفي وسط التفوق الحضري تتفوق القاهرة على المدن الأخرى: فمجموع ما أنشئ في مصر في 1983-1984 من المساكن 160 ألف مسكن، خص القاهرة وحدها 85 الف مسكن.

غير أن هذا المركز المتميز الذي يتمتع به الحضر عموما – والقاهرة على الخصوص – لا يعني اختفاء التمايز الطبقي داخل المدن، بل على النقيض. ففي القاهرة أصحاب مئات الملايين في حين أن بها جماهير تعيش تحت حد الكفاف أو الفقر.

وتتضخم هذه المدينة الكبرى بفعل الزيادة الذاتية كما بفعل الهجرة. وصافي الهجرة عبارة عن ناتج عملية مزدوجة من النزوح منها والنزوح إليها بحيث يصل مجموع غير المستقرين بالقاهرة إلى ما يقرب من نصف عدد الثابتين بها ([4])، الأمر الذي يضفي سمة عدم الاستقرار على هؤلاء السكان عموما.

والأغلبية الكبرى من المهاجرين إلى القاهرة أبناء لصغار الفلاحين ومن المتعطلين أو أشباههم. وقد يجدون عملا غير منتظم في البناء والحرف الصغيرة فلا يستقر وضعهم الاجتماعي وينظر إليهم على أنهم في مستوى أدنى([5]). ويتجه المهاجرون إلى الإقامة في الأحياء القديمة (وبعضها متداخل أو قريب من الأحياء الجديدة الغنية) والضواحي الحدودية للقاهرة، فيقع فيها انفجار سكاني. وكان متوسط الكثافة السكانية بالقاهرة 25.000/كم2 ولكنها تصل إلى 118.000 في روض الفرج و143.000 في باب الشعرية، في حين انها تتراوح بين 7000 و9.000/ كم2 في الأحياء الراقية مثل قصر النيل والمعادي (عام 1973). وكان متوسط الكثافة 3 أفراد بالغرفة الواحدة في القاهرة الكبرى (عام 1974)، ولكنها كانت أقل من فرد واحد في الأحياء الأعلى مستوى مثل الزمالك، ولذلك كانت مشكلة السكن الثانية في الأهمية بعد الغذاء. وبرنامج الإسكان الحكومي يؤدي إلى تكاليف سكنية لا قبل بها للأسر المنخفضة الدخل. واتخذ نظام السادات بشكل خاص سياسة طرد سكان الأحياء القديمة الفقيرة والمركزية الموقع لبناء الأبراج الحديثة فيها، فانتقلوا للعيش في الخيام أو مساكن الإيواء المؤقت في الأطراف ذات المستوى غير الآدمي وإلى المقابر حيث أقامت مئات الألوف، وفي حين توجد عشرات الآلاف من الشقق الخالية المغلقة انتظارا لفرص الربح، وتنشأ عشرات الفنادق الفاخرة للسياح، تعيش 85 ألف أسرة في عشش أو خيام أو أكشاك في 1976 ([6]).
ويحتفظ المهاجرون بعلاقاتهم بالريف لأنها تعينهم على المعيشة وتشكل نوعا من الحماية الاجتماعية لهم، خاصة وإن التنظيمات النقابية والاجتماعية والخيرية لا تلعب دورا يذكر في وضع المهاجرين إلى القاهرة، على عكس علاقات القرابة والنسب والمحسوبية الإقليمية. ومن الملفت للنظر أن المهاجرين، بدلا من أن ُيستوعبوا في الحياة الحضرية كخط عام، ينجحون في فرض أسلوبهم الحياتي على قطاعات واسعة من سكان المدينة([7]).

ومع النظام الساداتي الأشد انحيازا إلى الأغنياء، عانى الفقراء من مشكلة حادة في وسائل النقل العام. فانخفض عدد الأتوبيسات من 2190 وحدة عام 1972 إلى 1372 عام 1977 في حين ازداد عدد السيارات الخاصة من 80.559، إلى 133.599، وعدد سيارات الأجرة من 14.487 إلى 29.359 في القاهرة الكبرى وهذا فضلا عن طفح المجاري وانقطاع المياه والكهرباء وانهيار المساكن. وبطبيعة الحال، تقف الطبقة العمالية الصناعية في القاهرة على رأس النضال ضد الاستغلال الرأسمالي، ولها سجل حافل من الإضرابات والمظاهرات لتحقيق المطالب المعيشية المشروعة وكفاحا من أجل التحرر الوطني والديموقراطية السياسية أيضا. ورغم استيعاب النظام للنقابات الرسمية، فقد استطاعت الطبقة العمالية أن تخوض المعارك بنجاح في سنتي 1975 (حلوان) و1976 (عمال النقل) كما أن الإعلان عن تأسيس الحزب الشيوعي المصري مرة ثانية في 1975 توافق مع إضراب عمال النسيج بالإسكندرية الذي ألقي القبض فيه على 150 عامل، وقد تأكد المركز الطليعي للطبقة العمالية في أحدات 1977 أيضا حيث بدأت مظاهرات القاهرة من مصانع حلوان، وفي الإسكندرية من الترسانة البحرية. وعاصمة مصر مدينة فيها أيضا المهمشون العديدون. فتعداد 1976 يسجل فيها ما يقرب من 8.000 متعطل سبق له العمل، و11.200 متعطل جديد و53.000 "زاهد في العمل" ولا يذكر هذا التعداد أشباه المتعطلين أو الذين يعملون جزءا من الوقت أو أياما معدودات، لا الأسبوع أو الشهر كلهما.

والقاهرة مدينة تجاور فيها الدكاكين الصغيرة الورش الكبيرة والمصانع. وفيها حوالي 200.000 يعملون لحسابهم ولا يستخدمون أحدا، منهم 76.000 تقريبا من الأميين وحوالي 5.000 يعملون لدى الأسرة بدون أجر نقدي، منهم أكثر من 3.000 أمي. وإذا كان التعليم المهني والثانوي والجامعي قد حظي بأكبر الاهتمام أو العناية مراعاة للطبقات الوسطى والأعلى فإن التعليم الابتدائي والإعدادي أتيا بعد ذلك في ترتيب الأولوية، مثلما حدث على نطاق القطر عموما([8]).

ورغم أن القاهرة عاصمة البلاد وأكثر المدن المصرية تقدما وتحديثا، إلا أن عددا كبيرا فيها من الأطفال والصبية والأحدات يقومون بنشاط اقتصادي، وإن كان هو الآخر ذا ألوان خاصة ومهمشا بدرجة كبيرة ويبين الجدول رقم (1) (أنظر الملحق) أن عدد الذين يعملون لحسابهم ولا يستخدمون أحدا من سن فوق 6 سنوات واقل من 12 قد زادوا بين 1966و 1976 من 370 إلى 702 ومن 981 إلى 2617 لمن بين 12و 15 سنة، ومن 5.629 إلى 12.189 لمن بين 15 و20 سنة، وكذلك لم يزل في عام 1976 من الفئة العمرية الأولى 8269 ومن الفئة الثانية 27.683 ومن الفئة الثالثة 93.767 يعملون بأجر نقدي. في حين أن الذين يعملون دون أجر نقدي (سواء لدى الأسرة أو لدى الغير) قد زادوا بشكل خاص بالنسبة للذين بين 6 و15 سنة. واشتمل التعداد على 25.322 طفل في بند المتعطلين وعلى 37.020 طفلة في بند المتفرغات لأعمال المنزل.. ويلاحظ أن عددا كبيرا من هؤلاء الأطفال بين 6 و15 سنة كان يعمل في الخدمة الاجتماعية والشخصية، تم في الصناعات التحويلية (الجدول رقم (2) من الملحق).

ومن بين الأحداث بالقاهرة، عدد من الأميين يقرب من الربع مليون ومن الذين يعرفون فقط القراء والكتابة ما يربو على 400.000 فرد.
وقد بلغ عدد الأحداث الذين تم القبض عليهم في حوادث الشغب في يناير 1977 (325) حدثا، وهو أكبر عدد يقبض عليه من هذه الفئة العمرية في مظاهرات سياسية أو اجتماعية([9]). ولكن، إذا تأمل المرء الأرقام السابقة، وجعل في ذهنه ذلك العدد الكبير من النشيطين اقتصاديا من الأحداث في القاهرة، لوصل إلى النتيجة أن اشتراكهم في أحدات يناير 1977 لم يكن عن تيه وقلة عقل، بل عن وعي حاد بالتمايز الطبقي وعن رغبة مشبوبة في الخروج على الأوضاع التي ُيغبنون فيها أشد الغبن وُيقهرون أظلم القهر. وذلك لأنهم ليسوا فقط أفرادا في المجتمع بشكل غير مباشر (بالاحتكاك بالأهالي) بل بصفة أصلية أيضا وإن كانت جزئية، ومن هنا ندرك ما تشير إليه التقارير الرسمية من صدور الأحكام ضد آلاف الأحداث سنويا بتهمة التسول وجمع الأعقاب والقمار والدعارة والمبيت في الطرقات(([10])) وهي أحكام ذات دلالة على خروج الأحداث على المجتمع بشكل فردي "وانحرافي" في حين أن اشتراكهم في انتفاضة يناير 1977 بصورة واسعة كان خروجا على النظام بشكل جماهيري وسياسي. فإذا كان الخروج على القانون والمجتمع الرأسماليين القائمين ُيعتبر في أغلب الدوائر الرسمية "انحرافا" شبيها بالمرض النفسي، فهو في الحقيقة رد على القهر الاجتماعي بأسلوب فردي. وهو ينتشر بشكل خاص في الأوساط الواقعة في أسفل السلم الاجتماعي، إذ أن الطبقات الأعلى منها مستوعبة في المؤسسة القائمة([11]).

وإن العديد من السمات الاجتماعية العامة والمتعلقة بالقاهرة لم تكن عام 1977 جديدة كل الجدة على العاصمة فإن المظاهرات العنيفة والهبات التلقائية الواسعة أمر معروف في تاريخها. وليست الجماهير المشتركة في تلك الهبات مجموعة من المجرمين أو المنحرفين عقليا ونفسيا، وإن وجدت بينها عناصر تتخذ الخروج على القانون حرفة. وإنما الأغلبية الكبرى من الطبقات الكادحة وإن كانت نسبة هامة فيها من الفئات الأشد فقراً والمهمشة نوعا ما.

ويمكن الملاحظة أن الأشكال الغوغائية للتحدي (مثل النهب عند إشعال النار في الممتلكات) كانت أشد ظهورا عندما اختلطت الغضبة الطبقية والسياسية بمشاعر الاستفزاز الديني والأخلاقي (مثل الهجوم على النوادي الليلية بشارع الهرم). ولكن الصفة الغالبة لم تكن هذه بل كانت تصرفات التحدي الجماعية أساسها الاقتناع عند المشتركين فيها أنهم يتحركون كأعضاء في جماعات معبرين عن رفضهم لطاعتهم السابقة وامتناعهم أمام محاولة إعادتهم إليها، وإذا كانت هذه التصرفات الجماعية لم تكن ذات تنظيم منضبط، فلوجود تلك النسبة العالية من المتعطلين وأشباه المتعطلين والأحدات والعاملين في الإنتاج الحرفي والنشاط الخدمي الصغير ومن حديثي الهجرة من الريف، أي من الذين لا يعرفون الانضباط الصناعي الحديث وهو الأساس الذي أعطى للحركة شكل الزلزال غير المحكوم في نفس الوقت الذي كان يعطيه قوة الزوبعة.

قد اعتبرت هذه الحركة إجراما لدى الدوائر الحكومية، وشيئا من السذاجة العقلية أو من تخلف الوعي لدى دوائر أكثر تقدما. ولكن هذا وذاك كان تجريدا للأحدات والتصرفات من ظروفها الموضوعية. وحتى في أحوال الهجوم الأخلاقي على الغنى الفاحش باسم الإسلام فقد كان الاستمساك بالدين حاملا لنوع من الطبقية الشعبية.

                             ******************


3- الخلفية السياسية التاريخية للانتفاضة

في حين أن اليسار كله حمل النظام الساداتي مسئولية الأسباب العميقة التي أدت إلى الهبة، وجهت الأجهزة العلمية للسلطة الاتهام إلى التغييرات الفكرية والسياسية التي طرأت في ظل عبد الناصر([12]). وفي تقديرنا أن انتفاضة بمثل ذلك الحجم وتلك الخطورة تضرب جذورها إلى أبعد من الأسباب القريبة وكذلك أبعد من الأسباب المفجرة المباشرة. في نتاج تطور شامل للأحدات ولالتقاء عناصر عديدة وعلى مدى أطول.

لقد تكونت الأغلبية الساحقة من المتظاهرين من شباب وأحدات يتراوح تاريخ ميلادهم بين السنوات الأولى للعهد الناصري وسنواته الأخيرة. وقد شهد هذا العهد من التطورات والتقلبات والسياسات ما كان يستحيل إلا يترك آثارا عميقة على ذلك الجيل. فإن الإصلاحات الزراعية والتأميمات والحروب ضد القوى الاستعمارية الكبرى، والحديث المباشر للجماهير وبلهجتها عن الحرية والعدالة والكرامة والاشتراكية والاستغلال الطبقي والمساواة قد دفع إلى مسرح الأحداث بجماهير غفيرة كانت تتوارى من قبل في السلبية أو مجرد الرفض (إذا استثنينا أحوالا شاذة). والهزيمة السهلة ظاهريا التي لقيتها الطبقات المالكة الكبيرة السابقة من المصريين والأجانب أصابت قدسية الملكية الفردية الكبيرة بالشك في معيارها الأخلاقي، كما أثارت الارتياب الشديد في قدرة أصحابها على الانتقام والردع والعقاب عند الاعتداء عليهم، وفي كلمة، فقد كان لتلك النواحي من العهد الناصري أثر كبير في جعل الجماهير الواسعة تفقد شيئا من اقتناعها بأن الظلم الذي عليهم قدر وحق.

وإن ننسى فلا ننسى استخدام العهد الناصري للدين تأكيدا على سلامة سياسته (التحالفات مع الإخوان، الدائرة الإسلامية في فلسفة الثورة، المؤتمر الإسلامي عام 1955، الإسلام والاشتراكية في مجمع البحوث الإسلامية، القمة الإسلامية …إلخ) وهو ما كان يوفر حججا فكرية شديدة الصلابة على ذلك النوع من الثقة بالنفس الذي اكتسبته الجماهير.

وقد اتبع السادات سياسة طويلة المدى في انقلابه على الخط الناصري. إذ ظل هو الآخر يتحدث عن الاشتراكية، وأحيانا بالطريقة المبتذلة الفجة التي تثير خيال الذهن البسيط، إلى بعيد 1977. إذ لم يحارب تلك المفاهيم الثورية في مواجهة واضحة، فقد ترك لها مجالا للبقاء والفعل. ومن اطرف الأمثلة على ذلك، ما نشرته مجلة روز اليوسف في عددها الصادر في 17/1/1977 لحديث مع المدعي العام الاشتراكي أنور حبيب حيث قال "سأقطع خبر اللصوص في هذا البلد! سأذهب إلى المحكمة لأفضح أمام الشعب الذين يسرقون قوته! لن أقبل أن ينهبنا أحد باسم حق الملكية الخاصة" !. وشن الرجل هجوما ضاريا على كباريهات شارع الهرم وروادها منذرا من يخرج على حسن الآداب والقيم والذين يديرون بيوت الدعارة. وكان لاستخدام السادات للإسلام وتذكيره بعدل الخلفاء الراشدين شئ من نفس الأثر، وإن أكد بشكل خاص على إبراز قيم القناعة والاستسلام وقبول الأمر الواقع في التراث.

ومن ناحية أخرى، فقد كان العهدان الناصري والساداتي مليئين بالانقلابات المفاجئة والحروب وبعقد التحالفات الجديدة وحلها داخليا وخارجيا، وسجلها يطول ذكره، حتى تباهى السادات" بالصدمات الكهربائية.." التي يحدثها. وكان لهذا الاضطراب المستمر فعل الإثارة الواسعة وتوتير الأجواء وإشاعة نوع من الانتباه (وأحيانا اليقظة) عند الطبقات الشعبية، الأمر الذي جعلها سهلة التحرك والتجمع والاندفاع، ولا ينفي هذا استمرار العناصر الدافعة إلى السلبية، فكانت النتيجة مختلطة معقدة.

ولكن هذا لم يكن كل شئ. إذ احتوت المراحل الأخيرة للعهد الناصري على سياسات ونتائج عملية تعارضت مع المبادئ المرفوعة إعلاما في التصريحات والمواثيق الرسمية، الأمر الذي أشاع قلقا متزايدا، ووسع دائرة التوتر السابق ذكره من منبع جديد وعمق الهوة التقليدية الموجودة في مصر بين الحاكم والمحكوم مرة أخرى. ولن نخوض في الأسباب الموضوعية الذاتية لهذا الوضع المتناقض، ولكن تكفينا الإشارة إلى هبوط نصيب الأجور في الناتج القومي الزراعي ابتداء من 1967/1968. وإن الأخذ بالخطة الخمسية قد توقف بعد تنفيذ الخطة الأولى والوحيدة، وانه بعد هزيمة 1967، اتخذ النظام الناصري خطا فيه تحول عن السابق ومنه الارتباط بالدول العربية المعتدلة (قمة الرباط في سبتمبر 1969)، والخطوات الأولى في "الانفتاح" من حيث حيازة العملة الصعبة والهجرة إلى الخارج وإحضار السلع الاستهلاكية من الخارج، و"إصلاح" القطاع العام، وتأسيس شركة جديدة للأسواق الحرة، وإعطاء مسئولية وسلطة أكبر لرئيس مجلس الإدارة في القطاع العام، وتشجيع القطاع الخاص وفرض ضرائب وتضحيات جديدة على العاملين([13])، وهذا في نفس المرحلة التي كان يصدر فيها "بيان 30 مارس".

ومع مجيء السادات زادت الأحوال تدهورا، إذ بدأ يهبط نصيب الأجور من الناتج القومي في الصناعة منذ سنة 1975 بشكل واضح. وبالإضافة، فقد أخذت تكاليف المعيشة ترتفع بسرعة جنونية، ويصيب الغلاء الفئات الشعبية الدنيا سحقا، وخاصة تلك المكونة من أشباه المتعطلين والمهمشين الذين رأينا القاهرة تزخر بهم، فتزيد عليهم صعاب الحياة ومشاكلها إلى جانب ما رأينا من مشاكل العمل والسكن والمواصلات.

ولعله كان من المستطاع أن تستمر الجماهير الحضرية – والقاهرية منها – في تحمل البؤس والحرمان والمعاناة، لولا فجور طبقات القمة وتباهيها بنهمها ولولا عمليات الكشف والفضح (وأحيانا لأغراض النفاق والتضليل) التي مارستها وسائل الإعلام الرسمية بهذا الخصوص. فقد كان الناس يشهدون ويسمعون عن الثروات التي يجمعها الحكام الكبار ويقرأون لحسنين هيكل عن التحف التي يأتي بها من الخارج زعماء الاشتراكية الناصرية. وقد ُصرفت 35 مليون جنيه على شراء السيارات المستوردة فيما بين 1972-1975 في نفس الوقت الذي تتحدث الصحف فيه عن "القطط السمان" ويعقد رئيس الجمهورية قران كريمته على ابن المليونير عثمان أحمد عثمان في بذخ يذكر بألف ليلة وليلة وتنشر الصحف صور الأبهة في أوائل يناير 1977. فقد كانت التحولات التي بدأت من بعد 1965 –1966 وأطلقت الطبقة الجديدة من عقالها لم تمح من ذهنها الرعب من التأميمات والمصادرات، ولا طمأنتها حقيقة على زوال خطر الأحداث الثورية المحتملة في المستقبل القريب. فألقت بنفسها في ملذات الثروة السهلة والمزيد منها بشدة أكبر ودون مراعاة للمظاهر الأخلاقية الأولية لاقتناعها أن وضعها الممتع لن يدوم طويلا. وبرز في هذا المجال أصحاب الثروة النفطية، والعديد منهم يأتون إلى مصر للسياحة والترفيه فيبذرون أموالا طائلة في الموبقات. وتعرف على الخفي في المجتمع النفطي مئات الآلاف من المهاجرين الذين عملوا هناك.. وبهذه التصرفات، كانت الطبقة الثرية إنما تنزع عن أعين الجماهير العريضة البقايا الباقية من الاحترام للغنى الفاحش. وملأت القاهرة الروايات عن الثروات المجموعة بالإجرام والمصروفة في الإجرام وذلك في أقرب الدوائر لمراكز السلطة. فأضافت مزيدا من الكراهية والاحتقار إزاء القمم.

وفي هذه الأحوال التي تزداد أزمة وتوترا يوما بعد يوم، وتنذر بأحدات جسام اتبعت السلطة سياسة التصريحات الوردية وإخفاء نواياها الحقيقية بطريقة تثير التساؤل في ذهن من يطلع اليوم على صحف يناير 1977. فتثبيت الأسعار وتحسين أوضاع العاملين (1/1/1977)، وتوفير الغذاء والكساء للجماهير وتثبيت الأسعار (2/1)، والتمسك بالحل الاشتراكي (7/1) وتوفير وجبه غذائية جاهزة رخيصة (10/1)، وضبط قرارات تحريك الأسعار (كذا في 16/1) وعلاوة إضافية لجميع العاملين من أول يناير وزيادة المعاشات 10%(17/1)، و92 مليون جنيه لإصلاح أوضاع العاملين، و98 مليون جنيه للعلاوات الإضافية وزيادة المعاشات واستمرار دعم السلع الرئيسية (18/1). فهل كان أولئك الذين يمسكون بدفة الحكم من السذاجة بحيث اعتقدوا أن هذه التصريحات يمكن أن تخفي الواقع المثير؟ أم كان جزء من الوزارة في واد، لا يدري ما يبيته الجزء الآخر؟ وعلى أي حال، تعرض الجمهور بهذا الشكل إلى متوالية من الكلام المخدر بحيث كان لابد من أن تكون إفاقته عند قرارات يناير غضبة مضرية.

وقد جاءت هذه الإفاقة في ظرف قومي عام في مصر جدير بالالتفات إليه. فقبل 1956 كان بقاء القضية الوطنية دون حل حجة قوية في أيدي الذين برروا قمع المعارضة وقهر المحرومين باسم الوحدة الوطنية ضد المستعمر أولا. وقبل 1973 استخدام السادات هذه الجملة لمحاربة الحركة الشعبية والمعارضة الديمقراطية والتقدمية، رافعا شعار" لا صوت يعلو على صوت المعركة". ولكن حصول مصر على درجة كبيرة من الاستقلال الفعلي في ظل عبد الناصر كان لابد أن يدفع إلى المقدمة بمطالب الجماهير المعيشية، ويشحذ موقفها الطبقي، وكذلك، فاستسلام النظام الساداتي المتزايد إزاء الاستعمار الأمريكي والإملاء الإسرائيلي جرده من ذلك السلاح الذي أراد أن يسكت الشعب به ويهدد الطبقة العمالية خاصة، الأمر الذي أعلى بدوره الصوت الطبقي علوا على علو.

إذ اتخذت الحركة التحريرية المصرية طبيعة جماهيرية متزايدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد اشتد عود هذه الحركة منذ أواخر العهد الناصري. ولا نقصد هنا فقط المظاهرات المعارضة للأحكام على ضباط الطيران، بل نشير أيضا إلى المظاهرات المؤيدة لعبد الناصر في يونيو 1967 وفي جنازته في سبتمبر 1970. فمهما كانت الشعارات المرفوعة حينذاك والتأييد الجارف فيهما، إلا أنهما كانتا دليلا على شدة التعبئة الموجودة، وإن هذه التعبئة – وهذا هو المهم بالنسبة لموضوعنا – تلقائية. وهذا ما تؤكده أيضا إحصائية شبه رسمية لحوادث العنف التلقائي الجماهيري فيما بين 1966 و1974 والتي بلغ مجموعها 392 حادثة (وقد أطلقت الصحافة الرسمية عليها اسما مخففا للاطمئنان هو "الحوادث المؤسفة"). ويتضح من بحث "المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية" لها أنها كانت متزايدة طوال هذه الفترة واشتملت على هجمات على الشرطة وحرق مباني أقسامها والاتحاد الاشتراكي وبعض المصالح الحكومية ومنشآت القطاع العام. وكأنها كانت تجارب تمهيدية متناثرة لأحدات يناير 1977. وقال وزير الداخلية أمام مجلس الشعب في 16/1/1977 ما يؤكد الأوضاع المتفجرة التي هيأت ليومي 18، 19 يناير، إذ قال عند مناقشة حوادث مدينة بيلا: "إن بعض الجرائم في الفترة الأخيرة اتسمت بظاهرة العنف (….) وقع اعتداء على بعض مواقع الشركة من قبل أشخاص غير مسئولين (…) وهناك حالة بين الجماهير تشبه حالة الوتر المشدود"(([14])) (الإبراز من عندنا).

ولا يتعارض اشتداد العنف في الحركة الجماهيرية مع ازدياد اتساع الموقف السلبي الجماهيري من السلطة وتنظيماتها. ونذكر بشكل خاص الابتعاد عن الاتحاد الاشتراكي ومقاطعة هياكله وحركته، ومقاطعة الانتخابات والاستفتاءات. ففي تلك الظروف لم يكن الموقف السلبي من السلطة مناقضا لاستعمال العنف في الهجوم عليها، بل كان الأمران متتامين يعبران عن نفس الرفض. والفرق بينهما أن الحركة ذات العنف فيها التحدي للدولة والثقة بالنفس والجرأة في حين أن الموقف السلبي فيه مقاومة موازية خفية وخائفة.

وقد استعملت السلطة إزاء هذا الوضع سلاحين. الأول السيطرة على التنظيمات الجماهيرية واستيعابها في الجهاز الحكومي في نفس الوقت الذي كانت تفرض عليها فيه قيودا يبدو أن لافكاك منها. وسار في هذا المضمار العهدان الناصري والساداتي على السواء، واعتمدا كلاهما على تراث ورثه من العهد الملكي الاستعماري (قانون الاعتراف بالنقابات العمالية وقوانين "تنظيم" الجمعيات الأهلية). ولكن هذا السلاح مكن السلطة فقط من الإمساك برقبة ما هو منظم، وبتقييد تلك العناصر الطليعية التي تعتقد بفعالية التنظيم رغم كل شئ. وهي تمثل أقلية صغيرة، في حين أن الأغلبية الكبرى والساحقة غير منظمة وغير مقتنعة بالتنظيمات الرسمية، فهي بالتالي خارج القبضة الحكومية من هذه الناحية.
والسلاح الثاني كان القانوني القمعي. وهنا أيضا لمصر تاريخ منذ أن بدأ القانون الوضعي فيها من أيام محمد علي (لائحة الفلاح). ولكن النظامين الناصري والساداتي أضافا إلى التركة السابقة من تفانين التشديد ما لم يطرأ على خيال الملوك ولا المستعمرين (التعديلات والإضافات على المادة 98 من قانون الجنايات وعلى قانون الأحكام العسكرية والطوارئ، ومواد الدستور القمعية.. إلخ).
ولاشك أن للبطش قدرة على فرض نوع معين من الهدوء. ولكنه في الوقت نفسه لا يترك متنفسا للضغوط الناتجة من الغليان الداخلي. وهكذا كان للقمع القانوني دور مع العوامل الأخرى لكي تتوجه الجماهير الشعبية الفقيرة وعناصر المعارضة الخارجية عن إطار النظام نحو السكة الوحيدة الممكنة؛ سكة الانتفاضة.
وقد عرفت القاهرة انتفاضات وهبات أخرى من قبل، ومن أعنفها حريق القاهرة في يناير 1952، ثم أقربها هي مظاهرات 1975. ولكن انتفاضة يناير 1977 كانت لها خصائصها الخطيرة والبالغة الأهمية. ذلك أن حادثة حريق القاهرة كانت محصورة بالعاصمة، في حين أن ما حدث في 1977 بالقاهرة كان فقط نموذجا واسعا وأشد عنفا لما وقع في عدد من عواصم الأقاليم ومدنها، أي أقرب إلى ثورة المدن المصرية. وكان حريق القاهرة أشبه بالانفجار الفوضوي غير محدد الهدف السياسي إلا شتاتا في بعض اللون الوطني المعادي للصهيونية والديني، في حين أن أحدات 1977 كانت موجهة ضد النظام القائم وسلطته وحكومته بصورة أساسية. وكانت مظاهرات 1975 أيضا ذات طابع اجتماعي سياسي. ولكن مستواها كان دون مستوى مظاهرات 1977 بما لا يقاس وتساعدنا هذه المقارنة على وضع أحدات 1977 كنتيجة تاريخية لتجارب سابقة، ولكنها على درجة أعلى من الأهمية والدلالة.


                      ***************************


4- أوضاع السلطة


في وجه هذا التحفز الشعبي والتوتر الحضري خاصة، الذي عبر عن نفسه أكثر من مرة في "الحوادث المؤسفة"، كانت أوضاع السلطة الساداتية قبيل أحدات 1977 مفككة ومهتزة، وعلى رأسها مجموعة سياستها في حل المشاكل، عبارة عن "الهروب أماما".

خرجت السلطة الساداتية من شرنقتها الناصرية من خلال سلسلة من الصراعات الداخلية العنيفة والتحالفات السياسية والفئوية والمؤقتة التي سرعان ما تنفك بعد تكوينها، دون أن تتمكن مع ذلك من الوصول إلى الوحدة أو التجانس الداخلي. وحتى قبيل الأحداث، كانت قوى كبرى تتصارع مع المجموعة الساداتية الضيقة الخاصة وحولها. ومنها الجيش الذي كان فقد الكثير من هيمنته السابقة على الصفوة (انخفضت نسبة الوزراء من أصل عسكري من 38% عام 1970-1971- إلى 7.8% بعد الانفتاح عام 1974) وهذا رغم تعيين السيد/ محمد حسني مبارك نائبا لرئيس الجمهورية. ومنها طاقم وزارة الخارجية الذي لم يكن راضيا عن سياسة السادات. ومنها مجموعة القيادات الموالية للناصرية في القطاع العام الذي تعرض للتغييرات المتتالية والهجوم العنيف، وفي الحركة التعاونية والاتحاد النقابي. ومنها قوى داخل حزب مصر ترى أن غنائم الحكم لم تكن توزع بين الأنصار بالعدل. وأخيرا، فقد كانت هناك قوى خارجية تمارس على السلطة الضغوط والإغراءات والتهديدات، ومنها شتى الأجهزة الأمريكية التي ظلت تبحث عن بديل للسادات حتى في أشد أيام الوئام معه، والسعودية وبلاد نفطية أخرى تلك التي كانت تمزج حساباتها الخاصة مع التبعية العامة للسياسة الأمريكية، منها فرنسا التي أرادت أن تدخل سوق السلاح المصري لمنافسة واشنطن.

وكانت تختلط مع هذه الصراعات المصلحية صراعات سياسية وفكرية تتقاطع بين الاتجاهات الناصرية وبين الانفتاحية الجديدة، وبين المجموعات الداعية إلى التحررية وتلك المتمسكة بهيمنة الدولة. وقد اتبع السادات سياسة تتضمن تناقضات صارخة ومفاجآت شديدة، فمن إجراءات انقلابية وأحاديث عن دولة المؤسسات، ومن إجراءات ديمقراطية وبطش بالمعارضة، ومن استعمال التراث الإسلامي لفائدته الخاصة وإنكاره على الحركات الدينية الخوض في الأمور السياسية إلخ.. وكانت النتيجة مزيدا من التفكك وتيه بين عناصر السلطة وأجهزتها، الأمر الذي يقدم تفسيرا – ولو جزئيا – للذهول والشلل اللذين أصابا الحكومة عند انفجار الهبة.

وكانت ظروف موضوعية تزيد السلطة ضعفا وتفككا. وعلى رأسها الأزمة المالية. ولن نخوض في تفاصيل زيادة نسبة التضخم وارتفاع العجز في الميزان التجاري أضعافا عما كانا عليه من قبل، ومضاعفة الديون الخارجية.. إلخ، إذ أنها معروفة للجميع([15]). ولكن الذي نود الإشارة إليه هو أن هذه الأزمة كانت تشكل مشكلة للسلطة من نواح لا تمت مباشرة فقط إلى البحث عن القواعد السليمة لإدارة الاقتصاد القومي. ذلك أن اقتراب مصر من الإفلاس واحتمال انقطاع الفيض الخارجي كان يعني للقمة خطرين: خطر نضوب المنبع الذي تنهل منه عناصر في القمة والمستويات الأخرى أيضا والتي تتكون ثرواتها من الرشاوى والوساطات والاختلاس والنهب من أموال الدولة ومواردها الخارجية، وهو الاعتبار الأول. والخطر الثاني أن تكف فئات واسعة من الجماهير الشعبية والحضرية عن سكوتها واستسلامها الذين تتوصل السلطة إليهما بفضل الفتات التي تذهب للدعم. مع الملاحظة أن هذا الأخير باب واسع للرزق لنفس الطبقة العليا بالطرق الشرعية وغير الشرعية أيضا في الوقت نفسه (وليست قضايا الأغذية الفاسدة إلا قطرة في المحيط). ومن هنا نفهم السبب في زيادة التضخم وارتفاع الدعم(([16]))  رغم الصرخات المنذرة من الأجهزة الحاكمة ومن المعبرين عنها بشكل متكرر: إن هذا الوضع المتأزم كان لمصلحة القمة سواء كطبقة مالكة أو كسلطة سياسية.
وكانت هذه الظروف المالية المتأزمة في مصر فرصة للمعسكر الاستعماري لكي يشدد من ضغوطه حتى تصبح البلاد في قبضته تماما، فيخفض الدعم وتخفض قيمة الجنيه حتى تكون الأسواق المصرية مفتوحة أمام البضائع الأجنبية ودار صراع في الكواليس يطلب فيه الحكم الساداتي من السعودية والكويت وقطر والإمارات العربية ثمنا للدم المصري المراق في الحروب ضد إسرائيل، وتعد الأطراف النفطية ثم تتمنع ثم تخفض المبالغ التي وعدتها، حتى تراجعت عن المزيد من القروض والمنح في 16 يناير 1977 إلا إذا كانت مصر تخضع لشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وتطيع نصائح الولايات المتحدة وبنوكها وحلفائها في خفض الدعم والجنيه. ولم تكن هذه الضغوط إلا لتزيد من ارتباك السلطة وتنازع عناصر تكوينها وشللها.

وأخيرا، فقد كانت هناك أيضا أسباب سياسية تدفع في نفس الاتجاه. ونقصد أن الحكم الساداتي ظل منذ 1974 يزعم لنفسه حق الحصول على الرعاية الأولى من واشنطن، باعتباره قادرا على القيام بدور الشرطي في أفريقيا والشرق بديلا عن إسرائيل. ولم ينجح السادات في هذا الخط وظل مركزه في الجبهة الاستعمارية محاطا بالشكوك. ومنذ أواخر 1976ازدادت احتمالات عقد مؤتمر جنيف باشتراك الاتحاد السوفيتي(([17])) وهو أمر كان النظام المصري يرى فيه هزيمة لخطته المتكاملة. فكان مزنقا أضيف إلى الأزمة القائمة في القمة.

ويبدو منطقيا مع هذا السياق أن تكون الحكومة الساداتية كلها غير منتبهة إلى احتمال اندلاع الحوادث الخطيرة التي قامت في 18، 19 يناير، وأنها  ُأخذت بها على غرة كما قالت التعليقات والتحليلات كلها تقريبا التي صدرت لا في مصر فقط بل وفي الخارج أيضا. ومع ذلك فهناك من القرائن المحيرة التي تثير بعض الشكوك حول عمومية هذه المقولة واحتمال أن بعض العناصر في السلطات رأت في الانتفاضة أداة تستعملها لإعادة بعض الوحدة في الصفوف حول السادات، وإجبار الدول العربية وأمريكا على توفيق العلاقة مع السلطة المصرية القائمة باعتبارها درع للحماية ممكنة، فدخلت تلك العناصر في مقامرة يائسة لم تكن نتائجها مضمونة([18]).


                           ************************
5- الأحداث

ليست السطور التالية مجرد تسجيل للأحدات بهدف تذكرها، وإنما خاصة لكي نبرز بعض النواحي فيها التي لم تلق الاهتمام الكافي.

وبدأ الأمر بخطاب نائب رئيس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية، الدكتور عبد المنعم القيسوني، أمام مجلس الشعب في 17/1 بمناسبة تقديم مشروع الميزانية 1977 حيث أعلن إجراءات تقشفية لتخفيض العجز، ومنها تخفيض الدعم للحاجيات الأساسية بصورة ترفع سعر الخبز بنسبة 50% والسكر 25% والشاي35% وأنابيب البوتاجاز 50% وكذلك بعض السلع الأخرى، ومنها الأرز، وزيت الطهي والبنزين والسجائر.. وربط هذا بضرورة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتدبير الموارد المالية الإضافية اللازمة. وتبعه خطاب وزير المالية محمود صلاح الدين حامد يؤكد على نفس الاتجاه ويلاحظ أن هذه القرارات خفضت الدعم للأغذية والسلع الضرورية المذكورة الأخرى من 554 مليون جنيه إلى 276 مليون، أي لم يوفر توفير كبيرا في حد ذاته.

ووصفت الصحف الحكومية (الأهرام 18/1) هذا بأنه "اقتراح" من الوزارة في حين انه كان قرار تنفيذيا، وقيل بعد ذلك أن عددا من الوزراء لم يكونوا على علم به. وقد بدأ التنفيذ الفعلي من يومها أي قبل الإعلان أمام مجلس الشعب. رفع التجار وبعض المحلات أسعار المواد الغذائية، وكذلك فعلت المطاعم الصغيرة على الفور، فأحس الشعب بالكارثة مباشرة، فضلا عن إذاعة الخبر في الراديو والتليفزيون، وكان من عناصر إثارة الغضب، الإدراك بالتواء السياسة الحكومية وكذبها، واستصغارها عقول الناس بإصدارها هذا القرار بعد قرار إعطاء المنح والعلاوات التي لم تكن لتغطي أثر زيادة الأسعار (كانت العلاوة بنسبة 22% في المتوسط في حين أن أقل زيادة في الأسعار 25%) وقد سبب القرار اعتراضات بعضها عنيف، من طرف عدد من النواب. وقامت تجمعات من الأهالي والعمال في بعض أحياء الإسكندرية والقاهرة ومنطقة حلوان الصناعية خاصة منذ مساء يوم 17/1([19])، وتوقفت المواصلات بين حلوان والقاهرة بعض الوقت. وهذا مما يؤكد تلقائية التحرك الشعبي بشكل مبكر ودون تحريض منظم.

ولكن المظاهرات اندلعت بصورة هائلة منذ صباح يوم 18/1، عندما فوجئ الناس بشكل ملموس بالسعر المضاعف للرغيف ولساندوتشات الفول. وكان عمال حلوان هم الذين بدأوا التحرك. فقبل الساعة التاسعة صباحا، خرج عمال شركة مصر/ حلوان للغزل والنسيج في مظاهرات طافت الضاحية الصناعية وانضم إليهم عمال مصانع أخرى (منها المصانع الحربية) وكانت الهتافات موجهة ضد زيادة الأسعار وبسقوط الحكومة وتحمل عداء صريحا للسادات وعائلته. وكان بعض العمال "المعروفين بميولهم الماركسية" (طبقا لتقارير الشرطة) يتزعمون المظاهرة ويهتفون بكلمة" ناصر" ويرفعون صورة الرئيس الراحل([20]). وقامت قوات الشرطة بمحاولة عزل منطقة حلوان عن القاهرة لمنع العمال من النزول إلى العاصمة، في نفس الوقت الذي وضع بعض العمال الحواجز على قضبان القطار وعلى الطرق (ولعله لإرباك المرور والحيلولة دون وصول قوات إضافية لفرض النظام). وألقيت الأحجار على السيارات التي رفضت تهدئة السير. ووصل عدد من العمال للقاهرة، فتشكلت بهم وبغيرهم مظاهرات أخرى في الأحياء الشعبية، كما انضم بعضهم إلى مظاهرة جامعة عين شمس وأهالي القاهرة بعد ذلك.

وفي شبرا الخيمة، المنطقة الصناعية العريقة بتاريخها النضالي شمالي القاهرة، أضرب العمال واعتصموا في بعض المصانع فتوقف الإنتاج. وفي شركة الدلتا للصلب، علق العامل صابر محمد بركات صورة لبرقية مرسلة إلى رئيس الجمهورية نصها " العاملون الكادحون بشركة الدلتا يشكرون سيادتكم على رفع الأسعار، رافعين شعار مزيدا (كذا) من رفع الأسعار من أجل مزيد من الجوع والحرمان".

واجتمع طلبة هندسة عين شمس في مؤتمر يندد برفع الأسعار، ثم خرجوا في مظاهرة انضم إليها طلبة من كليات أخرى، واتجهوا نحو مجلس الشعب لتقديم احتجاج على قرارات القيسوني وأثناء مرورهم بشارع الجيش انضم إلى المظاهرة نساء الأحياء الشعبية، وفي ميدان التحرير انضم إليهم موظفون وطلبة جامعة القاهرة، فتلاقت المظاهرة بأخرى آتية من جنوب وغرب القاهرة وذهبت هذه الكتل في معظمها إلى مجلس الشعب، مرددة الهتافات العدائية للحكومة والنظام ودخل وفد من الطلبة رئاسة المجلس لتقديم المطالب. وعند غياب هذا الوفد فترة، تصدرت النساء محاولة الهجوم على حرس المجلس على ظن أن أفراد الوفد اعتقلوا، وقامت قوات البوليس بتفريق هذه المظاهرة، فتشتتت في مجموعات متظاهرة أصغر في جاردن سيتي والأحياء المجاورة ومر بعضها أمام السفارة الأمريكية دون اهتمام خاص بها.

أكدت بعض التقارير لصحفيين حسني النية أن هذه المظاهرات كانت سلمية تماما طوال الصباح وبعد الظهر ليوم 18 حتى السابعة مساء حيث اصطدمت بها قوات البوليس بعد أن كان شبه غائب من قبل، وقوات الأمن المركزي أيضا. ولكن هذه المحاولة لتبرئة المظاهرات مما اعتبرها هؤلاء تهمة لا تنطبق مع الواقع. فقد وقعت صدامات مع البوليس والأمن المركزي قبل ذلك، بين الظهر والعصر، وكذلك هاجم المتظاهرون بعض الأقسام مثل قسم شرطة الأزبكية بميدان العتبة الخضراء والذي حاولوا إشعال النار فيه، وكذا قسم السيدة زينب وقسم الدرب الأحمر. وجرت محاولات لاقتحام مبنى مديرية أمن القاهرة بباب الخلق وقذف قسم الساحل بالأحجار. وتم تدمير عدد من الأتوبيسات، وواجهات المحلات، ومصابيح الشوارع. وحطم المتظاهرون صورة كبيرة للسادات في أحد الميادين المركزية، ورشقوا قوات الأمن المركزي بالأحجار فألقت عليهم القنابل المسيلة للدموع التي كان يجمعها الصبية ويعيدون إلقاءها على الجنود في حركات كر وفر سريعة، وهذا بعيد ظهر يوم 18 بقليل. وكذلك أُلقيت الأحجار على المباني الجديدة للجامعة الأمريكية الواقعة في ميدان التحرير وتمثل في أعين الكثيرين مركزا لأسلوب حياة أفرنجي شاذ.

ومع ذلك، فصحيح أن المظاهرات اشتدت عنفا واتساعا في المساء حيث تدفقت عليها عشرات الآلاف من سكان القاهرة الأشد فقراً وعمت أعمال قذف السيارات الفاخرة بالأحجار. وفي الجيزة وامبابة، ُقذف مكتب البريد حيث يقف كبار السن المحالون على المعاش ساعات طويلة في طوابير لتحصيل استحقاقاتهم، ووضعت المواسير بعرض الطرق لعرقلة المرور. وقذف المتظاهرون فندق الشيراتون الفاخر بالدقي بالأحجار، وحطموا إعلانات النيون البراقة عن السلع الكمالية.
وفي الإسكندرية أيضا، بدأت المظاهرات بعمال الترسانة البحرية في صبيحة 18 يناير(([21])) وانضم إليهم عمال الشركات المجاورة، واتجهت المظاهرات إلى قصر الاتحاد الاشتراكي تهتف الهتافات العدائية ضد الحكومة وانضم إليهم عمال الشركات المجاورة، وتقذف قوات الشرطة والأمن بالأحجار وانضم إليها عدد من طلبة الجامعة، وهدمت عددا من السيارات وعربات الترام والأتوبيسات. وأُلقيت الأحجار على استراحتي رئيس الجمهورية ونائبه وُنهبتا، واقتُحمت نقط شرطة وُأحرقت سينما أودين ومباني لشركات كبرى ومجمعات استهلاكية للخضر والفاكهة حيث تتفشى المحسوبيات والرشاوى ولا يأخذ الفقير إلا الرديء من السلع، وحطمت المظاهرات واجهات المحلات العديدة وأصيب 132 شخصا بالأعيرة النارية.

واندلعت المظاهرات الصاخبة كذلك في مدن الأقاليم، في المنصورة وفي المنيا وقنا والسويس وفاقوس وأسوان، حيث جرت الهجمات على مراكز الشرطة والأتوبيسات ومباني المصالح الحكومية، ومحلات بيع الكماليات وترفيه الطبقة الراقية. وفي أسوان، أحقت أقواس النصر المخصصة لزيارة تيتو الملغاة في الوقت الذي كان السادات بالمدينة.

وكانت المظاهرات في يوم 18 حتى مسائه أكثر التحركات "تعبيرا"؛ إذ ُألقيت الشعارات الواضحة، غالبيتها الكبرى على هيئة أهازيج ذات سجع، واختطلت فيها الاتجاهات السياسية المعارضة عموما للحكومة والنظام. وفي ميداني عرابي وطلعت حرب بالقاهرة رفع المتظاهرون علم مصر بمعنى أنهم يعبرون عن البلاد على عكس الحكومة. وكانت هناك شعارات عامة تعبر عن اتحاد واسع، مثل "بالروح، بالدم، حننزل الأسعار"، وكانت أكثر الشعارات يسارية تصدر من بعض الطلبة الشيوعيين:

إحنا الطلبة مع العمال

ضد تحالف رأس المال

إحنا الطلبة مع العمال

ضد الظلم والاستغلال

يا أمريكا لمي فلوسك

بكرة الشعب العربي يدوسك


ويبدو مع ذلك أن الشعارات الواضحة ضد أمريكا كانت نادرة نسبيا. وقد أشار مراسل النيويورك تايمز الأمريكية من طرفه إلى عدم وجود شعارات بسقوط الولايات المتحدة وإن كان الدبلوماسيون الغربيون بالقاهرة قالوا إن الهتافات بسقوط السادات وبحياة عبد الناصر كانت تتضمن في حد ذاتها أحكاما رافضة لعلاقة السادات مع أمريكا.

ويبدوا أن الاتجاهات الناصرية كانت أكثر انتشارا، وخاصة بين العمال الذين حصلوا على مستوى أفضل في ظل الرئيس الراحل الذي كان الغلاء في عهده أيضا أخف وطأة وواقع تحت سيطرة الدولة بصورة أكثر إحكاما. فالمتظاهرون كانوا يهتفون " ناصر! ناصر!" وبعضهم يرفع صورة جمال عبد الناصر. وكذلك الهتاف:

                        عبد الناصر ياما قال خلوا بالكو من العمال

ولا شك أن في هذا الاتجاه إرادة لقلب النظام الساداتي وإحلال نظام ناصري محله. ويمكننا اكتشاف اتجاه قريب في الهتافات الشديدة العداء والمليئة بالسباب والموجهة ضد السادات وأسرته وسيد مرعي. ونجد أيضا شيئا من هذا – وإن كان على شكل مخفف في الهتاف الشعبوي القائل:


يا حكامنا من عابدين

باسم الحق وباسم الدين

فين الحق وفين الدين…؟


ولكن ثمة اتجاها أو اتجاهات لم تكن تعبر عن نفسها بالشعارات أو الهتافات، وإنما بالأفعال المباشرة. وفي أحوال، كان المثقف المشترك في المظاهرة ينصح من كان يحرق أتوبيسا أو يحطم واجهة محل بالامتناع عن هذا فكان الرد القائل إن هذه هي الكيفية التي نعبر بها عن مشاعرنا. ومنذ بداية المظاهرات اتضح فيها اتجاهان رئيسيان: أحدهما يسير نحو مجلس الشعب ليقدم احتجاجا، والثاني يطوف في تحد للسلطة القائمة ويهجم على أجهزتها ورموزها ومظاهر الغنى الفاحش لدى طبقة القمة. وكان الاتجاه الأول ما تتبناه بعض القيادات التلقائية للطلبة وزعماء العمال النقابيين. أما الثاني، فهو توسيع بدرجة هائلة لتلك الحوادث العنيفة – المسماة" بالمؤسفة" من الصحافة الحكومية – والسابقة لأحدات يناير 1977. ولذلك، فليس غريبا أن يشير صلاح حافظ في روز اليوسف (24/1) إلى أن أعمال العنف قد زادت في مساء يوم 18 بعد انسحاب الطلبة والعمال من المظاهرات. فإن كان هذا القول محل نقاش كواقعة (كما سنرى من أحدات يوم 19)، فليس من شك في أن عدم تراجع الحكومة يوم 18 عن القرارات القيسونية من جهة، وازدياد كثافة الجماهير الفقيرة في المظاهرات من جهة أخرى، جعلا التحرك الشعبي يفقد الأمل في نجاح المشروع السياسي الإصلاحي الذي كان يتقدم به اليسار العريض بصورة عامة، وترتفع محله نبرة التحدي والغضب الجذري.

وعلى أي حال، فإن تقارير وكالات الأنباء تشير إلى أن الأمور هدأت نوعا يوم 18 يناير ليلا عدا منطقتان بالقاهرة ظلتا مضطربتين إلى ما بعد منتصف الليل.

ولكن المظاهرات اندلعت باتساع أكبر وعنف أشد في صباح اليوم التالي، 19 يناير، حتى صارت العاصمة عند الظهر ميدان قتال، تجوبه مظاهرات تجمع عشرات الألوف.

ففي حوالي الساعة الثامنة صباحا، امتنع عمال الوردية الأولى لشركة الحرير الصناعي عمال مصنع 45 الحربي في حلوان عن العمل، وخرجوا في مظاهرة. وتوقفت وسائل المواصلات بين حلوان والعاصمة بسبب قطع الأحجار الضخمة التي وضعت على خطوط القطار بعد نزعها من الأرضية، وتجمع عمال حلوان أمام محطة القطار المؤدي إلى المصانع، ففرقتهم قوات الشرطة، فتحولوا إلى مظاهرات تجوب وسط المدينة. وخرجت مظاهرة عمالية في الصباح أيضا من مصانع "سوجات" بحدائق القبة. ثم قامت المظاهرات في جميع أنحاء المدينة، تهاجم المنشآت الحكومية وخاصة أقسام الشرطة ومديريات الأمن، ووسائل المواصلات العامة والخاصة والمتظاهرون يرفعون أعلاما مصرية وصورا لعبد الناصر ويرددون شعارات منغمة. وهاجموا دار أخبار اليوم فحرقوا كميات من ورق الطباعة. وحاولوا اقتحام بنك مصر فرع رمسيس فلم ينجحوا فقاموا بتحطيم زجاجه وأتلفوا 30 طن أسمنت مخصصة لعملية كوبري رمسيس. وفي روض الفرج ُأتلف محل باتا للأحذية و13 محلا آخر وأُحرق كشك تحصيل فواتير الكهرباء. وجرت المصادمات بين المتظاهرين ورجال الشرطة الذين أطلقوا النار على المتظاهرين لمنعهم من الاستيلاء على أسلحة الأقسام. وكذلك اتجه هجوم المتظاهرين إلى الملاهي الليلية والفنادق الكبرى. وبعد الظهر تجمعت أعداد كبيرة من طلاب الجامعات والعمال في ميدان التحرير وتوجهوا إلى مجلس الشعب حيث رفضوا أوامر البوليس بالتفرق. وجرت مظاهرات مماثلة في العتبة والسيدة زينب والدرب الأحمر وأحياء أخرى وحاول المتظاهرون اقتحام مبنى مديرية أمن القاهرة وأشعلوا النار في كازينو صفية حلمي بميدان الأوبرا، ونهبوا المجمعات الاستهلاكية بالمطرية والسيدة زينب وغيرها. وأطلقت الأمن المركزي الرصاص على مظاهرة في حي الأزهر فقتلت صبيا.

وفي امبابة، بغربي القاهرة، تظاهر عمال مصنع الشوربجي وشركة الشرق وتوجهوا إلى هيئة المطابع الأميرية فلم يخرج عمالها، فقذفوا المبنى بالأحجار كما قذفوا مركز امبابة بشكل متكرر. وأطلق البوليس عليهم النار. فوضع المتظاهرون العوائق على السكة الحديدية في المنطقة وأشعلوا النار في أحد القطارات وتروللي باص. وشهد ميدان الجيزة معاركا بين المواطنين والأمن المركزي، واتجهت المظاهرات إلى شارع الهرم فوجدت مبنى المحافظة تحت حماية مركزة، فانتقلت تهاجم ملاهي الأوبرج والليل والأريزونا ورمسيس الهرم وغيرها، فنهبوها وحطموا محتوياتها وأثاثها وأشعلوا النار في بعضها. وقذف المتظاهرون بالأحجار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، ومبنى وزارة الزراعة، ومجمع المصالح الحكومية ومبنى بنك التسليف التعاوني ومديرية التموين وأشعلوا النيران في بعض سيارات الشرطة. وأصيب أقسام البوليس في امبابة والعجوزة والدقي وبولاق الدكرور والبدرشين بالتلفيات. وقد هوجمت السكة الحديدية المؤدية إلى بعض الضواحي وأشعل المتظاهرون النار في عجلات الكاوتش على خط القاهرة الإسكندرية محاولين تعطيله.

وفي هذه الصدامات، استعملت الشرطة كميات كبيرة من القنابل المسيلة للدموع والأعيرة النارية على أنواعها. وجرت أحدات مماثلة في مدن الأقاليم، ومنها الإسكندرية. وفي السويس اقتحم المتظاهرون مخزن السلاح في قسم الشرطة واخذوا يطلقون النار. وفي المنصورة أخرجوا أثاث منزل المحافظ وأحرقوه كما هاجموا مبنى المحافظة. وشهدت قنا والمنيا وأسوان وأغلب مدن الجمهورية الأخرى أحداثا مشابهة.

ويروي الصحفي صبري أبو المجد الحادثة الشخصية التالية وهي ذات دلالة على الفكرية لدى القائمين بتلك المظاهرات العنيفة. يقول([22]): "على كوبري قصر النيل، وجدت بعض الصبية يقومون بتكسير السيارات التي تمر بالكوبري، لقد امتلأت عيناي بالدموع حزنا على ما يقوم به هؤلاء الصبية الصغار. قلت لأحدهم: إنك تحرق بلدك ؟ قال لي: انها ليست بلدي، انها بلد الآخرين".

وقالت جريدة الأهرام (20/1/1977) إن المظاهرات والمعارك وأعمال العنف توقفت بعد إعلان الحكومة إلغاء رفع الأسعار وإذاعة القرار في الساعة 2.30م يوم 19 يناير. ولكن الصحيح أن بعض الهدوء عاد في المناطق المركزية بالقاهرة في حين أن بعض الأحياء الأخرى استمرت تقاتل حتى ساعة متأخرة من الليل وفجر يوم 20 في صدامات مع قوات المشاة الميكانيكية والصاعقة والشرطة العسكرية التي نزلت بعد إعلان حظر التجول في الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم 19 في مدن القاهرة والجيزة والإسكندرية والسويس، ووقفت الدبابات أمام منزل السادات بالجيزة. وقد أشعل المتظاهرون النار في مركز الاتحاد الاشتراكي بميدان التحرير عند نزول الليل، وبقيت حرائق صغيرة مشتعلة بالقرب من مجلس الشعب مدة طويلة.

في هذين اليومين، كانت الفوضى تضرب أطنابها في صفوف الحكومة والقيادة السياسية للسلطة ورغم أن أجهزة الأمن كانت أكثر أجزاء الدولة تماسكا في وجه الهبة، إلا أن إشارات متفرقة تبين ترددا في صفوف جنود الشرطة ولعله بسبب أن زيادة الأسعار أصابتهم كما أصابت المواطنين العاديين. وأشارت تقارير صحفية أجنبية إلى امتعاض قوات الجيش الموجودة حول القاهرة من القيام بعملية قمع المظاهرات، الأمر الذي أجبر الحكومة على سحب تشكيلات من الجيش المرابط في الجبهة مع إسرائيل. وعلى أي حال، فلم تتراجع الحكومة عن القرارات القيسونية إلا في منتصف اليوم الثاني للمظاهرات وبعد أن اتخذت الهبة شكلا عنيفا عاما، وكان التراجع هذا على شكل قرار "بتأجيل" رفع الأسعار. وفي يوم 26/1 ووفق على زيادة الأجور والمرتبات للعاملين في القطاع العام وأصحاب المعاشات، وفي نفس الوقت الذي كانت أجهزة الأمن تشن حملة واسعة من الاعتقالات، وأجهزة الإعلام تملا الدنيا ضجيجا عن "المؤامرة الشيوعية التي كادت أن تنجح في تخريب مصر"..

وقدرت الخسائر المادية لأحدات يناير بمليار جنيه. وارتفعت شيئا فشيئا الأرقام المعلنة عن الخسائر حتى بلغت 79 قتيلا ومئات الجرحى وما بين 1250و2000 مقبوض عليهم، منهم 551 من السياسيين بتهمة التحريض والاشتراك في تهيئة المناخ لأعمال العنف، والباقي متهم بالشغب والنهب واتلاف ممتلكات عامة وخاصة ومقاومة السلطات.

ومن الملف للنظر أن الأجهزة الحكومية لم توجه أي تهمة لعناصر الحركة الدينية. أكد النائب العام في 28/1/1977 عدم وجود إخوان مسلمين بين المقبوض عليهم، رغم أن الكافة كان يعلم أن عناصر من الحركات الدينية ساهمت في الهجوم على النوادي الليلية بشارع الهرم والبارات في أحياء أخرى. ويستطيع المرء أن يدرك موقف السلطة من هذه العناصر عند التذكر بالأحدات التي جرت بعد ذلك: فقد خططت السلطة لاستخدام الحركة الإسلامية الجديدة ضد اليسار ثم اعتمدت عليها لأحدات الفتنة الطائفية لحرف الأنظار عن الاستسلام التام للحلف الصهيوني الأمريكي([23]).

وفي حين أن المعلومات عن المتهمين السياسيين وفيرة، فتلك المتعلقة بالمتهمين بالشغب والائتلاف والنهب إلخ لم تحظ بالاهتمام. وقد استطعنا تجميع بعضها بصورة غير كاملة، ولكنها تعطينا مع ذلك مؤشرات واضحة.
ففي قسم الشرابية بلغ عدد المقبوض عليهم 45 وتم تسليم 3 منهم لذويهم وإيداع 10 في مؤسسات الأحداث وحبس 26 حبسا مطلقا. وبلغ عدد المصابين 13 من الأهالي و14 من قوة القسم. وفي قسم الأزبكية بلغ عدد المقبوض عليهم 69 أخلي سبيل 7 منهم وتم تسليم 7 لذويهم وإيداع 6 بمؤسسات الأحداث وحبس 49 حبسا مطلقا. وفي قسم روض الفرج، كان عدد المقبوض عليهم 20، ُأخلي سبيل 3 منهم وتم تسليم واحد لذويه وإيداع 3 بمؤسسات الأحداث وحبس 13 حبسا مطلقا (وهذه معلومات تخص جميعا مدينة القاهرة).

وتقول صحيفة الأهرام في عددها الصادر في 23/1/1977 انه في جنوب القاهرة تبين أن 15% من المقبوض عليهم أحدات تقل أعمارهم عن 15 سنة، و20% أحدات تقل أعمارهم عن 18 سنة. كما تبين أن نسبة الطلاب لا تزيد عن عشرة 10% يدخلون ضمن نسبة الأحداث وخلو المقبوض عليهم من الجامعيين باستثناء 3.

ولم تمهل الدولة هؤلاء الذين جرأوا على تحديها واعتدوا على الملكية المقدسة العامة والخاصة. فقد حوكموا بسرعة وصدرت أحكام رادعة ضد ما يقرب من الربع في مدة لا تزيد على ستة شهور. واستطعنا تجميع الأحكام الصادرة من محاكم أمن الدولة في أحدات الشغب بمدن الإسكندرية والمنصورة والمنيا وأسوان وقنا والجيزة وعدد من احياء القاهرة (الساحل والشرابية والسيدة زينب والدرب الأحمر والمطرية وحدائق القبة وحلوان) فقط. فبلغ عدد المتهمين 537 حكم بالبراءة لعدد 423 وبلغ مجموع الأحكام على الباقين (114 أي 21.2% من المقبوض عليهم) 446 سنة (مع إهمال الشهور) أشغالا شاقة وسجنا وحبسا بمتوسط 4 سنوات تقريبا لكل منهم.. وبلغ مجموع التعويضات والغرامات المحكوم بها على هؤلاء 1.071.630جنيه. وتم تنفيذ هذه الأحكام، وما زال بعض المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة عشرة سنوات في السجون حتى كتابة هذه السطور.

أما السياسيون المتهمون بالانضمام إلى أحزاب ومنظمات شيوعية وبالتحريض على أعمال العنف فقد بلغ عدد المتهمين منهم في نهاية الأمر 166 متهما استغرقت محاكمتهم أكثر من ثلاث سنوات، فصدر في 20/4/1980 الحكم على عشرين منهم باحكام مجموعها 42 سنة سجن وحبس (بمتوسط سنتين لكل منهم) وبالبراءة للباقين البالغ عددهم 146، وكانت نسبة المعاقبين 14% تقريبا. غير أن هذه الأحكام نفسها لم ُتنفذ. إذ اعترضت النيابة عليها وأُعيدت القضية أمام دائرة أخرى لا تزال تنظرها عند كتابة هذه السطور. ولعل هذه الأرقام تشير إلى أن الصفوة تتمتع في نظر السلطة بمركز متميز، وإن كان ما بينهما ما كان.


                            **********************
6-آراء التيارات ومواقفها


لقد كانت أحدات يناير 1977 جسيمة هائلة بحيث إن المراقبين الأجانب اعتبروها أخطر من حريق القاهرة، وأول تحد مباشر للسلطة منذ ثورة 1919. فأن تقوم انتفاضة عارمة في ذلك العدد الكبير من المدن في وقت واحد، ولمدة يومين وأكثر، وإن تكون بذلك العنف البالغ وتتمخض عن معارك حقيقية في عدة أماكن فتفشل في مواجهتها قوات الأمن العادية والاستثنائية وتستدعي لها الصاعقة من الجيش، هذه أمور تصور حدة الأزمة. والغريب مع ذلك أن شتى القوى السياسية المتصارعة في ذلك الوقت لم تعد النظر في آرائها ومواقفها العامة بسببها وانما اكتفت بأن تأخذ من الانتفاضة حجة إضافية لاتجاهها، وإن أجرت أحيانا تعديلا هنا أو هناك في تفاصيله. ومن هذه الزاوية، يمكن القول إن الانتفاضة لم تحدث تغييرا هاما في الصراع السياسي الرسمي أو الظاهر إلا من حيث زيادة تفاقم الأوضاع واشتدادها هبوطا وترديا.

مر اليوم الأول للأحدات دون أن تتزعزع الحكومة عن موقفها بخصوص رفع الأسعار فرئيس الوزراء، ممدوح سالم، يطلب "الهدوء لبحث الإجراءات الأخيرة" ويتمسك بأن " أي تأخير في مواجهة المشاكل الاقتصادية سوف ينقل مصر إلى أوضاع يستحيل مواجهتها في المستقبل". ويقول القيسوني أيضا إن"الإجراءات الأخيرة أول مواجهة حقيقية لمشاكلنا الحادة" (الأهرام، 19/1). ويلاحظ أن القيسوني بقي في منصبه شهورا بعد الهبة دون أن تتنكر السلطة لسياسته. وقد أدركت دوائر أكثر حساسية وذكاء أن الأحداث كانت تهديدا مباشر للنظام القائم([24]). وقال تقرير العقيد فتحي قته من مباحث أمن الدولة أن " تحقيق أسلوب العنف والانتشار كفيل بنشر حالة من الفوضى تفقد السلطة الشرعية المقدرة على السيطرة على مقاليد الأمور. إن هذه النتيجة في حد ذاتها كفيلة بإسقاط السلطة الشرعية"

وفي بيانه أمام مجلس الشعب في 29/1/1977 كان رئيس الوزراء يلوح بخطر قلب الحكم في مصر لصالح الاتحاد السوفيتي ولإعادة نوع من الحكم الناصري، وفي عبارات صيغت لتخويف البورجوازية المصرية والنظم العربية النفطية والغرب الرأسمالي من الصراع الطبقي الداخلي ومن عرقلة الوصول إلى السلام مع إسرائيل. ووصف الانتفاضة بأنها محاولة " للقضاء على منجزات ثورة 15 مايو". وحتى يرعب مستمعيه بصورة أشد هولا، ألح على الربط بين "إشعال الحرائق في الممتلكات الخاصة والعامة وتغيير النظام السياسي (..) وإذكاء خطر غرائز الحقد وتعريض أرواح المواطنين للخطر".

وفي اليوم التالي (30/1) قال السادات أمام مجموعة من أساتذة الجامعة انه كانت هناك خطة شاملة لحرق القاهرة، وإن المتمردين أرادوا أن يهدموا جميع المصانع ومعدات الإنتاج وأن يقيموا صنم الاشتراكية حتى نعبده. وأضاف أن مصر عبدت صنم الاشتراكية عشر سنوات إلى أن أصبح اقتصادها صفرا.

ومع إدراكهم لما مثلته الانتفاضة من خطر جذري على السلطة، إلا أن المعبرين عنها لم يصدقوا أن الانتفاضة عكست العلاقة الحقيقية بين السلطة والجماهير. ولعل هذا كان متمما لاعتقادهم أن القرارات القيسونية كانت لصالح مصر ما دامت كانت لصالح الفئة الاجتماعية المحيطة بهم. ويفسر هذا التأكيدات المتكررة الصادرة عنهم على أن القاعدة الشعبية "سليمة" في جوهرها (أي مناصرة للسادات)، وإن هذه كانت انتفاضة "حرامية" من غير الشعب الشريف. ومن هنا جاء وصفهم أيضا للعنف في المظاهرات بأنها كانت نتيجة لالتحام العناصر الشيوعية بالجماهير التحاما مصطنعا هدفه "الانقضاض على الساحة الجماهيرية والسيطرة عليها" (بيان رئيس الوزراء في 29/1/1977). وكانت النتيجة الطبيعية لهذا المنطق ألا ترى السلطة في الانتفاضة أكثر من مؤامرة شيوعية محبوكة ركبت – على أقصى تقدير – اعتراضا بريئا من طرف البعض على القرارات الاقتصادية. وإننا لا ننفي هنا إمكان أن يكون البعض في القمة قد استعان بخياله لالقاء هذه التهمة التي لا أساس لها من الوقائع، ولكن الذي نريد إبرازه أن فكرة المؤامرة هذه تتفق مع السياق المنطقي للمفاهيم وللعقلية العامة السائدة حينذاك في الدوائر الحاكمة، والتي جعلتها ترى في عناصر ماركسية قليلة داخل المظاهرات، وفي الأحزاب الشيوعية السرية تحت الأرض المحرك لكل ما حدث والمسيطر على المدن المصرية مدة يومين كاملين، تاركة خارج حسابها مئات الآلاف أو أكثر الذين لعبوا الأدوار الرئيسية على مسرح الأحداث. ففي نظرها لم يكن العنصر الجماهيري في الهبة موقفا سياسيا في الأساس، وانما إما كتل منساقة أو أجساد تحمل غرائز حيوانية. ولذلك ارتبطت الصرخات المسعورة عن المؤامرة الشيوعية بدعوة السعودية والبلاد النفطية الأخرى إلى المسارعة إلى تقديم العون المالي لمصر. وكان هذا محور الخطاب الذي ألقاه الشيخ عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر وقتذاك والمعروف بصلته بالعائلة السعودية المالكة، والذي حرص على تزيين تلك الدعوة بالتنديد بالشيوعية. كما كان أيضا فحوى مقال توفيق الحكيم في جريدة الأهرام (20/1) حيث أنذر الجالسين على أبيار الذهب أنهم سيجلسون على أبيار النار إذا انفجرت الأمور في مصر. كما كانت نفس الدعوة مضمون مقال احمد رشدي صالح في مجلة آخر ساعة (26/1).

وعزفت وسائل الإعلام اللحن الذي يرعب ذوي البطون الملآي:
الأهرام (22/1): ضبط وثائق لخطة كاملة لحرق القاهرة مع أعضاء التنظيم الشيوعي السري. التحقيق يشمل 1270 متهما في حوادث التجمهر والشغب
شيخ الأزهر: لا مكان للشيوعية في مصر.

الأهرام (25/1): " الصبية الصغار.. أدوات لمن؟" (بقلم فوزي وفاء): من الذي زرع هذا الشعور العدواني القاتل في نفوس صغار تفترض فيهم البراءة، ومن الذي جمعهم على هذا الشر – كل هذا الشر – وحرضهم عليه"؟ آخر ساعة (26/1): أحمد رشدي صالح في" بعد أن سقط االمخربون"
" انتهت مؤامرة التخريب الإجرامية بالفشل. فلم تحقق أغراضها الواضحة التي كان أولها التدمير الشامل للقاهرة والإسكندرية، ونشر الفوضى الاجتماعية والسياسية على نطاق مصر كلها، وتحويل مصر من أن تكون قلب العالم العربي وقلعته الحصينة إلى ساحة تغطيها الدماء وتحكمها الفوضى الاجتماعية والسياسية على نطاق مصر كلها، والرجوع إلى استبداد الرأي الواحد"
المصور (2/1): فكري أباظة: " أين المخابرات وأين المباحث العامة ؟"
.... إلخ. إلخ..

كالعادة تسابقت الإدارات الرسمية للتنظيمات التي تسيطر عليها الدولة في إرسال برقيات التأييد والبيعة للسادات والتي نشرتها الصحف. وكمثال من جريدة الأهرام (23/1): "4 ملايين حرفي يستنكرون الشغب.. رئيس الاتحاد التعاوني المركزي.. المجلس المحلي لمحافظة الإسكندرية، محافظ بور سعيد، المدعي العام الاشتراكي، وكيل المجلس الملي للأقباط، رئيس نقابة غزل المحلة، نقيب التجاريين ببورسعيد، مدير عام مطاحن شرق الدلتا، مدير مرفق مياه العباسية، رئيس اللجنة النقابية للتوكيلات الملاحية، رئيس الغرفة التجارية بالإسكندرية، سكرتير نقابة الأطباء البيطريين"..

وفي مجلة الأزهر، بعددها الصادر في مارس 1977، نشرت الصفحة الداخلية الأولى صورة للسادات وتحتها: " الرئيس المؤمن أنور السادات قائد ثورة التصحيح وبطل أكتوبر المجيد وبيعة مطلقة من الشعب المصري الأصيل على استكمال مسيرة النصر المقدسة".

غير أن هذه كله لم يكن إلا علاجا مؤقتا للأزمة الجذرية التي افتتحتها انتفاضة يناير وأكدتها وعمقتها على المدى الطويل. فتوجه النظام أكثر من ذي قبل نحو التسليم لإسرائيل وأمريكا بحثا عن مساندة. إلا أن ذلك أيضا لم يكن حلا، فالمشكلة داخلية بالدرجة الأولى. وسواء أخذت السلطة إجراء ديمقراطيا (تحويل المنابر إلى أحزاب) أو استبداديا (اعتقال الآلاف في سبتمبر 1981)، فهي جالسة على بركان.

وقد سبقت الإشارة إلى أن الأجهزة الرسمية تجاهلت دور العناصر الدينية في أحدات الهجوم على النوادي الليلية والبارات. وكان هذا التجاهل تمهيدا لاستخدام جماعات إسلامية في الهجمة على اليسار. ومن الواضح أن بعض الدوائر في هذه الحركة التقطت الإشارة واستجابت لها. وهذه مجلة الاعتصام (فبراير 1977) تضع افتتاحيتها تحت عنوان" رفضتها الأمة ثورة حمراء، فكانت ليلة سوداء". وقالت: " كانت ليلة سوداء تهدمت فيها المباني والمنشآت، وتحطمت فيها المرافق والمحلات وأحرقت فيها المواصلات".

وكتب احمد حسين – زعيم مصر الفتاة قديما ثم الحزب الاشتراكي حتى حريق القاهرة – في نفس العدد: " لقد تجرع الشعب الاشتراكية مرا وعلقما، فذاق فيها العذاب والألم السنين (..) لقد نجحت الاشتراكية في رفع كرامة أفراد الشعب (..) ولكنها فشلت فشلا ذريعا ومخيفا وهو في تصوري سبب الكثير مما تعانيه البلاد من مشاكل في الإنتاج والخدمات".

وتنشر الاعتصام أيضا في عددها الصادر بمارس 1977 البرقية التالية المرسلة إلى رئيس الجمهورية: "ينتهز شباب سيدنا محمد (ص) ذكرى مولد سيد المرسلين (ص) فيهنئون سيادتكم بهذه المناسبة الكريمة ويدعون لك بالخير ويشجبون شغب 18و19 يناير الإجرامي التخريبي ويطلبون حل وإلغاء حزب اليسار لاحتضانه لمبادئ مستوردة هدامة وثبوت بصمات بعض كبار أعضائه في حوادث هذه الفتنة".

ومع ذلك، فمن الملفت للنظر أن دوائر أخرى من صميم أجهزة الدولة لم تجار السلطة في سعارها وهذيانها برواية المخطط التخريبي، رغم الاعتراف العام بخطورة ما حدث. فمذكرة العقيد فتحي قتة السابقة الإشارة إليها (22/1/1977) ترى أمرا حتميا أن تدخل غوغائية في مثل ذلك المناخ الساخط. ودراسة أكاديمية الشرطة ترى حوادث 18، 19 يناير رد فعل تلقائيا" وبدون إعداد وتخطيط سابق (..) وإن القرارات بمثابة العامل المرسب وجاءت مع وجود استعداد نفسي وبناء نفسي مهيأ". وكذلك كان اتجاه محكمة أمن الدولة العليا في حكمها الصادر في 19/4/1980 في قضيتي التحريض الشيوعي، إذ اعتبر أنه" التهبت انفعالات هذه الجموع وتأجج حماسهم عندما تعرض لهم رجال الأمن المركزي".

وتبين هذه الأمثلة أن نظرية المؤامرة الشيوعية لم تكن وسيلة كافية لرأب الصدع القائم في صفوف السلطة، والتي زادتها عمقا الانتفاضة نفسها.
ونرى نفس الشيء في القرار الذي اتخذه الاتحاد العام للنقابات في اجتماعه الطارئ في مساء يوم 18 يناير والذي جمع رؤساء النقابات العامة، مع العلم أن هذا الاتحاد يرأسه وزير القوى العاملة. فقد اعتبر" القرارات الاقتصادية تحديا لمشاعر الجماهير ونسفا لمطالب النقابات العمالية". وأرسلت الجبهة البرلمانية المستقلة برقية للسادات تعارض القرارات القيسونية، وأسرع حزب الحكومة نفسه إلى المطالبة بإلغاء هذه القرارات.

وكذلك لم تستطع السلطة الساداتية أن تحصل على إجماع دوائر قريبة لها، بما فيها من البورجوازية. فقد أدان عبد الرحمن الشرقاوي القرارات التي "فجرت غضب الشعب" في نفس الوقت الذي أدان فيه التخريب (روز اليوسف، 24/1).
وكتب نجيب محفوظ (الأهرام، 24/1) يقول: إن جماهير الشعب المصري لا يجوز بحال أن تطالب بمزيد من التضحيات، فأغلبيتها تعيش اليوم تحت المستوى الأدنى، ولا تعاني الصبر المر فقط، ولكنها تتعرض للاستفزاز بما تراه من تناقض في أسلوب الحياة". وطالب لويس عوض أيضا العرب بأن يتحملوا جزءا من أعباء الدفاع عن المنطقة، أشار إلى أن التوفير الناتج عن إلغاء الدعم لن يحل أزمة الاقتصاد المصري فعرض إعادة النظر في الانفتاح لصالح الاستثمار الإنتاجي.

لعب اليسار الواسع – وليس الحديث هنا مقصورا على حزب التجمع – دورا كبيرا في شحذ المعارضة للحكومة والنظام. وإن التوزيع الكبير نسبيا لمجلات المعارضة اليسارية وخاصة الأهالي (ما بين 000. 100 و150.000 نسخة) قد ترك أثرا لا ينكر في تهيئة المناخ لدى الرأي العام على رفض القرارات القيسونية. غير أن طبيعة المسرح السياسي المصري، والهزال الشديد الذي أصاب المنظمات الجماهيرية – ما عد القلة القليلة منها – إلى جانب برقطتها وتحويلها إلى أدوات حكومية والجو القمعي المرعب الذي أشاعه نظام السادات باسم" الضوابط" للديمقراطية والمعارضة، والظروف الوطنية المصرية في ذلك الوقت (كانت توجد صدى للدعوة إلى الوحدة الوطنية الداخلية في وجه"العدو")، نقول إن ذلك كله كان يحصر تأثير اليسار على المناخ العام في حدود المسيسين من المثقفين والطلبة وبعض القيادات العمالية وعدد من البورجوازيين الصغار. ولذا كان خط ذلك اليسار الواسع عنصرا جزئيا وعابرا ومؤقتا نوعا ما في مكونات الانتفاضة. ولا يعترف اليسار عموما بهذا فقط – عدا بيان حزب العمال الشيوعي المصري الذي صدر بعيدها – بل نرى السلطة نفسها تعترف بذلك أيضا رغم الحملة الدعائية المسعورة التي شنتها ضده شهورا. وكذلك كان موقف الشرطة والنيابة، إذ كفتا عن الحديث عن مسئولية اليسار في تهيئة المناخ الموائم لقيام الهبة.
وكاتب هذه السطور عضو في التجمع. وعند قيام الانتفاضة أرى أنها لم تكن لتستطيع تغيير مجرى الأمور. غير أن القراءة الثانية – عن بعد زمني – للأحدات ألقت أضواء جديدة عليها وعلى موقف اليسار منها. والنقد المسجل فيما يلي اذن نقد من داخل اليسار ومن داخل تياره الماركسي بصورة أكثر تحديدا وليس من خارج خندقه.

وسبقت الإشارة إلى أن السلطة رأت الخطر المنذر على النظام السياسي الاجتماعي كاملا في أحدات يناير 1977، ولكنها استغلتها لصالحها وعملت على جمع شتات البورجوازية المصرية والعربية حولها فأعادت نفسها على المسرح بعد أن كادت الكبوة العنيفة تطرحها أرضا. أما اليسار باتساعه، فلم ير في تلك الأحداث خطرا مباشرا يهدد السلطة، بل كان تقييمة لها من منظور قوته هو الذاتية، - وهو يعرف ضعفه النسبي – واعتبرها حركة احتجاج ذات حجم هائل نعم، ولكنها غير مختلفة من حيث الجوهر والكيف عن ما يمكن أن يحدث من معارضة واحتجاج ومقاومة داخل النظام القائم. ورأى فيه بالتالي مجرد تأكيد على صحة خط اليسار، ومناوشة كبيرة تعطي فرصة دعائية خاصة – وليست ذات امكانيات سياسية جذرية مباشرة – ضد الحكومة وضد النظام – ببعض الالتفاف. ولم ير اليسار الفرق السياسي بين اتجاهه واتجاه الانتفاضة في كتلتها، ولا أن هذه الانتفاضة تستهدف القضاء على النظام الساداتي فاعتبر – عدا قلة نشير إلى بعضها بعد – أساليب العنف المستعملة من قبل الجماهير خروجا على العقل وقلة الروح المسئولة يرجعان إلى "الاستفزاز" الحكومي للشعب. وبالتالي كان محور الموقف اليساري محاولة تبرئ الذات مما اعتبره تهمة حقا، وهو التحريض على الانتفاضة والمشاركة فيها (دعنا من قيادتها)، وعنى أن يركز جانبا من إنشائه على تلقائية الحركة موحيا بهذا – ولو جزئيا – على فراغها من الوعي السياسي والإرادة السياسية. والى القارئ مقتطفا من بيان التجمع الصادر في يوم 24/1/1977([25]):
" إن جماهير شعبنا في حاجة ماسة إلى من يشاركها في اجتياز هذه المرحلة الصعبة من تطور البلاد التي تعاني من أزمة امتدت إلى كثير من المجالات أبرزها استمرار الاحتلال الإسرائيلي لجزء عزيز من أرضنا وشعبنا منذ عشرات السنوات وتفاقم المشكلة الاقتصادية بين الفقراء والأغنياء مع وجود كثير من مظاهر النشاط الطفيلي وحياة الترف التي تستفز مشاعر الغالبية العظمى من المواطنين". (الإبراز من عندما).

وقد يكون في هذا الموقف بعض العوامل التي أملتها الرغبة في المحافظة على شرعية الحزب ولكنا سوف نرى فيما بعد أن خط الأحزاب السرية لم يكن مختلفا في جوهره، رغم انه لم يكن عليها بطبيعة الحال التقيد بقيود القانون. وفي اعتقادنا أن أقساما كبيرة من اليسار المصري كانت لم تزل تحمل من القناعات شيئا مما جعله يندمج في الاتحاد الاشتراكي أيام عبد الناصر الأمر الذي صعب ويصعب عليه حتى الآن الاستمساك بفكرية وسياسة تخصانه وتجعلانه يميل إلى اللجوء إلى التحريك الجماهيري أكثر من محاولة التغلغل في النظام القائم.. وبالعودة إلى أحدات 1977، فمن الواضح أن ثمة فرقا بين تأييد الجماهير في مطالبها المباشرة والدفاع عن هذه المطالب وبين محاولة إرشادها إلى النضال من اجلها ومن أجل التحول الاشتراكي الشامل.

ومن ذلك التراث أيضا اعتبار التنمية الهدف الأساسي وليس تحقيق نظرية معينة. ومن الأمثلة على ذلك تركيز الصديق حسين عبد الرازق في كتابة" مصر في 18و19 يناير" على قضية التنمية. يقول عن الانفتاح (ص65):" أدت هذه السياسة عمليا إلى توقف التنمية وسيطرت الرأسمالية الطفيلية على الحياة الاقتصادية، وهي فئات تحصل على دخول سريعة وضخمة ولا تشقى في سبيلها، وانما تعتمد في تحقيقها على الفساد والإفساد والاستفادة من أزمات الاقتصاد المصري التي تعمقها في أحوال كثيرة".

وهكذا، ففي حين أن محور الانتفاضة وخطها الشامل الجامع كان المقاومة المباشرة والعنيفة لعملية مباشرة أيضا للحط من مستوى معيشة الطبقات الشعبية. أي في تحد مفتوح للطبقة الغنية السائدة – دون التمييز بين الطفيلي منها وغير الطفيلي – كان اليسار يرى فيها – أثناء الانتفاضة وبعدها – حجة له في قضايا أقرب إلى السياسة المجردة (مثل التنمية) والعلمية ولا تربط بجوهر الانتفاضة إلا بصورة غير مباشرة، وليست مثارة على أي حال في أذهان الجماهير المنتفضة.
وقد أرسل خالد محيي الدين، أمين التجمع، رسالة إلى مجلة روز اليوسف، نقتطف منها ما يلي:

".. طبيعة العضوية في التجمع حيث يضم ناصريين ويسار ديني وقوميين واشتراكيين ديمقراطيين واشتراكيين ماركسيين، يربط كل هؤلاء الولاء لمصر وبرنامج يواجه مشاكل الواقع المصري ولا يربط بينهم أية نظرية. فطبيعة حزبنا انه تجمع (..) ولا نظن أن الأحزاب تملك نظرية.. ولا نظن أن الشيء العاجل في العمل السياسي الآن وجود نظرية من عدمه" (الإبراز من عندما).
وصحيح أن طبيعة التجمع تحول دون أن تكون له نظرية سياسية صريحة التعبير، الأمر الذي يجعله ظاهريا يجمع بين المذاهب الشتى للتيارات المنضمة إليه جمعا يبدوا انتقائيا ويتلون في احوال كثيرة تلونا اختياريا حسب"الواقع". ولكن هذا الجمع والتلون الفكري إنما يشكل شيئا قريبا جدا – إن لم يكن دائما مطابقا تماما – من مذهب نعرفه، وهو المذهب الناصري. ويستبعد هذا المذهب الثورة من أسفل لأنه لا يتصور إلا الثورة من أسفل.

وفي رسالة أخرى وجهها إلى مجلس الشعب في 30/1/1977 بشان نفس الوقائع قال أمين التجمع:

"إن حزب التجمع يعمل في إطار الشرعية. وهناك خلاف في الرأي وفي المنهج وفي الأسلوب لعلاج القضايا المختلفة مع الحكومة. إذ أن الحكومة تعبر عن سياسة هي مسئولة عنها أمام مجلس الشعب حسب الدستور. ولا تعني معارضة الحكومة في سياستها معارضة النظام أو الخروج عنه. إذ إن الرأي الآخر هو أساس التجربة الديمقراطية والعدوان عليه هو عدوان على التجربة نفسها".
وفي المبرقة المرسلة من التجمع إلى مقرري المحافظات في 20/1/1977، قالت إحدى الهيئات القيادية للحزب:" تأكيدا على إحساس حزبنا بمسئولياته تجاه الوطن والمواطنين وتعاونا مع كل القوى الوطنية يرجى تكليف كل أعضاء الحزب في كافة المواقع للعمل على حماية المنشآت والأموال من التخريب وتهدئة الخواطر، وخاصة وأن الحكومة قد قررت سحب القرارات الاقتصادية واجراء نقاش حولها في مجلس الشعب".

حقا، إن الضجة الإعلامية الهائلة التي أثارتها أجهزة النظام الساداتي كانت تحيط التجمع بخطر ماحق. ولكن ابتعاد التجمع كقيادة وجسم أساسي وخط عن الانتفاضة – ما عدا عدد محدود من أفراده – كان أمرا واضحا منذ البداية. ففي البرقية المرسلة من رفعت السعيد يوم 18/1/1977 إلى مقرري المحافظات ومسئولي العمل الجماهيري، كان الحزب يطلب تنفيذ الآتي:

1- إرسال تقارير سريعة عن رد فعل الجماهير

2- التركيز في شرح وجهة نظر الحزب على ما يلي:

أ‌- إن هذه القرارات لا تحقق أي علاج للأزمة الاقتصادية.

ب‌- (..) تعكس انحيازا واضحا للطبقات الغنية والقادرة.

ج- تحديد مطالبنا الأولية بالاتصال بأعضاء مجلس الشعب.

وقد وافق رفعت السعيد بعد ذلك على حذف الجملة الأخيرة (بند ج) من المبرقة بناء على طلب الأمين الأول للاتحاد الاشتراكي.. فالأمر لم يكن يزيد بالتالي عن إرسال تقارير مراقبة الأحوال وشرح وجهة نظر الحزب لأعضاء مجلس الشعب.
وفي حديث إلى روز اليوسف، نشرته في 7/3/1977، قال خالد محيي الدين: "أذكر اني يوم الأربعاء (19/1) قرات خبرا عن مسيرة شعبية تدعو إليها إحدى لجاننا في المحافظات. فأرسلنا إليها أوامر صريحة بمنع قيام هذه المسيرة حتى لا يستغلها المتربصون وُنفذ الأمر بالفعل".

وما دام التجمع ينشط في إطار شرعية النظام ولا يبتغي تغييره، فمن الطبيعي أن يرى في استخدام العنف أثناء الانتفاضة جريمة، ويعيده إلى استفزاز الجماهير بسبب صدام قوات الأمن المسلح بها. ويقول حسين عبد الرازق في كتابه (ص95):
" إن العنف بدأ كرد فعل لظهور الأمن المركزي ولجوئه إلى استخدام هراواته ثم القنابل المسيلة للدموع وأخيرا الرصاص".

ويقول بيان التجمع الصادر في 19/1:

"لقد أدى تدخل قوات الأمن المركزي ومحاولاته وقف حركة الجماهير بالقوة إلى وقوع صدامات دامية وأعمال عنف وتخريب في بعض المواقع (..).
"إن حزبنا إذ يؤكد على حق الجماهير الشعبية في التظاهر السلمي تعبيرا عن مطالبها ومشاكلها، يؤكد أن حماية المنشآت واجب وطني على كل مواطن ويحذر تجمعنا كافة القوى الوطنية والديمقراطية من أن اعداءها سيحاولون تشويه وجهتها بأن يسندوا إليها أعمال التخريب التي نعلم أن جماهيرنا لا يمكن أن ترتكبها".

وقال بيان 24/1:

"إن شعبنا يعرف الحقيقة كاملة. فقد عبر عن نفسه وشارك في حركة يومي 18، 19 وفاجأته قسوة قوات الأمن المركزي ولجؤها إلى العنف في مواجهة الحركة الجماهيرية السلمية بلا مبرر لهذا العنف مما أدى إلى بعض أعمال العنف المضادة والاعتداء على بعض الممتلكات العامة والخاصة، وهيأ الجو إلى عمليات تخريب قامت بها عناصر مختلفة من عملاء المخابرات المركزية الأمريكية والرأسمالية الطفيلية طبقا لمخطط يستهدف إلصاق هذه العملية بالقوى الوطنية والديمقراطية والتقدمية لاتخاذها ذريعة للقيام بعملية تصفية شاملة لهذه القوى وإيقاف تطور الممارسة الديمقراطية التي بدأت في مصر حديثا بتعدد الأحزاب وإجهاد حزبنا إلى الحد الذي يشل إرادته وقدرته على الاستمرار دفاعا عن مصالح الشعب والوطن. إن التجمع (..) يعتبر قضية تحرير الأرض المصرية والعربية واستعادة الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولة وطنية مستقلة هي المسئولية الأولى التي يجب أن تركز عليها كافة الجهود (..).
إننا ندعو كل القوى السياسية في مصر وجميع الأطراف إلى التمسك بالشرعية واحترام القانون ويرفض أي إجراءات استثنائية ونقصد ماورد في البيان الصادر عن اجتماعات السيد الرئيس بالقيادات السياسية والتنفيذية وانه لا عودة للرأي الواحد (..) إننا ندين بشدة أي اعتداء على الممتلكات العامة أو الخاصة، فإنه يتعارض مع مبادئ وأفكار القوى الوطنية والديمقراطية والتقدمية التي تحرص بشدة على حماية وصيانة ثروة البلاد القومية". (الإبراز من عندنا).
وفي رسالته إلى روز اليوسف، أضاف خالد محيي الدين:
"يدين التجمع أعمال الشغب والتخريب. فالتخريب ليس إلا وسيلة منحطة وغير متحضرة للتعبير، كما يمكن أن يكون أداة للسطو والإرهاب والفساد. وفي جميع الأحوال، فانه ليس في صالح الديمقراطية في مصر (..) وقد عبر التجمع عن ذلك عدة مرات، حيث أصدر التجمع وسكرتارياته بالمحافظات توجيهات وبيانات بالوقوف ضد التخريب وساهم أعضاء التجمع في بعض المحافظات في المحافظة على سلمية المظاهرات وكان ذلك بترتيب مع الأجهزة المسئولة التي رحبت بذلك". واستعمل الدفاع عن المتهمين في القضيتين 100، 101 (التحريض على الانتفاضة) نفس الحجة، فقال إن اصطدام قوات الأمن المركزي بالجماهير أشعل فيها الغضب وغلب العنف على المعارك.

وسبقت الإشارة إلى أن وقائع الأحداث تبين أن أعمال العنف من طرف المتظاهرين قد ثارت قبل الاصطدامات بالأمن المركزي في معارك، الأمر الراجع إلى طبيعة الانتفاضة منذ البداية واتصافها بالتحدي، وإن كانت تلك الاصطدامات قد زادت دون شك من غضب الحركة الشعبية. وكان لعنف الانتفاضة جذور وأسباب في عمق المجتمع المصري والعنف الدائم الذي يمارس في قهر الطبقات الكادحة وحرمانها وإذلالها في كل لحظة من حياتها. وكانت القرارات الاقتصادية الإضافة التي لا تحتمل على الوضع البشع والذي جعلته لم يعد يحتمل كله، كما كان وقوف البوليس والأمن المركزي حماية لهذا الوضع كافيا لتوعية المتظاهرين بشكل أقوى وأكثر إشعارا بالظلم الفائق الذي يستسلمون له في العادة ويتحدونه الآن. ولذلك فالاكتفاء بالنظر إلى "بعض أعمال العنف" أنها نتيجة الاستفزاز الوقتي دليل أيما دليل على المسافة المؤسفة بين اليسار وبين الحركة الشعبية.
ولذلك، ليس غريبا أن تجد تناقضا في بعض التفسيرات. ومنها في نفس كتاب حسين عبد الرازق حيث قال في ذات الصفحة السابقة الذكر إن غياب البوليس عامل آخر ساعد على انتشار العنف، ولمح إلى أن ذلك الغياب أعطى فرصة لعملاء إسرائيل أن يقوموا بدور هام في أحدات الشغب. ونحن بطبيعة الحال لا نستبعد هذا الاحتمال. ولكن كيف يكون غياب البوليس من جهة، والاصطدام به من جهة أخرى سببا لدفع الجماهير إلى العنف، إلا إذا كانت حركتها تحوي الاستعداد للتحدي العنيف، وهو الأمر الأكثر ترجيحا نظرا للخط العام للظاهرة ؟.
وقد اختلفت مجموعة "الطليعة" عن خط التجمع من نواح هامة، وخاطرت بسبب هذا الاختلاف بوجود المجلة، إذ ُأوقفت وأُلغيت بعد عدد فبراير 1977. فهي، في هذا العدد الأخير والخطير قد مايزت بين قذف الأحجار وبين أعمال التخريب والسرقة والنهب، وعزت هذه الأخيرة إلى الصبية والشبان الحديثي السن، ودافعت عن إرادة الجماهير في هبتها. هذا في نفس الوقت الذي كان يحتوي فيه هذا الرأي على تهميش هؤلاء الأحداث عن نوع من الوعي السياسي، وعلى موقف مزدوج من النظام القائم.

وقد كتب لطفي الخولي في افتتاحيته" جماهير يناير بين الحكومة واليسار": ماذا استهدف"الطوب" في هذه المرحلة؟ استهدف أولا الدفاع ضد أسلحة قوات الأمن، واستهدف ثانيا كل الإعلانات الزجاجية المعلقة على أعمدة النور بالشوارع عن السلع الترفيهية المستوردة وكذلك واجهات وفاترينات المحلات التي تتعامل مع هذه السلع وتعرضها بأثمان مستفزة للقوة الشرائية الضعيفة لدى الجماهير (..) (وكانت الجماهير) اقتصر رد فعلها الطوبي في التعبير عن معارضتها وإدانتها لأسلوب الحكومة في الانفتاح التجاري الشرس الفوضوي، والسكوت عن أرباح الطفيليين وذلك بتحطيم واجهات رموزها الزجاجية (..).

وقد يقول البعض إن هذا أيضا نوع من التخريب. ونحن نقول صحيح أن هذا يخل فعلا بالطابع السلمي للمظاهرات. ولكن عند الحكم عليه، يجب أن نأخذ في اعتبارنا انه رد فعل تجاه فعل تتحمل الحكومة مسئوليته، فضلا عن تفاهة حجمه ووزنه حتى ذلك الوقت، الأمر الذي يدخله في إطار التجاوزات التي لا مفر من حدوثها خلال معركة الجموع الغاضبة. (..) من هنا نرى أن نقطة البدء (..)، يجب أن تتم في اتجاه تغليب صحة ومشروعية الهبة الجماهيرية وتأكيد مسئولية الحكومة وسياستها الخاطئة، واعتماد منهج الحقائق الموضوعية للأحدات وأسلوب العلاج السياسي – الاجتماعي الذي يحقق مصالح الجماهير وإرادتها(..).
ويضيف:

"لوحظ أن حريقا أو تخريبا واحد لم يحدث في أية مدرسة أو جامعة. وإن العمال في كل مصنع أو مؤسسة هم الذين تصدوا لكل محاولة جرت لحرق أو إتلاف مصانعهم ومؤسساتهم (..) إن غالبية من اشترك في عمليات الحريق والتخريب أو قبض عليه، هم من الأحداث والصبية الذين تتراوح أعمارهم بين 12و17 عاما (..) لم يقبض على يساري واحد يشارك في عملية تخريب أو حريق (..) ولم يتعرف على يساري واحد بين الـ 80  قتيلا الذين سقطوا خلال الأحداث".
وقدم لطفي الخولي حلا للأزمة عبارة عن العودة للنظام الناصري.
أما أبو سيف يوسف في مقاله بعنوان "هل تعلموا شيئا" (ص32 من نفس العدد)، فهو على العكس يقول: "إن إجراءات إنقاذ الاقتصاد المصري والمطلوبة فورا ليست اشتراكية بطبيعتها".

وسبقت الإشارة كذلك إلى التحقيق الصحفي الذي قام به صلاح حافظ وآخرون في مجلة روز اليوسف (24/1/1977) حيث أكد كذلك التناقض السياسي الذي احتوته الانتفاضة والذي كان أحد طرفيه اليسار، انه قال بالنسبة لما جرى في مساء 18 يناير: "باختصار، انسحبت أقدام الطلبة والعمال المنظمة، وسقط الشارع تحت سيطرة أخرى: أداتها المشردون والصبية وقطاع الطرق ومحترفوا الجريمة وقيادتها تبدو بلا هوية، وإن كانت تتمتع بقدر من التنظيم ووحدة الصفوف".

بل مالت محكمة أمن الدولة العليا في القضية الخاصة بأحدات حلوان إلى نفس الرأي إذ قالت إن "ما حدث في الطرقات من إتلاف لبعض علامات المرور أو تقليع الأشجار أو تقطيع فروعها أو رجم السيارات بالحجارة أو سد المنافذ والطرقات فانه كان من فعل الصبية الذين لا يقدرون مغبة أفعالهم".
ولم يختلف موقف أغلب الأحزاب والمنظمات الشيوعية المصرية السرية عن ذلك الموقف العام لليسار، اللهم إلا أن التسمي بالشيوعي يشير إلى وجود أهداف تغيير المجتمع والسلطة تغييرا جذريا، وإن كان على مدى زمني بعيد. وإذا كان السادات وأجهزة سلطته والمؤيدين له رددوا التأكيد على اتهام الشيوعيين المصريين بالتحريض عل أحدات يناير 1977 وقيادة" التخريب" فإن حسين عبد الرازق في كتابه المذكور يبرز أن الإجراءات والتحقيقات التي قامت بشأنهم في القضيتين 100، 101 تبين أن أحدا منهم لم يكن موجودا في مسرح الأحداث من جهة كما انه – من جهة أخرى – قد فصلت القضايا الخاصة بالمظاهرات – وسميت بقضايا "الشغب" – عن هاتين القضيتين، فمايزت بين دور الشيوعيين وبين المظاهرات وأساليبها العنيفة. وقد خلت أوراق التحقيق من أي إشارة إلى ما رددته السلطة عن مخطط للاستيلاء على السلطة ومؤامرة القتل والتخريب والحريق (انظر "مصر في 18و19 يناير"، ص ص 96-97، 122 إلخ). ونفي كذلك ضباط المباحث أن تكون لديهم معلومات عن دور الحزب الشيوعي المصري بالذات أو منظمة" التيار الثوري" في الأحداث.

ولم يكن هذا مقصورا على أحدات يناير 1977، إذ يوضح نص حكم محكمة أمن الدولة الصادر في 19/4/1980 في القضيتين أن ذلك خطأ عاما. ونورد في التالي مقتطفين واضحين:" من حيث إن المحكمة، بمطالعتها المضبوطات التي ضبطت مع المتهمين (..) تستبين أن تلك الأهداف (للحزبين) كانت إما إسقاط السلطة أو تغييرها. أما الوسائل، فإن بعض المضبوطات قد حددتها بطريق البرلمان المنتخب انتخابا حرا مباشرا وحددها بعض آخر بتحقيق الحريات السياسية الديمقراطية وحق تكوين الأحزاب السياسية وحرية الصحافة والتعبير والنشر وحق الإضراب والتظاهر وعقد الاجتماعات والندوات. وأوردت أوراق – أخرى من وسائل وتحقيقي الأهداف التنظيمية وإعادة فتح القنوات مع الدول الاشتراكية والاتحاد السوفيتي والأحزاب الاشتراكية (..) وهذه الوسائل لا يمكن اعتبارها من قبيل استعمال القوة أو التهديد باستعمالها أو الإرهاب.. (..)".

" ومن حيث إن المحكمة قد استعرضت وناقشت أدلة الاتهام بالنسبة للتهمتين الأولى والرابعة وتبين لها أن كلا من تلك الأدلة والقرائن والدلائل قد جاءت خالية مما يقطع الجزم واليقين أن أيا من حزب العمال الشيوعي المصري والحزب الشيوعي المصري يرمي إلى سيطرة طبقة اجتماعية على غيرها من الطبقات أو إلى القضاء على طبقة اجتماعية أو إلى قلب نظم الدولة الأساسية الاجتماعية أو الاقتصادية أو إلى هدم أي نظام من النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية ولم يكن استعمال القوة والإرهاب أو أي وسيلة أخرى غير مشروعة ملحوظا في ذلك (..) فهذه الوسائل لا تعدو التثقيف وعقد الاجتماعات والندوات ونقد سياسات وتصرفات بعض المسئولين".

وسبقت الإشارة إلى أن بعض عمال شركة مصر حلوان للغزل والنسيج، من "المعروفين بميولهم الماركسية"، إذ تزعموا الحركة في محيطهم، إلا أنهم كانوا يهتفون بكلمة ناصر ويحملون صورا للرئيس الراحل، فاعتبرت المحكمة أن "هذه الأفعال لا يمكن أن تندرج تحت الأفعال التي أثمتها القوانين".
كما أوردت المحكمة في حكمها مقتطفات من المجلات السرية التي يصدرها الحزبان. وكذلك نقل حسين عبد الرازق في كتابة مقتطفا طويلا من حديث أحد زعماء الحزب الشيوعي المصري إلى نشرة" أوراق ديمقراطية" الصادرة في الخارج. وفي هذه المراجع جميعا ما يشير إلى أن الاتجاه الغالب للحزبين إزاء أحدات يناير 1977 كان يعود إلى خط سياسي متكامل متماسك وإن تواجد قلة من الشيوعيين فقط في المظاهرات والاختلاف بين مواقفها ومواقفهم إنما يعود كذلك في الأساس إلى ذلك الخط السياسي وليس إلى الصدف. فهو خط ديمقراطي مضمونا ويتمسك بالأشكال الديمقراطية للكفاح أسلوبا:

كتب عدد أول مايو 1976 لمجلة "الوعي"، النشرة الداخلية للحزب الشيوعي المصري: "إن الحزب الشيوعي المصري حزب الطبقة العاملة المصرية التي تذود عن المصالح الوطنية للشعب المصري بأسرة بالقضاء على النظام الرأسمالي وإقامة المجتمع الاشتراكي". ثم جاء فيها:

"اليسار المصري الذي يرفضه السادات هو اليسار الذي يناضل ببسالة ضد سياسة الخيانة الوطنية التي قاد بلادنا إليها، ومن أجل انتزاع الحريات الديمقراطية للجماهير الشعبية (..) الحلقة الرئيسية في عملية التحضير الثوري للقيام بالثورة الاشتراكية تتمثل في انتزاع الحريات الديمقراطية لصالح الجماهير الشعبية وحقها في تكوين أحزابها وبالذات الحزب الشيوعي وحرية الصحافة.. إلغاء كافة القوانين الرجعية.. حق الاجتماع والتظاهر والإضراب". ثم جاء فيها أيضا:

"تتمثل أهدافنا في العمل (الدعائي) فيما يلي: أولا: تقديم خدمة حقيقية للشعب العامل عن طريق تيسير الخدمات التعليمية والثقافية – ثانيا: تحقيق انطلاقه للحركة الثقافية ذاتها، ثالثا: نشر الكثير من الأفكار والمعلومات الوطنية والديمقراطية والثقافية. رابعا: تحقيق قدر كبير من الجماهيرية لأعضاء الحزب (..) خامسا: تحقيق أشكال من التعاون بين الشيوعيين وبين أعداد كبيرة من العناصر الديمقراطية والشعبية في العمل النقابي المشترك. سادسا: خلق مجالات جديدة لتجنيد افضل العناصر العاملة في هذه الأنشطة".

ومن الحديث المشار إليه إلى مجلة "أوراق ديموقراطية":

" لقد أصبح من تقاليد البرجوازية في كل أنحاء العالم أن تتهم الشيوعيين بالتخريب كلما رغبت في تبرير عمليات القهر التي تمارسها ضد القوى الشعبية. ولكنها أصبحت "نكته" قديمة (..) وكذلك الاتهامات الزائفة المبتذلة التي جاءت في بيانات وزارة الداخلية والمسئولين عن المؤامرة التي دبرها الشيوعيون (..) لحرق القاهرة وقلب نظام الحكم (..).

ولكننا نضع حدا فاصلا وحاسما بين الحركة المطلبية والحركة السياسية المشروعة وحق التعبير والإضراب والتظاهر الذي دافعنا عنه دائما في مواجهة حملات مضادة ضارية وبين عمليات التخريب والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة. والواقع أننا كشيوعيين لسنا بحاجة إلى دفع التهمة عنا، فالماركسية هي الد أعداء من الناحية النظرية والعلمية لأسلوب الإرهاب والتخريب والشيوعيين هم أول ضحايا عمليات التخريب التي تقوم بها قوى أخرى، سواء عن عناصر متخلفة الوعي والصبية الصغار كما أجمعت وكالات الأنباء أو جماعات مدسوسة من قبل السلطة نفسها كما أثبتت التجارب السابقة (..).

ومن الهام هنا أن نذكر بأن حزبنا قد حذر الجماهير دائما من محاولات التخريب التي تهدف في النهاية إلى ضرب الحركات الشعبية. وقد كتبت جريدة "الانتصار"، لسان حال حزبنا عدة مرات محذرة من التخريب الذي تقوم به الرجعية. وقد كان الشيوعيون على رأس حركة مقاومة التخريب، ومواقف الشيوعيين هذه ليست جديدة، فقد كافحوا مؤامرة إحراق القاهرة 1952 (..) لم تكن الانتفاضة الجماهيرية الشاملة الأخيرة مفاجئة لنا. بل كانت متوقعة كرد فعل طبيعي على القرارات الاقتصادية. وخلال السنوات الماضية كل الشواهد تشير إلى تصاعد السخط الشعبي ضد السياسة التي تنتهجها السلطة بالنسبة لمختلف القضايا القومية، سواء الوطنية (..) أو المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة، حيث برز تحيز السلطات للفئات الطفيلية والبرجوازية الكبيرة على حساب الطبقات الشعبية الكادحة (..) سخر اقتصادنا الوطني لمصلحة الاحتكارات الأجنبية، نمو القطاعات الطفيلية على حساب الأنشطة الإنتاجية، نبذ سياسة التخطيط والتصنيع، اطلاق يد الرأسمالية المالية والتجارية الأجنبية والمحلية".

وكان الحزب الشيوعي المصري نفسه يطالب ببديل ناصري للنظام الساداتي:
" قامت أجهزة الإعلام بقياداتها العميلة والرجعية بشن حملة شرسة ضد المنهج الناصري الوطني. والتخطيط والقطاع العام والتصنيع وسياسة التعاون الزراعي والتعامل مع المعسكر الاشتراكي، وعزت إلى هذه السياسة الوطنية كل ماترتب عمليا عن سياسة الانفتاح على السوق الرأسمالي الغربي (..) واستفادت السلطات من بعض سلبيات الحكم الناصري في ضرب إيجابياته وإنجازاته (..)، وبالمقارنة بين العهدين، تبين للجماهير زيف هذه الادعاءات، مما ضاعف من قوة الاتجاهات الناصرية، وجعل الجماهير ترفع شعاراتها في تحركاتها الأخيرة (..). "طبعا، الطابع العام للحركة هو عفوي، تلقائي وشامل، إذ امتدت الحركة في جميع انحاء البلاد، من الإسكندرية غربا إلى السويس شرقا حتى أسوان في أقصى الجنوب، شاركت فيها كل الفئات الشعبية ضد النظام ومؤسساته الرئيسية، خاصة أجهزة القهر، وزارة الداخلية والأمن العام المركزي واقسام البوليس ومقار حزب السلطة وجرائدها (..) ثم الجامعة الأمريكية كمركز للعدو الرئيسي ". (الإبراز من عندنا).

أما بالنسبة لحزب العمال الشيوعي المصري، فهو على نفس الدرب بشكل عام، وإن كان التذكير باستراتيجية الحزب الاشتراكية يأتي بصورة أقوى وأكثر تكرارا. وكذلك تبرز لديه حجة أن الذي يجعل الحزب يتخذ خطا ديموقراطيا إصلاحيا هو الضعف الذي يراه الحزب في الحركة الجماهيرية. وسبق أن رأينا أن الشواهد تدل على عكس ذلك، إذ كان استعداد الهبة الفعلي واتجاهها السياسي أكثر جذرية في لحظتها من الحركة الشيوعية العامة.

فمن مجلة "الانتفاض " الصادرة في 13/6/1976، تحت عنوان " فلنقاوم استسلام النظام المصري أمام الاستعمار الأمريكي والإسرائيلي" بيان من الحزب حول الاتفاقية الجديدة لفصل القوات وورد فيه: "ونحن إذ نشارك الشعوب العربية وقواها الثورية غضبتها على هذه الاتفاقية (..) نعلن ما يلي - لقد حددنا موقفنا بضرورة الإطاحة الثورية بالسلطة البرجوازية في مصر باعتبارها هدفا استراتيجيا للثورة الاشتراكية المقبلة في بلادنا. وبالتالي، فلا معنى لاستمرار أي قيود تكتيكية على قضية الإطاحة بسلطة البرجوازية البيروقراطية على أن ما يجعل ذلك هدفا طويل الأمد هو في المحل الأول واقع أن الحركة الثورية المصرية ما تزال تشهد مرحلة ميلاد جديد".

وفي العدد الصادر في 7 /8 /1976 كتبت المجلة بعنوان:" حول انتخابات مجلس الشعب واستفتاءات السادات":

"لقد أبرز موقفنا الأخير من الحكم القائم بشقيه الوطني والديمقراطي ضرورة الإطاحة بأساسه السياسي والاقتصادي والاجتماعي – الرأسمالي الرجعي دون أية تحفظات.. ولا يحول بيننا والنضال المباشر حول شعارات إسقاط النظام الرأسمالي القائم من أجل الجمهورية الاشتراكية سوى الوزن الضعيف للطبقة العاملة وحلفائها من الجماهير الشعبية (..) إلا أن هذا لن يتم إلا عبر النضال حول شعار مرحلي، شعار الجمهورية الديمقراطية الذي يحقق إسقاط شكل الحكم الرجعي الفردي مطلق السلطات وإقامة شكل ديمقراطي جديد يضع كل السلطات في يد برلمان الشعب الديمقراطي".

وفي العدد الصادر بتاريخ 31/7/1976، بعنوان " لا للسادات" ورد ما نصه " لقد نادينا بضرورة النضال من أجل الإطاحة بحكم السادات مدركين أن دون هذا الهدف جهودا هائلة يتعين على القوى الثورية والديمقراطية والوطنية أن تقوم من خلال أوسع تشهير وفضح ضد هذا الحكم الذي يقهر شعبنا.. ولقد أعلنا دائما مواقف الرفض لشكل الاستفتاء مطالبين بأن يقوم برلمان حقيقي بتعيين قيادات السلطة التنفيذية كجزء من مطالب الحريات الديمقراطية. ومثل هذه البرلمانات لا يمكن أن يقوم في الواقع إلا على أساس راسخ من تحقيق أوسع الحريات الديمقراطية وبالأخص تقرير حق الطبقات الشعبية في تكوين أحزابها السياسية وعلى رأسها الحزب الشيوعي، حزب الطبقة العاملة المصرية".

وكتبت مجلة "شيوعي مصر" الصادرة في مارس 1976:
" إن الإطار الجديد للصراع من أجل القضاء على النظام الرئاسي في الحكم وتحقيق نظام ديمقراطي يكفل كل الحقوق والحريات الديمقراطية بما في ذلك حق تكوين الأحزاب السياسية، وحق إصدار الصحف للقوى السياسية للطبقات الشعبية والوطنية، وحق الإضراب، وحق التظاهر والاجتماع واستقلال الاتحادات والنقابات وإلغاء كل القوانين الاستثنائية والمقيدة للحريات الديمقراطية".
وكانت مجلة "الانتفاض"، في عددها الصادر في 25/9/1976، أي قبل 4 شهور تقريبا من هبة يناير، تقدم برنامجا للقوى الديمقراطية في انتخابات مجلس الشعب (الإبراز من عندنا).

وخلاصة القول أن الحركة الشيوعية المصرية، في عمومها وبصرف النظر عن التنوعات والاختلافات، إذا كانت تتوقع بشكل ما هبوب الانتفاضة، إلا أنها لم تكن تضع في تصورتها وآفاقها السياسية لا عنفها فحسب، بل جذرية اتجاهها السياسي. وهذا هو الأمر الجوهري الذي جعل الحركة الشيوعية قليلة التواجد في الانتفاضة عند بدايتها، وتحاول توجيهها اتجاها احتجاجيا في إطار النظام الساداتي طوال يوم 18 يناير ثم تنسحب من الميدان عندما وصلت الانتفاضة إلى ذروتها وتتركها تخوض معاركها الأخيرة دونها في نهاية الأمر.


                              ********************
7- - النتائج والثمار

سبقت الإشارة إلى أن الانتفاضة قد أحدثت مزيدا من التفكك في صفوف السلطة، وبدا النظام الساداتي حينئذ شديد الضعف وبلا أنصار.

ولكن المجموعة الساداتية الضيقة التي في القمة عرفت كيف تناور المناورات اللازمة لتعيد لفلولها حدا أدنى من الوحدة. وكانت أداتها الرئيسية في ذلك تخويف البورجوازية المصرية – بمعناها الواسع وليست فقط المناصرة للسادات مباشرة – بالخطر الذي مثلته الهبة على مصلحة الملكية الخاصة في الأساس، وتخويف البلاد العربية النفطية بخطر تولي حكم جذري في القاهرة، وتخويف أمريكا باحتمالات نظام ناصري جديد قد يكون أشد حدة.. ليس هذا فحسب، بل نجحت تلك المجموعة الساداتية في الحقيقة، وبشكل عام، في تخويف اليسار باتهامها اياه بالتخريب والتحريض على "انتفاضة الحرامية" بحيث انشغل اليسار مدة بالدفاع عن نفسه ونفي هذه التهمة عن ذاته ومحاولة إثبات براءته من الانتفاضة، وهي براءة حقيقية واقعة في نهاية الأمر.

عاد شيء من الوحدة للصفوف الساداتية بفضل تلك الهجمة التي باركها شيخ الأزهر حينذاك ببيانه. وإذ هدأت الفئات الرئيسية من "المسيسين" بعد قرار تأجيل تنفيذ القرارات القيسونية، وسحقت قوات من الجيش ذيول الانتفاضة، حصل حكم السادات على البراهين المادية للمساندة الخارجية، العربية النفطية منها والأمريكية. فأرسل الملك خالد رسالة إلى السادات يطمئنه على أن العربية السعودية ستقف دائما إلى جواره بكل مواردها ونشرت الصحافة التي تشرف عليها الحكومات النفطية افتتاحية تقول إن على منتجي البترول واجبا معنويا لمساعدة مصر نظر لخسائرها في الأرواح والموارد طوال سنوات الحرب مع إسرائيل. ومنذ 15/1 وافق صندوق النقد الدولي على إقراض مصر 140 مليون دولار لتحسين اقتصادها. وفي فبراير، أعلنت واشنطن منح مصر مساعدة قيمتها 190 مليون دولار. وامتلأت عناوين الصحافة العربية بالإعلان اليومي عن قروض ومساعدات جديدة: 500 مليون دولار من الولايات المتحدة، 600 مليون من صندوق النقد الدولي؛ ملياران من الخليج، 250 مليون من بنك تشيزمنهاتن. ورغم أن جانبا من هذه الوعود لم يتحقق، إلا انها في حد ذاتها طمأنت "ذوي الأفكار المعتدلة" بانهم على مراكزهم باقون وللمزيد سيغترفون. وبهذا رمم النظام الساداتي بعض الثغرات التي فتحتها الانتفاضة في الحلف المحيط به.

ولكنه رغم ذلك كان ترميما عاجلا وغير قوي. فمنذ يوم 29/1 نشرت مجلة "الإيكونومست" البريطانية مقالا يقول إن هناك إمكانية ضعيفة أن تجد مصر حلا سريعا لمشاكلها الاقتصادية حيث إن البلاد تحتاج إلى أكثر من ألف مليون جنيه إسترليني سنويا كمساعدة مدنية (دون احتساب المصاريف العسكرية البالغة ألف مليون أخرى) إلى جانب 300 مليون أخرى سنويا لمدة أربع سنوات للبدء ببرامجها التنموية. وأشار المقال بعد ذلك – كما أشارت مقالات أخرى مشابهة في الصحافة الأجنبية – إلى أن ضمان استمرار السادات لن يتأتى بالمساعدة الاقتصادية، وإنما بالمساندة السياسية الغربية، بالسلام مع إسرائيل.
وكتبت جريدة نيويرك تايمز الأمريكية في 23/1:

" إن التمردات بسبب رفع أسعار الغذاء (..) قد أبرزت المشاكل الداخلية الاقتصادية والسياسية التي يواجهها السادات، كما جعلت فرضا أشد على الزعيم المصري أن يبحث عن تسوية سلمية في الشرق الأوسط. ويؤكد السيد السادات أن مصر لا تستطيع أن تحول مصروفاتها العسكرية إلى التنمية الاقتصادية إلا في ظل سلام مضمون. ولكن، حتى لو بدأت المفاوضات قريبا، فلن يقوى على تخفيض المصروفات العسكرية قبل مرور السنوات الطويلة (..) على أن اضطرابات الأسبوع الماضي قد تقنع الأمم العربية الأكثر ثروة – وقد تقنع واشنطن أيضا – بصحة زعمه انه يريد حقا تسوية سلمية من أجل الالتفات إلى المشاكل الداخلية".

قال دبلوماسي غربي بعد أن تبدد دخان المعركة: "إنني أشك في إمكان بقائه (أي بقاء السادات) مالم يتخذ خطوة عاجلة نحو السلام مع إسرائيل. إن التحرك نحو السلام قد لا يحسن الأوضاع الاقتصادية، ولكنه على الأقل يفتح بابا للأمل – الذي لا وجود له الآن" (..) ويقول أحدهم:" إن مايحتاج إليه النظام المصري هو السلام، والسلام هذا العام. ومالم يتوصل إلى ذلك، فقد لا يعدو له بديل آخر غير الاندفاع – ودفع المنطقة كلها معه إلى حرب جديدة‍".

واستطاع نظام السادات بالفعل أن يستخدم تلك الحجة الكاذبة – السلام مع اسرائيل سيأتي بالرفاهية – ليكسب تأييدا غير عاد للمبادرة المشهورة ولزيارته للقدس في نفس السنة. وكان في الوقت نفسه يتقدم بالمزيد من الخطوات في سياسة الانفتاح فيقوي ربط البرجوازية المصرية به.

ومع ذلك، فإذا كانت سياسة النظام هذه تخدم البرجوازية المصرية وترضيها، إلا أنها لم تكن للطبقات الشعبية غير هباء منثور بدلا من تحسين أحوالها، وكتبت جريدة نيويورك تايمز الأمريكية في 24/1:

"هبة الأسبوع الماضي غيرت الظروف السياسية في مصر وأصابت إصابة خطيرة حرية أنور السادات في التصرف داخليا وخارجيا. فلأول مرة، استطاع المتظاهرون في الشوارع أن يفرضوا إرادتهم على الحكومة، إذ ألغى النظام في اليوم التالي للهبة زيادة الأسعار في الحاجيات الأساسية، وتعهد السادات بأن يجعل هذا الإلغاء دائما. ويخشى المصريون العليمون ببواطن الأمور هذه السابقة.

والحادث المركزي الثاني الذي برز أن فقراء مصر لم يعودوا مستعدين لاتخاذ النجاحات في السياسات الخارجية والإصلاح السياسي الداخلي عوضا عن تحسين ظروفهم المعيشية الخاصة فمن الحتمي اذن أن السادات لن يكون قادرا على القيام بمثل ذلك الدور الظاهر في المفاوضات الشرق أوسطية والذي كان متوقعا له منذ أسبوع فقط (..) والمعتقد أيضا أن حرية السادات في المناورة السياسية قد انخفضت بشكل مأسوي".

فكان التراجع الفجائي عن المؤتمر الدولي للسلام حيث يحول ضعف النظام المصري دون أن يلعب الدور الذي يريده في الجبهة الاستعمارية، والعمل على أن تقوم الولايات المتحدة بمهمة "الشريك الكامل" في المفاوضات المباشرة مع إسرائيل. وكانت سلسلة الإجراءات والسياسة القمعية المتكاملة والمتزايدة الشدة بدءا من الاستفتاء في 11/2/1977 حتى اعتقال ما يزيد عن 1500 معارض في سبتمبر 1981.

وبطبيعة الحال، أصاب القمع السياسي اليسار إصابة مباشرة. فأُغلقت مجلة الطليعة الشهرية وأبعد صلاح حافظ وعبد الرحمن الشرقاوي عن روز اليوسف. وُأمطر حزب التجمع بالحملات البوليسية العامة والخاصة وأعضاؤه بالاعتقالات وجريدته بالمصادرات، كما تزايدت الملاحقات والمطاردات والقضايا على التنظيمات اليسارية الأخرى وخاصة الأحزاب والتنظيمات الشيوعية ولم يحم اليسار الواسع انفصاله – على درجات – من الانتفاضة، بل على العكس سهل هذا الانفصال على السلطة ضربه.

وإذا التفتنا للعنصر الثالث في أحدات يناير 1977- الجماهير الشعبية الحضرية العريضة – استطعنا القول أنها أحرزت انتصارا بالغ الأهمية من الناحية التاريخية، وعظيم الدلالة من حيث التوازن السياسي والطبقي في مصر، ألا وهو إجبار النظام على التراجع عن رفع الأسعار الفوري. وفي هذا، فقد نجح التحدي وأسلوبه العنيف، وانتصر الخروج على الطاعة المعتادة اجتماعيا وسياسيا.
ولكنه كان نصرا مؤقتا، إذ باتت السلطة تلجأ إلى أسلوب إجراء الزيادات السعرية شيئا فشيئا بدلا من مرة واحدة، وفي بعض السلع ثم البعض الآخر، بحيث يتحقق اليوم معظم ما كان يطالب به صندوق النقد الدولي والبنوك عبر القومية والولايات المتحدة أو يكاد. وفي هذا هزيمة لانتفاضة يناير 1977، هزيمة سياسية مترتبة على سحقها العسكري ولكنها ليست مترتبة عليه فقط.

فالآن يتضح أكثر فأكثر أن منع الغلاء من الاسشتراء، ومستوى معيشة الشعب من مزيد من التدهور، ليس مسألة إصلاح جزئي للنظام مع الإبقاء على إطاره العام، وانما أمر يخضع لشرط تغيير هذا النظام بالكلية. أي يتضح أن الاتجاه السياسي للانتفاضة كان أصوب صحة من الاتجاه السياسي لليسار في حينه، رغم دور اليسار المساعد في تهيئة بعض الظروف للانتفاضة.

لقد كانت الانتفاضة تلقائية. انفجرت في المدن الكبيرة والعاصمة في وقت واحد وبأسلوب واحد وأهداف واحدة دون أن يوجد اتصال أو تنسيق أو اتفاق بين الانتفاضات المحلية المختلفة (أو قل لا توجد أي قرينة على ذلك). وفي هذا، كانت الانتفاضة حركة جماهيرية مستقلة، خارجة عن أطر الهيئات التي تعترف بها الدولة والتي يقال عنها عادة أنها جماهيرية (النقابات العمالية، الجمعيات التعاونية، النقابات المهنية، المجالس المحلية، الأحزاب). وكانت من الناحية التنظيمية العضوية أيضا مستقلة في أغلبها عن اليسار (فيما عدا بعض المظاهرات الطلابية والعمالية في بدايتها). ومن الناحية السياسية، فقد سبقت الإشارة مرات عديدة إلى اختلاف الأهداف بين الانتفاضة وبين اليسار الواسع بما فيه الحركة الشيوعية. أما من الناحية الفكرية فإذا كانت جماهير الانتفاضة قد أظهرت لونا ناصريا لاشك فيه، إلا انه كان مخلوطا على العموم بنوع من الشعور الطبقي الحاد ومن المعاداة للدولة – كدنا نسميها فوضوية بالمعنى العلمي للكلمة – لا تعرفها عادة إلا اتجاهات ناصرية قليلة. ومن هنا أيضا، نجد استقلالية الحركة الانتفاضية بدرجة كبيرة عن اليسار المنظم أو المترابط.

وبطبيعة الحال، فقد فشلت الانتفاضة في اتجاها السياسي الخاص. فبقي النظام الساداتي، بل اندفع بعدها في مساره بشكل أشد حدة واصرار.
وكما رأينا في استقراء الأحداث، فهزيمة الانتفاضة وفشلها على المدى كان أمرا موازيا لعدم إدراك اليسار حقيقتها ولتراجعه أمام مناورات النظام. فمن الصعب، في أواخر القرن العشرين وفي ظروف مصر الحالية الداخلية والخارجية أن تنجح انتفاضة تلقائية وحدها – أي ببقائها تلقائية – في أحدات تغيير جذري في النظام السياسي الحاكم. كما انه من الصعب على اليسار وحده أن يحدث تغييرا ديمقراطيا يمهد لتغيير آخر، جذري ولو كان على مدى أطول. أقول من الصعب أن يحدث اليسار هذا التغيير بالدعاية والتبشير. ومن هنا، فتجربة الانتفاضة تثير إشكالية العلاقة بين اليسار والجماهير الشعبية، بين من يزعم لنفسه وضع الطليعة – إن لم يكن وضع القيادة – وبين من يفترض فيه وضع التابع والمقود. أي العلاقة بين الشروط الموضوعية والذاتية.

وعلى أي حال، فإن سحق الانتفاضة عسكريا وإفشالها سياسيا لم يكن يعني إسكات الصراع أو إسكانه. وذلك بأن الإضطرابات بدأت تأخذ أشكالا أخرى. منها الرفض السلبي إزاء النظام ومنها اشتداد ساعد الحركة الإسلامية الجذرية. وفي 3/7/1977 اختطفت جماعة "التكفير والهجرة" الشيخ محمد حسين الذهبي.

                                        ******************
 

ملحق:

 

جدول 1

 

القاهرة: توزيع المصريين حسب فئات السن والحالة العملية (بين 6 – 20 سنة)

 

التعداد أو الإحصاء

 

           بين 6-12

      بين 12-15

      بين 15-20

1966

1976*

1966

1976

1966

1976

يعمل لحسابه ولا يستخدم أحدا

يعمل لحسابه ويستخدم آخرين

يعمل بأجر نقدي

يعمل لدى الأسرة بدون أجر نقدي+ يعمل لدى الغير بدون أجر نقدي

متعطل سبق له العمل+ متعطل جديد

 طالب متفرغ للدراسة

 

متفرغة لأعمال المنزل

بالمعاش – متقاعد

زاهد في العمل – لا يعمل ولايبحث

عن عمل

عاجز غير قادر على العمل

غير مبين

 

370

 

109

 

13804

 

 

 

1069

 

 

1851

 

-

 

-

 

621381

 

9645

 

8811

 

703

 

-

 

8269

 

 

 

1881

 

 

25322

 

569061

 

37020

 

9741

 

398

 

-

 

981

 

108

 

30474

 

 

 

3120

 

 

2725

 

 

--

303383

 

1458

 

4017

 

2617

 

-

 

27683

 

 

 

3477*

 

 

12542*

 

306061

 

50458

 

7266

 

394

 

-

 

 

 

5629

 

632

 

86776

 

 

 

5694

 

 

6365

 

-

 

-

 

357274

 

697

 

-

 

12189

 

904

 

93767

 

 

 

-

 

 

21563*

 

325780

 

128507

 

11805

 

631

 

1226

 

الجملة          

657040

652395

346266

410498

463067

596372

 

جملة سكان القاهرة في 1966 = 4.220.015    وفي 1976 = 5.074.016

 

المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء – تعداد 1976  - وإحصاء 1966 بالعينة.

 

* محسوبة بمعرفتنا من الجدول الأصلي. 

 

 

جدول 2 

 

          القاهرة: توزيع السكان ذوي النشاط حسب السن ( 6 – 20 سنة)

 

المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء – تعداد 1976، وإحصاء بالعينة لعام 1966

 

* محسوبة بمعرفتنا من الجدول الأصلي 

 




 



([1])  F. FOX PIVEN, R.A. CLOWARD: I Movimenti Dei Poveri: I Ioro Successi, I Loro Fallimenti, Milano, Feltrinelli, 1980.

(حركات الفقراء، نجاحها وفشلها)

([2]) كلية الدراسات العليا والبحوث، أكاديمية الشرطة: بحث اشتراك الأحداث في حوادث الشغب يومي 18 ، 19 يناير 1977، دراسة غير منشورة، القاهرة، 1979 (تحت يدنا الفصل الثالث فقط).

([3]) KARIMA KORAYEM: “The Rural Urban Income Gap in Egypt and Biased Agricultural Pricing Policy”.

(هوة الدخول بين الريف والحضر في مصر والسياسية الزراعية المجازة في التسعير)

Social Problems, Vol. 38, No.4, April 1981, pp. 417-428.

([4]) أنظر: أحمد صادق سعد، "الحراك والحراك العكسي- علاقتهما بالتنمية والتخلف". ورقة غير منشورة مقدمة في الندوة العلمية الرابعة للمعهد العلمي للثقافة العمالية وبحوث العمل عن "الطبقة العاملة والحركة الاجتماعية في البلاد العربية"، الجزائر 24-29 مارس 1984، وخاصة جدول 10.

([5]) Robert Mabro, "Migrations Interns et Sous-emploi Urban: le Cas de l'Egypt", Travaux et Jours, No .45 Oct.-Dec.1972, pp. 65-76.

([6]) د. ميلاد حنا، ترشيد القاهرة بدلا من قفلها، الأهرام، 12-6-1985

([7]) Ahmad M. Abou Zeid: "New Towns And Rural Development in Egypt" , Africa,49(3),1979,pp. 283-290.

([8])  Mahmoud Abdel Fadil, Educational Expansion and Income Distribution in Egypt, 1952 – 1970 (ch.II in: G. Abdelkhalek and R. Tignor: The Political Economy and Income Distribution in Egypt,New York,Holmes and Meier,1982),pp. 351 – 374.

([9]) كلية الدراسات العليا والبحوث، سبق ذكر المصدر.

([10]) د.أنور محمد الشرقاوي: انحراف الأحداث، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1977، ص ص 26 – 27. تراوحت جنح جرائم الأحداث بين 20.000 و16.700 جنحة عامي 1979، 1980 علي التوالي، وكان نصيب القاهرة فيها يتراوح بين 17% و19 % تقريبا. انظر: مصلحة الأمن العام – وزارة الداخلية- ج م ع: الأمن العام 1980 – القاهرة، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، 1981، ص ص 168 – 169.

([11]) بلغ عدد المحكوم عليهم في 31 – 12 -1975 والموجودين بالسجون 12.631 شخصا، منهم 9.309 أمي ( 73 %) و3124 يعرفون القراءة والكتابة ( 25 %).

([12]) كلية الدراسات العليا والبحوث، سبق ذكره، ص 70.

([13]) انظرMark Kooper:" Egyptian State Capitalism in Crisis: Economic Policies and Political Interests,1967 – 1971". Int. Journal of Fast Studies, Vol. 10,No. 4(1979) ,pp. 481 – 517.

([14]) ذكره حسين عبد الرازق، سبق ذكر المصدر، ص 95.

([15]) بلغ العجز في ميزان المدفوعات 202.5 مليون جنيه عام 1971 – 1972، 1500مليون في 1976، الدين الخارجي: 200 مليون جنيه عام 1970 – 1971 و1400 مليون عام 1975 حسب تقديرات معينة في حين أن وزير المالية قدره أمام مجلس الشعب في 29- 12- 1975 بمبلغ 2717 مليون جنيه.

([16]) نسبة الدعم إلى المصروفات العامة تطورت من 2% في 1962 – 1963 إلى 4% في 1970 – 1971 إلى 30% في 1976، فكانت هذه النسبة تمثل 11% من الناتج القومي الإجمالي.

([17]) في ديسمبر 1976 اجتمع السادات والأسد في القاهرة للتنسيق بين بلديهما بهذا الخصوص.

([18]) من هذه القرائن وجود السادات في أسوان عند إعلان القرارات، وراجت الأقاويل في حينه أنه لجأ إلى السودان سرا فترة قصيرة يوم 18 يناير. وكذلك أن الإعلام الرسمي؛الصحف والإذاعة والتلفزيون، غطى الأحداث بشكل مطول ومثير. وأذاع التلفزيون في هذه الأيام فيلما عن ثورة 1919 كان مثيرا في سياق الهبة. ويشير إلى بعض هذا لطفي الخولي في "الطليعة" الصادرة في فبراير 1977 حيث أسمى تكتيك الحكومة "شمشونيا: على وعلى أعدائي ". وفي تعليقات بعض الصحف الأجنبية إشارة إلى أن الحكم الساداتي خطط لنظرية المؤامرة الشيوعية تحذيرا للدول النفطية من النتائج المرعبة التي ستترتب على الشرق الأوسط كله إذا استولى الشيوعيون على مصر( ذكره إيضاح عبد الرازق، المصدر السابق، ص 9 ).

([19]) التقرير التالي عن الأحداث معتمد على الصحف والمجلات المصرية والأفرنجية ووكالات الأنباء ونشرات الأرشيف الصحفي بالإضافة إلى المشاهدات الشخصية والأحاديث مع عدد من الذين اشتركوا في المظاهرات.

([20]) من نص حكم محكمة أمن الدولة العليا في 19 – 4 – 1980 في القضيتين 100 و101 المتعلقتين بالتحريض الشيوعي.

([21]) كان الجو العمالي متوترا توترا شديدا في ترسانة الإسكندرية منذ مدة بسبب موجات الفصل التي بلغت يوميا 26 عاملا مفصولا في هذه المشأة الصناعية الكبيرة.

([22]) صبري أبو المجد: "السادات رجل الموقف الصعب"، المصور، 28-1-1977.

([23]) للباحث أن يتشكك في مدى نجاح المخطط الساداتي في هذا المجال. فقد وقعت حادثة اختطاف الشيخ الذهبي بعد أحداث يناير بستة شهور فقط.

([24]) تصيغ الأوساط العلمية للشرطة الأمر بالطريقة التالية: " ماهية السلطة تتجسد في قدرة السلطة على حفظ النظام في ربوع الإقليم (..) عرفت جريمة الاعتداء على أمن الدولة الداخلي بأنها الجريمة التي تقع على الدولة في علاقاتها بالمحكومين بقصد الإحاطة بالهيئات الحاكمة أو استبدال النظام الاجتماعي أو السياسي بغيره" (عقيد سيد متولي: السلوك الإجرامي في جريمة التنظيم السري، القاهرة، أكاديمية الشرطة، سلسلة أبحاث الدارسين رقم 17، 1974، ص ص 9-10).

([25]) الاستشهادات التالية من وثائق حزب التجمع والأحزاب والتنظيمات الشيوعية مستخرجة من كتاب حسين عبد الرازق ووثائقه، صفحات مختلفة.