هذه دعوة للعمل على مناهضة قوى الظلام

واستمرار ركب الحضارة الحديثة

This Is A Call To Work Against The Forces Of Darkness And For Promotion Of Modern Civilization


أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 24 مارس 2019

مقدمة حول الميمات الثقافية للمصريين وأصولها




مارس 2019
(1)

لا نزعم هنا تقديم الحقيقة، بل وجهة نظر أو تعليل اجتهادي قد يساهم في كشف الأضواء عما نشاهده من ثقافة رجعية معادية للتطور. وكل هذا يمكن مقاومته بخلق وزراعة ونشر ميمات مضادة تحفز روح التمرد، واستقلال الشخصية، والاستنارة، وروح النقد وكسر التابوهات..هذه رسالة للمثقفين الذين يهمهم أمر هذا الشعب

 (الميمات هي وحدات ثقافية تشبه فيروسات الكمبيوتر، تنتقل بين الناس سواء في نفس الفترة الزمنية أو تتوارث بين الأجيال؛ بعضها ينشأ تلقائيًا وبعضها تخلقه السلطة عن عمد، وبعضها يصنعه وينشره أصحاب المصالح من شركات ومؤسسات إعلامية ومروجي البضائع، وقد يستمر توارثها حتى إذا اختفت عوامل ظهورها..)

-                 بدأ عصر الحضارة في مصر بظهور الدولة، وهذه بدأت بسيطرة جيش تابع لقبيلة أو منطقة ما، وكانت لحظة انبثاق الدولة هي نفسها لحظة انقسام المجتمع إلى طبقات؛ فالدولة كانت هي نفسها الطبقة المسيطرة (وهذه سمة مصرية أصيلة) فالدولة تملك الأرض ومن ثم الاقتصاد عمومًا. فحتى أرض الفلاح هي ملك للدولة، تنتزعها وقتما تشاء وتعيد توزيع الأراضي كل سنة ولا يملك الفلاح حق التصرف فيها..واستمر هذا الحال حتى العصر الحديث.
-                 تكون المجتمع المصري تاريخيًا من مركب: فلاح (المصري المعياري) مقابل الدولة.
-                 أهم مؤسسات الدولة الفرعونية: الجيش، وكان ضخمًا للغاية (بلغ مليون جندي في مصر القديمة حسب تقدير سترابو) منه جزء دائم ومحترف، وجزء يتم تجنيده وقت اللزوم.
-                 .. حكم العسكر له جذور تاريخية عميقة، مع توظيف رجال الدين منذ بداية الحضارة لصالحها، وهم الذين جعلوا الفرعون هو الإله نفسه، ومن هنا جاء تقديس الدولة، التي هي الجيش قبل أيِّ شيء آخر، وقد كان الفرعون هو قائد الجيش في الدولة القديمة. واستمر تقديس الحاكم بشكل ما حتى بعد أن أصبح هناك إله آخر؛ بعد المسيحية والإسلام. فالحاكم هو الدولة، والدولة هي مصر. فسر البعض ذلك بأن الحاكم يمثل النيل، مصدر الحياة للمصريين. يتغير الحكام لكن يظل جهاز الدولة، بل ويتغير الفلاح (هجرات، جلب عبيد أو أسرى حرب) فالمصريون من أصول متعددة، وقد استمرت الهجرات واختلاط الأجناس في وادي النيل طول التاريخ، لكن تظل الدولة. فليست صدفة أن الانتماء لمصر قد ترادف مع الانتماء للدولة، فمصر هي الدولة.
-                 يتوقع الفلاح الأصيل أن يكون الحاكم والمدير عمومًا قويًا ذو جبروت وجاه، وعلى العكس، فاللطيف والحنون لا يتمتع بالاحترام ولا الثقة. فهناك ارتباط شرطي في ذهن الفلاح الأصيل بين القائد في أيِّ مستوى والصرامة والقسوة والجبروت.
-                 الدولة المركزية وجدت في المجتمعات النهرية، لكن مصر هي النموذج لدي أغلب الباحثين..مركزية شديدة جدًا، وأعقد جهاز إداري في العالم (حسب وصف كرومر). قال نابليون إنه لا توجد حكومة لها ذات الأثر في حياة الأهالي.
-                 من العبودية للحاكم، وعدم وجود فرص للترقي الاجتماعي إلا نادرًا، وقوة وجبروت الدولة، عدم وجود مهرب من الحاكم، فالصحراء تحيط بالوادي الضيق وليس بها عوامل للحياة (تستثنى جبال النوبة وأحراش الدلتا) أيْ اليأس التام من التحرر، وغياب أيِّ أمل في تغيير العالم إلا بعطف الحاكم وطيبة نفسه، جاء ميم التعلق الشديد بالدين؛ فالدين خط أحمر؛ فهو الملاذ وشاطئ الأمان المتاح. ولأنه لا يقدم شيئًا في الواقع، جاء الإيمان المطلق بالبعث والحساب والاحترام الشديد للموت، بل تقديسه ؛ فهو الأمل الوحيد  - عمليًا - للتحرر من القهر والبؤس، في الحياة الآخرة. وهو ميم ثقافي دعمته السلطة والكهنة، كأدة أيديولوجية لجعل الناس أكثر تقبلًا للظلم الشديد. وعند الموت فقط تتساوى الرؤوس وتزول الفروق الطبقية؛ فالكل يجتمع عند القبر.
-                 غياب القانون: لم تشتهر مصر الفرعونية بنظام قانوني مثل قانون حمورابي، ولم تعرف أيَّ شكل من الديموقراطية أبدًا، وكل القوانين ظلت منتهكة..حبرًا على ورق. حتى الضرائب لم تخضع لأي قاعدة او نظام منذ نهاية حكم الفراعنة وحتى قام محمد علي بعمل مسح لأراضي مصر سنة 1813، بل كان المتبع أنه كلما احتاجت الحكومة الى المال فرضت إتاوة جديدة او زادت الإتاوات القديمة. هذا يخلق الشعور بعدم الأمان وعدم الثقة لا في الحكومة ولا في المستقبل.
-                 المعارضة بإطلاق النكت كانت وما تزال بديلًا لحق الاعتراض، خوفًا من البطش.
-                 معدل استغلال الدولة وقهرها للفلاح كان فظيعًا وشديد البشاعة لعدة عوامل: التكلفة المرتفعة للزراعة بسبب الري الصناعي مع حرص الدولة على أخذ "حقها" ككم من الناتج – حيث لم توجد مؤسسات مجتمعية مستقلة عن الدولة ولا طبقة وسطى قادرة على المقاومة الفعالة أو لها وزن – هدفت الدولة إلى جعل الفلاح عاجزًا عن المقاومة بجعله يعيش في مستوى معيشة شديد الانحطاط. لقد كان يتم تحديد الضرائب بمقياس النيل حتى لا يترك أيَّ فائض للفلاح، بل يبقيه عند حد الكفاف (رصد أغلب الباحثين أن الفلاح المصري عاش عمره كأفقر شخص في العالم، ولكن ذكر البعض أن الصيني والبنغالي أشد منه فقرًا). كذلك ارتفاع معدل الخصوبة  أدى إلي انخفاض قيمة الإنسان، وزيادة معدل النهب. وضمن الميمات الناتجة عن هذا كله ميل الفلاح إلى النشاط، فهو مضطر للعمل الشاق حتى تستمر حياته ويقدم للدولة ما تطلبه.
-                 كانت السخرة هي المصدر الأول لدخل الدولة والكهنة (للعمل في أراضي القصر الملكي والمعابد)، وكانت تتم بطريقة مهينة دائمًا وبقسوة لا حدود لها. كما كانت طريقة جمع الضرائب بالإهانة والضرب طول الوقت تقريبًا. لقد تعرض الفلاح دائمًا للمعاملة باحتقار من جانب مستغليه ورؤسائه، لدرجة أن كلمة فلاح صارت ومازالت شتيمة في الوعي المصري العام. هذه المعاملة الخشنة جعلت مشاعر الفلاح خشنة؛ وصفه أحد الباحثين بأنه بليد الحس.
-                  وفي أغلب الفترات اعتادت الدولة دعم الفلاحين في مواسم القحط لمجرد المحافظة على حياتهم بالكاد، لتستمر مسيرة الاستغلال والنهب.
-                 المصدر الأول للثراء في مصر كان دائمًا هو سلطة الدولة وخدمتها أكثر منها في البلدان الأخرى.
-                 مساحة مصر المأهولة صغيرة جدًا، ولتوفير استخدام الأرض القليلة في السكن لجأ الفلاحون إلى العيش في مساحات ضيقة، وبالتالي كانت القرى مزدحمة دائمًا تقريبًا، وكذلك المدن. يضاف للضيق عامل الخوف من هجمات البدو، مما تطلب التجمع في مجموعات كبيرة نسبيًا في رقع أرض صغيرة. ودائمًا ما فضل المصريون الحياة في أماكن مزدحمة وضيقة دون تبرم يذكر، كما شجعت الدولة ذلك لتسهيل جمع الضرائب.
-                 الخوف من الغريب نتج عن: التعرض لهجمات البدو، والأهم هو "هجمات" رجال الدولة ومعهم قوة أمنية لجمع الضرائب وجمع الأنفار بالقوة لتسخيرهم في الخدمات العامة. صورة ساكن المدينة هي صورة مندوب الفرعون أو الحاكم عمومًا لجمع الضرائب أو نزع الملكية أو تسخير الأنفار أو اعتقال الأبناء لإرسالهم إلى ميادين القتال. وقد اتسمت فرق الدولة بالقسوة والعنف والظلم. كل هذا يبرر الكره التقليدي من جانب أبناء القرية الأصلاء لأهل المدينة الأصلاء أيضًا، إلى عهد قريب على الأقل. وإن "الغريب" يكون دائمًا تقريبًا مثيرًا للشك والخوف، كما توجد عقدة نقص تجاهه تدفع مما قد يفسر لجوء الفلاح الأصيل إلى الاحتفاء به وتملقه وإظهار المودة تجاهه، تفاديًا لشره المحتمل.
-                 مما نتج عن الظلم الشديد والفقر والعوز والقهر من جانب الدولة وخدمها ميمات ثقافية منها: خذ أيَّ شيء من أيِّ أحد وبأي طريقة - يميل المرء إلى أن يأخذ أكثر من حقه وأكثر مما يحتاج وبكل الطرق - كسر قواعد الأولويات والقوانين تعتبر شطارة- إذا أُعطي شيئًا طلب المزيد..
-                 إظهار البؤس والفقر لتفادي الظلم وطمع الآخرين – المسكنة مقابل إظهار الدولة وخدامها للتجبر ومظاهر العظمة والقسوة – محاولة التهرب من دفع الالتزامات تجاه الدولة. تبرير ادعاء البؤس والعوز بالخوف من الحسد.
-                 النفاق للقادة والرؤساء سمة ثقافية عميقة الجذور، ناتجة عن شدة جبروت الدولة – الطبقة المسيطرة مقابل فلاح بلا حول ولا قوة. كما أن كل شيء يحدث من خلال البيروقراطية، وأهل الثقة، بالرشوة والفساد.
-                 الميل إلى الوشاية بالآخرين هو امتداد للنقطة السابقة، مما يدفع المرء إلى التجسس على الآخرين وانتهاك خصوصيتهم وعدم الثقة في أحد أبدًا (الرقابة متبادلة بين الفلاحين) وحتى الآن المصري يسأل عن نفس الشيء عدة أشخاص، ويذهب إلى عدة أطباء، ويعزز هذا الميم ضعف الأداء عمومًا من جانب الفرد العادي؛ فالفلاح الأصيل لا يهتم بالإخلاص ولا بإتقان العمل، لأن العائد يذهب إلى غيره. ولنفس السبب لا يميل إلى الابتكار.
-                 تقاليد الفلاح لا تجعله قادرًا على العمل كتاجر؛ فهو يفتقد ثقافة التاجر الأصيل التي تملكها الشعوب التجارية، وبالتالي فهو أيضًا أسوأ رأسمالي لأنه لا يملك ثقافة الرأسمالي..فهو يحمل تاريخًا لآلاف السنين من السخرة المعممة المصحوبة بالإذلال الشخصي والمهانة، دون الخضوع لأي قاعدة أو قانون (في الواقع الفعلي). إنه حتى الآن عاجز عن منافسة التاجر الشامي والرأسمالي الأوروبي.
ليس للفلاح طوال تاريخه من عون في الكبر وفي العمل الشاق سوى أطفاله، كما أن الأسرة هي مجال سلطة الفرد المقهور. من هنا جاء الفخر بالإنجاب وكثرة العيال، وهذا الميم مازال موجودًا بقوة. ومع انتشار الأمراض المخيفة طوال آلاف السنين ومعدل وفيات الأطفال المرتفع للغاية ظل المصريون يحبون أطفالهم حبًا شديدًا ويعتبرونهم خطًا أحمر، فعزوتهم وعونهم ومصدر فخرهم يتعرض أيضًا للموت بالجملة، ولم يتحسن الوضع إلا منذ عقود قليلة. وإذا تجاوز الآخرون حدودًا معينة قد يتصرف بوحشية، خصوصًا إذا تم الاعتداء على زوجته وأولاده؛ مجال سلطته.
-                 رغم السخرة المعممة طوال تاريخ مصر وإلى عهد قريب، لم يمل المصريون إلى العمل الجماعي، فقد كان الفلاح مجرد "نفر"؛ أيْ بلا شخصية، يعمل بالكرباج تحت سلطة ممثل الدولة، ولم يمل الناس إلى تنظيم أنفسهم بأنفسهم، بل يتطلعون دائمًا – تقريبًا – إلى من يقودهم من خارجهم؛ من له حيثية "رسمية" أو سلطة ما؛ أيْ ينتمى للنظام. وهذا الميم مازال متوارثًا. من نواتج هذا: الأنانية. الاستثناء، أيْ العمل الجماعي الحقيقي، كان يحدث حين تحل الكوارث أو حين تنشأ مشكلة بين قرية وأخرى. (كان الفلاح كائنًا اجتماعيًا وليس حيوانًا سياسيًا  حسب رأي جمال حمدان).
-               إن شدة القهر التاريخي وشراسة السلطة ومعدل الاستغلال شديد الارتفاع، واحتقارها الشديد للفلاح خلق روحًا منكسرة، مستسلمة للأقدار، هذا الانكسار التاريخي جعل الفلاح يظهر الرهبة والخضوع والحذر أمام رؤسائه، وفي نفس الوقت تميل هذه الشخصية للتمرد بعنف بالغ، مخرجة كل ما بداخلها من مشاعر الغضب والحقد الطبقي حين تجد الطرق قد انسدت أمامها؛ في لحظات اليأس التام وانعدام الرؤية. بل كثيرًا إذا لم يظلم الفلاح الأصيل يشعر بالقلق، وقد يتوقع شرًا ممن لا يظلمه أو يقهره لأنه لم يعتاد إلا على القهر والتحقير والظلم. ومع ذلك؛ فهذا الانكسار خلق الميل إلى التسامح والطيبة الظاهرية بشكل عام، بجانب ضعف الطموحات وانحصارها في استكمال مسيرة الحياة: الستر فقط.
-               الثورات كانت دائمًا  - تقريبًا - ضد الدولة، فهي نفسها الطبقة المسيطرة.
-               لم يعرف المصريون الفلسفة قبل التحديث، بل ظهر لديهم حكماء (أشهرهم بتاح حتب). وحتى الآن كلمة فلسفة تستخدم من جانب المصري العادي كشتيمة، وقد غزى انتشار هذا الميم رجال الدين. فإذا كانت الفلسفة هي تفكير عقلاني – برهاني – فغيابها يفسر لنا سيطرة المشاعر على العقل لدى المصري الأصيل، وغياب السيطرة على الانفعالات إلى حد كبير.
-                 يوجد ميم الميل إلى التعبير عن النفس بشكل هستيري، جذبًا للانتباه والتعاطف، وللهروب من التمزق النفسي والشعور بالهزيمة، ويظهر هذا خاصة في حالات موت أحد الأقرباء أو حدوث مصيبة أخرى أو ما يعتبره المرء كذلك.
-                 عدم الثقة في الدولة قط وعدم الاطمئنان لها، والخوف منها ترافق مع الثقة في قدرتها على فعل أيِّ شيء وعلى إصلاح الأحوال لو أرادت.
-                 استقرار الوادي، وثبات آلات العمل كالمحراث والشادوف والساقية والقفة والمنجل ، واستقرار النظام الاجتماعي رغم تغير الحكام.. كثرة الخضوع للناس والأشياء.. كذلك كانت تجارب الشعب طول تاريخه – تقريبًا – أن الجديد لم يختلف إن لم يكن أسوأ من القديم..كل هذا خلق حالة التواكل، والخوف من التغيير، وحب الاستقرار، والخوف من المغامرة، والبطء، والصبر، وطول البال، والقدرة على العمل الشاق والخطير، مع عدم الاكتراث بالعالم المحيط؛ فإنه متثاقل، لكن ليس كسولًا ولا يفعل شيئًا إلا في اللحظة الأخيرة – لا يذهب للطبيب إلا في حالة اليأس (ملاحظة عيروط والمقريزي).
-                 الانقسام الطبقي الحاد، وانفصال الطبقة المسيطرة عن مجمل الشعب، وضمن علامات هذا الانفصال استخدام الألقاب الفخمة في مخاطبة الحكام، ثم امتد هذا إلى مخاطبة أيِّ شخص ذو سلطة ولو تافهة: الأستاذ الدكتور، باشمهندس، العقيد أركان حرب، باشا، بيه، معلم..إلخ.
-                 احترام كبار السن (عكس شعوب الغرب).
-                 استمرار الختان والوشم واستعمال الكحل وإزالة الشعر وكثير من عادات الزواج والحداد..إلخ.


 (2)
1- أقدم هنا المزيد حول الموضوع، مراعيًا أن مياهًا كثيرة قد جرت منذ التحديث، وبالتالي هناك جديد عما طرحته في المقال الأول، وها أنا أجتهد دون أن أزعم أن هذه حقائق، وأتمنى أن يساهم غيري أيضًا.
2- بعض الأصدقاء والقراء لم يميز بين الميمات وأصلها، فاعترض على عدم الإشارة لتغيرات التكوين الاجتماعي بعد التحديث.. مع أن ضمن أهداف فتح الموضوع هو الكشف عن أصل ميمات موجودة ومتوارثة.
3- لا يمكن الافتراض بأن هذه الميمات موجودة لدى كل مصري بأي حال، بل هي فقط موجودة بعمق وبدرجة كبيرة من الانتشار، وبالتأكيد ليس المقصود سوى الرصد والفهم
   4- تفسير استمرار الميمات في أذهان الناس لمدد متفاوتة، تصل إلى آلاف السنين، بعد اختفاء العوامل المادية لظهورها: الإنسان لا يتصرف وفقًا لحسابات عقلية صرف، بل إنَّ العقل ليس إلا أحد أسلحته، فهو ليس منقادًا للعقل، ولا تتغير معتقدات الناس إلا حين يصبح تناقضها مع الواقع المعاش لا يحتمل. فالذهن لا يغير نفسه إلا مضطرًا.
5- إن تعرض الإنسان للقهر والكبت الشديد لمدة طويلة يجعله عاجزًا عن التفكير أو التصرف باستقلال، ويميل إلى الطاعة العمياء، ويصبح قليل الطموح. هذا ما فعلته الدولة بالفلاح (المصري الأصيل) على مدى التاريخ.
6- تصور المصري المعاصر لله: الله كلي القدرة، قادر على كل شيء، يتدخل في تفاصيل الحياة اليومية للبشر، لا يلزم نفسه بقوانين الطبيعة ولا غيرها، كما أنه مصدر كل القيم الفاضلة، وهو الذي يقوم بتوزيع الرزق، ويختار من الناس من له فضل وقدرات خارقة، مما ينفي مفهوم السببية والتفسير المنطقي للظواهر، ويؤكد عجز الإنسان عن التوقع وعجز أيِّ حسابات عن التحقق مهما كانت دقيقة، إلا بتدخله المباشر، ولذلك يتوجه بالدعاء كثيرًا. الإنسان في هذا التصور شرير بالضرورة، ولا شيء؛ عاجز، وتافه، وفاشل بطبعه، ولا يمكنه تحديد مصيره، بل كثيرًا ما يقوم المسلم بصلاة "استخارة" حتى يتخذ قرارًا ما.. فهذه إذن صورة المصري عن نفسه. أما الله كلي الجبروت فيمثل الزعيم الملهم الذي ينتظره الناس ليخلصهم من مآسيهم. وللتغلب على هذه المشاعر بالدونية يلجأ المرء إلى الافتخار بعظمة الأجداد، وبأي مديح من الأجانب من البلدان المتقدمة (حيث توجد عقدة نقص تجاهم)، وبادعاء التفوق، وللتغلب على نوازع الشر أو معادلتها يلجأ إلى التدين البالغ؛ فالوعي الشقي عند المصري متضخم جدًا: الصراع بين المثل الأعلى الديني وضرورات الحياة حسب تصوره.
7- يوجد ميم الربط بين الأخلاق والدين؛ فبدون الدين تنهار الأخلاق، زعمًا، رغم أن التدين موجود طول الوقت مع "الكفر" الأخلاقي كما أسلفت. إن الإنسان الذي يؤمن بهذه الفكرة يؤمن بعجزه عن إنتاج قيم فاضلة، فهو لابد أن يستمدها من قوة عليا.
8- الولع بالزعماء: محمد علي – عرابي - زغلول - ناصر– السيسي لفترة – حسن البنا: ميم الاعتقاد بأن التغير يأتي على يد فرد قوي، سواء الحاكم نفسه أو مشروع حاكم (لهذا  - مثلًا- كان رد الفعل ضد البرادعي كان حادًا لأنه لم يقم بالمهمة التي انتظرها منه الملايين). توجد بعمق فكرة المستبد العادل؛ الحاكم "الدكر". هذا الميم يقابله الشعور بالضعف والعجز المطلق.
9- تغير التكوين الاجتماعي المصري بعد التحديث لكن مازال الموروث الثقافي عميق الجذور؛ سائدًا رغم التغيرات الظاهرة على السطح، فقد تختفي الألفاظ القديمة بينما تظل الفكرة موجودة (على رأي كروبوتكين). مثل: اختفاء الآلهة المحلية واستبدالها بالقديسين وأولياء الله الصالحين (عدد الصوفيين في مصر حاليًا يزيد على 15 مليونًا، بالإضافة إلى تقديس كثير من المسلمين الآخرين لأضرحة الحسين والشافعي وغيرها، بخلاف القديسين لدى المسيحيين). وهذه لا يمكن اعتبارها مجرد آثار أو بقايا، بل تكمن في صميم الثقافة المصرية المعاصرة. ربما لا يلاحظ المثقفون مدى انتشار هذه الظاهرة ويتصورن أنها محض تخريف.
10- مازال يحب الدولة رغم كرهه العميق لها؛ فهي تقدم له الأمان، رغم تخليها عن دورها الاجتماعي التقليدي بدرجة مهمة، فينتظر منها أن تعود لتقدم له المساعدة، بل وتدعو النخب المثقفة في معظمها – خاصة اليسارية - إلى ذلك. مازالت ظاهرة مطالبة الدولة بتقديم المكاسب وبتنفيذ شعارات الثورة..انتظار هبة الحاكم وعطفه، رغم أن الدولة قادت الثورة المضادة لثورة 25 يناير 2011.
11- تعرض الفلاح للازدراء بشدة من قبل الحكام الفراعنة، وهم من أصول بدوية،  والأجانب الشرقيين، شاملين أسرة محمد علي، وكذلك الملاك ذوي الأصول الشرقية. الاستعمار الأوروبي كان أكثر تقديرًا للفلاح (هذا واضح في كتاب لورد كرومر). الحكام المصريون الجدد خاطبوا الفلاح باحترام: سعد زغلول ومن بعده. فحتى مناهج التعليم قدمت الفلاح في صورة مشرفة ومحترمة. لكن هذا التغير لم يغير الميم القديم: اعتبار كلمة فلاح شتيمة ومرتبطة بالفجاجة والتخلف، وصفته نقيصة وشيئًا مخجلًا. خاصة أن إهانته على أرض الواقع قد استمرت (رغم الإصلاح الزراعي في عهد عبد الناصر)؛ فنهب الدولة وحلفائها من كبار الملاك في الريف لم يقل، بالتحايل والنصب والغش، وكلها أشكال للازدراء والاستهانة، بجانب ما تتضمنه من سرقة لعمله. مما له دلالة ما لاحظه كلوت بك من تقليد الضباط المصريين للضباط الأتراك والمماليك في جيش محمد علي، وما سجله لورد كرومر وغيره من فساد الباشوات والمتنفذين المصريين وقسوتهم.
12- انتشار الطرق الصوفية: تنظيم رأسي، يضم كل الطبقات تحت راية شيخ ملهم..بديل الفرعون الذى اختفى..الاحتماء بالجماعة، والانخراط، كتعويض للفرد عن شعوره بالانسحاق وبأنه مجرد نفر. في الجماعة الصوفية يشعر بالانتماء وبالحماية والأمان الروحي، وبأنه ذو قيمة. قدمت جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية نفس الشيء. وانتشار الواسع لهذه التجمعات تحت قيادة ملهمة يعني لي أن الفرد هنا يخاف من الفردية؛ يخاف من الحرية، ويشعر بالعجز عن مواجهة الحياة بنفسه، فيقرر مواجهتها من خلال الذوبان في كيان كبير يقوده قائد ملهم، متصل بقوى السماء، أو يستمد منها القوة.
 13- تسود الميول المازوخية (تختلف عن الانحراف المازوكي في العلاقة الجنسية) لدى الطبقات العاملة مقابل سادية الدولة والطبقة الغنية من الأجانب والمصريين؛ فحتى الدعم والمساعدات تقدم بغرض إحكام السيطرة على الجماهير وتسخيرها؛ الأمان مقابل الحكم منذ بدء الحضارة. شيء نتج عن الفرق الشاسع في القوة بين الطرفين وحاجة كل منهما للآخر: الدولة للشعب على الصعيد الاقتصادي والنفسي، الشعب للدولة على الصعيد النفسي؛ فلم تكن هناك حاجة اقتصادية للدولة أصلًا، التي تشكلت من جماعات من اللصوص والقتلة (الري الصناعي ظل يتم لآلاف السنين قبل قيام الدولة ولتطويره كان يكفي إقامة مؤسسة إدارة عمومية). الدولة فرضت "حمايات" على القرى لمنع لصوص آخرين من السيطرة عليها. الأمر يشبه متلازمة ستوكهولم: تعاطف المخطوفين مع الخاطفين، رغم الخوف منهم. هذا تكون على مدى تاريخ السيطرة والقمع ومازال مستمرًا. إن طريقة مخاطبة المواطن لرئيسه لتعبر بوضوح عن هذه الحالة: فالخطاب إلى المدير أو الحاكم عند طلب حق يبدأ بـ"أرجو التكرم..". إن المازوكية – في رأيي – هي نزعة للتخلص من الذات المعذبة والتي لا تصلح لشيء في لاشعور صاحبها..إنها شكل للانتحار، فالذات تهرب من نفسها في الحقيقة إلى الآخر، فإما تنسحق تحته أو تندمج معه وتصبح جزءًا منه. هذه هي شخصية المصري الأصيل؛ الفلاح، والتي نقلها معه حين أصبح عاملًا وموظفًا. هذه المازوكية ليست خاصة مصرية فقط، بل وصف أريك فروم الطبقة الوسطى الدنيا في أوروبا بنفس الصفة.
14- كانت وما زالت القدرة على التمرد أشد بكثير لدى المهمشين؛ اعتاد هؤلاء على التمرد حين تشتد بهم الأحوال، وهي شديدة خلال معظم تاريخ مصر (فيعجز القلم ولا يستطيع الذهن أن يتصور قدر وبشاعة العسف والقهر والطغيان في العصر المملوكي العثماني الطويل، وعصر محمد علي، كأمثلة..شيء لا أتصور أنه حدث في أيِّ بلد آخر، شيء يثير من الألم ما لا أستطيع وصفه، ونفس الشيء مارسه ضباط الفرعون المرتزقة الأجانب، وحتى المصريون) وهم يميلون إلى العنف والتدمير. وهذا يتفق مع الفكرة القائلة إن التدميرية هي نتاج الحياة غير المعاشة. لقد كان الاستعمار الأوروبي الحديث أرحم ألف مرة. وبنفس نمط التمرد ثار أيضًا الفلاحون مرارًا، لدرجة تدمير جهاز الدولة المركزي، فتفتت البلاد إلى دويلات، لكنهم لجأوا عادة إلى المقاومة السلبية (العصيان المدني).
15- تمتد الميول التدميرية لدى الفئات الدنيا إلى الميل إلى تدمير الذات؛ التصرف بلا اكتراث بالأمان الشخصي، السلوك المتهور والمزعج الكاره لكل شيء، والعاجز عن الاستمتاع بالحياة، كراهية الجمال والسعي إلى تشويهه، ليصل الأمر إلى قتل النفس فعليًا (الأغنياء والمسؤولون في مصر لا ينتحرون إلا نادرًا جدًا). توجد ظاهرة الانتحار بطريقة درامية تدمي القلوب، مثل الحرق، خاصة بين النساء، والسقوط من مبان عالية، وحديثًا تحت عجلات المترو. هذا يعبر عن العداوة للحياة، احتقار وكره النفس وعدم الرضا عنها، الإحساس بالخزى والعار.
16- يوجد أيضًا ميل إلى جلد الذات؛ يعني تحميلها مسؤولية الفشل واستحقاق القمع: نمشي بالجذمة – العمل بالكرباج – ضرورة وجود حاكم شرس. وهذا يعبر عن احتقار الذات وانكسارها وضعف الشخصية، والشعور بالعجز عن مواجهة السلطة..ميم متوارث منذ بدء الحضارة، يضعف في فترات الاستقرار والنمو، وينتعش في أوقات الأزمات، أيْ معظم الوقت.
17-  التكوين النفسي للفرعون القديم يتضمن شعوره العميق بالتفاهة وانعدام شرعية وجوده؛ فهو أصلًا مجرد لص وقاتل محترف. وهذا ما يفسر اهتمام الفراعنة بتشييد المنشآت الهائلة الحجم من معابد ومقابر، وتكديس مقتنيات ضخمة من الذهب، وتكديس ثروات بلا حدود، وهو أيضًا ما يفسر ضخامة تماثيلهم، بالإضافة إلى زعمهم الانتماء إلى نسل الآلهة (منذ الأسرة الرابعة للدولة القديمة)، ووحشيتهم وساديتهم مع الفلاحين الضعفاء، واهتمامهم بالإشراف على الأعمال العامة لإثبات أهمية دولتهم الطفيلية، وضخامة جيوشهم، وكافة مظاهر العظمة الأخرى. إن مظاهر عظمة الفراعنة ليست إلا غطاء لتفاهتهم وخوائهم. وكان هذا هو نفس تكوين الحاكم المملوكي. وهذا ينطبق على الفراعين الجدد أيضًا.
18- المهاميز والوشايات ثقافة عميقة في الإدارة المصرية، رسخها الحاكم لعمل توازن بين الشلل المختلفة – هدفها النفاق للمدير والحاكم، وتتم تطوعًا خوفًا وطمعًا.. يمتد النفاق إلى أيِّ سلطة محلية، يعزز هذا كثرة الجواسيس مدفوعي الأجر والمتطوعين، وحتى داخل الأسرة. وهذا الميم يمتد للعاملين بالخارج، وهو ما يفسر كراهية المصريين لبعضهم هناك.
19- عبادة الدولة مستمرة. فالعمل بالدولة أو التبعية لها ظل هو المصدر الأهم للترقي الاجتماعي، حتى في عصر الاستعمار، واستمر حتى الآن ( من أروع ما أخرجه الفن الفرعوني تمثال "الكاتب المصري" – صادق سعد). وحديثًا أنشأت الدولة طبقة كبار الملاك. حصل الكثيرون على ثرواتهم من خلال علاقتهم بجهاز الدولة، وحديثًا التحق الملايين بحزب الحكومة أملًا في الترقي والنهب، ويقبل المصريون على الالتحاق بالجيش والأمن والقضاء لنفس الغرض. البذرة كانت كتبة الفرعون، وجامعو الضرائب. بعثات محمد علي على نفقة الدولة أنتجت الإنتلجينسيا الحديثة. ولأن الانتلجينسيا تربت على حجر الدولة، فقد سعت دائمًا  لزيادة دورها (كلها ناصرية أو إسلامية) مقابل ضعف الليبرالية بشدة.. حتى حزب الوفد؛ قمة الليبرالية المصرية كان نصف ليبرالي.
  20- صعوبة تحقيق الطموحات والأهداف خلقت الميل إلى اللف والدوران، واللؤم، والكذب، للالتفاف للوصول إلى الهدف. في الماضي كان الفلاح يتهرب من دفع الضرائب بهذه الطريقة، وأيضًا في الحصول على حقه. من الميمات الراسخة: الشخص المستقيم ليس له مكان هنا، رغم المثل الشعبي المضاد: امشي عدل يحتار عدوك فيك.
 21- مازالت عدم القدرة على العمل الجماعي الموروثة منذ تكون الدولة. لذلك فالعلاقة بين المصريين علاقة تنافس أكثر منها علاقة تعاون، اللهم إلا في الظروف الحرجة. عجزت النخبة عن العمل المنظم طول الوقت، فاعتمدت على الزعيم: فشل التنظيمات الشيوعية – تمزق الأحزاب من حين لآخر منذ ظهورها..التنظيم الأقوى اعتمد على زعيم: الوفد والإخوان - التمسك بالزعيم المهزوم يعني العجز والشعور باليتم (الشعور بالضياع مع تنحي ناصر ثم موته). التطلع لمحمد علي = التطلع للبرادعي. رصد هذه الظاهرة باحثون أجانب أيضًا.
22-  لكن حدث قدر من الحراك الاجتماعي مع التحديث، تفاقم بعد الحرب العالمية الأولى: تحول بعض الفلاحين إلى: ضباط – ثم حكام – أغنياء الحرب – أغنياء الانفتاح – الطبقة الوسطى التي كانت هامشية قبل التحديث لتصبح ضخمة للغاية، شاملة الانتلجينسيا الحديثة. بذلك تم انتقال ميمات من الفلاحين إلى النخبة والطبقة المسيطرة بعد التحديث (في الماضي كان معظم أفراد الطبقات الوسطى والأغنياء من أصول تركية ومملوكية).
 23- انتشرت الفجاجة وضعف الإحساس بالجمال حديثًا في المدن (الريف كان كذلك دائمًا)، بدأ بحدوث تحول اجتماعي على صعيد الطبقة الغنية؛ فمع انقلاب 1952 حدث صعود اجتماعي للضباط من أصول ريفية بسيطة لا تحمل ثقافة الأرستقراطية القديمة، ولحلفائهم من أغنياء الريف، وللتجار والوسطاء عمومًا، ثم مع السادات حدث صعود اجتماعي ساحق لفئات مهمشة إلى مصاف المليونيرات، وقد ترافق هذا مع هروب أو طرد الأجانب واليهود، مما انعكس على القيم السائدة، والفن المطلوب، والأمثال الشعبية، ولغة الشارع عمومًا، فهذه هي ثقافتهم. فالأرستقراطية الجديدة هي "حثالة رأسمالية" Lumpen bourgeoisie
 24- الطبقة الحاكمة في الدولة الفرعونية كانت من أصول بدوية، بصفاتهم المميزة (الجرأة والشجاعة، والميل للحرب، القسوة، الشراسة، الميل للغدر، عدم الشعور بالأمان، قوة الشخصية..)، ثم جاء المستعمرون الأجانب. لكن بعد التحديث زحف الفلاحون – كأفراد - إلى مراكز الدولة تدريجيًا، وامتلكوا ثروات، ثم امتلك بعضهم السلطة السياسية، مع الاحتفاظ بأصل ثقافتهم: الضعف – الانكسار – قلة الحيلة – عقدة النقص تجاه الأجانب، وراحوا يتصرفون كمحدثي نعمة: إساءة استخدام الثروة – التشبث بالسلطة بشدة – القسوة المفرطة مع المعارضين. انتقلت ميمات ثقافية من الشعب إلى الدولة مع تولي أفراد من الفلاحين السلطة: فكرة الرئيس الأب مثلًا، ابتداء من عبد الناصر (بابا جمال)، العائلة المصرية، معاقبة من "يعيب" في الرئيس، ميم الأخذ بالثأر من جانب الدولة، والعداء للحداثة، وللمثقفين الذين يمثلون لهم أبناء المدن الأصليين؛ رجال الفرعون؛ العدو التاريخي.
 25- على مدى تاريخ مصر مال المرء العادي إلى تسليم ذهنه لمن يراه على قدر أكبر من الفهم، أو ممثل المطلق نفسه: الكهنة – رجال الدين – الزعماء  عمومًا، وبخاصة الدينيين. يصاب بالشعور بالضياع حين لا يجد مثل هذا الشخص. إن هذا يعبر عن الشعور بعجز العقل، فيتم تسليمه لمن يستطيع استخدامه. لذلك أعادت ثورات المصريين عبر التاريخ - والتي لا حصر لها - دائمًا إنتاج نفس النظام، حتى مع تفتت الدولة إلى دويلات صغيرة مرارًا.
26- من الميمات الحديثة: اليهودي شرير: شيطنة الأشخاص بـ "اتهامهم" باليهودية: جمال عبد الناصر من قبل بعض الإسلاميين – حسن البنا – السيسي..هذه "التهمة" تجد آذانًا صاغية في قطاعات كثيرة، وهذا من موروثات الثقافة الإسلامية عمومًا، وقد فعل الشيء نفسه ناصر السعيد، المناضل السعودي، حين حلل تاريخ آل سعود.
27- انحلت رابطة الدم إلى حد كبير، ثم تحللت الأسرة جزئيًا، في الحضر خصوصًا، بفضل التعليم والتحديث، وبالذات في الشمال والمدن الكبرى، ومن ثم ضعفت سلطة الأب والأم، وتفاقم هذا مع السفر إلى الخارج..ذلك خلق ظواهر وميمات جديدة، أهمها زيادة شعور الأبناء بعدم الأمان، وبفرديتهم، كما شعروا بتفوقهم على الجيل الأقدم بفضل إجادتهم الانترنت والأجهزة الحديثة. ومع زيادة الهوة الاجتماعية وضعف الفرص ظهرت لديهم أشكال من الهروب، منها انتشار تعاطي المخدرات بين الشباب، نمو الجماعات الدينية بشدة، بجانب الرغبة في التمرد على المجتمع عمومًا وعلى أيِّ سلطة.
28- ميم احتقار المرأة دخل مع الإسلام، وانتعش مع دخول العثمانيين.
29- الخوف من الغريب لازال موجودًا بقوة: الأجنبي هو جاسوس حتى يثبت العكس، بل وحتى المتطوعون لتقديم خدمات مشكوك في نياتهم، وأفراد المنظمات الحقوقية المتصلون بالغرب، عملاء..إلخ.
30- ثبات الموروث مع ثبات التكوين الاجتماعي لآلاف السنين جعل الشعب لا يتعلم من التجارب التاريخية، ويستمر في إلقاء المسئولية على الآخرين، الذين خانوه ونهبوه..إلخ. يكرر نفس المقدمات ويحصد نفس النتائج. ولنتذكر فقط أن جل النخب والجماهير مازالت تكره وتعشق جهاز الدولة، و"تطالبه" بحل مشاكل البلد، وتعتبر الجيش ملك الشعب، رغم كل المآسي، ولا تسعى للعمل الجماعي.
31- قوة وانتشار تنظيم الإخوان يلقي لنا أضواء مهمة على ميمات موجودة لدى قطاع كبير من المصريين: انسحاق الفرد وتماهيه مع زعامة ملهمة وتمثل الحق المطلق - العمل كمجرد نفر هو استمرار للعمل بالسخرة، خاصة مع مبدأ السمع والطاعة - استعداده للتسليم لغيره بسبب شعوره بالعجز وعدم الأمان - كونه التنظيم الشعبي الأكثر نجاحًا يشير إلى استمرار قوة الدين أو الاستناد إلى الدين. المطلق إذن مازال هو الملجأ المضمون. (ملاحظة: الفرد أيضًا نفر في المؤسسات الضخمة، حيث يعمل كمجرد ترس في آلة عملاقة)
32- البارانويا المصرية: ظهرت الوطنية المصرية من الجيش؛ حين تم تكوين جيش مصري يضطهد فيه المصريون منذ محمد علي، فبدأت بالثورة العرابية، ثم ثورة 1919، ثم جاءت "الثورة" الثالثة من الجيش: الناصرية. من هنا أيضًا جاء تقديس الجيش، خصوصًا مع كثرة الحروب التي خاضها. عزز المشاعر القومية سياسة الاحتلال البريطاني؛  استغلال الفلاحين في الحرب الأولى والثانية، وفرض الامتيازات الأجنبية بما فيها المحاكم المختلطة، عرقلة نمو الصناعة حتى الحرب العالمية الأولى، ثم التهديد الإسرائيلي. نشأت القومية المصرية متعصبة وعنصرية دون سند من قوة أو تقدم، بل تعبيرًا عن حالة بارنويا: الشعور بالاضطهاد وتبريره بالعظمة استنادًا لعظمة الأجداد. انتقلنا من ميم مصر للمصريين، إلى مصر أم الدنيا، ثم المؤامرة الكونية على مصر، أغنى بلد في العالم، واذكى طفل، وأقدم الحضارات..إلخ. وكلما زاد الشعور بالعجز عن اللحاق بالأمم المتحضرة ازداد شعور المصريين بالإحباط والعظمة الزائفة، معزين الفشل إلى مؤامرات خارجية. النزعة المصرية لم ترتبط  بنمو البورجوازية، بل هي موضوع الطبقة الوسطى أساسًا. ولأنه من الصعب إظهار العنصرية ضد الشعوب المتقدمة حيث يسود الشعور بالدونية تجاههم، يظهر التعالي على العرب والأفارقة؛ الشعوب الضعيفة.
33- الميل إلى الأفكار العينية موروث منذ القدم. الوله بالدين (يتلخص في تصورات عينية وتعليمات وأوامر محددة). أنتج  كراهية المجرد: الفلسفة والمنطق، وضعف القدرة على التفكير النقدي حتى بعد التحديث، مقابل الميل إلى التفكير الانفعالي؛ فاللاوعي أقوى من الوعي، من هنا امتد الإيمان بالخرافات منذ العصور السحيقة ويطال حتى المتعلمين والعلماء.
34- الميل إلى الاستقرار تخلخل كثيرًا منذ منتصف القرن العشرين، وظهر الميل إلى التجربة والترحال، لكن يصر أبناء الطبقات العاملة على أن تكون "الغربة" مؤقتة، خصوصًا إذا كانوا من الريف. وكثيرًا ما تتم العودة إلى بلد المنشأ، سواء قرية أو البلدة.
 35- كره الناجحين والمتفوقين، فالنجاح والتفوق صعب المنال في مصر، وليس متاحًا للجميع. يضاف الميل المعتاد إلى المنافسة والصراع دون التعاون.
36- لم يصبح المصري بعد بورجوازيًا – بروليتاريًا، أيْ إنسانًا "حديثًا". بل مازالت بيروقراطية الدولة هي الطبقة الحاكمة  - عمليًا – بمنطقها قبل الرأسمالي: فالهدف الأهم هو السيطرة والنهب المباشر، لا الربح. هذا يفسر غياب سمات رأسمالية أساسية، مثل احترام الوقت، وتقديس العمل، الاهتمام بتطوير قوى الإنتاج، إعداد العمال من حيث التعليم والتدريب، السوق الحرة. وحتى القطاع الخاص لا يلتزم بمتطلبات السوق من احترام الوقت وتحسين الإدارة باستمرار لتقليل التكلفة، وتطوير الإنتاج، ورفع إنتاجية العامل..إلخ بل نجد في القطاع الخاص نفس فساد قطاع الدولة، شاملًا الواسطة والمحسوبية وتوريث المهن، وغيرها.  
37- الاتجاهات الغالبة في الأمثال الشعبية المصرية في العصر الحديث (قد يكون بعضها موروثًا من فترة سابقة) تتلخص في تحبيذ: البعد عن الصراع – التسامح – القناعة والرضا بالقليل – تفادي المشاكل والشقاق – الحذر الشديد من الآخر، خصوصًا الأقارب – الطاعة والخنوع ونفاق ومداهنة القوي – الإخلاص للأسرة وصلة الرحم، مع الحذر – الصبر وطول البال والتروي – العمل وتحمل المشقة – التقشف – العمل الجماعي والتعاون – اغتنام الفرص – التقليل من شأن الفلاحين والصعايدة – وصف الناس عمومًا بأسوأ الصفات – الشجاعة وتحمل المسؤولية – الاعتماد على النفس – رفض الإهانة إلا من الأقوياء – السعي للعمل لدى الدولة وكبار الملاك – إتقان العمل – الإخلاص – الصدق – الاستقامة - الأنانية في لحظات الكوارث وليس التضحية – كره واحتقار التسول – الغني عمومًا لص وقاس.
38- وتعبر الأمثال في عمومها عن شعور عميق بعدم الأمان وبصعوبة الحياة، وتكشف جو الفساد والصراع بين الأفراد دون تعاونهم، وأن الكره أكثر من الحب في ذلك المجتمع. كذلك تشير إلى أن الحاكم ظالم لكنه يستحق الاحترام والتضحية والطاعة (يوجد مثل في غاية الغرابة: "ضرب الحاكم شرف"، أيْ أن المرء يتشرف إذا ضربه الحاكم. وهو مثل يدل على مدى انسحاق الشخصية وتقبلها للتسلط والقهر). أما كثرة الدعوة إلى الصبر مع تحمل الأذى فنتجت عن كثرة الأذى مع الشعور بالعجز.
ونلاحظ أن كثيرًا من الأمثال تدعو لقيم وسلوكيات مناقضة لما يحدث بالفعل، وإلا فلماذا ذكرت أصلًا؟ وبعضها يحذر من تصرفات تؤذي صاحبها وهي شائعة بالفعل.

39- ميمات مقترحة للنشر:
ملاحظة 1- الصدمات الحادة قد تفيد: مهاجمة مقدسات وتاريخ الشعب وكشف هذه الحقيقه له: أنه لا يحاول أن يتعلم.
ملاحظة 2- قوة اللاوعي عند الجماهير تستلزم التركيز على مخاطبة مشاعر الناس وليس مخاطبة عقولهم فقط. بالتالي يلعب الفن دورًا كبيرًا في تغيير أفكار الناس.

أهم تغييرين يمكن أن يؤثرا في سلوك المصريين:

الأول: التعود على التفكير النقدي؛ استفتي عقلك وقلبك قبل أيِّ أحد، ومن حقك أن تنقد أيَّ فكرة وأي عادة وأي معتقد وأي شخص بحرية. هكذا يمكن تجاوز الميمات القديمة الراسخة، وتجاوز تقديس الأشخاص.
الثاني: التعاون أفضل من الصراع على أشياء فارغة: هذه أيضًا مسألة جوهرية: فالإنسان الفرد لابد أن يعيش في جماعة، فإما أن يكون فردًا في جماعة متعاونة، أو "نفر" في جماعة مسخرة تحت إمرة سلطة قاهرة. في الحالة الثانية لا تكون له أيُّ قيمة في الحياة، ولا أمل يرجى منه. إن العمل الجماعي المنظم في التحرير في يناير – فبراير 2011 يجب أن يصبح نمط العلاقة بين المصريين، حتى تصبح لهم قدرة على تغيير أوضاعهم، والمقصود هنا طريقة التعاون وليس طبيعة القوى المشاركة.

بالإضافة إلى:

- فصل الأخلاق عن الدين.
- رجال الدين عمومًا كائنات طفيلية ضارة وشريرة.
- الكلام في الأخلاق والسياسة باسم الدين هو خداع وتضليل.
- الربط بين الدولة والشر، فضح طابعها الطفيلي.
- العدالة هي ما يراه الناس المحيطين.
- لا أحد يستحق أن تخاف منه.
- الكرامة فوق الحق.
- الكذب تصرف الجبان، ويضر صاحبه في النهاية.
 بل واعتبر البروليتاريا تشمل عمال الصناعة والفلاحين المعدمين والبروليتاريا الرثةمخططا مسبقا للمجتمع المنشود، وترسم لوحة جميلة ل
- ميم التمرد عمومًا ضد السلطة القمعية.
- العمل ضد القانوناالعمل ضد القوانين "الظالمة".
استفتي قلبك وعقلكا
ضمن المراجع:
جمال حمدان، شخصية مصر.
الأب هنري عيروط، الفلاحون.
سيسيل ألبورت، ساعة عدل واحدة.
كرومر، مصر الحديثة.
المقريزي، المواعظ والاعتبار.
نعمات أحمد فؤاد، النيل في الأدب الشعبي.
عبد الرزاق حسين حاجم، النظام الضريبي في مصر القديمة 3000  -  522  ق.م  ( دراسة تاريخية)
كارل كاوتسكي، المفهوم المادي للتاريخ (بالإنجليزية)
دانييل دينيت، الوعي مشروحًا (بالإنجليزية)
خالد فهمي، كل رجال الباشا
أحمد صادق سعد، تاريخ مصر الاجتماعي الاقتصادي
نبيل حاجي نائف، نظرية الميمات أو نظرية الأفكار
ع. ع.، تراث العبيد في حكم مصر
سليم حسن، موسوعة مصر القديمة
عمرو عزت، عن قبح وجماليات الشتائم الجنسية
أكرم صبري، الجوانب السلبية فى الشخصية المصرية
كتاب "وصف مصر"
عزة عزت: التحولات في الشخصية المصرية
لويس عوض، تاريخ الفكر المصري الحديث
تاريخ الجبرتي
والتر لاكور: الشيوعية والقومية في الشرق الأوسط (بالإنجليزية)
مفيد الزيدي، العصر المملوكي
أحمد تيمور باشا، الأمثال العامية
المقريزي، المواعظ والاعتبار لذكر الخطط والآثار
أريك فروم، الهروب من الحرية
الفريد أدلر، الطبيعة البشرية
روايات أدبية وأعمال درامية مختلفة
وغيرها….