هذه دعوة للعمل على مناهضة قوى الظلام

واستمرار ركب الحضارة الحديثة

This Is A Call To Work Against The Forces Of Darkness And For Promotion Of Modern Civilization


أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 7 يونيو 2019

الطبيعة البشرية

فصل من كتاب: الثورة المستمرة

إنَّ جوهر الإنسان ليس تجريدًا متأصلًا في كل فرد على حدة وإنما هو مجمل علاقاته الاجتماعية
 ماركس

  - لا يتوقف الجدل حول الطبيعة البشرية، من حيث وجودها من عدمه، ومن حيث مفهومها. وقد رفض هذا المفهوم أصلًا كثير من الفلاسفة والمفكرين([1])، بينما رأى البعض أنَّ الإنسان ليس له طبيعة بمعنى صفات ثابتة، مثل كونه شريرًا أو خيِّرًا، كما أنَّ قدرته على صناعة الثقافة تجعله قادرًا على تغيير نفسه، فهو الذي يحدد ماهيته؛ فهو حر، والحرية مفروضة عليه([2]). ولا ينتبه سارتر هنا إلى أنَّ هذه الحرية التي جُبل عليها الإنسان – حسب زعمه - هي ماهية وطبيعة بشرية مرتبطة بوجوده وليست تالية له، بعكس مذهبه. بل وهناك من تناول الطبيعة البشرية بالتفصيل([3]). وهناك من ذهب إلى أنَّ الشخصية مكتسبة، نافيًا أيّ دور للوراثة([4]). وقد تناول ماركس الطبيعة البشرية بشكل عابر في بعض كتاباته([5])، يمكن إيجاز رأيِه في أنَّ الطبيعة البشرية هي عبارة عن ميول، ودوافع، وغرائز، تعمل من أجل تلبية احتياجات الإنسان. فتفسير تلك الطبيعة هو بالضبط تفسير احتياجات البشر، مع ميلهم إلى سد تلك الاحتياجات. وهو يميز بين إنتاج الإنسان وإنتاج الحيوان: يسد إنتاج الحيوان حاجته المباشرة فقط، بينما ينتج الإنسان حاجته في ذهنه أولًا قبل أنْ يحققها. هنا نجد التأكيد على القدرة على الوعي كجوهر الطبيعة البشرية.

وقد اهتم بعض اليساريين بنفي وجود شيء اسمه الطبيعة البشرية، وكأنَّ الاعتراف بها يقود إلى الإقرار بوجود “قوانين” طبيعية؛ غير اجتماعية، للنظام الاجتماعي؛ وكأننا بذلك نبرئ الرأسمالية. ويميل كثير منهم إلى تحميل الانقسام الطبقي كل مسؤولية عن “الشر”، مبشرين بأنَّ كل شيء سيكون على ما يرام في المجتمع الاشتراكي. كما اختلف الفلاسفة حول ما يميز الإنسان عن الطبيعة، فذهبوا مذاهب شتى، منها العمل في رأي ماركس، والعقل عند هيجل، اللغة لدى هابرماس...

 - حسب ما نتصور، الإنسان في الأصل جزء من الطبيعة، لكنه قد تخطاها، فخلق شيئًا جديدًا، من أدوات، ومنتجات استهلاكية مصنعة، بل ومواد خام مصنعة، وعلاقات إنتاج اجتماعية، وفوق ذلك الفكر والفن، المبادئ والقيم، المؤسسات الاجتماعية والدولة. وبينما يكتفي الحيوان بالتكيف مع البيئة، وسد حاجاته المباشرة إنْ أمكن، ويموت إنْ لم يستطع تحقيق هذا وذاك؛ فيخضع لتوازن البيئة، يحاول الإنسان في سعي مستمر إلى جعل البيئة تتلاءم معه، ويتجاوز توازنها، ويعيد الخلق لصالحه. فهكذا هو الإنسان، منتوج الطبيعة ونقيضها. وعلى ذلك نستطيع تحديد لحظة تمرد الإنسان على الطبيعة باللحظة التي أعاد فيها الخلق من جديد؛ نتاج تفاعله مع البيئة؛ إنتاج المجتمع البشري؛ وهذا يبدأ منطقيًّا بإنتاج اللغة، والمفاهيم المجردة، فوسائل إنتاج مصنعة، عملية العمل المخطط مسبقًا في ذهنه، علاقات إنتاج، مؤسسات وثقافة... وبذلك صار - منذ بدء انفصاله عن الطبيعة - يعتبر الوجود كله ملكًا له، فيعامله على هذا الأساس.

 - ليس بالإمكان الكشف عن حالة طبيعية للإنسان خارج الجماعة والتاريخ. فالإنسان لم يوجد إلا في جماعة لها تاريخ، بما في ذلك الإنسان البدائي. وبالتالي لا يمكن تحليل طبيعة بشرية خام متجسدة في كل فرد. وعلى ذلك يمكن فقط أنْ نكشف عن الطبيعة البشرية بالاستنتاج ولا يمكن البرهنة عليها تجريبيًّا، اللهم إلا في العموم.

 - تشمل الطبيعة البشرية الجسم والنفس، وهما لا ينفصلان. ولا تقتصر طبيعة البشر على تكوينهم البيولوجي؛ فليست كل سماتهم موجودة في الجينات؛ فلا توجد جينات تجعلهم يصنعون علاقات الإنتاج، ولا الأيديولوجيا ولا نظام العمل الجماعي. لكنهم لابد أنْ يصنعوا كل هذا بدافع حاجاتهم البيولوجية والنفسية في مواجهة البيئة، لتحقيق أكبر قدر ممكن من المحافظة على نوعهم وذواتهم وتحقيق راحتهم.

 - لا يوجد علم نفس بمعنى الكلمة، بل نظريات، اختلف حولها العلماء أكثر مما اتفقوا. فهناك عشرات المدارس، والخلافات بينها لا تنتهي، ويكفي أنْ نرجع للفروق الشاسعة بين فرويد ويونج رغم انتمائهما لمدرسة التحليل النفسي. ويخضع هذا “العلم” للسياسة ولمصالح السلطة، مثله مثل الفلسفة. فغالبية مدارس علم النفس الأمريكية – على سبيل المثال - تطالب الفرد بالتأقلم مع المجتمع. هذا بجانب انتشار كثير من الخرافات “العلمية”([6]). وكل محاولة لجعله علمًا تجريبيًّا أنتجت توجهًا معينًا لا يحظى باتفاق الباحثين. ولم يتفق علماء النفس الاجتماعيين على منهج لدراسة طبيعة الإنسان الاجتماعية، كما أنَّ هناك الكثير من الأسئلة غير المجاب عليها، مثل تفسير استجابات الأشخاص لمؤثر معين([7]). بل لا يوجد اتفاق على غرائز البشر من حيث تحديدها أو حتى وجودها أصلًا. فهناك من يستعمل لفظ غريزة، ومن يقول ميولًا غريزية، أو استعدادًا فطريًّا. كما لا يوجد اتفاق حول طريقة تفسير السلوك البشري.

ولذلك لن نأخذ باتجاه معين هنا، بل سنعتمد على الأفكار الأكثر عمومية وشيوعًا أو الأكثر اتساقًا مع الظواهر الاجتماعية الشائعة - حسب ما نرى، ومع الحقائق المعروفة.

 - إنَّ العوامل الاجتماعية التي تقهر الفرد والجماعات ليست من خارج البشر، بل من إنتاجهم؛ فالملكية الخاصة والدولة - كمثالين - هما نتاج الحضارة البشرية. وقد قام إنجلز - باسم الماركسية - بمحاولتين لتفسير نشوء الطبقات والدولة فلم يقدم أيّ تفسير أكثر مما يُفهم أنه مجرد نزوع بشري نحو الأنانية والتسلط([8]). ولم تفلح أيُّ نظرية أخرى في إثبات حتمية نشوئهما رغم إرادة الناس. فـ”الخير” و”الشر” من الناس وليس من عوامل عرضية أو ميتافيزيقية([9]). وكل ما حدث طوال حياة البشر هو من صلب الطبيعة البشرية. وحتى الصفات والسلوكيات المكتسبة لا يمكن اكتسابها إلا إذا كانت هناك ميول فطرية لهذا الاكتساب.

 - يتكون لب الطبيعة البشرية من عمليات التأقلم مع البيئة، والتوابع الجانبية لهذا التأقلم، ولا يمكن إهمال “العادم” الذي يتبقى. ويمكن تقديم مثال بسيط لهذه العملية من البيولوجي: الحبل السري هو ناتج للتأقلم مع البيئة لحفظ حياة وتطور الجنين، ويكون الناتج الجانبي لذلك هو السرة التي تنشأ في البطن بعد انتهاء دور الحبل السري، أما العادم أو البقايا هنا فهو الشكل الخاص للسرة في كل فرد([10]). وهذا يحدث في كافة عمليات التأقلم.

 - والغاية الأولى لكل كائن حي هي البقاء والتكاثر وإشباع الرغبات الغريزية؛ أيْ الاستمتاع، وهذه ميول فطرية؛ جينية. لذلك فأيُّ آلية نفسية توجد في الشكل الملائم لتحقيق هذه الغايات. وما نشاط النفس إلا مجموعة معقدة من آليات الدفاع والهجوم، تشكل في النهاية ضمانة لاستمرارية الكائن الحي، وتعطيه القدرة على النمو والتطور بأمان([11]). إلا أنَّ الإنسان يختلف عن الحيوانات الأخرى في قدرته على خلق وإعادة خلق حاجات جديدة للاستمتاع، مثل ممارسة الجنس بطرق مختلفة، ألوان من اللعب غير الغريزية، صناعة أشكال وألوان من الأطعمة، أشكال عديدة من السياحة.. إلخ. وكل هذا يدل على وجود آليات مختلفة غير غريزية للاستمتاع لكنها تتطلب استعدادًا طبيعيًّا للشعور بالمتعة.

 - لا يمكن تحديد طبيعة بشرية للفرد المجرد؛ فلا يوجد في الواقع فرد إنساني - كما نعرفه - ليس جزءًا من الجماعة. فالإنسان كائن نوعي، ولا يستطيع إلا أنْ يعيش في جماعة، لأسباب بيولوجية ونفسية. ويشترك الأفراد في سمات معينة لكنها لا يمكن أنْ توجد بدون تشكيل الجماعة البشرية. إذ لا يمكن إنتاج واستخدام اللغة إلا في جماعة، ولا يمكن تربية الأطفال إلا في وجود جماعة، ولا يستطيع البشر مواجهة الكوارث الطبيعية والأمراض إلا بشكل جماعي. وإذا عاش الناس أفرادًا فسوف يكون معدل الوفيات شديد الارتفاع وسيظل الإنسان يعيش على التقاط الثمار وبعض الصيد؛ مما يعني أنه سيكون حيوانًا بدائيًّا إلى الأبد أو حتى يفنى. إذن الجماعة البشرية سابقة على الفرد، بمعنى أنَّ الفرد الإنسان كما نعرفه لا ينشأ ويعيش إلا في جماعة. وتتميز الجماعة البشرية، نظرًا للقدرات العقلية – اللغوية للبشر، عن جماعات الحيوان، بالتنظيم الدقيق، والقدرة على الابتكار وصناعة الحضارة والتاريخ. وبدون هذه السمات الخاصة كان من الممكن أنْ يعيش البشر مثل الشمبانزي، في جماعات بلا تاريخ ولا حضارة. ولذلك تكون نفس الفرد البشري هي نفس الفرد الاجتماعي؛ ابن الجماعة البشرية.

 - لا يمكن وضع تعريف مختصر للإنسان، من قبيل: حيوان اجتماعي أو سياسي، منتج للآلات، حيوان عاقل أو ناطق. فهناك حيوانات كثيرة لها نفس القدرات وإنْ بدرجة محدودة. لكن الإنسان يختص بعشرات السمات التي تميزه عن بقية الكائنات. منها التكوين الجسماني، شاملًا اليد، والقدم، والسير منتصبًا، وتركيب المخ، والقدرة على إنتاج لغة مجردة، بما تتضمنه هذه القدرة من تركيب الحلق ومركز الكلام في المخ، وهذا مرتبط بالقدرة على التفكير والتجريد وإنتاج مفاهيم، والذاكرة القوية.. إلخ. ويأتي بعد التكوين الجسماني قدرة الإنسان على إنتاج وتطوير وسائل إنتاج معقدة، وإقامة علاقات إنتاج ونمط إنتاج، أفكار وأيديولوجيا ومؤسسات اجتماعية مختلفة، وصناعة تاريخ، بما يتضمنه من تغير في كل ما سبق من منتجات الإنسان. كل هذه سمات تميز الإنسان، وجعلته في النهاية السلطة العليا على الأرض. وهو الكائن الوحيد القادر على التأقلم مع البيئة بوعي وإدراك، بالسيطرة المتزايدة عليها جزئيًّا، بالتصنيع والتحوير وتغيير البيئة، بل وبإنتاج مواد مخلقة. ثم أصبح قادرًا على تحويل نفسه، بإزالة الأعضاء التالفة أو غير الضرورية (إصبع زائد مثلًا) وزراعة الأعضاء، وبتعديل وعلاج وتطوير الجينات، وكل هذا يعني القدرة على التطور، فلا يوجد أيّ كائن آخر على الأرض بقادر على تطوير مجتمعه وتطوير جسده بوعي. هذه القدرة تعود لكل السمات الخاصة التي ذكرناها.

 - النفس البشرية شديدة المرونة والتعقيد، وتتألف من عدد كبير من الآليات المعقدة والمركبة، مع عدد كبير من الدوافع والحوافز والغايات. ولأنَّ الآليات النفسية معقدة ومتعددة، فإنَّ الطبيعة البشرية تعبر عن نفسها بطرق متغيرة، وتعتمد على السياق دون أنْ تكون نبضات ثابتة كما تذهب بعض نظريات الشخصية. إذ لا يوجد رد فعل محدد وثابت لدى البشر. ولا تنبع المرونة السلوكية البشرية من آليات النفسية العامة، بل من عدد كبير من الآليات النفسية المحددة التي يتم تنشيطها، والمتسلسلة في سلاسل معقدة متفاوتة، اعتمادًا على المشكلات التكيفية التي تواجهها. ويستمد البشر مرونتهم النفسية من امتلاكهم لعدد كبير من الآليات الوظيفية المعقدة. وهذا كله يجعل من دراسة الطبيعة البشرية مهمة صعبة، لكنها لا شك قابلة للمعرفة والفهم.

 - إنَّ الذكاء والخبرة والثقافة تلعب أدوارًا جوهريًّة في تحديد رد فعل الفرد إزاء أيّ محفز. فغرائز الإنسان هي مجرد ميول، ورد فعله ليس آليًّا، بل يستخدم الحسابات العقلية ويفكر بأفق واسع بالمقارنة بالحيوانات. فصناعة الحضارة جزء لا يتجزأ من الميول البشرية. فمن طبيعة البشر إنشاء حضارة، والجماعة التي لا تستطيع تحقيق ذلك تُزاح، إما بالانتخاب الطبيعي، أو بالإبادة. كما أنَّ الحضارة، إنتاج الإنسان، تعيد تشكيله – جزئيًّا - وتؤثر كثيرًا في سلوكه.

 - الوعي واللاوعي (الشعور واللاشعور): الوعي هو الإدراك أو الشعور. وقد اختلف علماء النفس حول اللاوعي، من حيث وجوده من عدمه (أنكره السلوكيون والتجريبيون بحجة أنه لا يخضع للملاحظة المباشرة)، وحول محتواه. كما حدد فرويد قسمًا سماه “ما قبل الوعي” Subconscious، ميزه عن اللاوعي، وهو الجزء من اللاوعي القابل للتحول إلى وعي بسهولة، ويبقى اللاوعي قاصرًا على الجزء الذي لا يتحول إلى وعي إلا بجهد خاص([12]). ولأغراض عملية هنا نعتبر اللاوعي مكونًا واحدًا، يشمل الغرائز أو الميول الغريزية، والمعلومات والأفكار المنسية، والرغبات المكبوتة، والغايات غير المتحققة وغير الحاضرة في الذهن، والقدرات الخاصة والفريدة لدى بعض الناس التي تُسمى بالمواهب، وطريقة استعمال اللغة ومفرداتها المحفوظة، والخبرات الفردية والجماعية المنقولة عبر التاريخ، والتي تم تخزينها في الذاكرة العميقة. أما العقل Reason فسوف نعتبره هنا  ملكة التفكير الواعي، والذي ليس كيانًا، بل قُدرة. هذا تعريف مختصر وعام ومباشر. ويمكن الكشف عن اللاوعي عن طريق تحليل السلوك، والأحلام، واللغة، وإنتاج المرء الأدبي والفكري، وغيرها. ويشكل اللاوعي نحو 90% من الذهن البشري حسب فرويد، ويتفق يونج أنه يشكل معظم الذهن. وهذا التصور معقول تماما ويتفق مع خبراتنا اليومية.

 - ليس الإنسان حيوانًا مفكرًا كما صورته بعض الفلسفات. فهو أحد أنواع المملكة الحيوانية، في الأصل يأكل حين يكون جائعًا، ويشرب في حالة العطش، ويفكر مثلما يتبول، حين يتطلب الأمر. الإنسان قادر على التفكير وإنتاج الوعي المجرد، لكنه لا يصنع هذا إلا كاستجابة لحاجاته البيولوجية والنفسية. إنه لا يمارس هواية التفكير، بل تحكمه حوافز ما في هذا المجال، مثل كل مجالات نشاطه. فالذهن البشري – بالضبط كما لاحظ كاوتسكي بالضبط – محافظ، يعمل استجابة لحافز ما، حين يتطلب الأمر([13]). ولم يكن ولن يكون الإنسان أبدًا بقادر على أنْ يتصرف ككائن مفكر، بل إنَّ اللاوعي أكبر وأكثر تأثيرًا في سلوكه من الوعي، فهو يلعب دورًا كبيرًا في التاريخ والمجتمع، أكبر بكثير من دور الذهن الواعي. ولا شك أنَّ العقل قد لعب دورًا كبيرًا في صناعة الحضارة، لكن لا يمكن القول بأنَّ الحضارة مجرد نتاج للعقل. فميول الإنسان الغريزية هي الأساس في الحفاظ على الذات والنوع، بجانب تحقيق اللذة الجنسية وغيرها. إنها في صميم الطبيعة البشرية، وهي الحكم في النهاية للسلوك، بما في ذلك التفكير الواعي. فصناعة الحضارة هي نتاج رغبة الإنسان في سد حاجاته وتحقيق اللذة بأنواعها، والسيطرة على الطبيعة حماية لنفسه من شرها، والحفاظ على النوع. وكل هذه نزعات غريزية، وما العقل إلا أداة تستخدم في تحقيق هذه النزعات.

 - والذهن البشري ينتج الأفكار بفضل تفاعله مع ما حوله من معطيات بيئية واجتماعية، وبدافع من حاجته للمعرفة لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأمان. فمعرفة الأطعمة الضارة والقاتلة، وأسباب الأمراض، وكيفية بناء أماكن تقي من غضب الطبيعة، وصناعة الأسلحة، والأدوات اللازمة للحياة، ومعرفة الطرق؛ كل هذا يتطلب البحث والاستقصاء والتفكير. لكن ما تفسير استمرار الميمات (وحدات الأفكار) في أذهان الناس لمدد متفاوتة، تصل إلى آلاف السنين بعد اختفاء العوامل المادية لظهورها؟ فالإنسان لا يتصرف وفقًا لحسابات عقلية صرف، بل إنَّ العقل ليس إلا أحد أسلحته. فهو ليس منقادًا له كما أسلفنا، بل هو أداة لتحقيق الرغبات. لذلك من المستحيل أنْ تكون كل تصرفات البشر “معقولة”؛ فهناك دوافع وراء السلوك لا تقتصر على العقل. ورغم تقدم المعارف والفكر المجرد لم يصبح الإنسان قط عقلانيًّا إلا من الزاوية التقنية، بل واستخدم العقل في تطوير أشكال القهر والتسلط، وابتكار أشكال من الاستغلال والقتل بالجملة بأبشع الأساليب، من أجل أهداف لا يمكن إلا أنْ نعتبرها حقيرة، مثل القومية والعنصرية والنزعة المركزية، والاستيلاء على جهد الآخرين، والتسلط لمجرد إشباع الرغبة في السيطرة وإذلال الآخر. كما فعل العكس أيضًا؛ فأنتج أشكالًا من التعاون والتضامن والتعاطف مع المظلومين والمستغَلين، بل وحتى مع الحيوانات. فالتواصل البشري لا يخضع للعقل بشكل أساسي، بل تلعب الغرائز والمشاعر الدور الرئيسي، وهي لا خيِّرة ولا شريرة. ولا يمكن إغفال أنَّ ما نقوله الآن أيضًا يخضع لهذه الطريقة في التحليل. بل إنَّ الأفكار ليست نتاجًا لنشاط العقل المحض، بل نتاج لتفاعل الناس بكل مكوناتهم مع الواقع، كما تلعب الثقافة الموروثة والمخزونة دورًا مهمًّا، ولذلك تكون في غالبية الأحوال غير منطقية؛ أوهام وخيالات، بها ثغرات. فكثير من العمليات الذهنية تتم خارج نطاق الوعي. ويتوقف مدى انتشار الأفكار مع قوة تأثيرها على رغبات الناس؛ ليس مصالحهم المادية بالضرورة، وليس تطابقها مع الوقائع الموضوعية. وتفسر لنا سيادة اللاوعي اتخاذ الناس لقرارات تضر بهم، وظواهر لا يمكن تبريرها، مثل عبادة الشخصية، وتقديس الدولة والجيش، والعنصرية وكافة أشكال التعصب. لكل هذا لا يؤثر البرهان والمنطق في معظم الناس. فمن المعتاد تمامًا أنْ تتعايش أفكار متناقضة منطقيًّا في أذهان الغالبية الساحقة من الناس، وأنْ يتصرفوا بعكس قناعتهم المعلنة. لكن ربما مع التقدم وتطور الحضارة يصبح الناس أكثر ذكاء وقدرة على التفكير البرهاني.

 - إنَّ العقل أداتي بطبعه؛ أداة للمعرفة والتفكير الواعي؛ قادر على تحويل الأشياء إلى تصورات في الذهن، وعلى التفكير لعمل استنتاجات. لكن ما يقرره الإنسان ليس إلا ما ينزع إليه؛ ما يلبي نداء اللاوعي، خصوصًا مكونه من الغرائز كما أشرنا. فبعد كل البحث والتقصي ومعرفة الحقائق يقوم المرء باختيار ما، وليس هناك “صح” و”خطأ” في الاختيارات حسب التفكير المنطقي. ولتوضيح الأمر نضرب مثالًا: يمكنك أنْ تعرف تمامًا أنَّ هذا الطعام أو ذاك يضر صحتك، لكن لا يوجد قرار صحيح بخصوص تناوله أو تجنبه. فالقرار يتوقف على توازن رغبات نفسية، مثل غاية المحافظة على الذات (سواء بتجنب الطعام الضار أو تناوله لعدم إمكانية توفير غيره)، ورغبة الاستمتاع بهذا النوع من الطعام بالذات بحكم التعود على تناوله([14])، وغاية إطفاء الجوع، وغاية إرضاء المحيطين بمشاركتهم في طعامهم حفاظًا على العلاقات الاجتماعية.. إلخ. كما يمكن بسهولة معرفة علاقات الاستغلال في المجتمع بحسابات العقل، لكن قرار قبولها أو مقاومتها يخضع لتفاعل عوامل نفسية عديدة، وليس هناك قرار صحيح وآخر خاطئ في المطلق. وهكذا تسير الحياة، فالعقل مجرد أداة فقط، لكن اللاوعي هو الذي يقف وراء القرارات. وحتى ما يقدمه العقل من حقائق واضحة قد يقبلها أو يرفضها المرء حسب دوافعه الشعورية. فقد ينكر حقائق صريحة ومؤكدة أو يقبل بمعلومات مغلوطة تمامًا، حسب رغباته الدفينة. بل يمكن أنْ نضيف أنه حتى الاكتشافات العلمية ومسار البحوث العلمية تتم بدافع لاشعوري أساسًا، رغم أنها تتم بشكل مخطط. فلا غنى أبدًا عن الخيال والحدس والتخمين والظن لعمل العقل “البحت”. ولا يجب أنْ نتناسى الخيال العلمي في هذا الصدد. بل إنَّ هناك أفكارًا تتضح وتتبلور في الأحلام، أو حين يكون المرء في حالة بين النوم واليقظة، فيما يُعرف بـ الوحي (لا نقصد أيّ وحي ديني على الإطلاق). وهذا يشير إلى الدور الجوهري للاوعي. وحتى المفكر حين ينتج فكرة لابد أنْ يضع فرضيات وتخيلات لا علاقة لها بالعقل. وفي النهاية تتم الصياغة العقلية للأفكار بعد أنْ تُكتشف وتتبلور تحت تأثير اللاوعي ونشاط العقل معًا. ويمكن بكل اطمئنان أنْ نقرر أنَّ كل أشكال الإبداع والتقدم تتم بدوافع من اللاوعي، وخاصة الغرائز أو المشاعر، وهي التي تقوم بتوظيف العقل لخدمة هدفها. فالتفكير غير المنطقي وغير الموضوعي يتفق مع نزعات معينة مثل الخوف، الرغبة الداخلية في تحقيق غايات معينة، الرغبة في الشعور بالأمان، الرغبة في التفوق، الغيرة، والحسد.. إلخ. أخيرًا نحن نرى الواقع - من خلال حواسنا - بذهننا، وهذا ليس عقلًا محضًا ومحايدًا، فلا تكون رؤيتنا موضوعية تمامًا.

 - ومما يستحق التأكيد عليه هنا أنَّ العقل ليس منطقيًّا([15])، ولا مستقلًا عن اللاوعي، بل لا يعمل بشكل متسق ولا مرتب. وهو يعمل باستخدام مكونات الوعي، المليء بالضلالات والأوهام والخرافات، بجانب الحقائق. ولو كان الإنسان يفكر بالمنطق عمومًا لما احتاج لاختراع علم المنطق.

تدفع سيطرة اللاوعي على الوعي الذهن إلى استخدام الوهم Illusion الذي يعني استقبال شيء أو ظاهرة على أنها شيء آخر أو ظاهرة أخرى، مثل السراب كمثال، والدوجما أو الاعتقاد Dogma، وهو التصديق بأشياء ما دون أيّ برهان على وجودها أو صحتها، ومن أشهرها الإيمان بوجود آلهة، أو استنباط أشياء بطريقة غير منطقية ولا تعبر عن الواقع المعاش، أو الاعتقاد بتفوق عرق معين، والضلال Delusion، بمعنى تصور أشياء وأحداث غير حقيقية (مثل الشعور بالعظمة والاضطهاد بشكل وهمي). هذا بخلاف الكذب لتحقيق أغراض، مثل تحقيق القوة أو نيل المكانة أو الهروب من العقاب، أو كسب رضا الآخرين، و وهي يعني ل الدفاعية (سأذكر بعضها لاحقًا). نيل المكانة أو الهروب من العقاب، أو كسب رضا الآخرين.بجانب الحيل الدفاعية (سيأتي ذكر بعضها لاحقًا). وهذه تختلف عن التصورات المرضية، الناتجة عن أمراض عصبية ونفسية خطيرة، مثل التسامر أو التخريف (ذاكرة مضطربة ومخرفة): Confabulation - الهلوسة Hallucination (الشعور بشيء غير موجود أصلًا) – الفصام Schizophrenia.

ومما يعزز هذا الكلام أنَّ هناك الكثير من الظواهر التي لا تخضع للمنطق، ولا يمكن أنْ تفسر بالعوامل الاقتصادية ولا الاجتماعية ولا البيئية: فلماذا قرر بعض الناس استغلال البعض الآخر، وبالتالي نشأت طبقات اجتماعية بعد أنْ كانت المجتمعات القديمة بلا طبقات؟ ولماذا رضيت غالبية الناس قبول الوقوع تحت استغلال طبقة معينة؟ ولماذا قرر بعض الناس قهر بقية المجتمع بإنشاء جهاز دولة بعد أنْ كانت المجتمعات القديمة بدون سلطة قمعية؟ ولماذا قبلت الغالبية هذا القهر؟ ولماذا يميل بعض أو كثير من الناس إلى زيادة ثرواتهم حتى بعد أنْ يجمعوا ما يكفيهم للحياة المرفهة؟ وبينما كانت الصراعات بين العشائر والقبائل القديمة وحشية، على الكلأ والمياه والنساء، فلماذا لم يقرر كل منها اقتسام كل هذا بدلًا من الحرب والقتل؟ لماذا لا يخرج مجمل البشر لإسقاط الأنظمة المستغلة وهو قادرون على ذلك في بضع ساعات؟ كيف تلعب الأيديولوجيا كل هذا الدور في حياة البشر؟ فهل يمكن أنْ يُخدع معظم الناس لآلاف السنين دون أنْ يكون لديهم استعداد لتلقي هذا المخدر؟

الخلاصة أنَّ الذهن البشري – كما أسلفنا - يعمل تحت تأثير اللاوعي أساسًا، كما أنَّ الوعي نفسه يتضمن الكثير من الضلالات، فلا يعمل العقل وفقًا للمنطق، بل يختلط فيه المنطق مع الوهم.

 - يتسم الإنسان كنوع بالضعف البيولوجي. فالطفل يحتاج إلى أمه لسنوات طويلة حتى يستطيع الوقوف والمشي والكلام وخدمة نفسه. وتحتاج المرأة لمن يساعدها في حالة الحمل والوضع والتربية. ولا يملك الإنسان من القوة العضلية ما يمكنه من مواجهة الحيوانات المفترسة. ولا يمكنه مواجهة الأمراض والكوارث الطبيعية إلا من خلال العمل الجماعي. كما أنه يحتاج لسنوات طويلة لمراكمة الخبرة وتخزينها في ذهنه، وللتدريب على التعامل مع البيئة. وهو يشعر بهذا الضعف تمامًا، مما يدفعه لمحاولة التغلب عليه بصناعة الحضارة والسيطرة على الطبيعة. ولا توجد وسيلة أخرى؛ فالإنسان كنوع لديه شعور ووعي بضعفه النسبي، وبالتالي بعدم وجود الأمان الكامل، وهذا عامل محفز لاكتشاف أفضل وسيلة للتكيف مع الحياة على الأرض. هذا الشعور يبدأ عند الطفل المحتاج لرعاية الآخرين. إذن فالضعف البيولوجي للإنسان شرط للحضارة الإنسانية([16]). وكل إنسان فرد يشعر بضعف أشد؛ لذلك فالإنسان كائن اجتماعي، يحتاج للجماعة وللحب مثلما يحتاج الطفل إلى أمه، ولذلك كانت عقوبة الطرد من القبيلة في المجتمعات القديمة شديدة القسوة. إذ إنَّ الجماعة شرط لاستمرار الحياة، ولذلك كان من الضروري تنظيم حياة هذه الجماعة، فأصبح وجودها فوق الفرد (حتى عند حيوانات أخرى). وقد توقف نوع القوانين الاجتماعية لكل جماعة على شروط الحياة بها، وعلى كم المعرفة المتاحة في وقت معين، ونوع الأخطار التي تواجهها، بما فيها خطر وجود الجماعات الأخرى المهددة لها ضمنيًّا. هذه النزعة الجماعية تؤمِّن استمرار النوع، وبالطبع تؤمِّن للفرد الحماية، وممارسة الجنس، وتمنحه الشعور بالأمان، المفتقد عمومًا بسبب الرعب من الطبيعة المخيفة. وبالطبع لا يمكن إنتاج واستخدام اللغة إلا في الجماعة. في هذه الجماعة أو تلك يخضع الفرد لقواعد ونظم معينة، متنازلًا عن جزء من حريته مقابل الأمان. وهذا الخضوع أو التكيف مع الجماعة يجبر الفرد على ضبط أو كبت ميول غريزية معينة، خصوصًا الجنس، في حدود نظام الجماعة وثقافتها. كذلك علاقة الحب، والصداقة، تبدو أيضًا حاجة إنسانية غريزية، كآلية للحفاظ على الذات، بتحقيق الأمان، والحصول على حب مقابل، والاندماج في الجماعة. يضاف ضبط النفس فيما يتعلق بعمليات مثل التبول والتبرز وتغيير الملابس ومكان الممارسة الجنسية.. إلخ. وكافة أشكال الضبط والكبت - على رأي فرويد - لا تعني اختفاء الغرائز التي تخصها، بل تُكبت إلى اللاوعي، سواء للصغار أو الكبار([17]).

ويتميز شعور الطفل بالضعف إزاء الكبار بشدته مع شعور قوي بالعجز، فيلجأ إما للبحث عن القوة أو استخدام ضعفه وإظهاره للحصول على عطف الكبار، حسب ظروف بيئته وتكوينه، وهي أيضًا آلية للبحث عن القوة، ويؤثر تفضيله لإحدى الآليتين في تكوينه النفسي اللاحق.

والحياة في جماعة، والعمل الجماعي عمومًا يجعل الفرد يشعر أنه أقوى، ويكتسب شجاعة وجرأة. فالمجتمع يولِّد في البشر الشعور بوجود قوة فوق الأفراد، ولأنَّ الفرد ينتمي لهذه القوة، يشعر بأنه قد تجاوز ضعفه. وقد يفسر لنا هذا الشعور – جزئيًّا - ظاهرة الطوطمية كما تناولها دوركايم([18])، والتي فسرها على أنها تمثل المجتمع، كما قد يفسر ظاهرة المقدس عمومًا. لكن الحياة في جماعة تشعر الفرد أيضًا أنه أقل حرية، مالم يشارك مباشرة في وضع نظامها.

مع ذلك فالإنسان ككائن نوعي؛ كجماعة، يشعر أيضًا بالضعف إزاء الطبيعة، وقد تشعر الجماعات بالضعف إزاء الجماعات الأخرى، بالإضافة إلى الغيرة والحسد. ومن هنا تسعى أيضًا الجماعة إلى تحقيق القوة، سواء إزاء الطبيعة أو إزاء الجماعات الأخرى، بوسائل متنوعة معروفة، وضمن هذه الوسائل، الفعالة جدًّا، اختلاق أشياء ومفاهيم رمزية، مثل الطوطم، القبيلة، قرية كذا، مدينة كذا، أمة كذا، دولة كذا، وكافة الرموز الأخرى، والطقوس الجماعية، بغرض توحيد جماعة كبرى لا يعرف أفرادها بعضهم البعض معرفة شخصية.

ليس فقط الضعف هو دافع الإنسان للتقدم، بل قوته أيضًا، أو قدرته على التغلب على ضعفه؛ قدرته على السير منتصبًا، يده الماهرة، قدرته على الكلام وصناعة اللغة، قدراته العقلية الفذة. ورغم التقدم المتوالي لن يستطيع الإنسان أنْ يسيطر على الطبيعة قط؛ فالكون الممتد إلى أبعاد لا نتخيلها غير قابل للخضوع، وسوف تظل الطبيعة متفوقة إلى الأبد؛ فإنَّ جسيمًا فضائيًّا قد يقضي فورًا على كل ما صنعه الإنسان على الأرض.

 - يميل الفرد العادي – في سياق الصراع من أجل البقاء والراحة - إلى تحقيق مكانة أعلى Status Striving داخل الجماعة، أيْ قوة؛ تفوُّق. فالفرد في الجماعة يشعر بضآلته، ويجد نفسه في حالة تعاون وتنافس مع الآخرين؛ تعاون من أجل مصالح الجميع، وتنافس من أجل تأمين حاجاته الخاصة، البيولوجية والنفسية، وخصوصًا حاجاته الجنسية. وهذا الميل يحقق عدة غايات تتفق مع غرائز الحفاظ على الحياة، دون أنْ يكون هو نفسه غريزيًّا على نحو مباشر: توفير ظروف معيشية جيدة – زيادة فرص الاستمتاع بالجنس وغيره من أشكال المتعة – تحقيق ظروف جيدة لتربية الأطفال. هذا الميل يتضمن السعي نحو تحقيق القوة والسيطرة والسيادة من خلال المنافسة التي قد تصير صراعًا عنيفًا، كما أنه ضمن آليات التغلب على الشعور بالضعف بهذه العملية التعويضية. وقد لوحظ نفس الميل في الحيوانات العليا (الشمبانزي مثلًا([19])). هذا ما سماه نيتشه بـ “إرادة القوة”، واعتبرها جوهر الحياة. من هنا يعمل الانتخاب الطبيعي على تسييد هذا النوع من الناس على غيره. هذه المكانة تتحقق من خلال السعي إلى التفوق، بالمنافسة، وبدافع الحسد والغيرة الكراهية. وقد يؤدي العجز عن تحقيق المكانة والسلطة بشكل مباشر إلى الإصابة بالعصاب، فيأخذ في اتباع “سياسة” تعويضية بطرق مختلفة حسب ظروف البيئة الاجتماعية. فيستخدم آليات غير مباشرة لتحقيق القوة، مثل الحب وتكوين صداقات، التعاطف مع الآخرين، أو تقديم الرعاية لهم، والتطوع في الخدمة العامة، ومساعدة الضعفاء. وحتى الخضوع للأقوى والتماهي معه، وسلوكيات مثل النفاق والتذلل، الكبت، الإزاحة، التبرير، التسامي، الإسقاط.. إلخ([20]). فالغاية هي الوصول للقوة، ولتحقيق حالة توازن داخلي للفرد. وهذا ما قد يفسر ظاهرة قبول معظم الناس للخضوع للسلطة القاهرة، كآلية تعويضية؛ فلا يمكن لأحد أنْ يتسلط على الناس دون أنْ يكون لديهم الاستعداد للخضوع. ويحدد النظام الاجتماعي القائم الطريقة المقبولة اجتماعيًّا لتحقيق الفرد للمكانة، كما أنَّ نوع هذه المكانة يخضع لمعايير الجماعة. فقد تكون المكانة هي جمع أكبر قدر من الثروة، أو أنْ يكون الفرد مقاتلًا شجاعًا، أو تكون التطوع في خدمة اليتامى، أو أنْ يكون المرء مناضلًا ضد الظلم، أو الوصول أو احتكار المعرفة في مجال أو آخر، أو الأيديولوجيا. ومن الممكن بالعكس؛ كأن يصبح مجرمًا أو قاتلًا سفاحًّا مثلًا، أو يستولي على ممتلكات الآخرين؛ هكذا منتزعًا مكانة قوية تحظى بالقبول تحت الإكراه والقهر. في كل هذه الحالات يحقق الفرد شيئًا من القوة والشعور بالأمان، حسب البيئة التي يعيش فيها وحسب قدراته الشخصية. فقيم المجتمع ومثله العليا هي التي تفتح الأبواب للفرد لاختيار المكانة في حدود قدراته. ففي بعض المجتمعات يكون إنجاب عدد كبير من الأبناء قيمة مهمة، وفي مجتمعات أخرى يكون امتلاك الأموال معيارًا للنجاح، وقد تتحقق المكانة بتحقيق الشهرة في مجال ما مثل العلم أو الفن أو الرياضة.. إلخ. وحتى الفرد المنسحق والعاجز عن تحقيق مكانة على صعيد المجتمع قد يسعى لتعويض انسحاقه وشعوره بالعجز والفشل إلى تحقيق سلطة على عناصر أضعف منه، مثل أفراد أسرته أو مكان عمله أو بين أصحابه، والأقليات العرقية أو الدينية، المعاقين جسديًّا وعقليًّا..إلخ.

 وهناك حالتان للوجود الفردي:

* الأنا المستقلة، وهي مدركة لذاتها، وتستطيع أنْ تأخذ وتعطي بتوازن وباستقلالية، اعتمادًا على مصادرها الداخلية.

 * الأنا الضعيفة، وهي التي لا تستطيع الوجود بمفردها، فتلجأ لإحدى آليتين تعويضيتين: إما أنْ تقهر الأنا الأخرى وتسيطر عليها (الشخصية السادية) وإما أنْ تدمج نفسها مع أنا أخرى (الشخصية التابعة أو الخانعة). فالبشر عمومًا لديهم ميول متعددة وقدرات متباينة تؤدي إلى هذه الظاهرة أو تلك. فالمرء يسعى إلى تحقيق المكانة، أيْ السلطة، وإذا فشل فقد يلجأ لآلية الخضوع للتماهي مع الأقوى، لكن إذا فشلت هذه الآلية هي الأخرى وصارت الحياة لا تطاق، فقد يلجأ إلى آليات أخرى: الهروب والبحث عن ملاذ، أو العصيان، وأنْ يهب ثائرًا، وفي الحالات القصوى قد تظهر لديه نزعة تدميرية للآخر في صورة العنف الفردي أوالثورات المدمرة، وحين يعجز عن تدمير الآخر فقد يلجأ إلى تدمير نفسه، ربما بالانتحار. فالشخص المسحوق يكون عدوانيًّا أو جاهزًا للعدوان مع ظهور الإمكانية.

من الأمثلة الساطعة على اختلاف آليات تحقيق القوة، سلوك قبائل البدو وقبائل الفلاحين في الماضي. فالبدو في العادة كانوا فقراء ويعانون شظف العيش، فيتسمون بالعدوانية والجرأة واليقظة لعدم شعورهم بالأمان. أما الفلاحون فيحققون القوة بالإنتاج الوفير، فيكونون مسالمين، وأكثر ديموقراطية من البدو. وفي العادة كان أولئك البدو الفقراء يشعرون تجاه الفلاحين بالحسد ويمتلكهم الطمع، فيهاجمونهم لسرقة ممتلكاتهم. وينطبق الشيء نفسه على قبائل الفلاحين الفقيرة التي أصابها الجدب، كما تتعرض قبائل البدو الغنية إلى نفس الهجمات. وإذا أردنا أنْ نمد هذا الكلام على استقامته، لقلنا إنَّ نزعتي التعصب للقوم والعنصرية تنبعان من الرغبة في السيطرة، وإلى الحسد والطمع والجشع؛ آفات الجنس البشري، وهي ضمن آليات تحقيق القوة. وما يحدث الآن من صراعات في الاتحاد الأوروبي – كمثال - ويهدد تفككه هو نموذج لهذا. بل وُجد الميل إلى الأخذ بالثأر في كافة الحضارات، كآلية دفاعية. وحتى إظهار الجماعة البشرية ضعفها أحيانًا يلعب دور الآلية الدفاعية (من ذلك مثلًا خطاب المظلومية الذي تتبعه بعض الجماعات؛ منها الصهيونية وجماعة الإخوان المسلمين). وضمن آليات تحقيق القوة العمل من أجل المستقبل؛ ادخار وسائل المعيشة والعنف والسيطرة.

وفي سبيل موازنة الأنَويَّة وحفز الغيْريَّة، أو عمل توازن، ابتكر الناس قيمًا “إنسانية” عامة؛ وكثير من الشعوب أضفت عليها طابعًا مقدسًا، بنسبتها إلى تعاليم الآلهة. لكنْ فشل ذلك في دفع الناس إلى تسييد الحب والتعاون، ذلك أنَّ الأنوية – حتى الآن - أقوى من الغيرية.

 - يميل الذهن البشري إلى الكشف عن العلاقات بين الأشياء والظواهر، وهو قادر على التجريد والتحليل والاستنتاج، ويستخدم هذه القدرة في إنتاج المفاهيم والفكر المجرد. وهي لا تعني مجرد الرغبة في التفكير، بل هي آلية للسيطرة والتحكم في البيئة، تساهم في تسهيل سد حاجات البشر. إنَّ الرعب من الطبيعة وتقلباتها وعدوانها المستمر يدفع الإنسان للسعي إلى فرض سطوته عليها وتوظيفها لحسابه. هذه السطوة تتطلب معرفة العالم؛ معرفة الضرورة حتى يمكن استخدامها، وهذ إحدى أهم دوافع التقدم وصناعة الحضارة. ومع ذلك فهو لا يفعل ذلك طول الوقت، بل حين الحاجة فقط، إلا أنه طول الوقت يتصرف وفقًا للاوعيه بشكل أساسي.

- الحاجات البشرية لا تنتهي أبدًا، ولا يوجد شيء اسمه الحاجات الأساسية، المنزوعة من الزمان والمكان، والممكن تحديدها بشكل نهائي، فهي نسبية دائمًا ومتغيرة. إنها لا نهائية، لا تقف عند سقف؛ ليس فقط بسبب الطموح البشري الغريزي، بل أيضًا لأن كل وضع اجتماعي يخلق حاجات جديدة. ونقطة البدء هي تأمين الحاجات المباشرة. وكلما حقق البشر درجة من التقدم ظهرت لهم حاجات جديدة لا غنى عنها. وعلى سبيل المثال قرر الناس أنْ يستروا أجسامهم من البرد والحر، فلبسوا جلود الحيوانات، وحين اتضح أنها خشنة قرروا البحث عن مصادر أخرى، فظهرت صناعة الملابس من النباتات، وترتب عليها ضرورة صناعة أدوات إنتاج للغزل والنسيج، ثم الأصباغ، ثم تطوير هذه الصناعة لتتناسب مع تكاثر السكان، ثم احتاج الأمر لإنتاج المعادن لصناعة الآلات وغيرها. ومع ظهور التبادل صار خفض تكلفة الإنتاج أفضل، كما صارت النقود ضرورية بما يستلزم ذلك من صناعة. وقد ظهرت الحاجة إلى مطارات مع اختراع الطائرة، والحاجة إلى تطوير وسائل التشخيص والعلاج لظهور أمراض جديدة. كما تطلبت صناعة الدواء أيضًا إنتاج عقاقير مضادة لآثارها الجانبية، أو تطويرها، نظرًا لهذه الآثار، بخلاف تصنيع الأدوات اللازمة ومدخلات الإنتاج المختلفة لصناعة الدواء. وهكذا سار تطور الحياة الاقتصادية. أما الحروب فتطلبت استخدام العصي والحجارة، ثم مع استمرار الصراعات ظهرت الحاجة إلى المعادن، وقد لعبت الصراعات بين الجماعات البشرية دورًا هامًّا في تطوير الأسلحة ومعها كل قوى الإنتاج والبحوث العلمية والابتكارات. ولذلك فحاجات البشر لا متناهية ولن تكتمل أبدًا، وهذا هو حافز التقدم. وهناك ضرورة إشباع الحاجات النفسية الغريزية، والاستمتاع، والهروب من الواقع المؤلم؛ العالم القاسي، بتحقيق إنجازات أو الهروب إلى خيالات وأوهام، وهو ميل لكل من الفرد والإنسان كنوع.

والفرد المبدع لا يشبع أبدًا، ولا يشعر بالرضا، فيريد المزيد من النجاح، بل حتى الغني لا يكتفي بما حققه رغم أنه قد يجمع ثروة طائلة، فيسعى للمزيد. إنه يحتاج نفسيًّا لهذا الإنجاز وإلى المزيد بلا نهاية. إنه في حالة كفاح مستمر من أجل النجاح. فإذا قرر المرء أنْ يكتنز المال فنهمه له لا يتوقف، لأنَّ مراكمة القيمة سواء الاستعمالية (في المجتمع القديم) أو التبادلية (في عصر الرأسمالية) لا سقف لها، وهو يشعر بالفقر وبالحاجة في نفس الوقت، ويخشى على ضياع ثروته، فينميها باستمرار، فهي تكون سلاحه لتعويض شعوره بفقر داخلي. وكما ذهب ماركس “كل ما لا تستطيع صنعه يصنعه مالك”([21]). وإذا توقف هؤلاء الأشخاص عن تحقيق المزيد من النجاح أصيبوا بالعصاب، وقد يكون الأمر على العكس، أنَّ كفاحهم وراؤه حالة عصاب واضطراب في الشخصية([22]). كذلك الجماعة البشرية لم ولن تكتفي بما حققته من تقدم ورفاهية، وسوف تستمر في العمل من أجل المزيد. كل الإبداعات هي تعويض عن شعور ما بالنقص والضعف وقلة الأمان. إنها مسعى إلى تحقيق القوة، سواء المادية أو المعنوية. لقد وجد الإنسان نفسه ملقى في الكون بلا معين، معرضًا لغضب الطبيعة المخيف، ومحتاجًا للحماية دون أنْ يجدها، وهو وضع شديد الصعوبة. إنه محتاج للأمان الذي لا يكتمل أبدًا، وكلما حقق خطوة على طريق المعرفة والتقدم أمكنه تحقيق درجة أعلى من الأمان، ويظل الأمان المطلق حلمًا في طريقه إلى أنْ يوجد، دون أنْ يتحقق فعليًّا، فهذا يشترط أنْ يصبح الإنسان إلهًا مطلق القدرة، وهو المستحيل. ولأنَّ الأمان هو شرط لممارسة الحياة والاستمتاع بها، نجد أنَّ البشر قد يضحون بحريتهم من أجل الأمان، وهذا يفسر لنا ظواهر اجتماعية كثيرة.

 - توجد لدى النفس البشرية غرائز إرضاء الذات، شاملة حفظ الحياة وتجنب الألم والسعي إلى اللذة، الجنسية وغيرها، بالإضافة إلى غريزة الحفاظ على النوع. هذه الغرائز الأولى هي أساس الأنانية، والثانية (حفظ النوع) هي أساس الإيثارية والتعاطف والمشاركة الوجدانية. وقد يتصرف الناس، فرادى أو جماعات، بأيٍّ منهما حسب الظروف؛ حسب نوع ومستوى الخطر المحدق بالفرد والجماعة. فحب الأبوين غريزي، ينطوي تحت غريزة استمرار النوع، تحت تأثير الجينات المتماثلة، وقد أثبتت بعض الدراسات أنَّ حب الأم أو الأب للابن البيولوجي يفوق حبهما للابن بالتبني([23])، مما يعزز هذه الفكرة. أما حب الذات، فيبدأ منذ المولد؛ فالطفل أناني تمامًا (أو حتى نرجسي على رأي فرويد، ويسمي هذه بالنرجسية البدئية ويعتبرها طبيعية([24]))، وهو يبدأ في التنازل عن أنانيته شيئًا فشيئًا مع إدراكه للآخر. لكن يظل كل إنسان أنانيًّا بقدر ما أو آخر، بمعنى سعيه إلى الحفاظ على ذاته وتحقيق اللذة وتجنب الألم، وبالتالي تفضيل نفسه على الآخرين، سواء بشكل مباشر؛ أنانية مباشرة، أو بآليات غير مباشرة، تتضمن التعاون مع الآخرين وتقديم العون لهم، والحب، انتظارًا لنفس المعاملة. فالغاية هي الذات في النهاية. بل وما كانت الغيرية داخل الجماعات البدائية إلا اضطرارًا([25])، لعجز أعضائها عن تخزين الطعام، ولصعوبة قيام كل فرد يوميًّا بتوفير احتياجاته، وللضعف الجسماني للفرد. ولا شك أنَّ الحضارة تلعب دورًا كبيرًا في خلق آليات الحفاظ على الذات وضبط هذه الغريزة نفسها، بما تخلقه من مثل وقيم، مثلما تؤثر في مختلف الغرائز البشرية. ومن الضروري أنْ يكون هناك توازن بين غريزتي الحفاظ على الذات والحفاظ على النوع، حتى لا تتسبب الأنانية في القضاء على النوع. إلا أنَّ الثقافة قد تصل في تأثيرها على المشاعر والسلوك البشري إلى حد خلق ميول تدميرية، تهدد حتى الحياة بأسرها، خاصة في عصر أسلحة الدمار الشامل.

يشكل التعارض بين الأنانية والغيرية مصدرًا للعصاب. فالفرد يطلب من الجماعة الأمان والحماية، ويندمج معها من أجل نفسه، وفي هذا السبيل يضطر للخضوع إلى ضغوطها، فيعاني الكبت والصراع الداخلي، وينتابه شعور بالذنب، إما خوفًا من العقاب المجتمعي، أو خوفًا من تأنيب الضمير. ويستمر الصراع بين الأنوية والغيرية داخل وخارج الفرد. فالحضارة مأزومة طول الوقت، فهي كما وصفها فرويد هكذا: "كل شخص يضطر إلى العمل باستمرار وفقًا للمعايير الاجتماعية التي لا تعبر عن ميوله الغريزية، فيحيا بالمعنى النفسي خارج حدود إمكانياته، حتى ليمكن وصفه بموضوعية على أنه منافق"([26]).

والجماعة مثل الفرد، نرجسية إلى هذا الحد أو ذاك، حتى الجماعات داخل المجتمع الواحد، مثل الجماعات المهنية، والمؤسسات الاجتماعية. وهذه النزعة ضرورية لتطور الجماعات وحصولها على عناصر القوة وحماية نفسها. لكنها قد تتطرف لتنتج عنها أوهام وخيالات وعنصرية ونزعة عدوانية ضد الجماعات أو المجتمعات الأخرى. وقد كان إريك فروم دقيقًا حين وصف الأولى بالنرجسية المنتجة، والثانية بنرجسية خبيثة، تكون مصحوبة بأعراض مرضية، سيكوباتية، وبارانوية، وسادية([27]).

لقد فشلت كل الدعاوى الأخلاقية وكل الأديان في تهذيب النرجسية، مما يعني أنها نزعة أصيلة وقوية في النفس البشرية.

 - هناك نزعات موجودة لدى الجنس البشري، ليست بالضرورة جينية، منها الطمع والحسد والجشع والعدوانية والسادية والنرجسية. فلا يتسم كل الناس بكل هذه السمات، لكن توجد على الأقل إمكانية فطرية لاكتسابها، مثلما توجد إمكانية فطرية لاكتساب نقيضها. والأمر يتوقف على مختلف ظروف نشأة الفرد، والظرف الاجتماعي العام، والخبرات المتراكمة لكل جماعة.. إلخ. والسؤال الذي يلح بهذا الخصوص هو: لماذا يلجأ الناس للعدوان والاستغلال والجشع.. إلخ دون حلول أخرى لمشاكلهم؟ لماذا لا يسود الحب والتعاون والاكتفاء، إلا إذا كانت هناك ميول غريزية تدفع دفعًا لتلك السلوكيات. هذه الميول المتناقضة هي جزء من الطبيعة البشرية، ليست جينية بالضرورة، لكنها تنشأ في نفس البشر كنتيجة لتفاعل ميولهم الغريزية مع تكوينهم الجسماني، مع طبيعة التكوين الاجتماعي العام، مع الخبرات الحياتية العامة المتوارثة عبر تاريخ البشرية.

 - تلعب الغريزة الجنسية دورًا مهمًّا في حياة البشر، وهي أساسية للحفاظ على النوع، وإلى اللذة في حد ذاتها. وهنا يختلف الإنسان والحيوانات العليا (مثل الشمبانزي والدولفين) مع الكائنات الأدنى؛ فغالبية الكائنات الحية لا تستمتع بالجنس وتمارسه فقط للتكاثر([28]). وعدم إشباع هذه الغريزة يؤدي إلى العصاب بالتأكيد. كذلك تفسر لنا الغريزة الجنسية اهتمام الأفراد بأن يكونوا جذابين للطرف الآخر، بآليات عديدة تشمل تحقيق المكانة، والصحة الجيدة، والتجميل. وقد تتسبب في المنافسة بين الناس، والصراع. ولا شك أنَّ الغيرة الجنسية تلعب دورًا مهمًّا في تكوين الشخصية، وفي العلاقات الاجتماعية، وفي سلوك الأفراد. وهي آلية دفاعية لمواجهة التهديد بفقد الرفيق، وقد كان لها دور في تحريم زواج الأقارب المقربين، ضمن عوامل أخرى. وضمن الميول البشرية اهتمام الأب بالأطفال (وكذلك الشمبانزي) وهو اهتمام يحتاجه الطفل أيضًا، ويمكن أنْ نعد هذا الاهتمام آلية للحفاظ على النوع.

 - يختلف أفراد النوع البشري بيولوجيًّا ونفسيًّا. فردود الأفعال ليست واحدة، ومستوى الذكاء متباين، وكذلك المواهب والقدرات الطبيعية، كما تتباين التجارب الخاصة، ربما منذ تكون الجنين. يوجد هذا الاختلاف رغم وجود طبيعة بشرية، ويخلق ما يُسمى بالشخصية. وهذه يمكن تعريفها بأنها: مجموع الخصال والطباع المتنوعة الموجودة في كيان الشخص باستمرار، والتي تميزه عن غيره وتنعكس على تفاعله مع البيئة من حوله بما فيها من أشخاص ومواقف، سواء في فهمه وإدراكه أم في مشاعره وسلوكه وتصرفاته ومظهره الخارجي، ويضاف إلى ذلك القيم والميول والرغبات والمواهب والأفكار والتصورات الشخصية([29]). وتتميز شخصية الفرد من واحد لآخر لعوامل عدة؛ فهناك فروق جينية (ليس من المستبعد أنْ تكون حتى المطاوعة والنزوع للسيطرة راجعين إلى الوراثة([30]))، ودور للهرمونات، وتباين التكوين الجسماني؛ الشكل وحجم الجسم ووزنه وقوة العضلات ومدى وجود عيوب خلقية أو أمراض مكتسبة، وحتى ترتيب الشخص في أسرته يؤثر في تكوينه النفسي([31]). ناهيك عن طريقة التربية، وما يتعرض له من تجارب خاصة، بغض النظر عن النظام الاجتماعي، مثل وفاة أحد الأبوين أو الإخوة أو الأصدقاء، أو مرضه، التعرض للحوادث والأمراض المختلفة، العلاقات داخل الأسرة، ظروف المعيشة وحالة الأسرة ومكان الإقامة، مدى الإشباع العاطفي والجنسي. كما يؤثر في تكوينه مدى اهتمام الكبار به وبسد حاجاته، وطريقتهم في العناية به، ومدى الفارق بينه وبين من حوله في القوة والقدرة. وهناك أفراد يتمتعون بقدرات خاصة أو خارقة للمعتاد، هي الموهبة، أو العبقرية (الفرق بينهما غير واضح)، وهي في الغالب نتيجة عامل جيني، وقد ينتبهون لها فينتجون إبداعات خاصة، وقد لا ينتبهون إليها فتظل خامدة. وربما يمتلك كل إنسان مواهب معينة لكنها لا تتحقق إلا إذا سمحت له ظروفه الخاصة بإبرازها. من أمثلة ذلك إنتاج طفل صغير لمقطوعات موسيقية (هايدن مثلًا)، أو حل مسائل الرياضيات المعقدة بدون ورقة وقلم أو آلة حاسبة، أو التنبؤ باختراعات مستقبلية (دافنشي كمثال).. إلخ. وتتحقق القدرات الخاصة في اتجاهات متباينة بين فرد وآخر، حسب بقية سماته الشخصية وظروفه الاجتماعية. وتختلف درجة الذكاء حسب عوامل بيئية وتربوية عديدة، مع دور للجينات([32]). ونؤكد ملاحظة هنا: إنَّ هناك فروقًا جينية بين الأبناء والأبوين، بفضل الطفرة، التي تبلغ للفرد الواحد في كل جيل 1.62 طفرة([33])، وهي بوجه عام تكون ضارة، ولها علاقة بمعدل الذكاء والأمراض العقلية وغيرها.

إنَّ التفاعل بين الميول الغريزية الطبيعية، وخصوصًا الدافع الأنوي بمختلف مكوناته وظروف كل فرد، تولد تشكيل الشخصيات المختلفة، فنجد ضمن ذلك عديدًا من الشخصيات، يدرسها علم النفس حسب ما يطلق عليها نظرية العوامل الخمسة([34]). ويلعب الدافع الأنوي دورًا أساسيًّا في خلق المشاكل النفسية الخاصة بالجنس، والطمع والعدوانية والجشع والرغبة في السيطرة والسادية.. إلخ.

 ومن أهم الشخصيات وأكثرها خطورة على تماسك الجماعة: السيكوباتية، وهي تتسم بـ: تجاهل القوانين والأعراف - تجاهل حقوق الآخرين - غياب الضمير وعدم الشعور بالندم - الميل إلى العنف والهياج الشعوري الشديد، شاملًا الغضب الجامح - تقلب الأهواء - العصبية والاستثارة بسهولة - قد يكون مهمشًا اجتماعيًّا وغير متعلم، لكن في الغالب يكون ذا مركز اجتماعي مرموق - عدم القدرة على الاستقرار في عمل محدد أو مكان واحد مدة طويلة - يمكنه أنْ يتعاطف مع أشخاص بعينهم فحسب، ويمكنه الانخراط في مجموعة والارتباط بشخص أو أكثر، لكنه لا يندمج في المجتمع ولا يلتزم بقواعده - الجرائم التي يرتكبها قد تكون عفوية وغير مخططة. والرأي الغالب أنَّ هذه الشخصيات تنشأ بسبب عوامل البيئة مع دور للعامل الجيني أو  إصابات المخ([35]).

 - ومع ذلك لا نستطيع وصف الإنسان كنوع بأنه خيِّر أو شرير؛ فالميول الغريزية هي كذلك وحسب، أما القيم المعيارية فهي من إنتاج الحضارة. أما بخصوص الغرائز، فهي – كما ذهب فرويد – تدفع المرء إلى تحقيق أغراض وعكسها كذلك؛ قد تكون أنانية ثم تصبح غيرية أو العكس، وقد تدفع إلى القسوة أو إلى الرحمة، أو تبادلهما([36]). وقد يجتمع الحب والكره معًا، فالحب يعني العطاء؛ فهو قوة، لكنه ضعف أيضًا؛ إذ يعني الاحتياج للآخر. بل ذهب إريك فروم إلى أنَّ الحب بين الجنسين يتضمن الكراهية، وهي المشاعر الأصلية التي تعود للظهور حين يخبو الحب، في صورة حسد وطمع وعداء ورغبة في التملك([37]). كذلك قد يتحول المرء من السادية إلى حب الآخر، وقد يصير شخص دمثٌ ورقيق وحشًا ضاريًا في ظروف معينة. ومن سمات الطبيعة البشرية أنَّ الإنسان آكل للحوم وللنباتات؛ عنده نزعتان: العدوان والسلام. فأكل الحوم يستلزم القتل، عكس أكل النباتات (النبات لا يملك جهازًا للإحساس بالألم). ومن الظواهر الملفتة – كما أشار فرويد – أنَّ القبائل البدائية كانت تتحارب ويقاتل بعضها البعض، وفي نفس الوقت تمارس طقوسًا تعبر عن الندم على قتل العدو؛ فالقتل يعامل كعمل مشروع وغير مشروع في ذات الوقت. وهذا يدل على أنَّ العدوان لم يكن يهدف إلى القتل، بل إلى تحقيق السيطرة، وانتزاع الثروات والنساء، أو إثبات الوجود والإعلان عن القوة. وقد بينت عديد من الدراسات الأنثروبولوجية ميولًا متعددة لجماعات البشر البدائية، تتراوح بين المسالمة الشديدة إلى العدوانية وحتى حب القتل، ومن الطيبة والوداعة إلى حب الغدر والسادية([38]).

لو كان الإنسان “خيِّرًا” بطبعه لما احتاج لإنتاج الدعوات إلى القيم والمثل العليا، ولو كان “شريرًا” بطبعه لما تطلع إلى الاهتمام بعمل الدعوات إلى “الخير”.

حاول بعض المفكرين وعلماء النفس تبرئة الجنس البشري من الميول الغريزية للعدوان دون أنْ يبرروا لماذا لجأ البشر إلى “الشر”. وكل ما قُدم هو الدوافع التي تقف وراء هذا السلوك، من عدوان دفاعي، إلى عدوان وسيلي (لتحقيق هدف آخر) إلى ندرة الإمكانيات، إلى النظام الاجتماعي القائم.. إلخ. في الواقع الإنسان يسعى إلى تأمين حياته وفي سبيل ذلك يلجأ إلى كل السبل، وهو يملك القدرة على اتباع كل السبل، ولم تنجح الثقافة في توجيهه أيّ وجهة.

 - الوعي الجمعي: أو الضمير الجمعي، هو في الواقع لاوعي جمعي، لأنه مغروس في أعماق النفس؛ في العقل الباطن، وهذا لا علاقة له بمفهوم يونج الغامض([39]). والأمر يتعلق بنفسية الجماهير؛ ليس أيُّ تجمع، بل جماهير متعايشة لمدة طويلة، مرت بتجارب مشتركة، وخاضت حياة مشتركة. ومن المفيد أنْ نشير إلى رأي دوركايم الذي رأى أنَّ الضمير الجمعي يتضمن ما هو أوسع من الحياة النفسية للمجتمع، وهو يضعف مع اتساع تقسيم العمل الاجتماعي([40]). ويحدده بـ “مجموعة من المعتقدات والعواطف المشتركة لدى متوسط أعضاء المجتمع الواحد والتي تشكل نظامًا اجتماعيًّا محددًا له حياته الخاصة به”. ويرى أنَّ هناك ارتباطًا وتأثيرًا متبادلًا بين الضمير الجمعي والأفكار الاجتماعية في الواقع الاجتماعي نتيجة الضغوط التي يمارسها الضمير الجمعي على أعضائه([41])، وأنَّ لكل مجتمع ميولًا معينة، يسميها – نقلًا عن كتيليه – نموذًجًا محددًا، تعيد غالبية الأفراد إنتاجه بنحو أكثر أو أقل دقة، في حين أنَّ الأقلية وحدها تميل إلى الابتعاد عنه بتأثير دواع مقلقة ومشوشة([42]). وهذه الفكرة الأخيرة تساوي بالضبط أنَّ هناك ميلًا إلى التقليد لدى الفرد العادي، وميلًا إلى اتباع الأغلبية؛ تلك التي يسميها إريك فروم بـ وعي القطيع وفرويد بـ وعي العشيرة. وهو ميل مهم للتعلم وانتقال الخبرة، كما أنه آلية للتأقلم والخضوع، ويؤدي للفرد ضمانة لحماية الأغلبية التي يتبعها. ويميل هذا النموذج إلى التغير البطيء نسبيًّا بالمقارنة مع النموذج الفردي.

وهنا لابد أنْ نشير إلى إسهامات جوستاف لوبون في هذا المجال، مع بعض التحفظات. وضمن ما قدمه من إسهامات رصده لظاهرة تحرك الجماهير تحت تأثير اللاوعي، وأنَّ التكتل البشري يمتلك خصائص مختلفة جدًّا عن خصائص كل فرد يشكله، ويتميز بالروح الجماعية، كما أنَّ الكفاءات العقلية للبشر وفرديتهم تذوب في الروح الجماعية، والفرد المنخرط في الجمهور يكتسب شعورًا بالقوة ويفقد الشعور بالمسؤولية. كما تنتقل المشاعر بين الأفراد بما يعرف بـ "العدوى الوجدانية"، ويصاب الجمع بالتنويم المغناطيسي([43]). كما رأى لوبون أنه ليس من الضروري وجود أشخاص عديدين في مكان واحد لتكوين “جماعة نفسية”، بل يمكن أنْ تشمل هذه أشخاصًا متفرقين إذا تأثرت نفوسهم بأثر شديد لحادث جلل، كما قد تصير الأمة كلها جماعة إذا وقع عليها أثر واحد، وقد لا تتوفر صفة الجماعة لمئات اجتمعوا اتفاقًا([44]).

وضمن اللاوعي الجمعي يوجد جزء بشري عام، موروث من الخبرات البشرية الطويلة المشتركة بين مختلف الجماعات البشرية أو معظمها. وقد تتضمن تلك الخبرات الخوف من كائنات بعينها، وحب مناظر معينة. فمن المؤكد أنَّ مختلف البشر قد تعاملوا في الماضي مع حيوانات كانت منتشرة، أو بشر أسبق في سلم التطور، وقد استخدموا طرق حياة متشابهة منذ ما قبل اكتشاف النار والزراعة، وسلكوا مسالك متشابهة تجاه الظواهر الطبيعية التي لم يفهموها، وتجاه الأحلام والأمراض والكوارث الطبيعية.. إلخ. لقد عاشت أصناف عدة من البشر لمدة مليوني سنة، ومنذ ثلاثة عشر ألف سنة فقط أصبح الإنسان العاقل هو الصنف الوحيد على الأرض([45]). ومن المحتمل جدًّا أنَّ أساطير مثل الغول، والبشر العماليق، والأقزام، ليست أساطير في الواقع؛ فقد وجد عماليق وأقزام بالفعل، وبشر متوحشون كذلك، من المؤكد أنهم محفوظون في الذاكرة البشرية([46]). وقد يكون هذا اللاوعي أساسًا لوجود ضمير إنساني عام، ومشاعر التضامن بين بني الإنسان.

وتقدم نظرية الميمات ما قد يفسر هذه الظاهرة. والميمات هي عبارة عن وحدات ثقافية، تشبه فيروسات الكمبيوتر، وهي قابلة للتكاثر والانتشار والتوارث، بالضبط مثل الجينات. وقد ابتكر هذا المفهوم ريتشارد داوكينز([47])، ثم توسع البحث فيه فصار موضوعًا للبحث والتنظير. وهذه الميمات مكتسبة؛ من إنتاج البشر، سواء بشكل متعمد أو تلقائي، وهي لبنات تشكل المشاعر والثقافة العامة للشعوب. فلأيِّ شعب ثقافة هي عبارة عن مخزن الميمات في عقول أبنائه، هذه الميمات تتنافس معًا، ويعمل الانتخاب الطبيعي على إبقاء الأقدر منها على التكيف مع المجتمع ككل. وهي كذلك ضمن أدوات السيطرة الأيديولوجية للسلطة من كل صنف([48]). يحدد اللاوعي الجمعي السلوك العام وردود أفعال غالبية أفراد المجتمع، دون طمس الفروق التفصيلية بين فرد وآخر. ومن الميمات التي تنتقل ميم التسلط؛ فتعرض إنسان للقهر يدفعه إلى قهر الآخرين، كآلية تعويضية لاسترداد الشعور بالقوة، فتصبح نزعة التسلط شاملة المجتمع ككل وليس فقط الطبقة الحاكمة. أما في الظروف المهمة، كالملمات والكوارث أو الانتصارات نجد أنَّ الجماعة تتصرف بنفس الطريقة في وقت واحد، دون أيّ تنسق مسبق، وتزداد قوة اللاوعي، ويحدث أسرع انتشار للميمات داخل المجموع، كما تصبح الميمات المشتركة في المقدمة.

من مكونات اللاوعي الجمعي: بنية اللغة، ومقدسات الدين أو المعتقد عمومًا، والمثل العليا، والقيم السائدة، الأساطير، الأدب الشعبي، الفولكلور... ورغم الفروق بين أعضاء المجتمع، وحتى تناقض المصالح والغايات، إلا أنَّ كل مجتمع ينتج ويحافظ على مشاعر وأفكار وحتى مقدسات جمعية، وتكون ثابتة خلال فترة زمنية طويلة، تمنحه شخصية معينة وقدرًا من الشعور بالانتماء المشترك. ومن مظاهر اللاوعي الجمعي طريقة الشعوب في الاحتجاج، والهستيريا الجماعية في حالات الكوارث والحروب، وهي تنتقل بالإيحاء والتأثير والتقليد، والتعاطف المتبادل. ومنها أيضًا التفاف جماهير غفيرة حول زعيم وتقديسه، التعصب الجماعي لفريق رياضي، العنصرية الجماعية... وفي الانتفاضات الضخمة يتأثر الفرد بقوة الجمع، فيصاب – بالضبط مثلما أشار جوستاف لوبون - بحالة تشبه التنويم المغناطيسي، فيسير في ركاب المجموع دون حسابات، فلا يهاب الموت، كما يفقد الشعور بالمسؤولية؛ فيخترق القانون، ويتحرر من الشعور بالدونية أمام السلطة، ويتجاوز الأنوية؛ فيكون أميل إلى التضحية في سبيل المجموع. في هذه الحالة يكون انتشار عدوى التمرد سهلًا، وتسود روح التعاون، وينتقل مخزون الجماعة من اللاوعي إلى الوعي، مما يفسر ظاهرة حدوث تغيرات جذرية في وعي الجماهير أثناء الأحداث الكبرى وبخاصة الثورات.

ولكل شعب لاوعيه الجمعي الذي يميزه في هذا العصر أو ذاك. وقد يفيد هنا أنْ نذكر هذا الوصف للفرق بين الذهن الشرقي (شرق آسيا) والغربي في عالم اليوم، كالآتي، دون أنْ نقع في التعميم ومع بعض التحفظ واعتبار التغيرات الحديثة: “فالذهن الغربي تحليلي، تمييزي، تفريقي، استقرائي، فرداني، عقلاني، تعميمي، مفهومي، تخطيطي، غير شخصي، قانوني صارم، تنظيمي، مستخدم للقوة، مؤكد للذات، ميال إلى فرض مشيئته على الآخرين، وما إلى ذلك. ومقابل هذه السمات الغربية فإنَّ الشرق يمكن أنْ توصف سماته كالآتي: تركيبي، إجمالي، تكاملي، غير متحامل، استنتاجي، غير منظم، دوغمائي، حدسي (أو بالأخرى عاطفي)، غير استطرادي، ذاتي، وهو روحيًّا فرداني واجتماعيًّا جماعي الذهن”([49]). لكن كل هذا قابل للتغير مع تغير النظم الاجتماعية.

إنَّ قيام الشعب الروسي بإنشاء السوفيتات في ثورتي 1905، 1917، واعتياد أهل باريس في الماضي على إنشاء المتاريس في كل ثوراتهم، واعتياد الفيتناميين في هباتهم التوجه إلى الغابات وصناعة السهام وإطلاقها، لهي مظاهر للاوعي الجمعي. وفي مصر كان قيام الجماهير في طول وعرض البلاد وفي نفس الوقت بإنشاء اللجان الشعبية أثناء انتفاضة 28 يناير 2011 نتاجًا للاوعيها الجمعي.

وهذا لا ينفي وجود لاوعي جمعي إنساني عام يعتبر أساسًا لتكون الضمير الإنساني العام، بخلاف ميول عامة أخرى لدى البشر.

 - الضمير الإنساني العام: استطاع البشر خلال تاريخهم الطويل، ورغم كل “الشرور” إنتاج قواعد أخلاقية عامة، ظهرت بعد ظهور الحضارة، تتمثل في قيم إنسانية عامة تشكل الضمير الإنساني العام، صاغها الناس عبر العصور. وهي ثابتة منذ آلاف السنين، منها: الشجاعة – التعاطف مع الضعفاء – الصدق، وخصوصًا الصدق مع النفس – احترام النفس – الإخلاص... وهذه قابلة للتطور لأنها إنتاج بشري وليست “صحيحة” أو “خاطئة”. وهناك منها ما يعبر عن النزوع البشري للمحافظة على النوع؛ الغيرية مقابل الأنوية، مثل تفضيل الأطفال وقت الكوارث. وهي تناقض القيم السلطوية التي يفرضها كل نظام اجتماعي. هذه القيم تتمثل حاليًا في “حقوق الإنسان”، وهي متغيرة عبر التاريخ، وهذا واضح فيما طرأ عليها من تغير منذ إعلانها مع الثورة الفرنسية. ولا يشكل هذا الضمير الإنساني ضغطًا أو قهرًا للفرد، فقد تكوَّن بنازع الانتماء إلى الجنس البشري، على نقيض الضمير التسلطي (بتعبير إريك فروم) الذي زرعه المجتمع في ذهن الفرد كسلطة ورقيب عليه. فمخالفة الفرد للضمير الإنساني العام قد تكون مقبولة أو مرفوضة اجتماعيًّا حسب القيم الاجتماعية السائدة، لكنها تكون مرفوضة من داخل الفرد العادي في كل الحالات.

 - ظاهرة التسامي: وهي اتجاه الناس إلى أنشطة “راقية” مثل الفن والبحث العلمي، والرياضة. فقد يسعى الإنسان إلى تحقيق ذاته بعد أنْ يشبع حاجاته الفيزيائية والعاطفية وحاجته للحصول على مكانة اجتماعية، مثلما ذهب ماسلو([50])، أو بتوجيه الدوافع والرغبات المكبوتة وغير المقبولة اجتماعيًّا إلى مجالات مقبولة؛ أنشطة بديلة ذات قيمة ثقافية اجتماعية، كما ذهب فرويد([51]). وقد يكون الحافز مُرَكَّبًا من العاملين. وهذا مجرد تحقيق للقوة الكامنة داخله؛ إعلان عن قوته، وسعيًا إلى تحقيق مكانة أعلى. بغض النظر عن التفسير، فالتسامي ظاهرة إنسانية، والواضح أنَّ الناس تستمتع بالأعاب الرياضية وممارسة الفن، وغير ذلك من أشكال التسامي. سواء بممارستهما أو بتلقيهما سمعيًّا أو بالمشاهدة. بل قد يدخل اللعب والفن في العمل أيضًا. ولا يحب الناس العمل المحض، أيْ بدون استمتاع، والذي يحرمهم من ممارسة الفن؛ المهارة الشخصية، أو يفتقد لعنصر المتعة؛ التسلية. وقد اختلف علماء النفس في تفسير هذه الظواهر.

 - مشكلة الموت: هذه المأساة واجهت البشر على مدى تاريخهم. يصاب الإنسان السليم بالشيخوخة مع الوقت؛ فهو يتجه إلى الموت منذ ولادته. وقد ولد اليقين بهذه النهاية شعورًا بالعجز وعبث الحياة، ودفع البشر للبحث عن علة الوجود، وعن الخلود دون جدوى. فقد ابتكروا أفكارًا مثل فكرة البعث، الروح (بمعنى عفريت الميت)، ازدراء الحياة “الدنيا” لصالح الحياة الدائمة في الآخرة، تناسخ الأرواح، تحريم القتل، محاولات إطالة العمر بتطوير الطب، وحديثًا ابتكار فكرة تجميد الجسد، والبحث عن جينات الشيخوخة. وقد يكون ضمن آليات تحقيق الخلود تحقيق أعمال "خالدة" والإنجاب والاهتمام بتربية الأبناء، والعمل من أجل استمرار الجماعة والنوع. فغريزة الحياة المتبدية في هذه الأفعال تسعي للتغلب على الموت والفناء.

غريزة الموت: مع السن والمرض يتلاشى أمل الفرد في الحياة، فغالبًا يتمنى الموت، ويحدث الشيء نفسه إذا فقد الأمل في الحياة لأيِّ سبب آخر، أو إذا أصبحت الحياة أقسى مما يمكنه تحمله. وبعض الناس يلجأ للانتحار، بدوافع متعددة: أزمة اجتماعية – عذاب الضمير – أزمة صحية - أزمة نفسية غير معروفة السبب. وليس كل من يواجه نفس الظروف ينتحر، بل تتباين ردود الفعل، ويبدو أنَّ الميول المشتركة للجماعة (أيْ تخص كل مجتمع) تلعب دورًا مهمًّا، يعزز ذلك ثبات المعدل الاجتماعي للانتحار، كما ذهب دوركايم([52]). وهذا المعدل قليل جدًّا: 300 - 400 على الأكثر لكل مليون([53])، مما يعني أنَّ غريزة الحياة أقوى بكثير.

 تتخذ غريزة الموت حين يتلاشى الأمل في استمرار الحياة صورة النزعة التدميرية، سواء للفرد أو للجماعة، وهذا يصبح واضحًا في لحظات الانفجارات الشعبية المدمرة، فالجماهير تصاب بحالة جنون بسبب فقدان الأمل، فيصبح تدمير العالم هو خيارها المفضل. فعلى قول فروم النزعة التدميرية هي نتيجة الحياة غير المعاشة([54]).

 - الفروق النفسية بين الذكور والإناث: الفروق البيولوجية واضحة ومعروفة: وزن الجسم عمومًا (12% أكثر للذكور)، وحجم العظام وقوة العضلات، فالمرأة أضعف بدنيًّا من الرجل، رغم أنها قد تكون أقوى فسيولوجيًّا. كما أنَّ المرأة هي التي تحيض وتحمل وتنجب وترضع وتربي الأطفال في بداية حياتهم، وهذا يستهلك منها الكثير بدنيًّا. كل هذا يؤدي إلى اختلاف الدور الاجتماعي والميول. فعلاقتها بالأطفال مختلفة عن علاقة الذكور بهم، بغض النظر عن نظام التزاوج القائم. كما أنَّ مهمة القتال والصيد والصناعة اليدوية ألقيت منذ بداية التاريخ على عاتق الرجل أساسًا، وأضيفت الزراعة بعد أنْ اتسع نطاقها. هذا الفرق في القوة وفي المهمات الاجتماعية يخلق مشاعر مختلفة؛ شعورًا بالقوة من جانب الرجل، وشعورًا بالضعف والغيرة والحسد من جانب المرأة، تعمل على تعويضه بآليات متعددة. وبوجه عام الذكور في البشر أكثر عدوانية للحصول على موارد الآخرين من الإناث، ربما لعوامل جينية. يضاف أنَّ هرمون التستوستيرون أكثر في الذكور من الإناث ابتداءً من سن البلوغ، وهو يؤثر في السلوك، فيكون الذكر أكثر عدوانية وعنفًا من المرأة، وتكون القدرات والجاذبية الجنسية أكبر لدى الذكر الذي ينتج كمية أكبر من هذا الهرمون. وحسب علم النفس التطوري يبدأ الفارق في استخدام القوة البدنية بينهما في سن الثالثة([55])، وفي هذه السن يتساوى معدل التستوستيرون في الاثنين، مما يشير للعامل الجيني. وقد وجد أنه من بين عشرة ملايين نوع من الحيوانات يوجد اثنان فقط يقومان بشن هجمات منسقة مميتة على جماعات من نفس النوع، بمبادرة من الذكور، هما الإنسان والشمبانزي([56]). ولم يتم رصد أيّ كائن لديه ظاهرة الاستمتاع بتعذيب الآخر وقتله سوى الإنسان.

 - الوجود ورطة: فالإنسان ظهر في العالم دون إرادته، ولم يختر هذا الكون الذي يعيش فيه. وهو يدرك أنه متميز على الطبيعة التي هو جزء منها. وهو مضطر أنْ يعيش تحت ضغط غريزة الحياة، ومضطر إلى مواجهة الطبيعة والتي يعتبرها ملكًا له، والسعي إلى السيطرة عليها، لأنها تضغط عليه، ولا يستطيع أنْ يتخلص من قوانينها، فيتحايل عليها لتخدمه. وهو عاجز عن اتخاذ قرار بالانتحار لأنَّ غريزة الحياة أقوى من غريزة الموت. بل يعرف أيضًا أنه سيموت، فيلجأ إلى العمل على إطالة عمره، وتربية أولاده، والمحافظة على استمرار النوع البشري. إنه في صراع دائم مع أحوال معيشته، دون أنْ يرى أيّ مبرر لوجوده ولا لوجود العالم. إنه يشعر بكل هذا، ولذلك يعيش في ورطة. كما تبدو الحياة مجرد عبث بلا قيمة، وهذا وذاك ضمن دوافعه لابتكار الأيديولوجيا، وخاصة الدين، في محاولة لجعل العالم معقولًا وذو قيمة. إنه هو الذي يصنع معنى لعالمه، بشكل مفتعل حتى يستطيع أنْ يتعايش مع ورطته.

ليس للعالم في حد ذاته أيّ معنى، وما اجتهاد الإنسان لخلق معنى لوجوده ولحياته سوى سعي للتغلب على شعوره بالخوف والضعف في هذا الكون الذي وجد نفسه ملقى فيه بلا معين. إنَّ رغبته في التغلب على غريزة الموت تدفعه إلى خلق معنى لحياته: هدف سام، أو رسالة ما، أو الخضوع لقوة عليا يختلقها بنفسه ويمنحها الصفات السامية والعظيمة.. إلخ.

 

************************

 

 

 

‘ليس للحياة من هدف أو غاية أو معنى، بل نحن من يخلق الهدف والغاية والمعنى

 



([1]) ميشيل فوكو مثلًا، في: مناظرة بين نعوم تشومسكي وميشيل فوكو حول الطبيعة الإنسانية، عام 1971، ص 23.

([2]) ممن ذهب هذا المذهب جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني.

([3]) مثل: إريك فروم، المجتمع السوي.

([4]) ألفريد أدلر، الطبيعة البشرية، ص 35.

([5]) فـ “الجوهر الإنساني ليس تجريدًا ملازمًا للفرد المنعزل. فهو في حقيقته مجموع العلاقات الاجتماعية كافة” (Theses On Feuerbach, 6). وهي “مجمل احتياجاتي ودوافعي التي تشكل قوة ضاغطة عليَّ” (The Grundrisse, NOTEBOOK II The Chapter on Capital). “فالإنسان.. كائن طبيعي نشط. وتوجد هذه القوى فيه كاتجاهات وقدرات – كدوافع... فإنَّ موضوعات دوافعه توجد خارجه، كموضوعات مستقلة عنه، غير أنَّ هذه الموضوعات هي موضوعات لاحتياجاته – موضوعات أساسية لا غنى عنها لتجلِّي قواه الجوهرية وتأكدها”. (Economic & Philosophic Manuscripts of 1844).

([6]) استعرضها سكوت ليلينفيلد وآخرون في كتاب “أشهر خمسين خرافة في علم النفس”.

([7]) وليم لامبرت – والاس لامبرت، علم النفس الاجتماعي، ص ص 21 – 22.

([8]) - Anti - Dühring, V., State, Family, Education

The Origin of The Family, Private Property, And The State

 ([9]) الميتافيزيقا بالمعنى اللغوي: ما وراء الطبيعة. والمقصود فكرة أو جوهر أو قوة غير طبيعية تقف وراء الظواهر، أوتعللها. من ذلك الإله، الغاية من الوجود، الحكمة التي توجد خلف الأشياء والظواهر، تفسير الظواهر بوجود هدف ما من وجودها وتغيراتها.

([10]) Handbook of Personality, pp. 34 - 35

([11]) ألفريد أدلر، المرجع السابق، ص 30.

([12]) الأنا والهو، الفصل الأول.

([13])The Materialist Conception of History, part 1, section 5, chapter 4

([14]) على سبيل المثال توجد ظاهرة إدمان السُّكَّر، والنشويات عمومًا، وهي واسعة الانتشار في العالم كله، وتعُد حالة مرضية، وتُعتبر من أهم عوامل انتشار السمنة ومرض السكر في العصر الحديث. والسبب في هذا الإدمان غير مفهوم جيدًا، لكنه في الغالب يتشابه مع إدمان المخدرات.

([15]) لا يوجد اتفاق عام على مفهوم المنطق لكن المعنى الغالب أنه العلم الذي يدرس القواعد والقوانين العامة للتفكير الصحيح. وهذا هو المعنى المستخدم به في هذا الكتاب.

([16]) فروم، الخوف من الحرية، ص 34. يعتبر فرويد أنَّ الكبت الجنسي هو الدافع للتقدم، وهو رأيٌ يبدو مغاليًا جدًّا؛ فالأوقع أنَّ الكبت الجنسي، أو تنظيم الجنس، هو نتاج الحضارة.

([17]) الطوطم والحرام.

([18]) في كتابه: The Elementary Forms of the Religious Life

([19])Handbook of Personality, p. 41

([20]) حيل الدفاع النفسي: هي آليات لا شعورية من جانب الفرد، بمثابة أسلحة دفاع نفسي تؤدي إلى طمس أو مسح الحقيقة، حتى يتخلص من حالة التوتر والقلق الناتجة عن الإحباطات والصراعات التي لم تحل وتهدد أمنه النفسي. وتهدف إلى إحداث التوفق النفسي لدى الفرد، ووقاية الذات والدفاع عنها، والاحتفاظ بالثقة في النفس، واحترام الذات.

وهي حيل عادية تحدث لدى كل الناس، الأسوياء وغير الأسوياء، ولكن الفرق بينهما استخدامها بصورة معتدلة عند الطرف الأول وبصورة مفرطة عند الثاني. فالإسراف في استخدام أسلوب الاستدماج Introjection مثلًا يؤدي إلى الاكتئاب Depression، وكذلك الإسراف في أسلوب الإسقاط Projection يؤدي إلى شك مرضي Paranoia، والإسراف في آلية الإبدال Displacement قد يؤدي إلى خوف مرضي Phobia، وهكذا.

وتختلف تلك الحيل اللاشعورية عن الضبط الشعوري للسلوك الذي يتم بآليات التكيف وهي آليات واعية تقوم بها ذات مدركة لذاتها. وقد يستخدم الفرد في مواجهة أحد الدوافع أو المواقف أكثر من حيلة نفسية، وقد يلجأ إلى حيلة واحدة لإشباع أكثر من دافع أو مواجهة أكثر من موقف في نفس الوقت.

وفيما يلي شرح موجز لبعض هذه الحيل:

1 - الإعلاء (التسامي): Sublimation

التسامي والإعلاء هو حيلة دفاعية يلجأ إليها الفرد لخفض التوتر والقلق. وهي من أهم الحيل وأكثرها انتشارًا، حيث يلجأ إليها الإنسان الذي يتمتع بالصحة النفسية العالية، للتعبير عن الدوافع غير المرغوبة من قبل المجتمع بصورة تجعلها أمرًا محببًا ومرغوبًا يحوز على أثرها على التقدير والاحترام. فبواسطتها يستطيع الإنسان أنْ يرتفع بالسلوك العدواني المكبوت إلى فعل آخر مقبول اجتماعيًّا وشخصيًّا. ولا شك أنها وسيلة مقبولة وناجحة جدًّا؛ فمثلًا يمكن للفرد أنْ يستخدم هذه الآلية الدفاعية للتعبير عن غضبه وتفريغ شعوره العدواني من خلال الألعاب الرياضية، أو يُعبّر عن دوافعه وأفكاره غير المقبولة اجتماعيًّا من خلال طرق فنية إبداعية كالرسم أو التمثيل أو كتابة الشعر. مثال: إشباع الدافع الجنسي بكتابة الشعر الغرامي.

2 - التعويض: Compensation: حيلة يلجأ إليها الفرد حين يشعر بالنقص في جانب ما، فيسعى إلى تقوية جانب آخر لتعويض هذا النقص، بتحقيق النجاح في مجال ما كتعويض لإخفاقه أو عجزه (الحقيقي أو المتخيل) في ميدان آخر. والغرض هو تحقيق القوة والمكانة. مثلما تحول طفل يعاني من اضطراب الكلام فيما بعد إلى خطيب مفوه، أو تعويض شخص لشعوره بالنقص بسبب ضعفه الجسماني أو مرضه المزمن بتحقيق تفوق علمي..

3 - الإسقاط: Projection: أنْ ينسب الفرد ما في نفسه من عيوب وصفات غير مرغوبة التي تسبب له الألم وتثير لديه مشاعر الذنب إلى غيره من الناس، ويلصقها بهم، وبصورة مكبرة. وكذلك الأفعال التي يرى أنها غير مرغوبة، فيتهم غيره بها. مثال ذلك: وصف الناس واتهامهم باللامبالاة أو الأنانية أو الحسد، أو الغش أو الكذب والبخل أو سوء الخلق.. إلخ. فيتخلص من عيوبه عن طريق إسقاطها على الآخرين ورؤيتها فيهم، دفاعًا عن نفسه ولحمايتها من القلق.

ومن الأمثلة (ذكره فرويد) الزوج الغيور الذي يصف زوجته بعدم الإخلاص، فهو في الحقيقة يُسقط صفة في نفسه عليها، لأنه لم يستطع مواجهة تلك الصفة ومعالجتها في نفسه. وأمثلة أخرى: الشخص الكذاب الذي يتهم الآخرين بالكذب، الشخص الذي يُضمر العداوة للآخرين فيُسيئ الظن فيهم، والمرأة التي تحب رجلًا فتتهمه بمغازلتها، وهكذا.

4 – التوحد (التقمص) Identification: حيث يقوم الشخص بالتقمص اللاشعوري لأفكار وقيم ومشاعر شخص آخر لتحقيق رغبات لايستطيع تحقيقها بنفسه، وللشعور بالرضا الذاتي. فيجمع ويستعير وينسب إلى نفسه ما في غيره من صفات مرغوبة، ويشكل نفسه على غرار شخص آخر يتحلى بهذه الصفات، أيْ يتوحد بهذه الشخصية وبقيمها وسلوكها. فالطفل الذي يخشى أباه ولا يتمكن من مواجهته، قد يسعى إلى تقمص دوره خوفًا منه، والطالب قد يتوحد مع المعلم. ومن الأمثلة المشهورة لعملية التقمص، تقمص المُشاهدين لدور أبطال الأعمال السينمائية، فيسعدون عندما ينجح البطل، ويحزنون عندما يتألم البطل. أيضًا من أمثلة التقمص، ما يُعرف بالتماهي مع المعتدي أو Identification With The Aggressor وهنا يكون التماهي بدافع الخوف. فالفتاة التي تخاف أمها ولا تتمكن من مواجهتها، تضطر إلى التوحد معها بشكل لاشعوري اتقاءً لأذاها. ويختلف التقمص عن المحاكاة أو التقليد، حيث يكون الأول عملية لاشعورية في حين أنَّ الثاني عملية واعية. والتقمص في شكله البسيط يكون ذا أثر هام في نمو الذات وفي تكوين الشخصية. والكثير من مظاهر التقمص وتعلق الفرد بغيره ما هي إلا حالات تدل على بعض نزعات العطف الاجتماعي والإحساس بمشاكل الآخرين التي ترد إلى توحد الفرد بغيره ومقدرته على أنْ يضع نفسه مكان الآخرين في ظروفهم.

ويكثر استخدام هذه الحيلة الدفاعية لدى الشخصيات الفصامية أو البارانوية أو الشخصية المهوسة. وهي أنماط من الشخصيات ليست مرضية وإنما هذا يكون نمط سلوكها وتكوينها. والشعور بالنقص قد يكون دافعًا قويًّا للتقمص الذي يبدو واضحًا بشكل كبير لدى الذهانيين، وخاصة المصابين بجنون العظمة، فيظن أحدهم مثلًا أنه قائد عظيم، فيرتدي الملابس العسكرية ويمشي كالعسكريين ويتصرف مثلهم.

أما التقمص الإسقاطي Projective Identification فيمثل خطوة أبعد من الإسقاط المجرد، ففي التقمص الإسقاطي لا يكتفي الفرد بمجرد إسقاط الدافع على غيره، وإنما يبحث بشكل لاواعٍ عن الدافع في غيره محاولًا أنْ يجعله تجسيدًا لذلك الدافع، بغرض التهرب من رؤيته في نفسه هو. فالفرد الذي يمارس التقمص الإسقاطي عندما يمر بضغوط نفسية مثلًا، فإنه لا يسعى لمجرد إسقاط هذه الضغوط على غيره بإتهامه بها، وإنما يحاول أنْ يجعل الآخر متقمصًا لذلك الشعور، فيتصرف كما لو أنَّ غيره كذلك، وقد يسأله متعجبًا: لماذا أراك حزينًا؟

5 - الاحتواء (الاستدماج) Introjection : هو استدخال وامتصاص الفرد في بناء ذاته شخصًا أو موضوعًا أو مشاعر أو عواطف ومعايير وقيم الآخرين، ويستجيب وكأن ذلك عنصر في نفسه. وهو على عكس الإسقاط، فبدلًا من أنْ يُسقط الفرد ما بداخله على من حوله بالخارج، فإنه هنا يأخذ أفكارًا أو موضوعات من العالم المحيط به ويدمجها داخل ذاته، بحيث تصبح جزءًا من ذاته. مثال: امتصاص الفرد لمعايير السلوك الاجتماعي وإدماجها في بناء الشخصية، والتعبير عنها على أنها خصائص سلوكه الشخصي.

6 – النكوص: Regression: هو عودة إلى المراحل السابقة من العمر من خلال التصرفات والسلوكيات التي تميز تلك المرحلة، وذلك لتحقيق نفس النتائج التي كان يحققها الفرد خلالها، مثل تحقيق قدر من الأمن والتوافق حين تعترض الفرد مشكلة أو موقف محبط. فهذه الظاهرة ذات علاقة قوية بالحاجة إلى الأمان. وأبرز الأمثلة على ذلك لجوء البعض إلى البكاء للحصول على شيء أو لجذب الانتباه، أو عند الشعور بأنَّ مشاعرالمحبة لهم تواجه تهديدًا، أو للتخلص من موقف يسبب لهم القلق، أو للتخفيف عما يعانيه من نكسات نفسية. فيلجأ لتذكر ماضيه المليء بالأمان. وأكثر ما نجد هذا النوع من الحيل الدفاعية عند الأطفال الذين قد يرجعون إلى الرضاعة رغم انهم فطموا منها منذ وقت طويل، أو التبول اللارداي رغم قدرتهم على التحكم في ذلك.. إلخ. وعادة ما يظهر هذا السلوك عند قدوم مولود جديد على الأسرة. والبالغون أيضًا قد يلجأون إلى هذه الحيلة بعد خروجهم من تجارب قاسية أو قوية، مثلًا بأنْ يعود إلى رضاعة إبهامه، أو فتاة تعود إلى اللعب بالدمى، أو المرأة التي تصل للعمل متأخرة وعندما يراها المسئول تجهش بالبكاء لاشعوريًّا، أو شيخ يسلك سلوك مراهق، وامرأة راشدة تسلك سلوك فتاة مراهقة. وقد يثبت الشخص على المرحلة التي انتكص إليها كأثر سلبي ويفقد القدرة على تحقيق التوافق السوي. وعادة ما يحدث النكوص لدى المرضى الذهانيين. وقد أثبتت الدراسات النفسية بأنَّ النكوص استجابة شائعة للإحباط.

7 - التثبيت Fixation: هو توقف نمو الشخصية عند مرحلة من النمو لا تتخطاها، عندما تكون مرحلة النمو التالية بمثابة تهديد خطير. ويعتبر التثبيت رفضًا لعملية النمو. ومن مظاهره التثبيت الانفعالي.

مثال: السلوك الانفعالي الطفلي الذي يصدر عن شاب، أو السلوك الاجتماعي المراهق الذي يصدر عن راشد.

8 - التفكيك Dissociation: هو فك الرابطة بين الانفعال والأفعال، وبين أنماط السلوك المتناقضة، وعزل كل منها في واد، بعيدًا عن الآخر. من الأمثلة الشائعة: شخص يصلي ويسب الدين.

 9 - السلبية Negativism : هي مقاومة الضغوط، حيث يفعل الشخص غير ما يطلب منه أو يتجنب فعله.

10 - العزل Isolation: وهي آلية تتمثل في عزل المشاعر عن الحدث بهدف تجنب الانفعالات العاطفية غير السارة، ولأجل حماية النفس من القلق والتوتر. فمثلًا الطبيب في غرفة العمليات يلجأ إلى استخدام هذه الحيلة الدفاعية حتى يُتم عمله بنجاح.

11 - السلبية العدوانية behaviors Passive Aggressive: وتتمثل في التعبير عن الغضب والعداء تجاه الآخرين بطرق سلبية أو غير مباشرة، من خلال الإهانة المقنعة بالمزاح مثلًا، أو تعطيل الأعمال المهمة بالنسبة للآخرين، المعاملة الصامتة، وهكذا.

12 - العدوان Aggression : هو هجوم يوجه نحو شخص أو شيء، وهو ينتج عن الشعور بالكراهية والغضب من الآخرين. ويأخذ العدوان أشكالًا متعددة قد تكون خفية في حالة توجهها نحو سلطة أو شخص قوي. مثال ذلك: الكيد أو التشهير أو النكت اللاذعة أو الهجاء الموجه إلى الأعداء.

13 - الانسحاب Withdrawal : هو الهروب والابتعاد عن عوائق إشباع الدوافع والحاجات وعن مصادر التوتر والقلق، وعن مواقف الإحباط والصراع الشديد. وهو سلوك سلبي كما هو واضح. مثال: الانسحاب الانفعالي والعزلة والوحدة لتجنب الإحباط في مجال التفاعل الاجتماعي.

14 - التخيل Fantasy: وهو اللجوء إلى عالم الخيال لتحقيق ما عز تحقيقه من نجاح في الواقع، مثل الاستغراق المفرط في أحلام اليقظة.

15 - التحويل Conversion: هو تحويل الصراعات الانفعالية أو الدوافع المكبوتة وتعبيرها عن نفسها خارجيًّا من خلال العمليات الحسية والحركية أو العمليات الفسيولوجية. ومن الأمثلة: صدمة الانفجار التي تصيب الجنود في ميدان الحرب، وتؤدي إلى العمى الهستيري، والخرس المؤقت الذي يحدث نتيجة صدمة عاطفية حادة.

16 - التبرير Rationalization: هو تفسير السلوك (الفاشل أو غير المقبول) وتعليله بأسباب منطقية معقولة وأعذار مقبولة شخصيًّا واجتماعيًّا. وهو يختلف عن الكذب في أنَّ التبرير لا شعوري يخدع به الفرد نفسه بينما الكذب شعوري يخدع به الآخرين. وغالبًا ما يُستخدم التبرير من أجل الحفاظ على تقدير وقيمة الذات. وتُسمى هذه الآلية بـ العنب الحامض؛ فبعد أنْ فشل الذئب في الوصول إلى العنب، أقنع نفسه أنَّ العنب حامض. مثال: تبرير عدم الزواج من فتاة جميلة مرغوبة رفضت إتمام الزواج بأنها سيئة السلوك.

17 - الإنكار Denial: هو الإنكار اللاشعوري للواقع المؤلم أو المسبب للقلق أو الذي يشكل تهديدًا للذات مباشرة، وذلك بإنكار وجوده أو مواجهته. فمثلًا بعض الأفراد يرفضون تقبل وفاة شخص يحبونه، ويتصرفون كما لو أنه مازال حيًّا.

18 - الإبطال Undoing: وهو آلية دفاعية تعمل على إبطال أو محو فكر أو فعل غير سليم مهدد للفرد، عن طريق التراجع عنه بفعل آخر مضاد له، للتخلص من الشعور بالذنب أو القلق المرافق له. إنه يعبر عن التوبة. فمثلًا الأم التي تعاقب طفلها وتشعر بالذنب نتيجة لذلك، تحاول أنْ تتراجع أو تبطل ذلك العقاب عن طريق إغراقه بالعواطف الإيجابية. والشخص الذي كان ينوي أنْ يكون عنيفًا تجاه شخص ما، بعد إعادة التفكير يعامله بطلف أكثر من اللازم.

19 – الكبت Repression: هذه هي العملية الدفاعية الأساسية اللاشعورية الأولى. وهو استبعاد موضوع ما مثير للقلق، كالدوافع والانفعالات والأفكار الشعورية المؤلمة والمخيفة والمخزية، وطردها من حيز الوعي إلى حيز اللاوعي، كوسيلة يتقي بها المرء إدراك نوازعه ودوافعه التي يفضل إنكارها. وبذلك ينخفض شعوره بالقلق. إلا أنَّ عملية الكبت هذه لا تنفي وجود الدافع الذي وصل إلى اللاوعي، بمعنى أنَّ الفكرة لم تمت وإنما تم الاحتفاظ بها وبقوتها، ومن ثم تبدأ في التعبير عن نفسها، فتعود إلى الظهور بشكل مقنّع، في صورة الأحلام أو أخطاء وزلات اللسان أو الشعور بالضيق والإحساس بالذنب، أو مرض نفسي. ويستمر الصراع بين الدوافع المكبوتة والذات حتى يبلغ درجة من الوضوح، مما يضطر الذات إلى استخدام أساليب دفاعية أخرى تساعد الدوافع على التعبير عن نفسها بصورة مقنعة تشوه في هذا الواقع وذلك لإبعاد الذات عن الإحساس بالهزيمة والضعف.

والكبت يختلف عن القمع Suppression والذي يتم بشكل واعٍ ومقصود، بحيث يتم تأجيل إشباع الرغبات والدوافع واستبعادها بشكل مؤقت إلى أنْ تتهيأ الظروف المناسبة. مثال: الغيرة المكبوتة، والحقد المكبوت، الرغبات الجنسية المحرمة.

20 - النسيان Forgetting : هو إخفاء الخبرات والمواقف غير المقبولة أو المهددة عن الوعي والإدراك، مثل نسيان موعد غير مرغوب فيه، ونسيان اسم شخص مكروه.

21 - الإزاحة أو الإبدال Displacement: هي إعادة توجيه الانفعالات المحبوسة، حيث يقوم فيها الفرد بتحويل دافع موجه نحو موضوع أساسي فيه تهديد له إلى موضوع بديل أقل تهديدًا، ومن أمثلة ذلك إبدال السلوك العدواني الموجه إلى أحد الوالدين أو أحد الإخوة إلى لعبة وتحطيمها. ومثل أنْ يقوم شخص بتحويل مشاعر غضبه تجاه مديره، وهو أمر قد يسبب له الأذى، إلى أحد أفراد أسرته الأقل تهديدًا له، ومثل إزاحة حب امرأة إلى ابنها، وإزاحة كره الرئيس إلى المرؤوس. ويعتبر الإبدال في التحليل النفسي وسيلة دفاع رئيسية في حالات الخوف المرضي Phobia.

22 - التعميم Generalization: هو تعميم تجربة أو خبرة معينة على سائر التجارب والخبرات المشابهة أو القريبة منها. ومثال ذلك ما جاء في الأمثال: من يتلسع من الشوربة ينفخ في الزبادي.

23 - التكوين العكسي Reaction Formation: هو التعبير عن الدوافع والرغبات المستنكرة سلوكيًّا في شكل مضاد مقبول. فيبدي الشخص أحاسيس مغايرة لمشاعره الحقيقية. ومن الشائع أنْ يعرف المرء شخصًا ويعرف أنه يكرهه، لكنه يتصرف تجاهه دائمًا كأنه أحد أفضل أصدقائه؛ فهذا هو التكوين العكسي. مع هذه الحيلة الدفاعية يخفي الشخص الدافع الحقيقي عن النفس، إما بالقمع أو بكبته، ويساعد هذا الميكانيزم الفرد كثيرًا في تجنب القلق والابتعاد عن مصادر الضغط، فضلًا عن الابتعاد عن المواجهة الفعلية. فإظهار سلوك المودة والمحبة المبالغ فيهما، قد يكون تكوينًا عكسيًّا لحالة العدوان الكامن الذي يمتلكه الفرد في داخله، وعادة يتشكل هذا المفهوم ضمن سمات الشخصية ومكوناتها. وقد يظهر الشخص كرهًا لمن يحبه إذا وجد أنَّ إظهار الحب يجلب له المشاكل مع الوسط المحيط، أو الإفراط في إعلان الحب كتكوين عكسي للكراهية الشديدة. ومن الأمثلة المهمة إظهار التدين كتكوين عكسي للإلحاد.

24 - الرمزية Symbolization: هي أسلوب من التصوير غير المباشر والمجازي لفكرة أو صراع أو رغبة لا واعية؛ فهي عملية لا شعورية تشير إلى أنَّ ما تم كبته يظل خارج إطار التسامي. ومن أمثلة ذلك اهتمام شاب بملابس النساء رمزًا لاهتمامه بالجنس الآخر، الزار كطقس رمزي يعبر عن رغبات مكبوتة وأزمات، ورموز الأحلام..

25 - التقدير المثالي Idealization: هو المبالغة في التقدير ورفع الشأن بما يعمي الفرد عن حقيقة الشيء ويحرمه من النظرة الموضوعية. من ذلك المبالغة في تقدير المحبوب ووصفه بكل المحاسن، وتنزيهه عن كل المساوئ.

26 - التنفيس Acting - Out: وهذه الآلية تتمثل في التعبير عن المشاعر بشكل مبالغ فيه، وكأن الفرد يعجز عن التعبير عن انفعاله إلا بهذه الطريقة المبالغ فيها. وتظهر هذه الآلية - مثلًا - عند تكسير أو إلقاء الأدوات في حالات الغضب الشديد.

27 - الاستذهان Intellectualization: وهو عبارة عن عزل المشاعر عن الحدث واستبدالها بالتفكير عن طريق التركيز على الأجزاء العقلانية. فهو ليس عزلًا للعاطفة فحسب (كما في آلية العزل Isolation) وإنما يستبدلها بالتفكير المنطقي. فيستخدم التفكير لتجنب العاطفة، فيشرع في تحليل أسباب الحادث مثلًا وكيف حدث، بهدف منع الصراعات والانفعالات النفسية الناتجة منه. وهذه الآلية يمكن أنْ تظهر عندما يتم تشخيص إصابة فرد ما بمرض خطير، فيبدأ في البحث عن طبيعة هذا المرض وأسبابه والإحصائيات المسجلة عنه.. إلخ. فهو بذلك يعزل نفسه عن العاطفة تجنبًا للحزن والاكتئاب، ويستبدلها بنظرة موضوعية وعقلانية.

                                                                            (مراجع متعددة)

([21])Economic & Philosophic Manuscripts of 1844

([22]) هذا رأيُ فرويد، نقلًا عن أنطوني ستور، العبقرية والتحليل النفسي، ضمن كتاب “العبقرية”، الفصل الثاني عشر.

([23]) Handbook of Personality, pp. 44 - 45

([24])On Narcissism, An Introduction, p. 74

([25]) تناول هذا المقال اللطيف هذه المسألة بطريقة تعليمية – تربوية: Mike Reid, The Myth of Primitive Communism

([26]) الحب والحرب والحضارة والموت، ص 22.

([27]) جوهر الإنسان، ص 102 وما بعدها.

([28])Jared Diamond, why is sex fun

([29]) عبد الكريم الصالح، تحليل الشخصيات وفن التعامل معها.

([30]) وليم لامبرت – والاس لامبرت، علم النفس الاجتماعي، ص 41.

([31]) تم تناول هذه الظاهرة بواسطة وليم لامبرت – والاس لامبرت، المرجع السابق، ص ص 62 - 67.

([32]) Robert Plomin, Is Intelligence Hereditary?

([33]) Handbook of Personality, p. 50

([34]) نجدها تفصيلًا في: Handbook of Personality, chapter 5

([35])Handbook of Personality, pp. 52 - 53

([36]) الحب والحرب والحضارة والموت، ص 19.

([37]) فن الحب.

([38]) استعرض بعضها إريك فروم، تشريح التدميرية البشرية، الفصل الثامن. وهو قد بذل جهدًا كبيرًا للبرهنة على أنَّ ظاهرة التدميرية والقتل ليست فطرية في الإنسان. وكان عليه أنْ يجيب على هذا السؤال: إذا كان الأمر كذلك فلماذا استجابت عواطف الإنسان للمؤثرات فمارس التدمير والعدوان؟!

([39]) وهو يرى أنَّ اللاوعي الجمعي هو عبارة عن نماذج بدائية أو صور جمعية تتضمن الصور الأزلية البِدئية، التي انوجدت ما قبل تاريخ النوع البشري، وهي لم تكن أصلًا جزءًا من الوعي، ويمكن الكشف عنها من تحليل الأحلام. وهي عبارة عن نماذج غريزية، تشكل جزءًا من الذهن، موروثة بالولادة، من الإنسان البدائي وأسلافنا الحيوانات في سياق التطور، وليست موروثة جينيًّا بل نفسيًّا. وقد تناول هذا الأمر في كتابه The Archetypes and The Collective Unconscious، وفي “البنية النفسية عند الإنسان”، الفصلين الرابع والخامس، وفي كتاب “جدلية الأنا واللاوعي”، الباب الأول، الفصل الأول، وفي: دور اللاشعور ومعنى علم النفس للإنسان الحديث، الفصل الأول.

 ([40])The Division Of Labor In Society, p. 80

([41]) قلامين صباح، محاضرات في فلسفة الأخلاق، ص 25.

([42]) الانتحار، ص ص 385 – 386.

([43]) كافة الآراء المنسوبة إليه هنا من كتابه المهم: سيكولوجية الجماهير.

([44]) روح الاجتماع، ص 25.

([45])Yuval Noah Harari, Sapiens, A Brief History of Humankind, p. 9  

([46]) Ibid., pp. 14 - 15

([47])The selfish gene, chapter 11

Richard Brodie, Virus of the mind, chapter 8 ([48])

([49]) د. ت. سوزوكي، مقال: الشرق والغرب، ضمن كتاب: بوذية الزن والتحليل النفسي.

([50])A. H. Maslow (1943), A Theory of Human Motivation

([51]) الحب والحرب والحضارة والموت، ص ص 49 – 57.

([52]) الانتحار، ص 384.

([53]) نفس المرجع، ص 388.

([54]) الخوف من الحرية، ص 148. وقد وصفها أيضًا بأنها بديل الإبداعية في كتاب: المجتمع السوي، ص 144.

([55]) دافيد باس، علم النفس التطوري، ص 579.

([56]) نفس المرجع، ص 570.