عادل العمري - شريف يونس
( نشرت لأول مرة عام 1991)
مقدمة لمفهوم نمط الإنتاج
عادل العمري
يستهدف هذا المقال تحديد مفهوم نمط الإنتاج وتكونه منطقيا. ويُعد تحديد هذا المفهوم من
القضايا الشائكة؛ فطالما بُذلت جهود لتحليل أنماط
الإنتاج في مصر وخاصة في الريف، واختلفت الآراء استنادا – في الغالب – إلى تباين تحديدات مفاهيم مختلف أنماط الإنتاج،
بل ولمفهوم نمط الإنتاج نفسه. وقد اتضح ذلك مثلا في رد
صالح محمد صالح على إبراهيم عامر، وهو تقريبا أبرز حوار حول الموضوع (من طرف واحد
مع ذلك) تم في مصر. أما مفهوم نمط الإنتاج فلم يجر تناوله من الناحية النظرية المحضة في بلادنا؛ فهنا يعتمد
الجميع تقريبا على التعريفات الدارجة.
ولا يكفي أنْ يقرر المرء ما يقصده هو بمفهوم هذا الشيء أو ذاك، أو أنْ يضع من تلقاء نفسه (تعريفات)
معينة يسير في بحثه على أساسها. فرغم أهمية هذه
العملية في حد ذاتها، إلا أنها، لكيْ تكون محاولة علمية بحق ينبغي أنْ تتم بطريقة موضوعية – منطقية، وبمعنى أوضح
ينبغي اكتشاف حركة المفاهيم، باعتبارها موضوعات، مع الاهتمام بكشف حركتها المنطقية
وبالتالي استنباطها من بعضها، بصفتها عملية موضوعية لا تتوقف على موقف هذا الذهن أو
ذاك، بل تتم باعتبارها عملية اكتشاف للحركة
الموضوعية للمفاهيم.
ولم تطرق فكرة المفهوم Notion نفسها طرقا حقيقيا في
أدبياتنا، وعادة ما يجري التعامل مع (المفهوم) استنادا إلى
شروحات شبه مدرسية. ونظرا لأهمية هذه القضية فسوف نبدأ بتحديد
المفهوم نفسه:
تحوي اللغة نوعين من الكليات: Universals التصورات Concepts. والمفاهيم
Notions. والنوع
الأول يشمل الكليات التي لا يمكن
استنباطها، أيْ أنَّ وجودها ليس وجودا موجبا ضروريا Essential، ونقصد
هنا الضرورة المنطقية. مثال ذلك تصورات الكلب، القطار... إلخ؛ فوجودها عرضي Contingent، غير
مبرر منطقيا، وهيَ لا تنبثق من كليات أخرى؛
فليس من الضروري أنْ ينتقل تصور الحيوان منطقيا إلى تصور الكلب رغم أنَّ
الكلب حيوان.
أما النوع الثاني من الكليات؛ المفاهيم، فهيَ تلك التي توجد على نحو ضروري، مرتبطة على نحو
مطلق بالوجود الإنساني نفسه أو مترتبة عليه بشكل منطقي.
وهيَ نوعان: مفاهيم المنطق (مثل الكلي والجزئي والفردي)، والمفاهيم الحسية (مثل
قوى الإنتاج، علاقات الإنتاج، نمط الإنتاج). وهذه المفاهيم
تترتب تراتبا منطقيا، فتتضمن بعضها بالقوة Potentially أوبالفعلActually .
وبقدر ما يمكننا استنباط هذه المفاهيم من بعضها بشكل منطقي نكون أقدر على
معرفة حقيقتها.
وقد قدم هيجل تحديدا واضحا للمفهوم: فهو في أعرض معانيه "طبيعة أو ماهية الأشياء" وبتعبير
آخر: "القلب الحقيقي للأشياء؛ نبض
حياتها"
أنَّه إذن حياة موضوعية تقوم بذاتها، بل وتقوم الأشياء على أساسها.. فهو
"يكون الأساس المطلق، إلا أنَّه لا يكون كذلك إلا بقدر
ما يكون الأساس"
وليس معنى ذلك أنَّ العرضي من وجهة نظر المنطق الجدلي عبث محض، وإلا استحالت معرفة الكلب أو
اختراع القطار؛ فالعالم الحيّ يحوي الروابط الضرورية التي
تجعل الكلب حيوانا؛ رغم أنَّ الحيوان ليس كلبا بالضرورة، وتجعل القطار أداة أو حتى
وسيلة انتقال رغم أنَّ الأداة ليست بالضرورة وسيلة انتقال، ووسيلة الانتقال ليست بالضرورة قطارا.
فالعرضي إذن هو العرضي من وجهة نظر الفكر؛ أيْ أنَّه غير منبثق من الفكر، فلا يمكن استنباطه؛ ذلك
لأنه لا يحوي (غاية) داخل ذاته، ومن ثم فهو يبدو أمام الفكر كمعطى مباشر ليست له (غاية)
ذاتية.
غير أنَّ الانفصال بين المنطقي والعرضي ليس مطلقا؛ فمقولة التصنيف نفسها (الهوية والاختلاف) هيَ
إحدى مقولات المنطق الجدلي التي يمكن استنباطها. ومن جهة أخرى يمكن الحصول على أيِّ
مفهوم من المفاهيم الضرورية منطقيا بالتجريد البسيط من
المعطى – مثلا مفهوم تقسيم العمل أو أدوات الإنتاج. هناك إذن تداخل بين المعطى والمنطقي؛ بين العرضي والضروري؛
بين المادة والفكرة.
والخلاصة أنَّ المنطق الجدلي يرتب المفاهيم منطقيا بقدر ما أنَّ هذه المفاهيم الجزئية تشكل
عناصر في عملية تطور منطقي، بمعنى عملي تنطوي أيُّ لحظة
منطقية لوجودها على إمكان لحظة منطقية أخرى أكثر تركيبا، صعودا إلى مفهومها الذي
يحتوي على تحديداتها كاملة في صورة تحديد مطلق. غير أنَّ العملية المنطقية
ومقولاتها لابد أنْ تنطوي فعليا على تحديدات جزئية معطاة.. فوسائل الإنتاج هيَ العصا والفأس والمحراث... إلخ، وهيَ
تتواجد من خلال هذا الجزئي.
ويستهدف هذا البحث تحديد التكوين المنطقي لمفهوم (نمط الإنتاج) بهذا المعنى. ومن الواضح أنَّ
هذا المفهوم حسّي.. وسنقوم هنا أولا بإلقاء الضوء على
المنهج الذي سنبحث به مفهوم نمط الإنتاج. ولا بأس من الإشارة
هنا مسبقا إلى أننا سنستخدم منهج الديالكتيك بالطريقة التي عرضه بها هيجل – إلى حد كبير – وبالطريقة التي استخدمه بها
ماركس في (رأس المال) أساسا:
وفقا للديالكتيك يشكل المفهوم حقيقة الوجود أو العنصر العقلي فيه، هذا بكل اختصار. ولنحلل هذه
الفكرة:
قبل هيجل، وبالتحديد عند كانط بلغت الفلسفة في تأملها فكرة التفاعل
بين مقولات الذهن والتجربة
وأما مع هيجل فقد تم تجاوز هذه المقولة
وظهرت مقولة المفهوم؛ فصارت
الازدواجية السابقة إلى الوحدة المطلقة بين الوجود
والماهية؛
في هذه اللحظة يصير الوجود (في ذاته و لذاته).
وقد استنبطه هيجل من دائرة الماهية كالآتي: كل جوهر يضع نفسه أولا على أنَّه عرض Contingency ثم كنتيجة، ثم كجوهر فعال و"هكذا
تؤدي الحركة الجدلية للجوهر من خلال السببية والتفاعل إلى انبثاق
المفهوم مباشرة"... "وبذا يكون المفهوم حقيقة الجوهر".وبمعنى أوضح، إذا تصورنا التفاعل بين السبب
والنتيجة نجد أنهما يكونان شيئا واحدا؛ فالشيء ينتقل إلى ضده وضده ينتقل إليه، أيْ
أنَّه ينتقل في النهاية إلى نفسه.. فالمفهوم إذن هو الشيء
الذي يتوسط نفسه بنفسه
أو يحدد نفسه بنفسه، وهذا يعني أنَّه واحديUnitary. وهو
إذن ليس مجرد أهم جانب في الظاهرة، وإنما هو يشكل كل ما هو ضروري في الظاهرة: الظاهرة في علاقتها بنفسها، كانعكاس داخل ذاتها،
وحدة الظاهرة مع نفسها باعتبارها وحدة أضداد، أو هو
الوحدة المطلقة للأضداد. فانتقال الشيء من لحظة إلى أخرى لا يؤدي هنا إلى نفي مطلق لنفسه، وإنما ينتقل مع
احتفاظه بنفسه أيضا، ولذلك فهو ينتقل داخل نفسه ويوجد
لذاته For
itself؛ فالشيء ينتقل إلى شيء؛ ولذلك نقول أنَّه بمعنى ما يظل نفسه. هذه
الوحدة مع الذات أو هذا الشيء الذي
يحدد نفسه بنفسه هو المفهوم
وعادة يتبنى الباحثون عندنا طريقة مختلفة لدراسة الظواهر؛ فنظرا لتعقد الواقع وتشابك
الظواهر يميل معظم الباحثين إلى رصد الكثرة
والتعدد والتشابك والتفاعل على حساب الوحدة، ويجري النظر إلى المفاهيم على أنها تعريفات موجزة أو ملخصات لا تفي بالغرض، اعتقادا
منهم بأن المفهوم مجرد وبسيط؛ كذلك يجري التعامل مع مفهوم الديالكتيك كما لو كان
عملية تفاعل معقدة فحسب. وهنا يتوقف صاحب هذه الرؤية
عند لحظة من منطق الديالكتيك حسب عرض هيجل له، هيَ مقولة التفاعل، وكثيرا
ما نجد (جدليين) يستخدمون تعبيرات من قبيل الحركة الجدلية، العلاقة الجدلية أو العملية الجدلية قاصدين التفاعل بين
شيئين أو عدة أشياء أو ظواهر (أنور عبد الملك مثلا).
وتعد هذه الطريقة – من وجهة نظر المفهوم – تبسيطا بالغا للأمور، لأنها ترصد الظواهر من
خارجها ولا تذهب إلى أبعد من تحديد جزئي لماهية الظواهر.
أما المفاهيم، فهيَ تتضمن كل الجوانب الضرورية منطقيا Essential للظاهرة (الضرورية لوجودها نفسه). وفي مقابل نظرية المفهوم، تكتفي
(نظرية) العوامل والنظرية التعددية أو الثنائية وكذلك
البنيوية بتحليل العرضي، ومن ثم تعجز عن تفسير الواقع ومعرفة حقيقته. فالحقيقة هيَ أساسا الجانب الضروري من
الظاهرة. ذلك الذي يحدد وجودها ككل، أيْ مفهومها، وبلغة التفكير العادي: هيَ
الفكرة التي تتضمنها الظاهرة.
لننتقل خطوة أخرى في تحديد المفهوم:
لكل ظاهرة جوانب عديدة، سبب وجوهر وكمية وكيفية.. إلخ. إلا أنَّ هذه الجوانب كلها تتحد في
شيء ما.. واحد بمعنى من المعاني. هذه الوحدة هيَ
المفهوم. وفي الحقيقة لا يمكن للمرء أنْ يحدد مفهوم شيء إلا من خلال دراسته جيدا، ذلك لأنَّ المفهوم يُعد كلية
عينية، شيء بالغ الثراء، لأنه يتضمن كل ما يكون الظاهرة على نحو ضروري. إلا أنَّ
معرفة العرضي تعد ضرورية لمعرفة الضروري؛ فاللاضروري (أو العرضي) يكون جانبا من
الظواهر. كما أنَّ الاستنباط نفسه يتطلب معرفة مسبقة بما
نستنبطه، أيْ أنَّ مرحلة تسبق مرحلة العقل في عملية المعرفة هيَ الفهم. ومع ذلك فلا يكفي لكيْ يعرف المرء ظاهرة ما أنْ
يرصد عناصرها، بل يحتاج الأمر أيضا إلى الاستنباط،
أيْ تقديم عرض منطقي لهذه العناصر.
ونضيف أخيرا أنَّ العرضي يوجد على نحو مستقل منطقيا عن الضروري، ومع ذلك يُعد تحديده ضروريا
لتحديد المفهوم نفسه، حيث إنَّه؛ أيْ الأخير، يظهر
من خلاله وإن كان هذا يتم بمحض الصدفة – من الناحية المنطقية – ولهذا السبب بالذات
لا يكون الاستنباط مطلقا وخالصا أبدا في تحليل الظواهر؛ وربما كان كذلك أيضا في المنطق نفسه؛ أيْ في تحليل العقل
الخالص (وهذه نقطة تحتاج إلى مبحث خاص). ومع ذلك، ورغم
كل الإضافات وعناصر الصدفة العقلية، يظل العقلي موجودا، وفعالا، مشكلا حقيقة الوجود.
ولكن وجود اللاعقلي بتلك القوة يجعلنا ننظر إلى العقلي
نظرة مغايرة لنظرة هيجل؛ فهو ليس حرا طليقا على نحو مطلق، بل حر بمعنى أنَّه يقود نفسه ويقود اللاعقلي؛ وإلى هذه الدرجة
فحسب يتمتع بالقدرة على المبادرة، ولكنه من جهة أخرى
يكون مضطرا إلى التحقق من خلال اللاعقلي بالذات وليس أيِّ شيء آخر.. إنها إذن حرية مسئولة وليست حرية الطفل.
أما التعريف فيكون ذا قيمة علمية – منطقية بقدر ما يهتم بإبراز المفهوم بالذات، ولهذا
اعتبر هيجل أنَّ التعريف Definition هو "اختزال
المحتوى إلى مفهومه"ولا يكون التعريف
صحيحا (وإنما مجرد إيجاز ركيك) إلا إذا أبرز مفهوم الموضوع ولهذا
قدم هيجل التعريف كمجرد لحظة - Moment ونقصد لحظة منطقية – في المفهوم نفسه
ولتوضيح حجم المشكلة نقدم مثلا شائعا: تحدد الغالبية العظمى من باحثينا نمط الإنتاج الرأسمالي
بعدد من السمات (الإنتاج بالآلات – الإنتاج السلعي-
الملكية الخاصة – العمل المأجور.. إلخ، كمحددات متعددة غير مترابطة بشكل ضروري – منطقي؛ مما
يحدث اضطرابات بالغة في التحليل. وغالبا ما يقرر كل
باحث تغليب أحد العوامل ويركز عليه؛ فتتضارب نتائج الأبحاث ويجري حوار الطرشان بين من يزعمون استخدام
المنهج نفسه بصدد الظاهرة نفسها. ولا يمكن
التغلب على هذا القصور إلا بالبدء بتحديد الشيء المطلق في نمط الإنتاج الرأسمالي، أيْ الشيء الذي يحدد هذا النمط مبدئيا
ويحدد، من ثم، باقي جوانبه.
والمعرفة البشرية هيَ عملية انعكاسية؛ تتجاوز
الإدراك الحسّي؛ ولكي تكون أكمل ما يمكن لا يجب الاكتفاء بعرض
الظواهر الاجتماعية وتحليل المعطيات المباشرة؛ بل ينبغي أيضا اكتشاف عللها.. ما هو عقلي فيها؛ أيْ اكتشاف منطقها الداخلي.
وبالتالي لا ينبغي دراستها كما هيَ فحسب، بل أيضا دراستها
في حركتها، تكونها وآفاق تطورها. ولأن هذه الجوانب ليست حاضرة على
نحو مباشر، فإنه ينبغي بجانب التحليل المباشر استنباط مفاهيم الظواهر الاجتماعية من مفاهيم أعم، أيْ تحليل انبثاق
الظواهر وتطورها تحليلا عقليا، أو – على الأقل
– إبراز العلاقة المنطقية بينها.
وهذا ينتقل بنا إلى مسألة أخرى تتعلق بالديالكتيك؛ هيَ مسألة موضوعية المفاهيم؛
فالمفاهيم ليست مجرد أفكار ذاتية بل هيَ حقيقة
الوجود الإنساني نفسه؛ فنحن لا نحول الموضوعات إلى مفاهيم في الذهن، ولكننا نكتشف المفاهيم الموضوعية نفسها، بتوسط الذهن الذي
يتشكل أيضا من مفاهيم؛ فعملية الاكتشاف والتفكير تتطلب منطقا ما، هو نفسه المنطق
الموضوعي. وهذا يعني أنَّ المنطق أو الفكر الخالص شامل،
موضوعي وذاتي.. فالعقل لا يكتشف في الموضوع سوى نفسه، وهذا ما نقصده حين نقول إننا
نكتشف فقط في عملية البحث منطق العالم أو معقوليته. وتعني بالنسبة لنا موضوعية
المفاهيم أساسا أنَّ معرفتها ممكنة؛ أنَّ كل ظاهرة اجتماعية
يمكن اكتشاف حقيقتها. ومن الأمور الشائعة في أدبياتنا. ومن بينها الأدبيات الماركسية، تناول بعض الظواهر
الاجتماعية كأشياء في ذاتها، بالمعنى الكانطي
لهذا؛ فيتم النظر إليها من خارجها، كسمات وخواص وأسباب ونتائج ومستويات.. دون التطرق إلى مفاهيمها.. وهذا هو الناتج
الحتمي للتحليل العاملي والبنائي والجدلي المبتذل الذي
يهمل الوحدة الداخلية للموضوعات. فمثلا درجت الكتابات الماركسية (الرسمية)
على تحديد نمط الإنتاج كمركب من قوى وعلاقات الإنتاج دونما اهتمام بتحديد هذا
المركب نفسه؛ فالتآلف بين قوى وعلاقات الإنتاج ينتج مركبا جديدا هو نمط الإنتاج، الذي يظهر كمفهوم متميز يتطلب
هو نفسه الفحص والدراسة والتحديد. وبتطبيق هذا الأمر على
كافة المفاهيم العينية؛ فهيَ مركبة من مفاهيم أقل عينية (أكثر
تجريدا).. فإذا وصفنا كلامنا بأنه (مركب من..)، لتوقفت عملية المعرفة عند أبسط مفهومين. ومن الواضح أنَّ فكرة الشيء في
ذاته هذه تؤدي إلى مشاكل نظرية جسيمة؛ فلا يتم رصد الموضوعات دائما حيث ينبغي لعدم
تحديد مفاهيمها.
وننتقل الآن إلى نقطة جديدة:
تنتقل الموضوعات، أو بالأحرى المفاهيم الموضوعية، من لحظة إلى أخرى.. ليس في الذهن، بل
أولا في الواقع الاجتماعي الموضوعي. وتتم
العملية بطريقة معينة؛ أيْ تحكمها (قوانين) موضوعية محددة. فمن الأمور الملموسة تماما بالتجربة أنَّ المجتمع
الإنساني يتطور، ويعني التطور- جوهريا الانتقال
من لحظة بسيطة إلى لحظة أكثر تعقيدا... فالتطور هو عملية تركيب بهذه المعنى.. وتتضمن هذه العملية التحليل أيضا؛ فكل
مرحلة تتضمن – بالقوة – المرحلة التالية؛ فتخرج هذه من جوف تلك؛ وهذا تحليل؛ ولكنها
لا تخرج منها فحسب، إنما تلتهمها أيضا في الوقت
نفسه، ولذلك تكون أكثر تعقيدا. وتنطبق هذه الصيروة على عملية
المعرفة كذلك؛ فالذهن يبدأ بالأبسط؛ بالأكثر تجريدا؛ إذ لا يمكنه أنْ يدرك الموضوع إلا إذا أدرك أصله. فمثلا يمكننا أنْ
ندرك مفهوم ريع الأرض في المجتمع الرأسمالي بعد أنْ
ندرس مفهوم رأس المال أصلا، ولكن العكس غير ممكن.. ذلك أنَّ ريع الأرض يتضمن بالفعل رأس المال
والطريقة العلمية في البحث تحاكي تطور الواقع نفسه والتطور الطبيعي للمعرفة أو (المنطق الطبيعي)
بتعبير هيجل
أيْ أنها تبدأ بالمجرد
وتنتهيَ إلى العيني. فالأخير هو كذلك لأنه يتشكل من تحديدات أخرى، وبالتالي يكون
رصده العلمي وهو يتشكل، أيْ وهو يصبح عينيا. لذلك ينبغي أنْ ننطلق من أكثر المفاهيم عمومية نحو رصد و دراسة
انتقالها إلى مفاهيم أكثر عينية حتى نصل إلى تحقيق
البحث.
وجدير بالملاحظة هنا أنَّ هذه الطريقة في البحث تتعلق بدراسة موضوع اجتماعي محدد أو فترة
تاريخية محددة. أما دراسة الأصول التاريخية للفترة أو
للموضوع؛ فلا يمكن أنْ تشكل – منطقيا – نقطة البداية.. ذلك أنَّ تحديد بداية الظاهرة زمنيا يستند منطقيا إلى
دراسة الظاهرة نفسها؛ فمثلا، لا يمكن دراسة علم
الأجنة Embryology إلا بعد دراسة
علم التشريح Anatomy، ولا يمكننا معرفة أصل رأس المال قبل معرفة
رأس المال نفسه. فلكي نحدد الأصل التاريخي للظاهرة لابد
و أنْ نعرفها هيَ نفسها أولا.
من المشروع إذن، بل ومن الضروري، أنْ نحدد منذ البداية الموضوع الذي نريد أنْ ندرس أصله التاريخي.
وهذا ينقلنا إلى نقطة جديدة.
المنطقي والتاريخي (بالمعنى الشائع
للكلمة: الزمني)
المعرفة – كما رأينا – هيَ اكتشاف مفاهيم الموضوعات، وقد تتطلب هذه العملية منح أولوية
للتتابع المنطقي على التتابع الزمني؛ فالمنطقي هو جوهر التاريخي؛ إلا أنهما
متمايزان، حيث إنَّ التاريخي يتضمن ظواهر عرضية، بينما
يتمثل المنطقي في جوهر حركة التاريخ أو ظواهره الجوهرية. وتأتي الفجوة بين المنطقي والتاريخي من إمكانية تميز
المفاهيم عن بعضها منطقيا دون وجود فواصل زمنية بينها؛ فليس من المتصور مثلا أنْ
توجد قوى الإنتاج دون علاقات الإنتاج، بينما يمكن تصور أسبقية الأولى على الثانية
منطقيا. وهذا لا ينفي إمكانية حدوث تطابق منطقي وزمني؛ فبوجه
عام تنبثق المفاهيم الأكثر تجريدا قبل المفاهيم الأعقد في المنطق أو
التاريخ، أو في الإثنين معا. كذلك من الممكن أنْ ينبثق مفهوم أكثر تجريدا قبل (زمنيا) مفهوم أعقد؛ بينما
ينضج الثاني قبل الأول؛ ففي هذه الحالة يتفق
التتابع الزمنى مع التتابع المنطقي ولكن لا يكون نسخة منه.
ونشير أخيرا إلى ظاهرة شائعة، هيَ ما يسمى بالنزعة أوروبية المركز Euro centr
ism، التي تتمثل في قياس كل الظواهر الإنسانية على تاريخ أوروبا، الذي يُعد في هذه الحالة النموذج
المثالي لفعل قوانين التاريخ. فكثيرا ما نجد باحثين
يلجأون إلى فرض تصورات مسبقة على واقع لا يتضمنها، لسبب واحد هو إنها تنطبق على (النموذج الأصلي)
* المقولات الاجتماعية – الاقتصادية
على أساس ما سبق سنقدم فيما يلي عرضا للتكوين المنطقي لمفهوم نمط الإنتاج :
قدم ماركس بخصوص التكوين الاجتماعي ـ الاقتصادي مساهمة- هامة، وقد
ساهم مفكرون سابقون على ماركس في وضع تصورات موضوعية
للآليات الداخلية لتكوين المجتمعات، خاصة من الفرنسيين إلا
أنَّ ماركس قام بتعميق هذه التصورات، مستفيدا من منطق هيجل ومسجلا في الوقت نفسه
قطيعة كاملة مع مذهبه
ولم يحدد ماركس موقفه بشكل واضح من منهج هيجل في صورة عرض تفصيلي، كما لم يلتزم بتقديم عرض
شامل للمقولات الاجتماعية – الاقتصادية التي اكتشفت بطريقة تجريبيةفقد ركز في (الأيديولوجيا
الألمانية) مع انجلز على تأسيس نظريتهما المادية للتاريخ، واستعرضا باستفاضة أغلب
هذه المقولات في سياق البرهنة على صحة نظريتهما المادية؛ لذلك تميز عرضهما بطابع
عملي – وصفي، وبعد ذلك حاول ماركس تقديم عرض نظري في
مقدمة (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) ولكنه لم يكن
عرضا شاملا، ونحاه جانبا بعد ذلك وقد قام بعض
الباحثين الماركسيين لاحقا بمحاولات لبناء نسق عام من المقولات الاجتماعية – الاقتصادية اعتمادا على إشارات متناثرة لماركس
وانجلزويتلخص التصور الشائع بهذا الخصوص في القول بأن قوى الإنتاج
تحدد علاقات الإنتاج بشكل مستقل عن وعيْ وإردة
البشر، ويشكلان معا – كوحدة – أسلوب الإنتاج، الذي يُعد أساسا لبناء الاجتماعي ككل؛ فينتج البناء الفوقي
ويشكلان معا التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية
غير أنَّ هذا المخطط عام وفضفاض للغاية، كما لم يجر أبدا عرضه في صورة نسق منطقي، بل ويظهر
اختلاط مقولاته واضطرابها لدى كثير من الباحثين؛ فتذهب مثلا كل من الموسوعة
الفلسفية (السوفيتية) وقاموس الاقتصاد السياسي (فولكوف)،
إلى اعتبار علاقات الملكية أساسا لعلاقات الإنتاج (شاملة الإنتاج
والتوزيع والتبادل والاستهلاك)، دون ما تحديد للعلاقة بين علاقات الملكية وعلاقات الإنتاج، كما نجد خلطا بين مقولتي نمط
الإنتاج وعلاقات الإنتاج. وجدير بالذكر أنَّ ماركس لم
يحدد مفاهيمَ مثل نمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج بشكل واضح ومباشر، حيث إنَّه ركز
جهوده أساسا على تحليل عمل النظام الرأسمالي، ولم يتطرق إلى دراسة أساليب الإنتاج السابقة على الرأسمالية إلا في
سياق البرهنة على تاريخية الرأسمالية ولذلك
لم يدرسها أو يعرض وجهة نظره بالتفصيل.
لقد كرس ماركس جهده لتحديد نمط الإنتاج الرأسمالي (مفهومه)، بأنه عملية إنتاج فائض
القيمة
وشرح هذه المقولة في: مساهمة في
نقد الاقتصاد السياسي – رأس المال – نظريات في فائض القيمة – أسس نقد
الاقتصاد السياسي. وكان أوضح ما وجدناه لماركس بصدد مفهوم الإنتاج هو ما يلي:
"مهما كان الشكل الاجتماعي للإنتاج، يبقى العمال ووسائل الإنتاج دائما العاملان اللذان
يشكلانه، ولكن في حالة انفصالهما يصبح كل منهما على ما
هو عليه فقط بالقوة. فلكيْ تسير عملية الإنتاج ينبغي أنْ يتحدا. وتتميز الحقب الاقتصادية المختلفة لتركيب
المجتمع عن بعضها حسب الطريقة الخاصة التي يجري
بها هذا الاتحاد" - "يحدد الشكل
الاقتصادي الخاص الذي ينتزع به العمل الفائض من
المنتجين المباشرين العلاقة بين الحكام والمحكومين، كما يظهر إلى الوجود مباشرة من الإنتاج نفسه، ومن ثم يتفاعل
معه كعنصر محدد. فعلى هذا الأساس يُقام التكوين الاقتصادي ككل"
وقد جرت محاولات عديدة لتحديد المفاهيم الاجتماعية – الاقتصادية بشيء من التفصيل، انطلاقا
من أفكار ماركس، وإضافة جوانب أخرى لهذه المسألة (مثلا
استعرض هارولد ولب
عددا من الأفكار حول موضوع تمفصل أنماط الإنتاج،
تضمنت تحديدات مختلفة لنمط الإنتاج كمفهوم)، وتكمن نقطة ضعف كافة
هذه الأفكار – من وجهة نظرنا – في وضع تحديداتها دون مبرر منطقي، ودون إمساك بمفهوم نمط الإنتاج نفسه بما هو كذلك.
كذلك اتسم تحديد بولانتزاسبنفس الخلل؛ فهو يحدد نمط الإنتاج كتشكيلة من عدة مستويات؛ اقتصادي
وسياسي وأيديولوجي، دون تبرير أو إمساك بالمفهوم نفسه. كذلك ربط سمير أمين (بل ويكاد يكون قد ساوى) بين نمط الإنتاج
ونمط توليد الفائض، ولكنه للأسف لم يطرح على
نفسه مهمة التشريح النظري لمفهومه
والانتقاد الأساسي الذي نوجه لهذه الأطروحات هو أنها تفتقد إلى منهج لتحديد المفاهيم؛ فتحددها
على غير أساس سوى الملاحظة المباشرة؛ فتتعامل مع الكل المعقد (المجتمع) كما هو، دون
محاولة لكشف منطقه الداخلي، وربما اعتقادا بأن هذا الكل أكثر واقعية وأغنى من أيِّ
مفاهيم. والأمر كما نرى عكس ذلك تماما؛ فالفكر كما
قال هيجل بحق أغنى من موضوعاته، لأنَّ الوقائع في حد ذاتها وجود مباشر بحت، ولكن الفكر هو الذي يكشف إمكاناتها،
أيْ آفاق تطورها، بل وأصولها أيضا. فالمفاهيم ليست معطيات
جاهزة ولكنها شيء يوجد ويصير ويتعين.
والطرح المبرر هو الطرح المبرر عقليا، الذي لا يكتفي برصد الموضوعات، بل ينبغي أنْ يعرض عرضا
منطقيا كنسق قادر على تبرير نفسه.. أو كوجود ضروري عقليا
و بحد أدنى يبرز فيه عنصر الضرورة المنطقية.
وعلى العموم، تبدو الطريقة العاملية هيَ الأكثر عملية، ولكن الروح العملية لا تنفع في القضايا
النظرية المحضة، إذ أنَّ المطلوب في هذه الحالة
هو الروح المنهجية.
وسوف نستعرض فيما يلي التكوين المنطقي
لمفهوم نمط الإنتاج – كمفهوم.
أولا: قوى الإنتاج PRODUCTIVE FORCES
يبدو نمط الإنتاج للوهلة الأولى في أبسط لحظاته وأكثرها عمومية وتجريدا، كعلاقة بين الإنسان
والطبيعة، فيها يستخدم الإنسان الطبيعة في إنتاج
حاجاته بوصفه كائنا حيا متميزا. وهذه اللحظة البسيطة المباشرة هيَ
قوى الإنتاج. وفيها يظهر الفرد والجماعة البشريان متحدان في هوية بسيطة في مواجهة الطبيعة، وبمعنى آخر تكون قوى
الإنتاج نتاجا للجماعة البشرية وأفرادها على حد سواء،
أيْ تظهر الجماعة كتجمع لأفراد متجانسين وليس ككيان عضوي؛ أيْ كما لو كانت الجماعة
فردا واحدا.. فما دمنا لم نعرض لعلاقات الإنتاج الاجتماعية بعد، فإن الجماعة ككيان عضوي توجد وجودا كامنا
فحسب.
ورغم غرابة هذا التجريد للوهلة الأولى، إلا أنَّه بديهيَ
وشائع أيضا؛ فرجل علم الاقتصاد الذي ينادى في كل حين بتمسكه بالحقيقة الملموسة ولا شيء سواها، يقيس تطور قوى الإنتاج
في أيِّ مجتمع بمصطلحات من قبيل: متوسط إنتاجية العامل،
إجمالي الناتج القومي، الأصول الثابتة.. إلخ، وهيَ تنطوي كما هو
واضح على التجريد المشار إليه بكل خصائصه.
غير أنَّ حقيقة أنَّ الفرد الإنساني (حيوان سياسي) لا يفهم وجوده كقوة عمل متطور إلا في المجتمع، تجعل
من الضروري الإشارة من حين إلى آخر إلى دور الجماعة
ككيان عضوي في تشكيل مفاهيم قوى الإنتاج.. ولكن هذا فقط بغرض الإيضاح.. والأهم من
ذلك أنَّ دور الجماعة هذا يعامل هنا كمعطى للفرد المنتج غير المتمايز عن غيره من الأفراد. أما تحليل دور
الجماعة العضوية الفعلية في تشكيل الفرد فلا يأتي دوره إلا
في مفاهيم متأخرة.. مفاهيم علاقات الإنتاج.
1- قوة العمل Lobour Power
تشكل قوة العمل البداية البسيطة المطلقة لنمط الإنتاج؛ فإذا ما جردنا عملية الإنتاج الاجتماعي
وإعادة الإنتاج من كل تحديداتها الجزئية: وسائل الإنتاج،
أشكال الملكية، علاقات التبادل... إلخ، لن يتبقى لنا سوى تلك
البداية البسيطة: أنْ يضع الإنسان نفسه ككائن متميز منفصل عن الطبيعة، أيْ كنوع:Genus Homo Sapiens.
فمن الضروري إذن البدء بتحديد طبيعة النوع الإنساني؛ ذلك أنَّ كل موجود جزئي في الكون
ينفصل عن الطبيعة بمعنى ما، كما أنَّه يتميز عن
الموجودات الأخرى. كذلك فإن الكائنات الحية تشارك الإنسان في حقيقة أنها تميز نفسها بإعادة إنتاج نفسها كنوع يتجاوز أفراده،
ويستخدم الطبيعة في عملية الإنتاج وإعادة الإنتاج
هذه. فمن المعروف أنَّ أبسط خلية حية تنتقي من الطبيعة المواد
الملائمة لها وتتمثلها وتستخرج منها طاقة فتتحرك وتتكاثر مبقية على نوعها. كما أنها تقبل تغيرات معينة في بيئتها وتتكيف
معها.
وإذا كانت الحياة في أبسط أشكالها تشكل نسقا من ردود الأفعال الفيزيائية والكيمائية، فإنها تصل
في مراحلها العليا إلى درجات من القدرة الذهنية أو الإدراك
الصريح؛ فالقردة العليا مثلا لديها القدرة على التخيل، بمعنى تحويل معطيات البيئة
المباشرة إلى أدوات تناسب أهدافها؛ فاستخدام فروع الأشجار
ذات الطول المناسب في إسقاط الثمرة لا يكمن لا في فرع الشجرة ولا في الثمرة ولا في جوع القرد ولا في طبيعة جسده الفيزيقي، وإنما
يكمن في علاقة يقيمها القرد ذهنيا بين هذه العوامل.
هذه كلها درجات من (الوعي) أو الانفصال أو التحديد إزاء الطبيعة، وهيَ كلها تدخل في تحديد
النوع الإنساني أيضا. ولكن ما يميز هذا الأخير هو القدرة
على تكوين تصورات مجردةعن الأشياء وعن العالم في مجموعة... اللامتناهيَ. ومعنى هذه القدرة، التي يمكن أنْ
نسميها القدرة على إنتاج الفكر، أو تكوين مفاهيم، أنْ
ينفصل الإنسان جوهريا عن الطبيعة كوعي أو كقدرة على المعرفة، وهذا يستتبع قدرته على
أنْ يرى في الطبيعة ككل موضوعا لذاته.
من جهة أخرى تتحدد هذه القدرة بأنها قدرة كائن نوعي، هو في التحليل الأخير موجود طبيعي (باعتباره
مادة، كائن حيّ، حيوان، فقاريات، ثدييات، رئيسيات).. ومن ثم فهو لا يتمثل الطبيعة
كمحض وجود خارجي؛ فهيَ داخلة في صميم تكوينه.
وتمثل هذا الارتباط بالطبيعة في نظام الحاجات: ضرورة أنْ يعيد الإنسان
إنتاج جسده. ولكن إعادة الإنتاج هذه إعادة إنتاج من وجهة نظر النوع البشري، أيْ إعادة إنتاج القدرة على الوعي أيضا.
لذلك نجد أنَّ نظام الحاجات ليس معطى ماديا محضا، ورغم
أنَّ له أساسا ماديا. وإذا القينا نظرة سريعة على نظام الحاجات المادية في التاريخ، فسنكتشف تطورا مذهلا
لحاجاتنا المادية بالمقارنة بإنسان الكهف
ويتمثل مفهوم قوة العمل في الارتباط الضروري بين انفصال الإنسان عن الطبيعة والارتباط بها؛ بين
المعرفة والوجود؛ بين الإمكان (الحرية) والضرورة... يتمثل في مشروع للعمل، بحسبان
العمل إعادة إنتاج للطبيعة وفقا لحاجات الإنسان
المادية (المتزايدة – إذ يدخل فيها عنصر القدرة على الوعي كما ذكرنا) وأول تبديات
هذه القوة هيَ اللغة، أو بمعنى أدق القدرة على إنتاج اللغة من حيث هيَ
تعبير عن تصور العالم لأشياء وما بينها من علاقات، من حيث هيَ تحديد للعالم، وتعبير
عن ديناميكية القدرة على التفكير الانعكاسي في تماسها مع
الطبيعة.
واللغة تنتجها الجماعة البشرية، وتتبدى فيها لأول وهلة هذه الجماعة كذات تواجه الطبيعة.
ويتبدى إبداع الجماعة من خلال الفرد؛ فالفرد هو الذي ينتج المعرفة، ولكنه ينتجها
داخل الجماعة، التي لا يقتصر دورها على استيعاب المعرفة
وتعميمها، وإنما تختبرها وتصحهها أيضا. ويتميز الإنسان الفرد بأنه لا يتكون كفرد إلا في الجماعة؛ فلم يشهد
التاريخ قط (بشرا) أفرادا، وقد وُجد أفراد
يعيشون في الغابات كمتوحشين ولكنهم لم يشبهوا أبدا الإنسان العاقل. الجماعة إذن وجود سابق منطقيا على الفرد كفرد، والفرد
لا يبدع ولا يعمل إلا على أساس من الحصيلة المعرفية
المتراكمة في حياة الجماعة. ولكن ليس معنى هذا أنَّ الفرد الإنساني مجرد تجسيد لوظيفة اجتماعية، وإنما هو مبدع.
فرغم وجود ظاهرة الفيتيشية السلعية في المجتمع الحديث، يظل
المجتمع البشري معبرا عن محصلة إرادات أفراده، رغم أنَّ هذه الإرادات نفسها تتحدد بنقطة انطلاقها وهيَ
المعرفة الجماعية، ذلك أنَّ وجود الفرد في المجتمع البشري
سابق على ماهيته، ومعنى ذلك أنَّ لدى البشر طاقة أخرى بخلاف الغرائز الطبيعية: قدرة على تحديد ماهيتهم، هيَ نفسها
القدرة الإبداعية التي نسميها قوة العمل، أيْ القدرة على
العمل
ومن الواضح على ضوء ما سبق أنَّ النوع الإنساني لا يوجد بالفعل إلا بعد تكون حصيلة عامة من
اللغة – المعرفة، تسمح بقيام
مشروع للعمل، يتيح لأفراد الجماعة تحولهم إلى قوة مبدعة. غير أنَّه ينبغي أنْ نلاحظ هنا أننا مازلنا – منطقيا – في (لحظة)
لم يتمايز فيها الفرد بعد
عن غيره من الأفراد؛ فقوة عمل الجماعة تتبدى عن طريق أفراد غير متمايزين، كل منهم هو الفرد بصفة عامة، وهو
بهذا القدر لا يتمايز عن الجماعة إلا بقدر تمايز الجزء
عن الكل... فالمجتمع هنا هو مجموع جبري لأفراده، والفرد هو الفرد الاجتماعي بصفة عامة.
وربما تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الاعتراف بحقوق الفرد الإنساني المبدع بصفته هذه أمر منوط
بالمجتمع وطبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها، وهو
أمر لا يتحقق واقعيا رغم شعارات حقوق الإنسان – إلا في مجتمع شيوعي لاطبقي عالمي. وقبل ذلك ظلت وستظل كل
جماعة تعامل الجماعات البشرية الأخرى كمحض
موضوعات لنشاطها المبدع (مثلا: الجماعات البربرية في نظر الحضارات القديمة، العبيد
في حضارات اليونان والرومان، النظريات العرقية وأشكال الاستعلاء العنصري المعاصرة)، فضلا عن معاملة أفراد المجتمع الطبقي
الواحد لبعضهم البعض كوسائل لتحقيق أهدافهم، وهيَ
نظرة (طبيعية) أو مترتبة منطقيا على الحط من شأن قوة العمل، واعتبارها فعليا مناط
القهر والاستغلال الطبقي.
2- وسائل الإنتاج Means of Production
وصلنا إلى أنَّ قوة العمل تتمثل في مشروع للعمل. وحين ينظر
الناس إلى أنفسهم كقوة عمل، أيْ كقوة مبدعة؛ فإنهم يكونون قد بدأوا مسيرة تحديد ماهيتهم. وإذا تصورنا الناس في
ذاتهم لما تبين لنا قط أيُّ ماهية تميزهم، بل وإذا ظلوا
على هذا الحال لما صاروا أبدا من الوجود إلى الماهية. ولكن الأمر يسير على خلاف ذلك؛ فقوة العمل هذه
باعتبارها لنفسها كذلك، تنزع إلى الكشف عن ذاتها من خلال اكتشاف العالم، وهيَ
تكتشف نفسها بتوسط الآخر. فالذات إذن تتمثل
العالم باعتباره عالمها الخاص.. ملكها.. أنَّ لها الحق في تسخيره. وهذا ما نسميه بالامتلاك Appropriation.
إنَّ لحظة اكتشاف العالم هو أول لحظة تخرج فيها الذات من نفسها، فكأنها تستخرج العالم من جوفها،
لأنها لا تكتشفه فحسب ولكن تتمثله أيضا وتكتشف
فيه نفسها؛ فهيَ العالم والعالم هيَ، فتتعامل معه كأنها خلقته خلقا. وحتى اعتقاد بعض الناس أنَّ الله هو الذي
خلق العالم لا ينفي وجود هذه الفكرة.. فالإنسان
يتعامل مع نفسه – من الناحية الفعلية – على أنَّه إله هذا الكون.. لا ينبغي أنْ يقف أمامه شيء..
فالعالم ملك للبشر دون أنْ يقرر لهم أحد ذلك، وهيَ
ملكية تمثلوها بأنفسهم وصارت بذلك حقيقة موضوعية. وحتى الأشياء التي عبدها البشر في العصور القديمة، عبدوها لأنها
حسب اعتقادهم على الأقل – كانت تخدمهم اما بشكل مباشر، أو غير مباشر، أو اتقاء لشرها؛
وهذه وسيلة لترويضها. وحتى عبادة الموتى لم تنشأ إلا من
اعتقاد البشر بتأثيرهم على الأحياء. وبعض الأديان تقر صراحة بحق البشر في تسخير الكون كله، والله نفسه
كفكرة وضعت في خدمة البشر أيضا.
وتتبدى وسائل الإنتاج في البداية كمجال للعمل؛ أيْ كموضوع مباشر لقوة العمل. ويعتمد
تحديد مدى وطبيعة هذا المجال تماما على قوة العمل
نفسها؛ فما نحدده بوصفه مجالا للعمل يعبر بالضرورة عن مستوى تطور قوة العمل بالذات، وهو تحديد يجري تجاوزه باستمرار بفعل
المبدعة لقوة العمل. ولكن بصفة مبدئية يعتبر الكون
بأكمله مجالا محتملا لقوة العمل.
غير أنَّ موقف الطبيعة ليس سلبيا تماما؛ فالموجودات
الطبيعية لها قوة حضورها أو خصائصها التي تفرضها فرضا على الإنسان؛ فقوة العمل لا
تعمل في فراغ أو في مقولة مجردة تسمى الطبيعة واقعية تتميز بالتنوع، وبالتالي
بالحاجة إلى تصنيف من جانب الإنسان حتى يمكنه أنْ يموضع عمله فيها. وهذا التصنيف أو التمييز الذي يعتمد على طبيعة
الموجودات هو موضوعات أو وسائل العمل.
وتدخل ضمن وسائل العمل قوة الإنسان العضلية ومهارته الحركية وإمكاناته الفسيولوجية عموما..
ولكن تحديد استعمال هذه الإمكانات بطريقة عملية وفقا
لخطة قوة العمل يشكل لحظة أعلى من (وسيلة العمل): أدوات
العمل. وبقدر تطور قوة العمل،
بقدر ما يزداد ويتسع تمايز أدوات العمل؛ فيضم الإنسان إلى قدرته على تحويل الطبيعة
(إعادة إنتاجها وفقا لأغراضه) أجزاء من الطبيعة؛ ومن ثم فأدوات
العمل تمثل التموضوع الكامل لقوة العمل في الطبيعة، أو تحولها الكامل إلى موضوع.
وتعد أدات العمل على نحو الخصوص معبرا دقيقا ومباشرا عن مستوى تطور البشر، لأنها الواسطة التي
يتعامل من خلالها الناس مع موضوع ومجال العمل؛ فإذا
افترضنا غيابها جدلا تساوى تقريبا كل البشر؛ حيث إنهم يمتلكون
جميعا أداة إنتاج فسيولوجية: أجسادهم. وفي هذه الحالة يكون المقياس الأساسي لتطور
قوة العمل هو مستوى التطور البيولوجي. وتنطبق هذه القاعدة على كل من وسائل العمل التي يصنعها الناس وتلك التي
يستولون عليها فحسب؛ فالإنسان البدائي لم يتطلع أبدا
إلى غزو الفضاء، ولم يعتبر الطاقة المتولدة من حركة مياه البحر وسيلة إنتاج.. فالإنسان هو الذي يحدد وسائل إنتاجه
(مجاله – موضوعه – اداته) وفقا لطاقتة الإبداعية
المتراكمة في كل لحظة. وهذا ينطبق كذلك على وسائل الإنتاج التي
يصنعها بنفسه (خامات – أدوات). غير أنَّ أدوات العمل هيَ التجسيد الكامل لقوة
العمل؛ فأنت تستطيع أنْ تقطع الخشب نفسه بمنشار يدوي أو
بمنشار كهربائي، وتستطيع أنْ تستخدم الماء نفسه في توليد البخار أو الأكسيجين أو
الكهرباء؛ فأدوات العمل هيَ الوسيط بين الإنسان الطبيعية؛ هيَ الامتداد المباشر لقوة العمل.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ أيَّا من موجودات الطبيعة يمكن مبدئيا أنْ يُعتبر مجالا أو موضوعا أو وسيلة أو
أداة للعمل؛ تبعا لخطة أو مشروع الإنتاج؛ فيمكنك أنْ تعد
البحر مجالا للعمل، ومادته (من مياه وأسماك.. إلخ) موضوعا للعمل، أو أداة للعمل (طاقة الأمواج مثلا).
ومن الواضح حتى الآن أنَّ البشر قد حدودا وسائل إنتاجهم دون أنْ ينتجوها بأنفسهم، إلا أنهم
حدودها في حدود قدارتهم، وبهذا المعنى تعد تعبيرا
عن هذه القدرات. وكل جيل يجد نفسه في موقف مماثل؛ فهو يجد وسائل إنتاج لم ينتجها، شاملة الجزء الذي أنتجته الأجيال
السابقة (بجانب الطبيعة)، ولكنها مع ذلك تكون في مستوى تطوره (علومه – ثقافته) في
اللحظة التي يصبح فيها قوة عمل (قادر على العمل)..
ذلك أنَّ المجتمع يُعد أفراده بإكسابهم خبراته المختزنة بحيث يصبحون قادرين على استخدام وسائل الإنتاج المتاحة.. ولا شك أنَّ
الأفراد يقومون بتطوير هذه الوسائل.
والخلاصة، أنَّ وسائل الإنتاج تسبق منطقيا عملية العمل، رغم أنها خلال التاريخ أصبحت – جزئيا – نتاجا
للعمل. ومع ذلك لا تزال الطبيعة بمكوناتها المختلفة وسيلة الإنتاج الرئيسية للبشر وستظل كذلك أبدا. وهذا لا ينفي أنَّ
وسائل الإنتاج هيَ من حيث الجوهر نتاج لقوة العمل
البشري، بمعنى أنَّ وجودها كوسائل إنتاج يتحدد بواسطة البشر أنفسهم لم يحددها لهم أحد، وبهذا تكتسب معنى اجتماعيا، لا
فيزيقيا.
وللإيجاز: تتشكل وسائل الإنتاج من مجال العمل – موضوع
العمل – أداة العمل، التي تمثل ثلاث لحظات في تموضع قوة
العمل في الطبيعة، وتتضمن
وسائل الإنتاج قوة العمل صراحة؛ فهيَ تمثل قوة العمل في وجودها داخل ذاتها Within itself؛ فهيَ
لم تعد مجرد قدرة بل أداة
للعمل؛ فصارت من ذات إلى موضوع.
3 - عملية العمل Labour Process
تموضعت قوة العمل تموضعا كاملا في أدوات العمل؛ فمن جهة
تمثل أدوات العمل الحد الذي وصلت إليه قوة العمل في تمثل الطبيعة وفقا لأغراضها، وتمثل من جهة أخرى الحد الذي تفرضه
الطبيعة بخصائصها على قوة العمل وهيَ تتمثلها. ذلك أنَّ الإنسان يُخضع الطبيعة
بواسطة قوانينها هيَ، بقدر فهمه لهذه القوانين. ولا شك أنَّ تحديد أدوات العمل
ينطوي صراحة على تحديد مجال وموضوع العمل.. فتصميم (أو حتى انتقاء) أداة العمل
يراعي طبيعة موضوع العمل ومجاله وفقا لمشروع العمل.
هذا التموضوع الكامل لقوة العمل يؤدي منطقيا إلى وحدة قوة العمل ووسائل الإنتاج، وتتحقق هذه
الوحدة في عملية العمل بحسبانها إجراء التفاعل بين
التحديدات التي تنطوي عليها فكرة أداة العمل. وتظهر هذه الوحدة أولا كوحدة مباشرة:
استهلاك أو افناء لقوة العمل ووسائل الإنتاج؛ فتحول الذات وسائل الإنتاج إلى نفسها، أيْ تمتصها في جوفها
مرة أخرى؛ تستخدمها
وتحول ذاتها إلى وسيلة إنتاج بتحويل وسائل الإنتاج إلى الصورة التي تريدها، ويكون ناتج
عملية العمل تحول كل من الذات والموضوع إلى الآخر، وتستولي الذات بصفة فعلية على الطبيعة. وهذا الجانب السالب لعملية العمل إنما
يشير إلى أنها دوما عملية نوعية محددة الهدف.
وثانيا: يتبدى هذا الاستهلاك المتبادل للذات والموضوع في عملية العمل النوعية بشكل موجب في
الناتج (أو المنتج) Product، الذي
يبدو كحد متناه؛ كناتج جزئيٍّ محدد يعبر عن
مدى تموضوع قوة العمل في الطبيعة الناشئ أصلا عن تعين القدرة على الوعي في مشروع للعمل كما مر بنا.. لقد تموضعت
قوة العمل في الطبيعة من جديد، ولكن بشكل
موجب،
إذ تحقق مشروع العمل.
ثالثا: ولما كانت القدرة على الوعي لا
متناهية، وبالتالي تتمثل الطبيعة من حيث احتوائها على إمكانيات لا متناهية (الأمر الذي
لا يحدث عند أرقى الحيوانات التي
يتوقف مشروع عملها عند حد توفير ما يعول جسدها.. ومن ثم فالحد
المشار إليه لا يبدو عندها حدا وإنما محض نهاية)؛ فإنها تدرك مشرع العمل كما يتبدى في المنتج النوعي بوصفه حدا. وهذا الإدراك
المزدوج لعملية العمل بصفتها عملية غائبة محددة – مطلقة – ومحدودة – نسبة – هو في
الوقت نفسه استيعاب لهذا الازدواج أو التناقض. وهو
استيعاب يتمثل في: خبرة الإنتاج، مهارة العمل، والمعرفة العلمية بالطبيعة، وسوف نشير
إليها عموما باسم (الخبرة).
ذلك أنَّ الخبرة تجمع بين الخبرة بالناتج وبعيوبه أو حدوده؛ ومن ثم تتجاوز الناتج. ولا شك أنَّ أيَّ
قارئ يعرف بتجربته الشخصية كيف أنَّ نشاطه الذي يتقنه
ويهتم به - سواء كان إنتاجا ماديا أو أيِّ نوع من النشاط – هو بالتحديد المجال الذي تظهر له فيه (العيوب) أو (النواقص)؛
أيْ الحدود بأوضح ما يكون؛ أنَّه كلما ازداد فهما وإتقانا لموضوعه كلما زاد إدراكه
لهذه الحدود وبذل المحاولات لتجاوزها.
وهذه المعرفة التي تكتمل فيها عملية العمل، وبالتالي قوى الإنتاج
تختلف عن مشروع العمل أو القدرة على الوعي التي بدأنا بها تحليل مفهوم قوى الإنتاج؛ فقد أُثريت بالحد، واتضحت طبيعتها باعتبارها المحرك الأول للتاريخ..
هنا تتبلور
مقولة ماركس الشهيرة، "إنَّ الإنسان إذ يغير من الطبيعة فإنه يغير من نفسه"
واضح إذن أنَّ مفهوم الخبرة
يحوي كل المفاهيم السابقة صراحة؛ فهو
يحوي وحدة الذات والموضوع داخل الذات؛ يحوي قوة العمل ووسائل الإنتاج كإمكان وكضرورة في الوقت نفسه؛ أيْ
كحركة تطورية تتجاوز نفسها باستمرار؛ فتظهر كقوة مبدعة لا متناهية مع تناهيها في
كل لحظة معطاة، ويظهر لا تناهيَ الطبيعة مع تناهيَ
موجوداتها.. وهنا يستكمل مفهوم قوى الإنتاج حيث تصبح قوة العمل لذاتها.
ثانيا: علاقات الإنتاج RELATIONS OF PRODUCTION
كيْ يتابعنا القارئ هنا في استنباط علاقات الإنتاج من قوى الإنتاج ينبغي التأكيد أولا على
نقطة منهجية، هيَ أنَّ تمايز مقولات نمط الإنتاج
هو تمايز منطقي وليس تاريخي إلا في مرتبة تالية (من الناحية المنطقية). فلم يشهد التاريخ بشرا لديهم قوى إنتاج بغير
علاقات إنتاج أو فردا منتجا دون تراث اجتماعي إنتاجي. وقد ذكرنا منذ البداية أنَّ
الفرد المبدع يوجد في المجتمع دائما.. ولكن من
الواضح أنَّ المجتمع المنتج لا يظهر بالفعل إلا بقدر ما يتمايز أفراده عن بعضهم البعض كقوى إنتاج، وليس كمحض اختلافات
طبيعية، ورغم أنَّ هذه الاختلافات الطبيعية هيَ أساس
لتمايزهم كقوى إنتاج.
وسوف نعرض لاحقا للحظات المنطقية لتمايز الفرد والجماعة، ولكن الذي يهمنا هنا هو توضيح أننا
قد وصلنا بالفعل إلى أساس هذا التمايز، وهو مفهوم
الخبرة؛ فالخبرة باعتبارها المحصلة النهاية لقوى الإنتاج تعني أنْ يتمايز الأفراد من حيث هم قوى منتجة. ومن
الممكن أنْ يقال أنَّ الأفراد يتمايزون من حيث
مشروع العمل الذي يتبنونه. أو من حيث إمكاناتهم الذهنية والجسيمة، أو من حيث النوعSex والعمر، ولكن من الواضح أنَّ أيَّا من هذه التمايزات هيَ تمايزات (طبيعية) أو
استاتيكية، غير قابلة للتقييم في حد ذاتها كقوى
منتجة؛ فمشروع العمل ذو طبيعة كيفية محضة، ومن ثم لا يمكن عمل مقارنة كمية بين مشاريع العمل الفردية المختلفة في حد ذاتها،
كما أنَّ التمايزات الطبيعية للأفراد منظورا إليها
على حدة ليست إلا تمايزات تدخل في باب تمايز وسائل الإنتاج، ولكن النظر إلى هذه
التمايزات الطبيعية في ضوء عملية العمل هو الذي يقيم معيارا لهذه التمايزات كقوى إنتاج، وهو معيار يبدو أولا في
صورة التناسب، تناسب تمايز الفرد – الحاصل أو الكامن – مع مشروع
العمل، وهو تناسب يقاس في عملية العمل نفسها، ولا يتبدى علنا إلا في الخبرة.. ذلك أنَّ
دوام وتقديم صلاحية الفرد المعين في عملية العمل
النوعية هو مقياس اعتباره خبيرا (أو ماهرا أو عارفا). وهنا تظهر الجماعة متمايزة عن الفرد باعتبارها مقياسا. هذا المقياس هو
التقاليد الإنتاجية والخبرات الوسطية للجماعة في
أيِّ لحظة تاريخية معطاة.
وغنيَ عن البيان أنَّ هذا يتضمن أيضا تمايز الجماعة عن نفسها عبر الزمن؛ فباستيعابها
لتقاليد وخبرات إنتاجية جديدة يتغير المقياس
نفسه، وتتطور قوى الإنتاج الاجتماعية.
1- تقسيم العمل التقني Technical
Division of Labour
هو ببساطة تقسيم العمل داخل الجماعة إلى عمليات مختلفة. ولا يمكن في الحقيقة تصور عملية العمل دون
أفراد منظمين بشكل أو آخر؛ فلم يشهد التاريخ قط
عملا دون تقسيم عمل ولو بأبسط الأشكال
ويظهر تقسيم العمل في البداية كمحض اختلاف في قوى إنتاج الأفراد وهو الاختلاف الذي توصلنا إليه
في مفهوم الخبرة، والذي يشمل الاختلافات الطبيعية
بين الناس؛ ومن ثم فهو اختلاف له أساس فسيولوجي أو طبيعي ولكنه ليس اختلافا (طبيعيا)؛ فتوفر درجات من الخبرة
يتضمن كما رأينا درجات القدرات الطبيعية للأفراد، ولكنه يشكل أيضا عنصر الزمن
والمران، ويتضمن هذا الاختلاف في ضوء رغبة النوع في إعادة
إنتاج الطبيعة وفقا لاغراضه انقسام الناس إلى خبراء ومتعلمين، أيْ
تبادل الخبرة أو نقلها.. وهو أمر يحدث يوميا داخل كل فرع إنتاجي.
ومع تطور قوى الإنتاج تظهر قطاعات إنتاج جديدة متزايدة (الزراعة مثلا)، كما تنقسم عمليات
القطاع الواحد إلى عمليات عمل نوعية متمايزة؛ فتتعدد
من ثم مشروعات العمل داخل القطاع الواحد إلى عمليات عمل نوعية متمايزة، وتتعدد وسائل الإنتاج، ويتم تقسيم
العمل – كعلاقة – بين البشر بتوسط وسائل الإنتاج – فالعمل لا يتم إلا
بتوسطها – بين الإنسان وذاته.
غير أنَّ تقسيم العمل له أصل (طبيعي) إنْ جاز التعبير؛ فمن جهة قد تفترض أو تحتم عملية العمل
النوعية تعاون عدد من الأفراد (مثل صيد حيوان كبير- راجع
الهامش السابق)، ومن جهة أخرى تتعدد حاجات الإنسان بوصفه كائنا حيا
طبيعيا
وتتعدد الحركات المتتابعة للعامل في أيِّ عملية عمل نوعية. غير
أنَّ هذا الجانب – في حد ذاته – من تقسيم العمل لا
يميز النوع الإنساني؛ فله نظائر في الحيوانات المتطورة، ولعله يأخذ مكانه الصحيح منطقيا في مقولة نظام الحاجات أو وسائل
الإنتاج؛ ومع ذلك فهذا الجانب هو الأساس التاريخي الذي
بنيَ عليه تقسيم العمل التقني.
ونحن نتوصل إلى وضع مشابه لهذا الأصل التاريخي حين نجمع لحظتي تقسيم العمل التقني اللذين
عرضنا لهما توا: تقسيم العمل على أساس الخبرة إلى
قطاعات؛ فأخذهما سويا يعني توزيع الأفراد وفقا لخبراتهم على قطاعات مختلفة للإنتاج،
متكاملة فيما بينها.. إذ يصبح الفرد المتمايز عضوا في جهاز كبير للإنتاج، ولا يكتسب
عمله دلالة حقيقية إلا في إطار التقسيم التقني العام للعمل مأخوذا ككل؛ فتصبح
عملية العمل عملية اجتماعية صراحة، وتعلو الجماعة فوق الفرد.
ولا يتم توزيع الأفراد على وسائل الإنتاجبطريقة
إرادية تماما، أو باتفاق تام داخل الجماعة؛ فإرادات الأفراد
تتفاعل معا، وتتفاعل مع إرادة الجماعة، وهو كتفاعل يتضمن التناقض. وقد بدأ تقسيم العمل تاريخيا بشكل عفوي إلى حد كبير
عاكسا القدرة المبدعة للجماعة ككل، ولكن مع تطور قوى الإنتاج وعملية العمل أصبحت
عناصر التخطيط والعقلانية تلعب دورا متزايدا في
إعادة تقسيم العمل، ولكن ما تزال فوضى الإنتاج وفوضى (التخطيط) سائدتين في المجتمع المعاصر.
ويعبر مستوى تطور تقسيم العمل عن مستوى تطور القوى المنتجة فالأخير
لا يمكن رصده إلا عن طريق الأول، بينما لا تصلح فروق
الإنتاجية في حد ذاتها كمقياس حيث إنها لا تعبر بدقة عن مستوى تطور أدوات الإنتاج، إذ تدخل فيها عناصر أخرى: موضوعات
العمل. أما مستوى تطور تقسيم العمل فتحدده مباشرة نوعية العناصر المشتركة فيه، أيْ
قوة العمل؛ فهو علاقة بين الناس تتوقف نوعيتها على
درجة تطور الناس أنفسهم. فرغم أنَّ الطبيعة تدخل في تحديد تقسيم العمل، بقدر ما تقدمه من موارد متاحة مثلا، أو
بقدر ما تقيمه من صعوبات أمام نشوء تقسيمات متقدمة للعمل (البيئة
الاستوائية مثلا)؛ إلا أنَّ معيار تقسيم العمل يظل معيارا
مطلقا لدرجة تطور قوى الإنتاج من حيث هيَ تطور للبشر أنفسهم؛ فكلما ظهر تخصص جديد دل ذلك على تطور في الخبرات والمعارف. وعلى
سبيل المثال احتاج البشر إلى تقسيم العمل بين الزراعة
والرعي حين ظهرت الزراعة، بكل ما يمثله هذا الظهور من خبرات وإمكانيات جديدة للبشر. وعلى هذا الأساس يمكنك
الاطلاع على مستوى تطور بلد من البلدان من خلال مطالعة تركيب العمالة.
ولكن ينبغي أنْ نلاحظ هنا أنَّ تقسيم العمل التقني، وأن كان
يبدو هو نفسه كقوة إنتاج، إلا أنَّه في الحقيقة أغنى من ذلك؛ هو علاقة إنتاج تتضمن
كل عناصر قوى الإنتاج؛ فهو يشبه قوة العمل، ولكنه أكثر عينية، ويقوم بوظيفة أكثر تطورا؛ فهو يزيد من كفاءة قوة
العمل ويتضمن قيام الأخيرة بعملية العمل فعلا. وهذه
المكونات العديدة تجعله تقسيما للعمل وليس مجرد قوة عمل أو قوة إنتاج. إنَّه قوى
الإنتاج ككل وهيَ تعمل: قوى الإنتاج في حالة علاقة إنتاج.
2- علاقات الملكية Relations of Property
أ- حق التصرفRight of Disposal
في مقولة تقسيم العمل التقني ظهرت عملية العمل بشكل أكثر عينية؛ فهيَ لم تعد مجرد خبرة الفرد،
وأنما أصبحت عملية مركبة متعددة الجوانب، حيث يتم
تقسيم العمل بين الأفراد على نحو محدد. وهنا نجد أنَّ الجماعة تعود للظهور على نحو مباشر، بعد أنْ كانت غير
متمايزة عن أفرادها. ففي التقسيم التقني للعمل تعمل الجماعة
ككل وتصبح عملية العمل عملية جماعية؛ نشاط الجماعة لا نشاط الذات (الفردية)، ويظهر
الفرد كمجرد وظيفة داخل عمل الجماعة. ورغم أنَّ تقسيم العمل يتم
بطريقة غير ارادية تماما من قبل الجماعة إلا أنَّه بعد أنْ يتم تصبح عملية العمل هيَ فعل الجماعة ككل تجاه وسائل الإنتاج
وقوة عمل الأفراد. الجماعة تمتلك الآن وسائل الإنتاج وتعمل بها بطريقة معينة.. وليست ملكية الجماعة لوسائل الإنتاج
هنا مجرد (حق) نظري منحته لنفسها، وإنما هيَ
واقع عيني؛ فالجماعة الآن ككل – لا كمجرد مجموعة من الأفراد، وإنما كمجموعة من الأفراد
العاملين في إطار شكل معين لتقسيم العمل – تمتلك
وسائل الإنتاج كموضوع لها وتمارس عملية العمل بالفعل..
وهذه هيَ الملكية في مباشرتها. وتقوم الجماعة بموجب هذه الملكية بالتعامل مع وسائل الإنتاج التي تحت يدها في الحدود التي
تقررها حسب مستوى تطورها (أيْ الجماعة). وهذا هو ما
يسمى، بلغة القانون، حق التصرف. فالجماعة في تقسيم العمل تعطي نفسها
حق توزيع الأفراد على وسائل الإنتاج، أيْ حق (التنازل) عن هذه الأشياء للأفراد.
وبقيامها بذلك فإنها تعلن عن حقها في الملكية.
وملكية الجماعة هيَ أول مقولات الملكية لأنها الشرط الأولى لأيِّ ملكية.. فالملكية ليست
غريزة فردية، بل هيَ تاليه للمجتمع كما ذهب ماركس بحق). إلى حد أنها
تتخذ الصورة الملائمة لمستوى تطور تقسيم العمل، أيْ
أنَّ شكلها يتحدد حسب مستوى تطور قوى الإنتاج، وفي النهاية تطور البشر – الحيوان
السياسي. والملكية ليست علاقة إحالة مجردة مثل الامتلاك، إذ أنَّ الجماعة تستحوذ الآن على وسائل الإنتاج في
عملية العمل، فملكيتها للأرض من أجل الرعي تختلف عن ملكيتها للأرض نفسها من أجل
الزراعة أو استخراج المعادن.. إلخ.
كذلك تعد ملكية الجماعة أصل الملكية عموما، لا مجرد مرحلة تاريخية (المشاعية البدائية مثلا)؛ فهيَ
أساس الملكية الفردية في كل حين. إنَّ الجماعة تملك الملكية الفردية نفسها، لأنها
تسمح بها في حدود معينة تقررها، وهيَ التي
تنظمها وتضمنها وترسم أهدافها، بشكل إرادي في حدود معينة ولا إرادي جزئيا، وفقا
لمستوى تطورها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أننا قد فضلنا الربط بين حق التصرف وملكية الجماعة، لأنَّ هذا الحق يوجد
على نحو ضروري (منفردا) كملكية جماعية؛ أما الأفراد
فقد يملكون حق التصرف وحدة بشكل عابر. وسنستأنف إيضاح هذه النقطة لاحقا.
ب- الانتفاع (الحيازة) Possesion
ملكية الجماعة هيَ ملكية مباشرة؛ فالجماعة تملك كل وسائل الإنتاج التي تحت يدها، ولكن في
ممارسة الملكية لا تقوم الجماعة مباشرة بالتصرف، وإنما
يتم هذا من خلال الأفراد. فوسائل الإنتاج تكون في تقسيم العمل في حوزة الأفراد مباشرة، وهذه هيَ علاقة الحيازة.
فملكية الجماعة تحدد نفسها أولا في صورة حيازة الأفراد لوسائل
الإنتاج، وهذه الحيازة كعلاقة مباشرة بين الذات والموضوع هيَ ملكية الجماعة في
حالة غير مباشرة.
وقد رأينا أنَّ تقسيم العمل التقني يتضمن استحواذ كل فرد على أداة إنتاج معينة، وهذا يعني أنَّ
الحيازة هيَ علاقة استخدام، أو بلغة القانون حق
الاستعمال. والتراتب المنطقي يسير كالآتي: تقوم الجماعة بتوزيع أفرادها على وسائل الإنتاج التي تمتلكها، وبذلك
تقرر لنفسها حق التصرف (أو ممارسة الامتلاك)، وينتج عن هذا الحق استحواذ الناس على
وسائل الإنتاج، أيْ الحيازة
والحيازة كمفهوم تالية منطقيا لملكية الجماعة، وهيَ نفيٌ لها،
لأنها تضع ما تملكه الجماعة في أيدي الأفراد، وهيَ في الوقت نفسه تتضمن ملكية الجماعة، لأنَّ الاقتصار على حق
الاستعمال للأفراد يتقرر بواسطة المالك، أيْ الجماعة في حالتنا هذه. وعلى الصعيد
الواقعي – العملي، نجد أنَّ حيازة
الأفراد تترتب على ملكية الآخرين؛ فالملكية سابقة على الحيازة وكونك مجرد حائز يعني أنَّ حق التصرف يوجد لدى الآخر، ونقصد
في الحالة الأولى الحيازة بوجه عام كمفهوم، وفي الحالة
الثانية نتكلم عن الحيازة في وجودها الفعلي. وتؤكد هذه الحالة الأخيرة صحة التسلسل
المنطقي المذكور، فالحيازة في الحالة الثانية تترتب على حق التصرف فقط، وهيَ الشيء المشترك بين الملكية
الفردية وملكية الجماعة.
ج- الملكية (الفردية) Ownership
الحيازة هيَ نفي لملكية الجماعة (أو لحق التصرف عموما)، ولكنها تتضمنها أيضا؛ فالحيازة تعني أنَّ
الآخر هو الذي يملك. ولكن الحيازة هيَ حالة طارئة
بالضرورة؛ فوسائل الإنتاج تنتقل من يد إلى أخرى، وهذا الانتقال
لا يتم بقرار من الجماعة كشخص وإنما يتم بين الأفراد وبإراتهم، أو بارداة بعضهم ضد الآخر، ولكن على ضوء حق الجماعة. إذن
ينتقل حق الاستعمال على ضوء حق التصرف؛ فالحيازة في حد ذاتها تعبير غير مباشر عن
حق التصرف، ولكن انتقال الحيازة يعيد حق التصرف إلى
الظهور المباشر مرة أخرى، وفي هذه الحالة يتضمن الحيازة صراحة. وبذلك ينتج انتقال الحيازة مركبا من حق التصرف
وحق الاستعمال، وهذه هيَ الملكية بحق؛ الملكية الفردية؛
فالجماعة تملك فقط حق التصرف بينما يملك الأفراد حق الاستعمال أيضا؛
فمالك الأرض يستطيع أنْ يتصرف فيها وأن يستعملها أيضا، وحتى في حالة تنازله عن حق الاستعمال لشخص آخر يكون قد تصرف
فيها على نحو ما، ويكون أيضا قد حدد استعمالها أو حق استعمالها للآخر باعتباره
مفوضا منه، أيْ يستعملها بالنيابة عنه، وبإمكانه أنْ
يستردها ويستعملها مرة أخرى؛ أيْ أنَّه يحتفظ دائما بحقه في استعمالها. وفي هذه الحالة تكون الحيازة مترتبة على ملكية
الفرد لا على ملكية الجماعة بشكل مباشر. وكما ذكرنا من
قبل، هذا لا ينفي أسبقية الحيازة على الملكية الفردية؛ فالأولى هيَ حق الاستخدام فقط، وملكية الجماعة هيَ حق
التصرف فقط.
ومن المفهوم – كما سنرى بعد – أنَّ
المفاهيم السابقة منطقيا تتحدد مرة أخرى بالمفاهيم اللاحقة لها، ولكننا نهتم في العرض المنطقي بتبيان الأسبقية المنطقية أساسا.
ويمكننا أنْ نتصور العلاقة بين اللحظات الثلاث للملكية كالتالي: حق التصرف المحض هو ملكية
الجماعة، وهذه لا تحوز أبدا بصفتها جماعة؛ فحتى ملكية
الدولة لا تعد حيازة جماعية، وحتى الطرق العامة لا تُحاز إلا بواسطة الأفراد؛ فالجماعة تملك حق التصرف بشكل
مجرد جدا دون أنْ تحوز أبدا، فهيَ تحوز من خلال أفرادها.
وقد يقال إنَّ الجماعة تملك أيضا من خلال أفرادها، ولكن الأمر يختلف؛ فهيَ تملك لأنها
تضمن الملكية وتضع حدودها، ولكنها لا تحوز لأنَّ فعل الحيازة لا يمكن أنْ يتم إلا بواسطة الأفراد.. وملكية
الجماعة لا تُنسب مباشرة لشخص محدد، ولكن توجد بغض النظر عن ملكية الأفراد في صورة
نظام وقيود وحدود مسموح بها بحكم الظروف التي يفرضها
تطور الجماعة. وقد يقال أيضا إنَّ الجماعة تضع أيضا حدود وشكل الحيازة، ولكن لا شك أنها تفعل ذلك بصفة مالك، لا
حائز.
والحيازة تتضمن الملكية كإمكانية فحسب، بينما تتضمن الملكية (الفردية) الحيازة صراحة، فلا
يمكن للفرد أنْ يملك شيئا لم تسبق حيازته، وإذا كان هذا
الشيء لم تسبق حيازته من آخر (أرض مهجورة مثلا) فهو يحوزها أولا ثم يملكها.
وإذا أعدنا صياغة مفهوم الملكية لوجدنا أنَّ ملكية الجماعة ملكية مجردة تماما، بعكس الملكية
الفردية المتحققة، فالملكية لا توجد بالفعل – أيْ لا
يتحقق مفهومها –إلا في الملكية الفردية، ونقصد من هذا أنَّ حق التصرف
لا يوجد أبدا في حالة عينية إلا في الملكية الفردية، ولا
يمارس من قبل الجماعة إلا في سياق تحقيق الملكية الفردية. وعلى ذلك فلحظات الملكية هيَ: الملكية في ذاتها
(للجماعة) – داخل ذاتها (حق
الاستعمال) - لذاتها (فردية).
ولابد هنا من التأكيد على أنَّ ما نقصده بالملكية الفردية هو المفهوم نفسه لا صورة عينية من هذه
الملكية؛ فحتى في المجتمع المشاعي كانت الملكية فردية
بمعنى معين حددته الجماعة، فالأفراد يملكون أشياءهم الخاصة ويشاركون بحق في التصرف والاستعمال بالنسبة لكل
وسائل الإنتاج. وينطبق الشيء نفسه على المجتمع الاشتراكي.
كذلك وُجدت ملكية الجماعة في كل مراحل التاريخ كـ (حق) للجماعة في
تحديد الحيازة والملكية. وعلى هذه الأساس يُعد مدى تطور
الملكية مقياسا لمستوى تطور الجماعة، لأنها
بالتحديد مقياس مباشر لتطور الفرد؛ ففي المجتمعات القديمة كانت الملكية ضعيفة للغاية، فكانت حقوق الفرد تجاه الجماعة محدودة
بسبب صعوبة ظروف الحياة وتأخر قوى الإنتاج. وكان تطور حق
الملكية مصاحبا لتطور المجتمع، خصوصا في المراحل المراتبية، وبالذات في ظل الرأسمالية.
فبالمقارنة مع المشاعية، يملك الفرد في المجتمع الرأسمالي (حتى العامل) حقوق تصرف
واستخدام أوسع بكثير؛ فعلى الأقل يملك العامل حق تصرف واسع
تجاه قوة عمله، بينما كان يملك حقوقا محدودة للغاية في المشاعة، حيث تقسيم العمل (طبيعي) بدرجة كبيرة. وستصبح
الملكية الفردية أقوى في ظل الاشتراكية مما هيَ
عليه في ظل الرأسمالية، رغم تأميم وسائل الإنتاج؛ فالفرد سيملك حقوق ملكية واسعة للغاية تجاه قوة عمله (من كل فرد
حسب طاقته) وسيملك حقوق استعمال واسعة جدا (لكل
حسب حاجته)
وسوف نعيد صياغة المسألة للايضاح: الملكية الفردية باعتبارها حق الفرد في التصرف والاستعمال
هيَ مقياس تطور علاقات الملكية عموما، وهذا لا يقاس
بحجم الملكية الفردية المقننة تجاه ملكية الجماعة المقننة؛ فبغض النظر عن القانون
سيتخذ حق الملكية في الاشتراكية عدة صور:
1. حق استعمال
وتصرف في قوة العمل (من كل حسب طاقته).
2. حق استعمال وتصرف في الناتج (إلى كل
حسب حاجته).
3. حق استعمال وتصرف في وسائل الإنتاج (حق
تغيير نوع العمل – تحول العمل
إلى لهو – تجاوز التخصص الصارم
بشكله الحالي – مشاركة الفرد بحرية في
وضع خطط الاقتصاد وتحديد الحاجات وموصفات الإنتاج... إلخ).
فملكية المجتمع في الاشتراكية:
1. ملكية الجماعة ككل: لا تصرف إلا من
خلال الجماعة.
2. الحيازة للأفراد (والمجموعات).
3. يملك كل فرد في حدود ما تسمح به
الجماعة.
ومن الملاحظ أننا حددنا مفهوم الملكية الفردية بشكل يختلف عن معناها الشائع والمستخدم عموما، ولكننا
نعتقد أنَّ هذا التحديد أكثر واقعية من التعريف
الشائع؛ ذلك أنَّ حق التصرف وحق الاستعمال وجدا لكل الأفراد في حدود معينة (فحتى العبد يملك طعامه) إلا أنَّ ما
تغير على مدى التاريخ كان هو حدود الحق نفسه؛ فالملكية الإقطاعية الكلاسيكية تختلف
عن الملكية الرأسمالية؛ كلاهما ملكية خاصة
بالطبع ورغم ذلك فإنهما لا يتطابقان.
وينبغي التشديد هنا على أنَّ المعنى القانوني للملكية الفردية يطمس حقيقة الوضع المفترض
للفرد في المجتمع الاشتراكي، ويصوره كترس في
آلة كبيرة معقدة، بينما تصوره الاشتراكيون العظام بشكل مختلف؛ فالهدف النهائي هو الفرد بالذات، والاشتراكية تحقق
الملكية الفردية بقدر كبير من المساواة؛ فوسائل الإنتاج تكون ملكا لكل الأفراد، ويحق
لهم جميعا وبالقدر نفسه التصرف والاستعمال في حدود ما تسمح به ظروف تطور المجتمع.
كذلك يطمس المعنى الشائع حقيقة هامة أخرى، هيَ أنَّ
ملكية الدولة في المجتمعات المراتبية هيَ ملكية خاصة للطبقة السائدة وليست ملكية عامة؛ فالقطاع (العام) هو في
الحقيقة ملك الدولة مباشرة، وملك الطبقة السائدة بشكل
غير مباشر، ويمكن لهذا السبب أنْ نسميه قطاع الدولة.
وأخيرا، نلاحظ أنَّ الملكية الفردية مؤقتة مثل الحيازة تماما، ولكنها بانتقالها من شخص إلى آخر
لا تتغير كمفهوم، بل يتغير الشخص فحسب؛ فلا ينتج عن
انتقال الملكية مفهوم جديد كما حدث عند فحص انتقال الحيازة؛ فانتقال الحيازة سمة للحيازة كحيازة؛ أما انتقال
الملكية فليس كذلك؛ فهو انتقال عرضي.
وسوف نقدم فيما يلي ملاحظات إضافية حول فكرة الملكية خارج السياق المنطقي السابق:
1. يمكن تعريف الملكية كالآتي: من وجهة نظر من
يعمل: "السلوك الذي يسكله الفرد ازاء الشروط
الطبيعية للعمل وعلاقات الإنتاج"، ومن وجهة نظر من
يعيش: "هيَ تبني أو حيازة الشروط الموضوعية للنشاطات الفعالة المنتجة للحياة أو التي تعيد إنتاجها"
2. الفرد لا يملك إلا بوصفه عضوا في الجماعة؛ فهيَ
التي تعطيه هذا (الحق) أصلا. فالجماعة لا تظهر كنتيجة للحيازة المشتركة وإنما كشرط مسبق لهذه الحيازة. أما الفرد فإنه لا يكون
فردا إلا من خلال انتمائه للجماعة، فلا يملك إلا
على أساس من اعترافها له بهذا الحق. وعلى هذا الأساس تُعد الملكية علاقة اجتماعية
بالدرجة الأولى؛ فهيَ علاقة بين الذات وشروط إنتاجها تحددها الجماعة؛ فالجماعة هيَ التي تثبت الملكية وتضمنها.
فالملكية إذن تتم من خلال علاقة إنتاج اجتماعية، وبشكل
أكثر تحديدا هيَ علاقة إنتاج اجتماعية تتضمن تقسيم العمل وتتجاوزه؛ فهيَ ليست مجرد
علاقة بين الناس ووسائل الإنتاج، بل علاقة بين الناس تتخذ صورة علاقة مع وسائل الإنتاج، فالملكية في أنضج
لحظاتها (Ownership) ليست
مجرد شرط تقني للعمل، وإنما تعبر عن توازنات اجتماعية
معينة وتبلورها؛ فانقسام الناس على أساس الملكية يعني بالضبط نشوء قوى اجتماعية، وحتى الملكية الجماعية فإنها تعبر عن
الوحدة الاجتماعية للجماعة، تلك التي تظل موجودة تماما
وبقوة في المجتمع المراتبي. وعلاقة الذات بشروط إنتاجها لا تتغير إلا من خلال الجماعة أيضا؛ ولهذا كله تعد
ملكية الجماعة هيَ الشكل الأصلي للملكية (وهو أمر مؤكد
حتى من الناحية القانونية).
4. ويتضح الطابع الاجتماعي للملكية إذا
واصلنا تحليلها من الداخل؛
فتختلف أشكال الملكية من طور إلى آخر من أطوار تقسيم العمل؛ فالملكية العامة تحولت
إلى ملكية خاصة (وهذه معانٍ قانونية) عند مستوى متقدم لتقسيم العمل التقني، واتخذت أشكالا تتناسب مع مستوى
تقسيم العمل من فترة لأخرى ومن مجتمع لآخر؛ فملكية العبيد ظهرت في مناطق معينة:
اليونان، روما والدول – المدن في الشرق الأوسط
مثل بابل وآشور، وملكية الدول على نطاق واسع ظهرت في الشرق أساسا؛ أما الملكية الإقطاعية الكلاسيكية فقد ظهرت في
أوروبا بعد سقوط روما، وفي اليابان. وكانت
الملكية في العهود قبل الرأسمالية تعني أساسا ملكية ثروة عينية، باستثناء المجتمعات التجارية، أما في المجتمع الرأسمالي،
فقد صارت الثروة تعني كمية من المال، بينما أصبح
العامل يملك قوة عمله كاملة.
5. يجب أنْ نميز بين علاقات الملكية
الفعلية وعلاقات الملكية
القانونية. فالملكية ليست علاقة قانونية ولكن لها شكل قانوني؛ فهيَ
في الأصل واقع اجتماعي تاريخي. وهذا التمييز بين الواقعي والقانوني يشكل أساسا لبعض التفاوت بينهما؛ فكثيرا ما ينتهك الحق
القانوني وأحيانا يكون شكليا فحسب. كذلك توجد فجوة بين الحيازة والملكية تعززها
الفجوة بين الواقعي والقانوني؛ فالسيد يملك الأرض
والقن يحوزها، وملكية السيد ليست قانونية فحسب، بل هيَ أساسا ملكية فعلية، فالعبرة
هيَ بمن (يملك) القدرة على التصرف. ومن الأمثلة الدالة على وجود تفاوت بين الواقع والقانون نظام الشركات المساهمة؛ فملكية
نسبة من الأسهم ليست هيَ كل شيء؛ فإذا طبقنا التحديد
السابق لمعنى الملكية (القدرة على التصرف)، لوجدنا أنَّ صغار المساهمين يملكون فعليا أقل مما يملكونه قانونا؛
فالسيطرة تكون في أيدي كبار أصحاب الأسهم؛ كذلك يشارك الرأسمالي
الوظيفي Functional
Capitalist، أيْ رجل الأعمال، بغض النظر عن ملكيته
المحتملة لرأس المال في السيطرة على
الشركة ويحصل على أرباح مجزية.
وتظهر هذه التفاوتات في ظل الرأسمالية بالذات بفضل اتخاذ الثروة شكل القيمة؛ تلك الوضعية التي
تؤدي إلى درجة عالية من الديناميكية في علاقات
الملكية؛ فالرأسمالي يملك على الورق ما يدل على أملاكه
الفعلية، وهذه المرونة تؤدي إلى ضخامة الفجوة المذكورة.
كذلك توجد حالات لا هيَ بالحيازة الخالصة ولا هيَ بالملكية التامة رغم أنَّ شكلها القانوني قد
يتخذ صورة منهما. فعلى سبيل المثال قد يمتلك
الشخص حق الاستعمال قانونا ولكنه يمتلك فعليا بعض حقوق التصرف، كذلك قد يملك الفرد ملكية كاملة من الناحية القانونية ولكنه
لا يملك فعليا سوى بعض حقوق التصرف، التي
يبيحها المجتمع من الناحية الفعلية. ففي حالات عديدة ينظم القانون أشكالا من تداخل الملكية والحيازة.
وقد تناولنا فيما سبق مفهوم الملكية
الواقعي لا القانوني فاستخدمنا
كلمة (حق) مثلا استخداما مجازيا، بالمعنى
الواقعي لا القانوني.
3- تقسيم العمل
الاجتماعي Social Division of Labour
الملكية من حيث الشكل هيَ علاقة بين الناس ووسائل الإنتاج. إلا أنَّ هذه العلاقة إنما
تعبر عن علاقة اجتماعية بين الناس، وهيَ تنبثق من
تقسيم العمل التقني وتتحدد به. فمن تقسيم العمل التقني انتقلنا إلى مقولة الملكية، وهنا نجد أنفسنا نعود مرة أخرى إلى
تقسيم العمل: فالملكية الفردية لا تكون كذلك إلا في
مواجهة الآخر؛ فملكية فرد ما تعني لا ملكية الآخر والعكس بالعكس. وتتبلور علاقة الملكية في تقسيم وسائل الإنتاج كثروة، وهذا يختلف عن تقسيم العمل التقني، حيث إنَّ
الملكية لا تلعب دورا مباشرا في
تقنية العمل وإنما تلعب دورا هاما في عملية العمل من زواية أخرى؛ اجتماعية: من يعمل ولماذا يعمل، ومن لا
يعمل؟ وهذا يتحدد على أساس: من يملك ماذا؟ وتسمى
هذه العلاقات أو التقسيم الجديد بتقسيم العمل الاجتماع)، وهو ما
يمكن تعريفه كالتالي: هو تقسيم العمل بين الأفراد والمجموعات
على أساس علاقات الملكية؛ فملكية الثروة هيَ التي تحدد الوضع الاجتماعي للأفراد من حيث المساواة أو التمايز في عملية
العمل التي تصبح بذلك عملية اجتماعية؛ أيْ تتحول من عملية تقنية بحتة (إنتاج الأشياء)
إلى عملية إنتاج للثروة؛ فالمنتج يصير ثروة
بمجرد امتلاكه.
ولنضرب بعض الأمثلة: في الجماعة المشاعية تملك المشاعة جل وسائل الإنتاج، لذلك يكون من الطبيعي
أنْ يعمل كل الأفراد بهذه الوسائل على أساس تقسيم عمل
يميز الكفاءات وحدها، أيْ تمييز تقني محض (بما في ذلك حتى الأعمال الإدارية) فيتم
التقسيم الاجتماعي للعمل على أساس من المساواة – تقريبا – بين الأفراد.
وفي المجتمع العبودي لا يملك العبد شيئا، بينما يملك السادة وسائل الإنتاج وضمنها
العبيد. و من (الطبيعي) هنا أنْ تعتمد عملية العمل اليدوي على العبيد أساسا (بجانب
الملاك الصغار الأحرار)، بينما يتفرغ السادة للهو أو
للنشاط الفكري والحكم.
ويحدد التقسيم الاجتماعي للعمل موقف الناس من عملية الإنتاج الاجتماعي، أيْ إنتاج الأشياء
كثروات لا عملية العمل كتقنية، فيساهم الكل
بأدوات إنتاجهم وقوة عملهم، أو يساهم البعض بأدوات إنتاجهم أو قوة عملهم.. إلخ. ولتوضيح الأمر، نفترض وجود تقسيم تقني للعمل
فحسب، في هذه الحالة يعمل كل فرد حسب كفاءته دون أيِّ اعتبار لوضعه الاجتماعي؛ أما
إذا اخذنا تقسيم العمل الاجتماعي في الاعتبار، نجد
أنَّ الفرد يعمل حسب كفاءته، ولكن على أساس وضعه الاجتماعي، الذي يوضع في الاعتبار أولا بينما تحتل الكفاءة
الشخصية المحل الثاني؛ فالبورجوازي لا يعمل بوابا،
وعامل الترحيلة لا يعمل رجل أعمال، وأبناء ملاك الأراضي يصبحون من الصفوة.. هذه طبعا هيَ القاعدة، ثم يليها
العنصر الشخصي؛ فموظفو الدولة في مصر الفرعونية يمكن أنْ ينحدروا من أصول فلاحية (وهذه
قاعدة عامة)، ولكن على أساس هذه القاعدة تتحول بالفعل
قلة (أكثر كفاءة، مع عناصر صدفية أخرى) من أبناء الفلاحين إلى موظفين وبعضهم فقط، قلة القلة، يصير من
كبار الموظفين.
ثالثا: نمط الإنتاج MODE OF PRODUCTION
يحدد التقسيم الاجتماعي للعمل موقع الناس المباشر من الإنتاج الاجتماعي، أيْ من إنتاج
الثروة.. أيْ أنَّ عملية العمل تجري الآن في ظل
علاقات اجتماعية معينة (تختلف، من المساواة إلى درجات واشكال من التفاوت). وإذا كان التقسيم التقني يحدد لنا الطريقة الفنية لإنتاج الأشياء، فإن التقسيم الاجتماعي يحدد لنا الطريقة الاجتماعية لإنتاج الثروة.
ومن الطبيعي أنَّ هذه الثروة توزع على أفراد المجتمع بشكل ما، ويتم
استهلاكها في إعادة بناء قوة العمل وإعادة إنتاج
وسائل الإنتاج والتوسع فيهما (والاستهلاك الترفي أحيانا)..
أمامنا إذن ثلاث عمليات: الإنتاج والتوزيع والاستهلاك؛ نحللها فيما يلي:
1. الإنتاج (أو نمط الإنتاج بما هو كذلك) Production as
such
الناس يرتبطون الآن بوسائل الإنتاج من خلال تقسيم اجتماعي للعمل.. ومن ثم لم يُعد العمل
هنا مجرد إبداع فني أو تقني، وإنما هو إبداع اجتماعي؛
طريقة اجتماعية للإنتاج؛ نمط الإنتاج. وهنا تعود عملية العمل إلى الظهور، ولكنها تصير عملية إنتاج من خلال
علاقات الإنتاج.. عملية تتم بطريقة اجتماعية معينة، هيَ
نمط الإنتاج.
والمقصود بالإنتاج هنا إنتاج الثروة، لا مجرد إنتاج أشياء؛ فالثروة مفهوم ذو محتوى اجتماعي، يتضمن
المحتوى المادي أو التقني ويتجاوزه. والثروة هيَ دائما الفائض الذي
يوجه لأعمال مثل الحروب أو التراكم أو أيِّ أشكالٍ
للترف. وفي سياق تطور قوة العمل يتحول الفائض باستمرار إلى ضروري؛ فالحاجات الإنسانية
تنمو باستمرار، والتطور نفسه هو المسئول عن نمو الحاجات؛ فالعمل الإنساني يتميز
كما قلنا مرارا بالإبداع، ومن ثم يميل تلقائيا إلى التطور، أيْ إلى إنتاج المزيد
من الفائض. فلو سار الإنتاج مستهدفا الضروري فحسب لما صار الإنسان إنسانا، ولعاش دائما كما يعيش القرد..
فالفائض نتاج حتمى لتطور قوة العمل. إذن البشر
ينتجون الفائض بفعل كونهم بشرا فحسب، والإنتاج الإنساني هو قبل كل شيء إنتاج للفائض وبالتالي
تتحدد طريقة الإنتاج عموما (ضروري وفائض) بطريقة إنتاج
الفائض.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ مقولة الإنتاج لم تُستنبط من قبل (في عملية العمل مثلا)، لأنَّ
الإنتاج كفعل إنساني هو إنتاج الفائض
الضروري، أيْ إنتاج
الثروة، أيْ أنَّه عمل ذو طابع اجتماعي أولا. فعملية العمل لا تتم أبدا إلا بأفق الإنتاج الاجتماعي؛ فالبشر
ليسوا مجموعة من التكنوقراط، بل هم أولا مجتمع. إنَّ
عملية العمل لا تزال حتى هذه (اللحظة) مستمرة، ولكنها صارت الآن (لحظة) في عملية إنتاج (بمعنى إنتاج الثروة).
ويتحدد إنتاج الضروري بالطريقة نفسها التي ينتج بها الفائض، وتتأكد هذه الفكرة إذا
ما أخذنا في الاعتبار أنَّ إنتاج الضروري لا يشكل أيِّ خصوصية للإنسان، وأن الضروري
هو نفسه فائض تحول إلى ضروري في لحظة تاريخية ما (يمكن
فقط أنْ نتصور لحظة أنتج فيها (الإنسان) الضروري فقط قبل تحوله فورا
إلى الإنسان العاقل)، ولهذا كله يتضمن إنتاج الثروة إنتاج الأشياء أيضا بما هيَ كذلك.
لنوضح المسألة أكثر: يمكن فهم طريقة الإنتاج بمعنى تقني،،ِ أو بمعنى اجتماعي..
وبالنسبة للمعنى الأول، فهو يتعلق بالطريقة العملية:
فالطريقة التي يزرع بها العبد يمكن أيضا أنْ يزرع بها السيد (إذا اضطرته الظروف للعمل – فرضا)، والمعنى الثاني
يتعلق بالعلاقة الاجتماعية: فالعبد هو الذي يعمل
والسيد يلهو ويفكر.. إلخ، على حساب العبد. والمعنيان مع ذلك مرتبطان؛ فطريقة الإنتاج الاجتماعية تتحدد على أساس
التقسيم الاجتماعي للعمل والملكية والتقسيم التقني
للعمل.. أيْ أنَّ التقنية تحدد نمط الإنتاج فقط من خلال التوسطات
المذكورة، وتطور التقنية يؤدي طبعا إلى تطور نمط الإنتاج (نستخدم لفظ التطور بمعنى التطور الجوهري)، ولكن تطور الأول
يحمل معنى تقنيا: إنتاجية أعلى في الشروط الطبيعية نفسها
بينما يعني تطور الثاني تغيير النظام الاجتماعي؛ فالإنتاج بواسطة الجماعة غير الإنتاج بالعبيد والأقنان، غير
الإنتاج بالعمل المأجور.. فالفائض يختلف من حيث
طبيعته الاجتماعية في كل هذه المراحل.
وتكون النتيجة النهائية لعملية الإنتاج هيَ شكل معين للفائض وكم وأنواع معينة من الأشياء التي
لاتكون مجرد منتجات لعمل البشر، بل ثروة اجتماعية.
2. التوزيع
Distribution
المنتجات هيَ وسائل
إنتاج، وهيَ هنا نتاج للعمل الاجتماعي. غير أنَّ
هذه الأشياء ليست مجرد وسائل إنتاج، فهيَ أيضا ثروة، ولذلك تصبح ملكا للجماعة التي أنتجتها (ولا تصبح ملكا
لجماعات أخرى إلا عبر آليات يتجاوز بعضها مقولة نمط الإنتاج نفسها). وهذا الفائض إذن
هو ملك الجماعة، التي تتكون من مجموعات وأفراد، ولذلك
يطرح الفائض نفسه بصفته ملكا للجماعة كمادة للتوزيع. ونظرا لانقسام الجماعة إلى وحدات أصغر، يتم التوزيع على هذه
الوحدات، وهذا يقودنا إلى نمط التوزيع، فكيف يوزع
الفائض داخل الجماعة
وتتضمن عملية الإنتاج عملية توزيع تُعد الشرط الأوليَّ لها:
تبدو "كعملية توزيع لوسائل الإنتاج على المنتجين وتوزيع هؤلاء على أقسام الإنتاج المختلفة" إلا
أنَّ هذا التوزيع – الذي سبق أنْ رصدناه في (علاقات الإنتاج) – ليس سابقا على الإنتاج بما هو كذلك، فهو
توزيع لمنتجات (وسائل عمل وقوة عمل)، وإذا عدنا إلى تقسيم العمل، نجد أنها عملية طبيعية Natural وليست تاريخية.. فلكي يتخذ التوزيع بعدا تاريخيا لابد وأن يسبقه
إنتاج.. ولذلك وصفنا عملية التوزيع في تقسيم
العمل بأنها توزيع الناس على وسائل الإنتاج.
التوزيع الحقيقي تال للإنتاج ويتحدد به، فنمط الإنتاج يحدد نمط التوزيع؛ فيمكننا أنْ نحدد
شكل الفائض فقط بعد تصور طريقة إنتاجه كفائض.. فنتصور
مثلا فائض القيمة بعد أنْ نحلل عملية بيع وشراء قوة العمل، ونستطيع أنْ نتصور نصيب العبد من الإنتاج، فقط بعد أنْ
نعرف أنَّه عبد، أيْ يعامل اجتماعيا كوسيلة عمل، لا كقوة عمل.
ومن الطبيعي أنْ يتصور المرء أنَّ التوزيع يحدد وضعه داخل نظام الإنتاج على نحو سابق على الإنتاج
نفسه، فهو (الفرد) يجد نفسه وقد ولد بلا أرض أو رأسمال
(مثلا) ولكنه يحتل موضعا معينا من الإنتاج على أساس وجود الملكية
العقارية والرأسمالية. وقد يتعيش بعض الناس على النهب، إلا أنَّ هذا نفسه يتطلب
وجود أشياء قابلة للنهب، والتحويلات الخارجية لمصر مثلا هيَ عملية توزيع سابقة على الإنتاج في الداخل، ولكنه مترتبة على
الإنتاج في الخارج. فالإنتاج كفهوم يسبق التوزيع منطقيا، ولكن
الأول يتطلب شرطا أوليا: وجود قوة عمل ووسائل إنتاج وملكية...
وعلى الأخص يتطلب تقسيما اجتماعيا للعمل.
وهذه الأسبقية المنطقية للإنتاج تعني أنَّ التوزيع يتضمن نمط الإنتاج صراحة؛إ فطريقة توليد الفائض هيَ التي تحدد
طريقة توزيعه، فإنتاج فائض القيمة (مثلا) يتضمن بالقوة التوزيع في صورة أجور وأرباح الأجور تقابل قوة العمل، والأرباح تقابل رأس
المال (والفائدة لرأس المال البنكي، والريع
للملكية العقارية). ويوضح هذا المثال أنَّ نمط التوزيع يبرز أو يحقق التقسيم الاجتماعي
للعمل.
ومثلما
يتحدد نمط الإنتاج بطريقة إنتاج الفائض
الضروري، تتحدد طريقة
التوزيع بطريقة توزيع الفائض
الضروري. فكل الناس تقريبا يحصلون على الضروري اجتماعيا
لاستمرار وجودهم (مع ملاحظة أنَّ الحصول على الضروري
الذي كان فائضا دافع جوهري لانخراط الناس في عملية الإنتاج، خصوصا في المجتمعات
المراتبية). إلا أنَّ الطابع الاجتماعي للتوزيع يبرز فقط عند توزيع الفائض، فالتوزيع
حسب الحاجة يعكس مساواة اجتماعية؛ أما التوزيع في صورة ريع وربح وفائدة فيعكس نوعا معينا من التفاوت الاجتماعي
3. الاستهلاك Consumption
رأينا حتى الآن أنَّ الإنتاج يتمثل في طريقة إنتاج الفائض
الضروري، وأنه يحدد
طريقة توزيعه. ويوجد الفائض الآن على هيئة وسائل إنتاج
مملوكة للبشر.. وبهذا يرتبط الناس مرة أخرى بوسائل الإنتاج، ولكن على مستوى أكثر
عينية من لحظة عملية العمل ولحظة الملكية؛ ففي التوزيع تكون علاقة البشر بوسائل الإنتاج تعبيرا عن علاقات
اجتماعية بينهم؛ فوسائل الإنتاج هيَ الآن ثروة (بجانب
أنها أشياء)، لذلك يُعد التفاعل بينهما الآن لا مجرد عملية عمل، وإنما استهلاك
للثروة. ففي عملية العمل كانت قوة العمل قد تموضعت من خلال وسائل الإنتاج، ولكن الآن يتموضع الناس كقوة عمل
اجتماعية من خلال الثروة، ويجري استهلاك الثروة و استهلاك
المنتج الضروري كذلك.
ويتكون مفهوم الاستهلاك في ثلاث لحظات:
ا-
الاستهلاك كاستهلاك محض: فالاستهلاك يبدو لأول وهلة في
وجوده المباشر كنفيٍ للمواد المنتجة؛ كتحويل لها من الوجود إلى العدم.
ب- الاستهلاك ينتج
كل من قوة العمل ووسائل الإنتاج؛ فالإستهلاك
هو أيضا إنتاج، وهو يتم في سياق نمط الإنتاج نفسه؛ أيْ بالطريقة نفسها.
جـ - إعادة
الإنتاج: المنتج لا يصبح منتجا إلا وهو يستهلك، كما أنَّ
الاستهلاك ليس هو نهاية المطاف، وإنما يخلق الحاجة إلى الإنتاج، فهو حافز عليه.
وبطريقة أوضح،
نحدد هوية الإنتاج والاستهلاك فيما يلي:
1. هوية بسيطة ومباشرة: الإنتاج هو نفسه
استهلاك (إنتاج استهلاكي) والاستهلاك هو نفسه إنتاج (استهلاك
إنتاجي).
2. هوية غير مباشرة: كل من الإنتاج
والاستهلاك وسيلة للآخر. فالإنتاج
يخلق الاستهلاك (من خلال التوزيع) والاستهلاك يخلق الإنتاج كاحتياج.
3. هوية مركبة ومباشرة: كل منهما يخلق الآخر باستكمال نفسه، الاستهلاك يستهلك المنتجات
دافعا إلى تكرار الإنتاج، والإنتاج بتحقيقه لنفسه كإنتاج
يخلق الاستهلاك.
وبوجه عام، الإنتاج هو الاستهلاك، إلا أنَّ نقطة البدء هيَ الإنتاج، فهو الذي يحدد العملية
ككل، كالفرد ينتج ويستهلك جاعلا من نفسه منتجا من جديد؛ وهكذا
يبدو الاستهلاك كلحظة في الإنتاج، أو هو الإنتاج نفسه في حالة أكثر
عينية؛ وهو يتحقق.
كذلك يخلق الإنتاج الاستهلاك بعدة عمليات: خلق مادة الاستهلاك، خلق طريقة أو نمط الاستهلاك، خلق
الحاجة لمواد استهلاكية معينة.
ومن جهة أخرى، يحدد نمط الإنتاج نمط الاستهلاك، أو بمعنى أصح،
يتحقق نمط الإنتاج في النهاية كنمط استهلاك اجتماعي، شاملا الاستهلاك الإنتاجي، وبهذا تظهر فكرة إعادة الإنتاج
باعتبارها مفهوم الإنتاج، ومن الآن
سنعتبر نمط الإنتاج هو نمط إعادة الإنتاج.
وجدير بالملاحظة أنَّ إعادة الإنتاج هيَ المعنى
العميق للاستهلاك، فالأخير يتضمن ثلاث لحظات كما أوضحنا من قبل: الاستهلاك المحض، الاستهلاك الإنتاجي، مركبها:
الاستهلاك – الإنتاج، وهذه هيَ إعادة الإنتاج.
وإذا أردنا تحليل عملية إعادة الإنتاج في حد ذاتها لوجدنا أنها تشمل: إعادة إنتاج قوة العمل – إعادة إنتاج وسائل الإنتاج – والأهم من هذا كله إعادة
إنتاج نمط الإنتاج نفسه، متضمنا إعادة إنتاج كافة المفاهيم السابقة. وبذلك يتضح أنَّ
نمط الإنتاج يقوم بإعادة إنتاج نفسه. ولتوضيح
المسألة أكثر: يتحقق نمط إنتاج الفائض تماما في نمط استهلاك الفائض من خلال نمط التوزيع، ويكتمل هذا
الاستهلاك في عملية إعادة إنتاج نمط إنتاج الفائض
نفسه. وإذا ضربنا مثلا بنمط الإنتاج الرأسمالي، يتضح لنا أنَّه عبارة عن طريقة إنتاج فائض القيمة، الذي يتم في صورة ربح،
فائدة، ريع (بينما يوزع الضروري في صورة أجور)،
فيستهلك العمال الأجور، والرأسماليون الأرباح، والمودعون الفائدة، وملاك العقارات
الريع. ويكتمل الاستهلاك ككل في إعادة إنتاج قوة العمل، وإعادة إنتاج وسائل الإنتاج (إعادة بسيطة أو مضيقة أو
موسعة) كرأسمال، وتنتج في النهاية إعادة إنتاج فائض
القيمة.
يتضح
لنا أعلاه الطابع المزدوج للاستهلاك: نمط استهلاك تقني
ونمط استهلاك اجتماعي. ويتعلق الأول بنوع وكمية المنتجات المستهلكة وطريقة استهلاكها المباشر، بينهما يتعلق الثاني
باستهلاك المنتج من حيث هو ضروري وفائض
ضروري.
وقد توصلنا من قبل إلى أنَّ الاستهلاك هو التحقيق النهائي للإنتاج،
والآن نتساءل: ما هيَ العلاقة بين مكوني الاستهلاك المذكورين؟.
حددنا من قبل أنَّ قوى الإنتاج تحدد علاقات الإنتاج ثم تتحقق من خلالها في نمط الإنتاج.
ولقوى الإنتاج مفعول مزدوج: الأول أنها تتبلور مباشرة في
عملية العمل التي تساوي عملية إنتاج الأشياء كأشياء، والثاني أنها تحدد على نحو
غير مباشر نمط (إعادة) الإنتاج القائم. ولكن إنتاج الأشياء
بما هيَ أشياء يتطور محفزا إنتاج الفائض؛ فيكون التقني هو السابق منطقيا على الاجتماعي رغم أنَّ الأخير يؤثر بدوره على الأول.
فإنتاج الفائض كفائض يحفز إنتاج الأشياء كأشياء؛
يحفز التطور التقني؛ أيْ، في النهاية، يحفز من جديد إنتاج الفائض بشكل غير مباشر.
******************
بعد هذا العرض، نشير إلى ملاحظة هامة: هيَ أنَّ هذا التسلسل لا يعني أنَّ التفاعل بين المقولات
يسير في اتجاه واحد، بل تؤثر المقولات العينية أيضا
في المقولات المجردة. فعلاقات الملكية مثلا تؤثر على تقسيم العمل التقني وعلى مستوى تطور قوة العمل، و
تلعب طريقة إنتاج الفائض دورا هاما تجاه علاقات
الملكية وتقسيم العمل.. إلخ. والخلاصة، أنَّ المفاهيم الأعلى تؤثر على
المفاهيم الأدنى أيضا، إلا أنَّ هذا التفاعل لا يعلو
على التسلسل المنطقي المعروض هنا، بل العكس هو الصحيح. ولهذا نظرنا إلى طريقة البحث التي تقف عند رصد الكثرة المعقدة
من العلاقات الملموسة على أنها طريقة أدنى من طريقة
الجدل إلى استخدمناها هنا.
وتتخذ هذه الملاحظة منحى عينيا ملموسا عند تحليل فترات التحول الاجتماعي؛ إذ يمكن للمراقب أنْ يرصد
تأثيرا ملموسا للمفاهيم الأعلى على المفاهيم الأدنى، ولكنه إذا وقف عند هذ الحد
لما استطاع أنْ يرصد مجرى الأحداث بالدقة اللازمة. فعلى
سبيل المثال، إذا رأينا في الفترات الرجعية أنَّ علاقات الإنتاج القائمة تعيق تطور قوى الإنتاج، فإن هذا يجب ألا
يعمينا عن فهم الطابع اللحظي لهذا المفعول وعن فهم أنَّ
تطور القوى المنتجة هو الذي خلق هذه الحالة نفسها؛ محفزا نشوء علاقات إنتاج جديدة؛ بالضبط مثلما تصور البعض في
فترة ما أنَّ (الفكرة تحكم العالم) وفشلوا
في فهم أنَّ هذا كان ظاهر الأمر فحسب، وأنَّ تلك الفكرة التي بدت وكأنها تحكم العالم لم تكن سوى تعبيرا عن ذلك
العالم نفسه، الذي يعمل، بآليات يمكن اكتشافها
بدقة، على استبدال (الفكرة) بغيرها.
**********************
تعليقات إضافية على مقولة نمط الإنتاج ومفاهيم أنماط الإنتاج الرئيسية
1. يبين
لنا العرض السابق أنَّ نمط الإنتاج يتركب من قوى
وعلاقات الإنتاج؛ فهو طريقه لتوليد الفائض تعيد إنتاج نفسها. وتتم هذه العملية بواسطة قوى إنتاج منظمة بطريقة معينة، ليست
تقنية فحسب، وإنما اجتماعية أيضا، حيث لا يتعلق الأمر
بإنتاج أشياء فقط وإنما بإنتاج فائض كذلك، والفائض هو الذي يتمتع بالأولوية في
عملية الإنتاج.
وواضح أنَّ النتيجة المذكورة تتفق مع
الفكرة القائلة بأن نمط الإنتاج
هو مركب من قوى وعلاقات الإنتاج، والتي سبق نقدها
من زاوية معينة، ولكن هذا الاتفاق هو جزئي فقط. أولا: لأنَّ نمط الإنتاج هو طريقة إنتاج الفائض
الضروري، هذا التحديد
الجوهري تهمله الفكرة المذكورة. وثانيا: إننا انتقدنا
تحديد الطريقة التي جرى بها تحديد نمط الإنتاج
بأنه مركب، كما انتقدنا قصر نمط الإنتاج كمفهوم على أنَّه مركب؛ لأنه في الحقيقة ليس كذلك في حد ذاته، وإن كان
يتركب من الناحية المنطقية من قوى وعلاقات الإنتاج، فتكون
المفهوم يتميز عن تحديد المفهوم، وهذا التمييز يهمله أصحاب فكرة
المركب بإهمالهم تحديد المفهوم.
كذلك يبين لنا العرض السابق أنَّ عملية إعادة الإنتاج تتم على المستوى الاقتصادي، وبشكل
يحدده نمط الإنتاج لنفسه دون أيِّ عوامل أخرى – من الناحية
المنطقية.
2. من طبيعة عملية العمل - لأنَّ البشر
قوة إبداعية - أنْ تتطور، وبالتالي يكون من طبيعة البشر أنْ يتجاوزوا ذواتهم.. أنْ
يصنعوا لأنفسهم تاريخا اجتماعيا (أمر
لا يوجد قط لدى الكائنات الأخرى). ولا ينفي التطور صحة النسق السابق ولكنه يضيف
عنصرا تاريخيا محددا؛ فالمفاهيم المذكورة لا توجد في حالاتها النقية هذه، وإنما توجد من خلال تعيناتها؛
فتقسيم العمل التقني (مثلا) يتخذ في التاريخ
صورا مختلفة ويتطور من مرحلة إلى أخرى: انفصال الريف عن المدينة، انفصال العمل الذهنى عن العمل اليدوى..إلخ، وقل مثل
ذلك بالنسبة لكافة المفاهيم.
ويقف على رأس السلسلة مفهوم قوى الإنتاج،
خصوصا البشر أنفسهم؛ فتطورهم
من مرحلة إلى أخرى يؤدي إلى تطور التكوين الاجتماعي – الاقتصادي ككل. ولكننا
لا نستطيع أنْ نتنبأ أو نحدد عند أيِّ مرحلة بالضبط من تطور الناس يحدث التطور للمقولات التالية، ولذلك لم
نضع تصورا تاريخيا أوليا، وسوف نعود إلى هذه النقطة.
وفهم التطور التاريخي على أساس منطقي هو
سلاح فعال للوقوف على تشخيص
الظواهر الاجتماعية المختلفة، ومن الأمور الملفتة للنظر في عصرنا هذا وجود علاقات إنتاج رأسمالية مبنية
على قوى إنتاج أرقى بكثير من تلك القائمة في المجتمعات المعتبرة اشتراكية، فإما أنْ
يكون النسق المذكور خاطئا (أيْ أنَّ قوى الإنتاج
لا تحدد علاقات الإنتاج) أو أنْ تكون الاشتراكية شيئا مختلفا جوهريا عما هو موجود وهناك
ظاهرة أخرى لا تقل أهمية: التخلف (أو ما يسمى بالعالم
الثالث)؛ فالرؤية السائدة تقول بالطابع الرأسمالي لهذه البلدان، ولكن هذه الرؤية لا تفسر هذا التأخر المزمن لقوى الإنتاج،
كما لاتفسر سقوط أنظمة متخلفة عديدة في أيدى أحزاب
اليسارية وقيام أنظمة جديدة، فهل يمكن عند المستوى الحالي لتطور قوى الإنتاج، (الراكدة جدا) في المجتمعات
المتخلفة، أنْ يقوم تناقض مصيري بينها وبين علاقات الإنتاج
(الرأسمالية)؟ فإما أنْ نعتبر النسق المذكور خاطئا وإما أنْ نعيد
النظر في فكرة الطابع الرأسمالي للبلدان المتخلفة
3. رغم أننا لم نضع
مخططا تايخيا، إلا أنَّه من المفيد أنْ نلقي الضوء
على الأشكال التاريخية لنمط الإنتاج، حيث إنَّ هذه القضية أولا: لم تصبح بعد واضحة تماما، وثانيا: مفيدة
لتوضيح واختبار النتائج السابقة:
تصر الرؤية الماركسية الكلاسيكية على
تصور التاريخ الإنساني في
مراحل محددة مسبقا: المشاعية، الرق، الإقطاع، الرأسمالية، والاشتراكية وتوجد
رؤية تالية من حيث الانتشار يمثلها أصحاب فكرة (نمط
الإنتاج الآسيوي)، الذي يعتبره بعضهم بديلا للرق والإقطاع في الشرق عموما، ويعتبره
آخرون سابقا على الرق في مناطق معينة ولكن
تتفق الرؤيتان على فكرة التعاقب التاريخي
لأنماط الإنتاج، ولكن هناك من يخرج على هذه القاعدة؛ فيرى سمير أمين مثلا أنَّ أنماط الإنتاج لا تتعاقب
بالضرورة تعاقبا تاريخيا محددا، فيقول: "إنَّ مفهوم نمط الإنتاج هو مفهوم
مجرد ولا ينطوي على نظام للتعاقب التاريخي لكل فترة تاريخ
الحضارات"
ولكنه لم يحدد كيفية انتقال نمط ما للإنتاج إلى آخر،
والأساس الذي يتحدد به النمط الجديد.
ونحن نرى أنَّ فكرة التعاقب التاريخي هيَ
الأكثر انطباقا على الوقائع؛ فحتى
رصد تبادل المواقع بين ما يسمى النمط الآسيوي والإقطاع أو
رصد تدهور مجتمعات معينة إلى حالة من الخراب هو
أمر لا ينفي نفيا مطلقا فكرة التعاقب بشكل عام، خصوصا أنَّ الخلاف حول النمط الآسيوي لا يزال قائما؛ كما أنَّ
ظاهرة انحطاط بعض المجتمعات بعد فترة من التطور، بفعل
رأس المال الأجنبي لم تخضع بعد للتحليل من زاوية تحولات علاقات الإنتاج
ونمطه.
كذلك تتفق فكرة التعاقب التاريخي مع
المنطق. فنمط الإنتاج يتحدد بقوى الإنتاج، ويستتبع ذلك بالضرورة أنَّ حدوث تطور جوهري
في القوى المنتجة يدفع
نحو تحول نمط الإنتاج. ومن زاوية أخرى لا ينفي تحول نمط إنتاج تاريخيا إلى نمط إنتاج آخر كون هذا التحول
منطقيا أيضا، فكل ظاهرة تحمل – بالقوة – الظاهرة
التالية لها، وبالتالي تتحول وفق التطور التاريخي
هو تطور تعاقبي؛ ديالكتيكي.
غير أننا لا نستطيع وضع مخطط لحركة
التاريخ؛ فما يمكن رسمه من أنساق هو الضروري Essential فحسب، فيمكن تصور
حتمية الانتقال من المشاعية إلى المراتبية، وأن الأخيرة
حالة تنفي نفسها، بدفعها قوى الإنتاج إلى الأمام وتطوير الأفراد، مما
ينزع أسس المراتبية ذاتها، فيقوم المجتمع الشيوعي. كذلك يمكن رصد وفهم واستنباط أنَّ تطور المجتمع بوجه عام-
كمجتمع – يتبلور في تطور الفرد كفرد، فيصبح أنضح وأكثر
حرية، وهذا الأمر يتسق المعروض هنا، فالفرد هو وليد
الجماعة والنوع.
وهذه المسألة وثيقة الصلة بموضوع هذا
البحث – في تطبيقه على بلادنا – فأغلب
باحثينا يتعاملون مع تاريخ مصر وكانه الطبعة الثانية (أو
الثالثة) من تاريخ أوروبا. فلابد عندهم من أنْ يتحول الإقطاع إلى الرأسمالية، التي يجب أنْ تمر بمرحلة صعود
تاريخي يعقبه هبوط.. إلخ. ونحن نرى أنَّ البحث يكون
أجدى إذا التزم فقط بالإطار العام المنطقي – الضروري، ثم يحلل الوقائع على ضوئه.
وقد تحدثنا من قبل بخصوص وضع نسق تاريخي
شامل، وعدم إمكانية ذلك لا تنفي أبدا منطقية التاريخ العيني، وإنما يمكن اكتشاف
هذا المنطق في الوقائع
نفسها؛ فلا يكفي رصد الوقائع، بل ينبغي أيضا الكشف عن معقوليتها؛
فالبحث يكشف منطق الأحداث.. والفرق بين البحث ومنهج البحث هو أنَّ هذا الأخير يوضح بشكل قبلي بالنسبة للبحث نفسه
استنادا الىمعرفة سابقة أشمل.
والآن نستعرض مفاهيم أنماط الإنتاج
الرئيسية المعروفة والمعاصرة:
1. نمط الإنتاج الإقطاعي
الأمر الشائع لدى تحديد مفهوم نمط الإنتاج الإقطاعي (أو الإقطاع) وصفه بعدد من السمات (مثلا:
إبراهيم عامر.
فتحي عبد الفتاح). والرأيُ الأقل انتشارا يحدد الإقطاع بالقنانة. بينما
رأى بول سويزي في رده على هذا الرأي أنَّ الإقطاع هو "الإنتاج من أجل المنفعة". بمعنى
الإنتاج (الطبيعي)، مقابل الإنتاج من أجل السوق (وهو
تحديده للرأسمالية). ومن الواضح أنَّ هذا التعريف غير محدد؛ إذ يتضمن أنماط إنتاج
عديدة غير الإقطاع (نمط الإنتاج العائلي مثلا) …بينما طريقة العوامل أو
السمات لا تؤدي بنا إلى مفهوم نظري واضح، وهيَ غير
عملية فضلا عن ذلك؛ إذ كيف نحدد نمط الإنتاج إذا غابت بعض السمات؟ بالأغلبية مثلا؟!
من
الواضح، بناء على عرضنا السابق لمفهوم نمط الإنتاج
أنَّ المنطلق المنطقي لتحديد مفهوم الإقطاع هو كشف طريقة إنتاج الفائض
الضروري
فيه. ومن الواضح أنَّ هذه مسألة تتطلب دراسة النظم التي يُقولاعتبرت إقطاعية على مدى تاريخ العلم.. الكشف عن
قوى وعلاقات الإنتاج في هذه الأنظمة؛ فإنها تعتمد على عمل الأقنان، الذي يتضمن الاستغلال والاعتماد الشخصي
والتزام الإقطاعي إزاء القن وإزاء الإقطاعي الأكبر … إلخ. والمحدد الجوهري
للعلاقة الإقطاعية هو استئثار السيد بجزء من قوة عمل
القن بطريقة قسرية، وهذا التحديد يمكننا من
الكشف عن الإقطاع في كل لحظاته
وتفسير حتى أشكاله المتحورة؛ فالقنانة تتضمن بالفعل قوى إنتاج متأخرة
وعلاقات إنتاج وتقسيم عمل محددين.. وكافة ما يسمى بسمات الإقطاع، إلا أنَّ تحور
هذه الجزئيات يؤدي إلى اضطراب الأطروحات المستندة إلى (نظرية) العوامل.
والقنانة لا توجد بصورة واحدة؛ إذ اتخذت
في التاريخ عدة صور..
ولكن يظل الجوهر واحد: انتزاع جزء من عمل القن قسرا، بل لا يكون الأخير حتى حرا في اختيار سيده. ويمكن إيجاز هذه الصور في:
1. ريع العمل: وهو نظام يعمل بمقتضاه القن في أرض السيد أياما محددة كل أسبوع أو في الموسم
الزراعي.. قسرا بدون مقابل، كجزء من علاقة
القنانة ككل.
2. الريع العيني: هنا يعمل القن في الأرض،
حيث لا تكون للسيد أرض
منفصلة ويدفع له ريعا عينيا كحصة محددة من الإنتاج.
3. الريع النقدي: هو أرقى من القنانة، حيث
يُدفع الريع نفسه في صورة نقود؛ فيبيع القن جزءا من الإنتاج في السوق حتى يمكنه دفع الريع للسيد؛ وهذا الشكل من القنانة يمثل
آخر مراحل الإقطاع الكلاسيكي.
وفي الشكلين الأخيرين يستطيع القن أنْ يستخدم عمالا مأجورين وأن يطور وسائل الإنتاج.. إلخ.
ولهذا يعبر الانتقال من ريع العمل إلى الريع العيني
والنقدي (قد يوجدان معا في نفس المكان والزمان) عن تطور الإقطاع، كما يفتح بابا
لتطور قوى الإنتاج.
ولا يعني ظهور الإنتاج التجاري نهاية الإقطاع؛
بل لقد أدى نمو التجارة إلى ما عُرف بـ (القنانة الثانية) في شرق أوروبا في نهاية
القرن الخامس عشر فهنا
أدت ظروف معينة إلى اشتداد القنانة كنتيجة مترتبة على اتساع الإنتاج
السلعي. وفي كل الأحوال ينبغي أنْ يكون واضحا أنَّ التحولات في شكل الريع مع استمرار القنانة ليست إلا تحولات داخل
الإقطاع نفسه. كما أنَّ الإقطاع لا يرتبط بالزراعة وحدها..
فوجود علاقة القنانة في المدن أو في الصناعة يُعد دليلا على وجود الإقطاع.. ومن
المعروف أنَّ معظم الحرف في أوروبا الإقطاعية عملت لفترة طويلة في إطار علاقة
القنانة، كما اندرج سكان المدن عموما في الإطار نفسه لفترة طويلة
وبالتالي يُعد الكلام عن قنانة رأسمالية، أو رأسمالية تستخدم العمال بالسخرة تناقضا منطقيا. وفي أفضل الأحوال يمكن
اعتبار بعض أحوال استخدام الأقنان للإنتاج من أجل السوق،
في ظروف معينة، وضعا انتقاليا أو وسطيا بين الإقطاع والرأسمالية،
ذلك أنَّ الرأسمالية كما سنرى ليست مرادفة للإنتاج السلعي.
2. نمط الإنتاج الآسيوي
أول من أشار إلى وجود نمط إنتاج (آسيوي)
هو ماركس (مقدمة المساهمة في نقد الاقتصاد السياسي)،
ولكنه لم يكرر المصطلح مرة أخرى. وقد أعيد فتح
الموضوع عامي 1930-1931 في الاتحاد السوفيتي، ثم أوقف الحوار بقرار رسمي من ستالين، ومنذ ذلك الوقت سادت نظرية المراحل
الخمس التي تعد تحريفا لأفكار ستالين والتي روجها الكتاب السوفيت قبل الستينات.
وقد تجدد فتح الموضوع في الستينات، خصوصا
مع تقدم المعارف
التاريخية الخاصة بالعالم غير الأوروبي، وشارك الباحثون السوفييت في المناقشات حول
النمط الآسيوي بطريقة فعالة وتبنى
كثير من المنظرين الماركسين الفكرة. وقد
أسهمت فكرة النمط الآسيوي في دحص فكرة المخطط التاريخي الخماسي
وطرح مفهوم التعاقب التاريخي لأنماط الإنتاج للنقاش.
ويتبنى قيلون في مصر فكرة وجود نمط إنتاج
آسيوي، على رأسهم الراحل أحمد صادق سعد، الذي قدم مساهمات هامة في هذا الصدد، وقدم
في سياق فكرته دراسات
قيمة في تاريخ مصر. ونأخذ على صادق سعد أساسا اعتماده بالكامل تقريبا على التحليل العاملي وإهماله إبراز عامل
الوحدة فيما أسماه بالتكوين الشرقي؛ بل إنَّه لم يحدد أصلا أسباب اعتباره لنمط الإنتاج
في مصر قبل التحديث نمطا مختلفا عن النمط الإقطاعي، كما
لم يحدد ما يقصده بنمط الإنتاج عموما رغم تخصصه في تقديم ونشر فكرة النمط الآسيوي في مصر. ومع ذلك، يمكننا أنْ
نستخلص أنَّ أصحاب نظرية النمط الآسيوي يعدون طريقة إنتاج
الفائض فيه هيَ (العبودية المعممة)بمختلف الأشكال.
ولا نميل للأخذ بفكرة النمط الآسيوي.
فالقنانة المعممة (وهو التعبير الأكثر
ملاءمة لوصف الوقائع التاريخية المعروفة) تختلف عن القنانة الأوروبية
في كونها معممة، وهو فارق هام، ولكنه يقع داخل الإقطاع ولا يبرر تمييزه كنمط إنتاج مستقل تماما، خصوصا أنَّ
القنانة المعممة قد وُجدت في أوروبا الإقطاعية أيضا،
على الأقل في جوانب ملموسة: فعلى سبيل المثال كان الفلاح المشارك (مستأجر
بالمزارعة) في فرنسا يؤدي السخرة الملكية وعشور الكنيسة، وكانت الأرض المشاع تديرها القرية باعتبارها كلا، والضرائب
المباشرة تفرض على القرية باعتبارها وحدة. كذلك عرفت
فرنسا نظام الالتزام والضرائب في صورة شراء حق جمع العشور وضريبة التاي الملكية، وتكونت من القائمين بهذه الأعمال فئة
مغلقة Caste من الملتزمين
كذلك ُوجدت أشكال الإقطاع الأوروبي في
النمط (الآسيوي)؛ فقد عرفت مصر هذا الشكل في فترات مختلفة، خاصة فترات الدولة
المركزية، كما أنَّ القنانة المصرية لم تكن معممة تماما؛ إذ كان للفلاح حقوق
وواجبات خاصة تجاه الملك والمالك، بخلاف
المشترك القروي وهذا التداخل والتزامن بين شكلي القنانة في المجتمعات الأوروبية والشرقية يسند
الرأيُ الذي ذكرناه. ويبدو أنَّ دور الدولة المركزية هو الفارق الحاسم بين الإقطاع
الأوروبي والإقطاع الآسيوي، وهو ما أنتج فروقا في أشكال
القنانة؛ فغلبت في الشرق القنانة المعممة، وغلبت في الغرب القنانة الفردية. لهذا نميل إلى الأخذ بتسمية الإقطاع
الشرقي، مثلما ذهب إبراهيم عامر
3. نمط الإنتاج الخراجي
يقوم النمط الخراجي كما وصفه سمير أمين على
ربط بقاء الجماعة بجهاز اجتماعي سياسي لاستغلال هذه الجماعة
بواسطة اقتطاع خراج؛ وهو يتميز بانقسام المجتمع إلى طبقتين: الطبقة الفلاحية المنظمة في جماعات (مشتركات) والطبقة
القائدة التي تحتكر وظائف التمييز السياسي للمجتمع وتفرض
على الجماعات الزراعية خراجا غير سلعي.
وهو يقسم هذا النمط إلى نوعين من الأشكال: الشكل البكوري، ويقصد به (نمط الإنتاج الآسيوي)
والشكل المتطور: الإقطاع. وهو تقسيم يتشابه شكليا مع
تقسيمه للرأسمالية إلى نامية ومتخلفة (محيطية)، علما بأن الشكل
المحيطي في نمط الإنتاج الخراجي عنده هو الإقطاع، بينما (الآسيوي) هو الشكل المركزي. ويظهر الإقطاع عنده كحالة حدية،
حيث تكون الجماعة في وضع متدهور بسبب فقدانها للملكية
المباشرة للأرض. والفكرة بوجه عام متماسكة وتتفق مع التاريخ؛ فكما رصد سمير أمين، ينزع
النمط الخراجي المتطور إلى أنْ يصبح إقطاعيا تقليديا.
4. نمط الإنتاج الرأسمالي
استعرض موريس دوب ثلاثة
تحديدات لمفهوم الرأسمالية:
1. أكثرها شيوعا تحديد ورنر سومبارت؛ فهو يلتمس ملامح الرأسمالية في (الروح) التي ألهمتها حياة
العصر كله، والتي ألفت بين روح المشروع والمغامرة
وبين (الروح البورجوازية)، وأن هذه الأخيرة هيَ التي خلقت المؤسسة الاقتصادية الملائمة لها.
2- التحديد الثاني يعرف الرأسمالية بأنها
الإنتاج السلعي مقابل الإنتاج
الطبيعي، وهو تحديد ينحدر أصلا من المدرسة التاريخية الألمانية (بوخر
مثلا).
3- تحديد ماركس: الذي يرى أنَّ الإنتاج
الرأسمالي هو إنتاج فائض القيمة.
ويُعد كتاب رأس المال وبقية أعمال ماركس الاقتصادية دراسة في عملية إنتاج فائض القيمة؛ فالأمر لا يقف عند حد
وضع تعريف، إذ قام ماركس في أعماله بدراسة تكوين
الرأسمالية منطقيا وتاريخيا.
ونحن نرى أنَّ تحديد ماركس هو الذي يمسك
بالمفهوم تماما؛ ففائض القيمة
هو شكل الفائض الاجتماعي في ظل الرأسمالية.
ونضيف إلى الأفكار أو التحديدات الثلاثة
طريقة جد شائعة عندنا، خصوصا
بين الماركسيين، وهيَ تحديد الرأسمالية بعدد من السمات، في الغالب تأثرا بلينين.
وقد اسُتخدم تعبير نمط الإنتاج الرأسمالي
عندنا بمعان مختلفة، وخصوصا
عند تناول المسألة الزراعية؛ فيرى إبراهيم عامر أنَّ "جوهر الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج هو العمل الأجير"..وهو
هنا يلتزم بتحديد مفهوم واحدي..
غير أنَّه لم يتلزم به على مدى بحثه؛ إذ اعتبر أنَّ ظاهرة الفلاح الصغير "لا تنفي أنَّه من العمال
الزراعيين المعدمين"
ثم راح يحدد الرأسمالية بعد
ذلك بعوامل خمسة.أما فتحي عبد الفتاح، فقد لجأ إلى الطريقة العاملية مباشرة؛ فالزراعة الرأسمالية
في رأيه تقوم على الملكية الرأسمالية والعمل المأجور
والإدارة القائمة على أسس حديثة وزراعة المحاصيل النقدية... إلخ
ومن الأفكار واسعة الانتشار كذلك الربط
بين الملكية الفردية للأرض
وبين انتشار الرأسمالية
أما صالح محمد صالح فقد
حدد الرأسمالية بعدة عوامل:
تطور وسائل الإنتاج، الإنتاج السلعي، العمل المأجور، تكوين السوق القومي. إلا أنَّه
وقع تحت تأثير نزعة تقنية؛ فأعطى مسألة تطور وسائل الإنتاج
الاهتمام الأكبر، وميز بين هذا التطور كمحدد لعلاقات الإنتاج ونمط الإنتاج وبين نمط الإنتاج نفسه؛ فقرر مثلا: "إنَّ
الرأسمالية ليست في الواقع شيئا آخر سوى الإنتاج
الآلي الحديث في ظل المجتمع الطبقي، بكل ما يعنيه ذلك من استغلال واستبعاد العمل المأجور..." (ص 67)، "إحلال الإنتاج
الآلي الحديث محل التكنيك البدائي القديم دليل حاسم على
النمو الرأسمالي، في الزراعة كما في الصناعة" (ص 68). وقد عثرنا على عمل بدون اسم مؤل التزم فيه صاحبه بتحديد استخدام العمل المأجور
كمفهوم لنمط الإنتاج الرأسمالي دون أنْ يتورط في التحليل العاملي إلا نادرا.
غير أنَّ التحديد الكامن الأصيل الأكثر
شيوعا لدى معظم الباحثين عندنا
للرأسمالية هو أنها تساوي الإنتاج السلعي والتجارة؛ أيْ التعامل
بالنقد. ويتضح هذا في أعمال إبراهيم عامر، وأحيانا صادق سعد، ومحمد دويدار (الذي تصور النظام في مصر الناصرية
رأسماليا، حيث سيطر (رأس المال التجاري) في المدينة
و(رأس المال الزراعي) في الريف، ويقصد
بالأخير - كما يظهر من مجمل تحليله -
سيطرة الزراعة التجارية. وفي هذا التحديد يقع أيضا سمير أمين رغم جهوده النظرية الكبيرة وأطروحاته العميقة.
نعود إلى مفهوم نمط الإنتاج الرأسمالي. يعني إنتاج فائض القيمة استخدام العمل المأجور..
وهذا الأخير هو دوما عمل حر، فالعامل يختار (سيده)
بإرادته ولا يُجبر على العمل لدى شخص معين، وهو (حر) أيضا من وسائل الإنتاج؛ فلا يملك أو يحوز سوى قوة عمله، ومن
ثم فهو مضطر للعمل مقابل أجر محدد. وهنا يدفع الرأسمالي للعامل كمية ثابتة من
القيمة التبادلية مقابل استخدام قوة عمله؛ على عكس الإقطاعي، الذي يدفع له القن
الريع. وهذا الاختلاف الشكلي - و(الشكلي) لا تساوي تافه
كما جرى العرف – لاستغلال قوة العمل
بين الإقطاع والرأسمالية، له مغزى عميق وتأثير ملموس على
آليات عمل النظام ككل؛ فسعر قوة العمل يتحدد في السوق، وإذا أصبحت قوة العمل في
مجموعها في السوق، يكون من الضروري أنْ يُطرح الإنتاج الرأسمالي في
مجموعه في السوق، واتساع السوق على هذا النحو يخلق قانون القيمة، وآليات معينة
لتسوية معدل الربح وتحديد الأسعار.. إلخ.؛ وجد من خلالها إلا أنَّ
اتساع السوق في حد ذاته لا يدل على اتساع
الرسملة بنفس القدر، لأنه من الممكن أنْ يتسع السوق لأسباب أخرى غير نمو قوة العمل الحر، مثلما هو الحال في
نمط الإنتاج السلعي الصغير، أو نمو التجارة البعيدة.
وكثيرا ما شهد العالم هذه الظاهرة (اتساع النشاط التجاري دون رسملة)، كما هو الحال
في مصر الفاطمية مثلا. كذلك يمكن أنْ يعبر نمو السوق عن نمو التجارة الخارجية فحسب أو نمو التحويلات
الخارجية... إلخ. إنَّ التنقيد لا يساوي الرسملة، ويمكن
تصور وجود مجتمع خدمي (مثل لبنان – سابقا)، حيث توجد أنشطة سياحية وخدمية واسعة، وبالتالي
تنقيد واسع للاقتصاد وأنشطة مالية ملموسة، دون أنْ يتحول الفلاحون الصغار إلى عمال
مأجورين ينتجون فائض القيمة؛ فالمقياس الأهم على
الإطلاق هو نمو العمل المأجور في الإنتاج.
ولا نعد القطاعات الخدمية رأسمالية إلا
بقدر ما تكون تابعة لرأس المال
الصناعي - بالمعنى (الماركسي) للكلمة - وعلى هذا الأساس يجب ألا نتسرع في (اكتشاف)
الرأسمالية في كل حالة إنتاج سلعي. وحتى التجارة في المجتمع الإقطاعي ليست نشاطا
رأسماليا؛ فرأس المال التجاري في حد ذاته هو رأسمال بمعنى أنَّه قيمة متزايدة بذاتها، وهذا هو معناه من وجهة
نظر الرأسمالي والمرابي على حد سواء، إلا أنَّه لا يعبر في ذاته عن وجود نمط الإنتاج
الرأسمالي؛ فالإنتاج بالعمل الحر هو فقط الذي
حول رأس المال التجاري قبل الرأسمالي إلى رأسمال رأسمالي. أما قبل ذلك فكان التاجر مجرد ملحق بالإقطاع وعنصر مكمل للإقطاعي..
ولذلك تختلف التجارة في ظل الرأسمالية عنها في ظل
الإقطاع. فرأس المال التجاري الرأسمالي هو مجرد جزء متحور من رأس المال الصناعي - المنتج. وهكذا فـ" في
المراحل قبل الرأسمالية هيمنت التجارة على الصناعة؛ أما في المجتمع الحديث (الرأسمالي)
فإن العكس هو الصحيح" وهذا
التحول الأخير كان معبرا عن الانتصار النهائي للرأسمالية في أوروبا.
إذن يُعد مدى انتشار العمل المأجور في
الإنتاج هو المقياس الأخير
لانتشار نمط الإنتاج الرأسمالي، كما تعد هيمنة الإنتاج الرأسمالي
على السوق (على التجارة) المقياس الأخير لسيادة هذا النمط، وتظهر هذه الهيمنة في دور الإنتاج الرأسمالي في توجيه
آليات السوق ككل: تحديد معدل الربح، تحديد الأسعار، وبالتالي توجيه عملية
الاستثمار وتوزيع العمالة والتحليل (الفك) المستمر لأنماط
الإنتاج الأخرى. كذلك تجدر الإشارة إلى أنَّ وجود التعاقد لا يعني وجود الرأسمالية؛ فقد وجدت التعاقدات في ظل
القنانة أيضا، كما يمكن أنْ يجري التعاقد ين التجار والممولين في المجتمع قبل الرأسمالي.
وأخيرا.. نشير إلى ضرورة التمييز بين
النقود ورأس المال؛ فالأخير
هو مال مستثمر في إنتاج فائض القيمة، أيْ أنَّه يعبر عن علاقة اجتماعية معينة؛ ولكيْ تصبح النقود رأسمالا
يتطلب الأمر استثمارها بحيث تدر فائض قيمة من العمل
المأجور؛ فضخامة تحويلات العاملين بالخارج مثلا لا تدل في حد ذاتها على نمو رأسمالي، ولا تصب فيه إلا من خلال نمو
العمل المأجور، وبالتالي نمو إنتاج فائض القيمة.
5. نمط الإنتاج
الصغير
هنا يمارس الفرد العمل في قطعة أرض
صغيرة أو في ورشة صغيرة سواء كانت
ملكه أو ملك آخرين، ولكن دون سخرة. وهو في أنضج حالاته يكون عائليا، أيْ يتم إنتاج
الفائض بواسطة العائلة، بغض النظر عن تركيبها وطبيعتها (ثنائية – أحادية... إلخ).
أما الإنتاج السلعي الصغير فهو الشكل
المنحل لنمط الإنتاج الصغير، حيث
يدخل الإنتاج بأكمله أو في معظمه إلى السوق ويخضع لقوانينه، وعادة
ما يتم في هذه الحالة تحويل جزء من الفائض عن طريق السوق إلى طبقات أخرى.
ويتخذ نمط الإنتاج الصغير عموما أشكالا
شتى، يمكن تناولها فيما يلي:
1. العمل الحرفي.
2. استئجار قطعة الأرض الصغيرة: شرط ألا
تكون هناك علاقة قنانة، فيتم
الاتفاق الحر بين المالك والفلاح على إيجار محدد، سواء كانت عينيا ام نقديا. وهذه العلاقة تتضمن حصول
المالك على جزء من عمل الفلاح، بالاتفاق، لا قسرا.
غير أنَّ هذا لا يشبه العمل الحر، فالفلاح يدفع إيجارا للأرض ولا يبيع قوة عمله، تماما
مثلما يمكن أنْ يدفع الحرفي إيجارا عن دكانه. لذلك لا يمكن وصف العلاقة بين المالك
والمستأجر بأنها رأسمالية، لأنَّ الفائض لم يتخذ شكل فائض قيمة. كذلك لا توصف العلاقة بأنها إقطاعية طالما أنَّ
الفائض لم ينتزع بالسخرة. فنمط الإنتاج يكون نمط إنتاج
صغير أو عائلي؛ أما المالك فهو مجرد مالك أرض، فملاك الأرض
يشكلون طبقة خاصة بصفتهم ملاك أرض، حتى في ظل الرأسمالية فهم
مجرد ملاك أرض في مواجهة كل من الرأسمالي والمستأجر الصغير، بينما يشكلون في المجتمع الإقطاعي طبقة من إقطاعيين في مواجهة الأقنان.
2- الإيجار بالمزارعة، يتم الإيجار لمدة
زرعة واحدة، إلا أنَّ مالك الأرض
يساهم مع الفلاح في تكلفة الزراعة، ويتم اقتسام المحصول بينهما
بنسبة يُتفق عليها. وفي هذه الحالة يضاف لمالك الأرض صفة أخرى هيَ أنَّه مُقرض المال (ما يشبه الرأسمالي المصرفي)، ولكنه لم يصبح أبدا
رأسماليا بالمعنى المفهوم.
3- خدمة العمل: يمنح مالك الأرض قطعة
صغيرة لمدة محددة للمزارع كأجر
مقابل قيامه بالعمل في أرض المالك، ويبدو هنا أنَّ الفلاح قد تحول إلى عامل مأجور. والحال غير
ذلك تماما، فالفلاح يمارس في الأرض التي حصل عليها
كـ (أجر) نمط الإنتاج الصغير، أيْ أنَّه لا يزال فلاحا. كذلك فإن هذا الأجر ليس أجرا بحق؛ فالفلاح لا يأخذ حق
التصرف في الأرض، وإنما حق الاستعمال فقط لمدة
محددة.. فيكون هذا (الأجر) شكليا جدا لانه ليس كمية من القيمة وإنما مجرد حق
استعمال قد يؤتي ثماره وقد لا يؤتي! وبذلك يظل الفلاح نصف قن ويظل المالك شبه إقطاعي؛ فالفائض ينتج
وينتزع بطريقة تتضمن القنانة جزئيا (سخرة لمدة محددة) وتتضمن العمل الحر جزئيا (العمل
باتفاق مقابل استعمال قطعة من الأرض)، ولكن حرية الفلاح الجزئية تظل حرية الفلاح
الصغير لا العامل، لأنه بحصوله على أجره الشكلي
يعمل بنمط إنتاج صغير ولا يستطيع أنْ يرفع (أجره) في السوق إلا من خلال هذا العمل بالذات.
وجدير بالذكر أنَّ نمط الإنتاج الصغير في
كل هذه الأحوال قابل بسهولة
للتحول فعليا إلى ما يشبه القنانة، عن طريق الربا أو التسليف؛ فالمزارع الصغير في أيٍّ
من هذه الأشكال يرتبط بالأرض بسبب تراكم الديون عليه، وهيَ ديون قد يطالب بها
المالك من الناحية الفعلية، وإنما يستخدمها في إبقاء المزارع في الأرض وفقا
للتعاقد (الحر)، وفي تحديد الشروط الفعلية لهذا التعاقد. هكذا مثلا كان حال مصر في
عهد محمد على وخلفائه، الذين ربطوا شعبا بأكمله بأرض الدولة عن طريق المتأخرات المتعاظمة عاما بعد عام، والتي كان
الفلاح يُعفي من جزء منها من حين إلى آخر.
6. الفلاحون الأحرار: وهنا يزرع المالك الصغير أرضه بنفسه وبأفراد
عائلته، ويسمى النمط في هذه الحالة بنمط الإنتاج العائلي.
7. نمط الإنتاج الكونيالي
قدم مهدي عامل هذه الفكرة في كتاب مشهور
وهو يصف هذا النمط بأنه بنية اجتماعية رأسمالية تتمحور حول تبعيتها البنيوية للإمبريالية، أو لنمط الإنتاج
الرأسمالي في البلدان (الإمبريالية) ويسمى مهدي
عامل النمط الكولونيالي، بنية في حالة تفكك بنيوي بسسب سيطرة الرأسمالية عليه (ص 265). وهو يؤكد على اختلاف أو تمايز
الكولونيالية كبنية عن الرأسمالية في البلدان (الإمبريالية)، مؤكدا أنها لا يمكن أنْ
تجد مستقبلها في (اكتمالها) إلى بنية رأسمالية مشابهة لبنية البلدان الغربية، وأن
الفارق بين التطور الكولونيالي والتطور الرأسمالي ليس
فارقا كميا، وإنما شكلين تاريخيين متمايزين من البنية الاجتماعية الرأسمالية (ص
266، ص 342). وفي النهاية لم يقدم لنا مهدي عامل شكلا متميزا لإنتاج
الفائض في ما يسميه بنمط الإنتاج الكولونيالي.
ويصر مهدي عامل على وصف النمط
الكولونيالي بالرأسمالية، استنادا إلى
عامل أساسي، وهو اندماج البلدان المتخلفة في السوق العالمي، وبالتالي
اتجاه إنتاجها أو معظمه إلى السوق، وهو بذلك يتفق موضوعيا على الأقل مع الرأي القائل بتحديد الرأسمالية بأنها
الإنتاج السلعي.. فهو ينفي أهمية علاقات الإنتاج
الفعلية في تحديد نمط الإنتاج، ويصر على أنَّ مآل المنتج هو الأهم. ولما كان السوق العالمى لديه رأسماليا، تكون
البلدان المتخلفة رأسمالية. وهذا يفسر إهماله التام لطبيعة قوة العمل المنتجة
نفسها ولعلاقات الإنتاج.
والذي يمكن استخلاصه من مهدي عامل هو أنَّ
نمط الإنتاج الكولونيالي
هو حالة من حالات النمط الرأسمالي، أو الرأسمالية التابعة. ولكن هذا التحديد لا يقدم لنا أبدا نمطا خاصا في
الإنتاج وكان من الأجدى لمهدي عامل أنْ يتحدث عن بنية
كولونيالية خاصة بدلا من نمط إنتاج كولونيالي.
***************************
تقودنا فكرة تحولات أنماط الإنتاج إلى
مقولة جديدة؛ تمفصل أنماط الإنتاج
القديمة والجديدة (منطقيا – تاريخيا).
- فمن الممكن نظريا وعمليا أنْ توجد قوى إنتاج في حالة تفاوت في درجة تطورها، بل يبدو أنَّ هذه هيَ
طبيعة الأمور من الناحية الواقعية.. وهذا يعني بدوره إمكانية وجود أكثر من نمط إنتاج
في المجتمع نفسه في وقت واحد.
وبفضل الميل الحتمى لتطور قوى الإنتاج يميل نمط الإنتاج الأعلى تاريخيا إلى إزاحة نمط الإنتاج
الأقدم والحلول محله. وهذا يعني عجز النمط الأقدم عن إعادة
إنتاج نفسه؛ إذ يتم الجمع بين إعادة الإنتاج والاضمحلال،
وهذا هو ما يحدث – فعلا – وسوف نعود إلى هذه النقطة – وتكون إعادة إنتاج مضيقة تاريخيا. فيعاد إنتاج النمط من خلال الآخر ولصالحه وتسمى الفترة التي يحدث
فيها انتشار نمط الإنتاج على حساب الآخر بالفترة
الانتقالية.
- ويُعد نمط الإنتاج الرأسمالي النمط الأكثر ثورية في أنماط الإنتاج التي عرفتها البشرية
حتى الآن؛ فتطور قوى الإنتاج يتم في خطوات واسعة
وسريعة، ولهذا يميل إلى السيادة بسرعة على أنماط الإنتاج السابقة عليه.
- وخلال عملية إحلال نمط الإنتاج محل
آخر، تمر فترة يكون فيها النمط
الجديد ناشئا والقديم سائدا، وفي فترة تالية يصبح الجديد سائدا
والقديم متنحيا.. وهذا يقودنا إلى مسائل أخرى:
من طبيعة نمط الإنتاج السائد أنْ يعيد إنتاج نفسه، ومعنى هذا أنَّ سيادة نمط على آخر تنزع
عن النمط المسود مفهومه.. ذلك أنَّ نمط الإنتاج هو
نمط إعادة الإنتاج. فكيف إذن يمكن الحديث عن نمط إعادة إنتاج لا يعيد إنتاج نفسه؟ ولا يكفي اعتبار السيادة الكمية
فحسب (نسبة المشاركة في إنتاج الفائض)، فهذه قد تتغير نتيجة عوامل عرضية (كارثة
طبيعية مثلا)؛ فالسيادة هيَ حالة كيفية، أيْ سيادة النمط كنمط، وبالتالي لابد وأن
يصيب النمط السائد، بفعل سيادته، جوهر مفهوم النمط الآخر، فيصبح أمامنا نمط إنتاج في
غير هوية مع مفهومه، أيْ نمط إنتاج متحللDisintegrated
.
وكما يؤثر نمط الإنتاج السائد على نمط
الإنتاج المتحلل، يتأثر به هو أيضا،
ولكن في حدود أقل كثيرا، وهذا ما يعبر عن سيادته: فهو يعيد إنتاج
نفسه بآلياته الأصلية متخذا الصورة المفهومية لنمط الإنتاج، مع وجودا استثناءات هامشية لا تؤثر في مساره ككل.
أما النمط الناشئ الجديد فهو لا يكون متحللا ولا سائدا، وإنما يعيد إنتاج نفسه
مستعينا بالنمط القديم – أيْ أنَّه لا يكون مكتملا بذاته كنمط إنتاج – ولكن على حسابه، لأنه يكون الأكثر تطورا في المجتمع. ومن
الأمثلة الناضجة لهذه الظاهرة تكون الرأسمالية في أوروبا:
ففي الفترة الأولى من النمو الرأسمالي كان رأس المال التجاري
يسيطر على رأس المال الصناعي، ذلك أنَّ الرأسمالية لم تكون سائدة، ولذلك لم تكن رأسمالية تماما، ولم ينتصر رأس المال ويسود
على الإقطاع إلا بأن انقلب على نفسه، فسيطر رأس المال
الصناعي على رأس المال التجاري، الذي تحول، من ثم، إلى مجرد صورة
متحورة من رأس المال الصناعي، وبذلك فقط أصبح النمط الرأسمالي متسقا مع مفهومه
ويتلخص الاستنتاج الرئيسي لهذه النقطة في
أنَّ نمط الإنتاج لا يكون في
هوية مفهومه إلا وهو سائد؛ أما في غير هذه الحالة فإنه لا يكون خالصا.
6. وهناك شكل آخر لتمفصل أنماط الإنتاج
حيث يتم هذا بين نمط إنتاج في
بلد، ونمط إنتاج آخر في بلد، وهنا تسير الأمور في أحد اتجاهين:
أولهما: قيام علاقة خارجية بين النمطين،
أيْ دون تأثير هيكلي ملموس،
مثال هذا العلاقة بين النمط العبودي في روما وإقطاع بلدان الشرق قديما.
وثانيهما: قيام علاقة هيكلية (عضوية)
بين النمطين؛ فإما أنْ ينتج
نمط إنتاج جديد تماما (وهذا ما حدث بعد الغزو الجرماني لروما)، وأما
أنْ يسود نمط إنتاج الطرف الأقوى
و إما أنْ ينتج تمفصلا في صورة هيمنة هيكلية من النمط
الأحدث على النمط الأقدم، فيحلله دون أنْ يحل محله بالكامل؛ وهذا هو الوضع في حالة
البلدان المتخلفة؛ فالسيطرة أو السيادة من الخارج تحول نمط الإنتاج القديم جزئيا
إلى الرأسمالية دون أنْ يكتمل هذا التحول. إلا أنَّ نمط الإنتاج القديم لا يستمر
كما كان من قبل، ولكن يأخذ في التحلل باستمرار وتنشأ وضعية شبه رأسمالية – شبه قبل
رأسمالية، توصف في معظم الأدبيات الاقتصادية بالرأسمالية المتخلفة، وهيَ في الحقيقة حالة استثنائية لمجتمع يغيب فيه نمط
إنتاج سائد (وتنطبق هذه الوضعية على مصر).
مقدمة تعقيبية
شريف يونس
بعد لأيٍ، استقر الأمر بيننا –
نحن كاتبا هذا المقال – على أنْ أكتب مقدمة مستقلة للعمل ذاته:
مفهوم نمط الإنتاج، أشرح فيها جوانب الاختلاف في فهم المنهج. وسيجد القارئ أنَّ
مقدمة عادل أكثر اتساقا مع أسلوب المقال وطريقة العرض فيه، فقد كُتبت في نفس وقت
كتابه المقال وبنفس الروح. أما هذه (المقدمة) فلا تهدف إلا إلى تلمس المشكلات
المنهجية لمقالنا هذا بهدف إشراك القارئ المهتم معنا في معالجة مشاكل المنهج الجدلي
في صيغته الماركسية، وفي الحوار الدائر بيننا بصدده، خصوصا وأننا لا نتوقع أنْ يصل
بحثنا لهذه المشاكل إلى نتائج حاسمة في وقت محدد.
لقد كانت قناعتنا وقت كتابة هذا المقال أنَّ
المنهج الجدلي كما عرضه هيجل في (علم المنطق) و(موسوعة العلوم الفلسفية) هو ذاته
منهج ماركس، ولا يكمن الخلاف بينهما إلا في المجال الذي يطبق فيه هذا المنهج. أيْ أنَّ
كتاب (رأس المال) يعرض تكون مفهوم رأس المال، تماما كما يعرض منطق هيجل مفهوم
الوجود وصولا إلى حقيقته؛ الفكرة المطلقة. وترافق مع هذه القناعة وعيٌ بأن فصل
منهج هيجل عن مضمونه يكاد أنْ يكون مستحيلا، بل إنَّ تصور منهجه كنهج صوري ينطبق
على مواضيع مختلفة، تصور يتعارض جذريا مع عرض هيجل لمنهجه، وحين كُتب مقالنا هذا
لم نكن قد استطعنا بعد تحديد المشكلات الجوهرية في مثل هذا التعارض.
لا شك أنَّ لب المشكلة المنهجية للعلوم
الإنسانية عموما هو مشكلة البنية أو التركيب، أيْ منهج فهم الظاهرة الإنسانية من
حيث هيَ كل مترابط يتحرك في الزمان؛ أما المشكلات المنهجية الأخرى، مثل مناهج
غربلة الوقائع وتصنيفها التي تدرس عادة تحت عنوان مناهج البحث فتالية في الأهمية، كما
أنها تتأثر بموقف الباحث من مشكلة البنية الاجتماعية ومنهج تركيبها.
والمنهج التركيبي للماركسية هو – عن
وعي – المنهج الجدلي الذي نحن بصدده الآن. يقوم
مذهب هيجل على أنَّ الحقيقة تركب نفسها بنفسها وتمر بمراحل ثلاث منطقية، هيَ
المباشرة والتوسط والمباشرة في التوسط، تناظر دوائر ثلاث في منطقه هيَ دائرة
الوجود ودائرة الماهية ودائرة المفهوم Notion،
ويتضمن المفهوم كلا من الوجود والماهية في وحدتهما واختلافهما؛ على أنْ تعني
الوحدة هنا التحديد المتبادل. فمثلا تشكل الغاية المتحققة مفهوما يتكون من الغاية (الأصلية)
والوسيلة. فالغاية هنا مبدأ مجرد والوسيلة توسط مجرد؛ أما الغاية المتحققة فهيَ
هذا التفاعل بين الغاية والوسيلة وناتجه، ومن ثم فهيَ حقيقتهما. ولما كانت الغاية
تعود إلى الذات، والوسيلة إلى الموضوع فإن وحدتهما، أيْ حقيقتهما، وهيَ وحدة مطلقة
بين الذات والموضوع. وفي مثل هذه الوحدة المطلقة بين الذات والموضوع لابد وأن تقام
وحدة مطلقة بين الوجود والفكر.
ولا تقتصر وحدة الفكر والوجود على هذا
المثال، بل هيَ تمتد لتشمل كل ما في الوجود، بمعنى أنها تفترض أنَّ الفكر يغطي كل
مساحة الوجود وعمقه. وهنا تبدو لنا النتيجة الغريبة: ذلك أنَّه إذا كان المقصود
بالفكر الفكر البشري (وبالذات الذات الإنسانية) استحالت هذه الوحدة المطلقة مع الوجود
(مع الموضوع)، كما يعرف الجميع حتى رجل الشارع. والواقع أنَّ هيجل يقصد هنا الفكر
المطلق الأزلي، اللامتناهيَ الذي يضم بداخله المتناهيَ. ماذا يترتب على هذه الصيغة
في صورتها المطلقة؟ لا أقل من إلغاء الزمن والتطور، فالفكر المتحد اتحادا مطلقا
بالوجود، والذات المتحدة اتحادا مطلقا بالموضوع، قد تحققا بالفعل في هذا الاتحاد؛
أما الفكر العرضي؛ فكر الفرد، (الذي يقف هنا بطريقة غريبة خارج هذه الوحدة
المطلقة)، فليس أمامه من مهمة سوى استيعاب هذه الوحدة المتحققة بالفعل. ليست هناك
مشكلة معرفة في مذهب هيجل إذا شئنا الدقة، فالفكر قد تحقق بالفعل واتحد مع الوجود،
وليست المعرفة هنا عملية متطورة متراكمة Process وإنما هيَ بنية كامنة في صميم الواقع في امتداده عبر الزمن والمكان، استوعبتها
تماما فلسفة هيجل الخاصة.
دعونا الآن نترك هذه القمم الساحقة
وننظر بعين العطف والتفهم إلى الإنسان، هذا الكائن المتواضع الذي فشل في استنباط
الطبيعة من فكره المحدود ! واأسفاه، لم يكن فشله هذا عرضيا بالمرة، بل كان ضروريا؛
فهو ككائن طبيعي – جزئي مندرج في الطبيعة بكل
عمق ممكن لمعنى الاندراج، يستمد منها وجوده ذاته، إجمالا وتفصيلا، صحيح أنَّه برهن
على استقلاله النسبي في عمله القصدي لتغيير الطبيعة بالشكل الملائم له، مستندا إلى
تمتعه بشمول الفكر وإدراكه للمطلق ولكن
فكره (وعمله) مهما عرض من خواص الشمول، إنما ينطلق من موقفه كموجود جزئي. ومن هنا
كانت معرفته تتخذ شكل معرفة تراكمية (تاريخية)، فهيَ ليست نسقا معطى سلفا، وليست
اللامتناهيَ الذي يضم بداخله المتناهيَ وهذا هو مغزى الفكرة المادية الشهيرة (والماركسية
مادية): الوجود سابق على الوعي.
أما المعرفة البشرية (وهيَ شكل من أشكال
العمل) فإنها تتأسس على وجود معطى سلفا، سواء بالنسبة للبشر عموما أو لكل فرد على
حدة فالمعرفة تبدأ دوما من معطى مدرك بالحواس، تحيله المعرفة من بعد إلى كلي؛ فكرة.
ومع ذلك فهذا التحويل محصور دائما رغم طابعه الكلي في جانب معين، بمعنى أنَّه لا
يتغلب أبدا على استقلال المعطى، ولا يدمجه تماما في الفكر، وذلك من ناحيتين:
- فأولا: لا يدرك البشر الوجود في كليته
وإطلاقه إلا كمقولة (الطبيعة – الكون..) ولا يستوعبونه إطلاقا في توصيف عيني
من حيث حدوده وأوضاعه وإمكاناته. وهذا ما أشارت إليه نقائض العقل الشهيرة عند كانط.
- ثانيا: لا يدرك البشر بالنسبة لكل
موجود جزئي على حدة إلا جوانب من خواصه أو (حقيقته) فإذا راجعنا تصورات الناس عن أبسط
الأشياء، كالحجر مثلا، بدءا من الإنسان البدائي الذي عرف في الحجر صلابته إلى عالم
الجيولويجا المعاصرة لنا، لوجدنا أنَّ كلا منهم قد عرف شيئا حقيقيا عن الحجر، ومع
ذلك فما زال الحجر معطى يتحدى الفكر، بمعنى أنَّه قابل للمزيد من المعرفة.
غير أنَّ استقلال المعطى لا يفسر ذاته
عملية المعرفة؛ فإذا اقتصرنا عليه وقعنا في مادية فجة عاجزة عن تفسير النشاط البشري؛
إذ تنظر إلى الإنسان كتلقٍ سلبيٍّ فحسب، ومن هنا أهمية الميتافيزيقا عموما، ومفهوم
هيجل خصوصا. فالمعرفة البشرية تتضمن توسطا يحيل الجزئي إلى مفهومه... ذلك أنَّ
المعرفة هيَ معرفة بالكلي رغم استنادها إلى الجزئي: فاللغة نفسها كما أوضح هيجل (وأفلاطون
من قبل) عبارة عن تصورات كلية، بل إنَّ الكلية ليست خاصية للغة فحسب، وإنما لمعنى
الوجود البشري الفاعل بأكمله، فالبشر يفرضون الكلية والنظام على الطبيعة –
بوسائلها طبعا- ويكافحون كي تبقى منتجاتهم في الحالة التي يريدونها عليها، وفصلها
عن التأثيرات الجبارة للطبيعة.. يكافحون كيْ لا تحول الألوان أو تصدأ الآلة أو
يهترئ القماش. بل إنَّ اللغة تقوم بتثبيت وحفظ مكونات العالم في صيغ كليةكما
تثبت قوانين الحركة ذاتها في صيغة رياضية (نيوتن – أينشتاين). والأكثر أهمية
من ذلك هو أنَّ هذا الكلي (أو القانون أو المعرفة) لابد وأن يكون كامنا في قلب
العالم ذاته. صحيح أنَّ قوانين الفلك ليست مكتوبة في السماء، ولكنها مطوعة في حركة
الأفلاك ذاتها ومعنى ذلك أنَّ الفكر البشري (والعمل البشري عموما) يتضمن بالضرورة
مبدأ وحدة الفكر والوجود بقدر ما يكون الفكر البشري مناظرا لظاهرة موضوعية.
فإذا كانت المعرفة موضوعية، أيْ تنتمي إلى
صميم العالم الطبيعي والاجتماعي، فإنها إلى هذا الحد تكون معرفة مطلقة وليست ظرفية
أو تاريخية فحسب (رغم أنها لا تحدث إلا في الزمن)، بمعنى أنها تنسحب على مجمل وجود
الشيء محل المعرفة مهما امتد في الزمان أو المكان؛ فالذرة مثلا تتكون من نواة
والكترونات تدور حولها، وهذا هو حالها من قديم وجودها، لا من لحظة معرفتنا بهذا الأمر
والتبادل السلعي المتطور (الذي يقسم السلع والنقود) يستند إلى مبدأ وجود قيمة
كامنة اجتماعية في المنتجات المختلفة قابلة للقياس، وهيَ كمية العمل البشري الضروري
اجتماعيا – سواء إدراك الناس ذلك أم لا.
أكثر من ذلك.. فمن الواضح أنَّ العلم –
مهما كان موضوعه جزئيا – لابد وأن يفترض وجود قانون باطن في موضوعه، أيْ
أنَّه لابد من أنْ يفترض مبدأ وحدة الفكر والوجود في المطلق، كمقدمة ميتافيزيقية
ضرورية لتوجيه العلم (والعمل) يستند إليها الوجود البشري ذاته. وعلى سبيل المثال، حين
يواجه العالم الكيميائي ظاهرة جديدة تثير اضطرابا في قوانين العلم، فإنه يفترض
مسبقا بالضرورة أنَّ هناك قانونا ما، يمكن اكتشافه يستطيع تفسير هذه الظاهرة، حتى
لو فشل هو في اكتشافه. وسيكون القانون الجديد أزليا أيضا، بمعنى تطابقه مع موضوعه في
كل اتساعه الزمني والمكاني.
فإذا لم نكن قد نسينا استقلال الوجود
بوصفه معطى، لا تضح لنا أنَّ مبدأ وحدة الفكر والوجود لابد أنْ يفهم هنا كمجرد
مبدأ، أو كمبدأ مجرد لا يتجاوز مطلقا استقلال المعطى. ولابد أنْ ينعكس ذلك بالطبع
على تصور مبدأ وحدة الفكر والوجود ذاته؛ إذ أنَّ هويتهما في هذه الحالة تنطوي على
تباين أعمق من الوحدة ذاتها. ومعنى ذلك أنَّ المنهج الجدلي هو وجه واحد من وجهي
المعرفة، ومن هذا التباين ينشأ التطور التاريخي (الذي هو ليس استنباطا للمقولات)
وتظهر المعرفة كعملية تراكميةProcess فالمعرفة إذن
نسبية ومطلقة في الوقت ذاته.
ليس هذا حلا سعيد للمشكلة، وإنما هو إبراز
لها. فالمعرفة لابد أنْ تُصاغ صياغات نظرية متماسكة، وفي الوقت نفسه تكون واعية إلى
حد ما بنسبيتها، مدركة لاقامتها على رقعة محدودة من الوجود ولامتدادها إلى عمق
محدد فيه. ولما كانت كل معرفة هيَ بالكلي، ولما كنا لم نقم بإلغاء حقيقة الجزئي، فلابد
من أنْ نتصور المنهج التركيبي (الجدلي) كمنهج تطبيقي أيضا، أيْ كمنهج صوري؛
فالمنهج يحتفظ باستقلاله كوجه آخر لحقيقة احتفاظ المعطى باستقلاله، بينما يتحد بالظاهرة
المعطاه في نظرية هذه الظاهرة.
المنهج إذن منهج واقعي بقدر ما يكون هو
المنهج الباطن للظاهرة، وهو لا يثبت واقعيته هذه إلا بقدر ما يستطيع أنْ يبرهن على
احترامه للمعطى، وقدرته على إدماجه في تصور عام. ليس الاختلاف بين المنهج الجدلي
وغيره من المناهج هو إلغاء المعطى، وإنما تحويله لما يصل إليه الفهم Understanding من تحديدات وعلاقات إلى منظومة منطقية تبرز كلية الظاهرة من حيث هيَ
تحديدات متبادلة يكمل بعضها بعضا ويترتب بعضها على البعض الآخر. وكما كان الوجود أساسا
للمعرفة (أعرض منها وأشمل وأقل تحديدا في الفكر في الوقت ذاته)، كذلك تقوم الوحدة
الجدلية في الجدل المادى بالضرورة بين طرفين غير متطابقين، أو بين أساس و (مؤسس
عليه) بقدر ما تعرض الظاهرة نفسها مثل هذه الوحدة، أو هيَ وحدة متباينة بين شكل
ومضمون كما أشار بليخانوف على لسان تشيرنشيفسكي في تحديد أساس المنهج الجدلي:
"التغير الأبدي لشكل أوجده محتوى أو سعيٌ معين، كنتيجة لتركز هذا السعي
والتطور الأرقى لذاك المحتوى ذاته"
لننظر إذن إلى الكيفية التي طبق بها ماركس
المنهج الجدلي، بعد أنْ تبينَّا أنَّ قلب الجدل ليقف على قدميه ليس أمرا بديهيا أو
واضحا بذاته. ويبدو ليَ أنَّ ماركس قد أدرك بوضوح أنَّ المادية تنطوي بالضرورة على
مبدأ أنَّ تباين الفكر والوجود أعمق من وحدتهما في المنهج الجدلي، وإن كان قد اهتم
أساسا - في حدود علمي – بالنتائج المترتبة على هذا التباين المشار إليه..
ومن أهم عباراته في هذا الصدد:
"لا شك أنَّ منهج العرض يجب أنْ يختلف
عن منهج البحث في الشكل. فعلى الأخير أنْ يمتلك المادة في تفصيلاتها، ويحلل أشكال
تطورها المختلفة ويتتبع الترابطات الداخلية لهذه الأشكال. وفقط بعد انجاز هذا
العمل يمكن وصف الحركة الواقعية Actual وصفا وافيا. فإذا ما أُنجز هذا الوصف بنجاح، أيْ إذا انعكس الموضوع في
الذهن انعكاسا مثاليا كما في صفحة مرآة، حينئذ ربما يبدو كما لو كان لدينا مجرد
بنيان قبلي Apriori"
ومن الواضح هنا أننا بصدد العناصر التالية:
- إنَّ المادة موضوع البحث مستقلة، متنوعة
أصلا، لابد من معرفتها في تنوعها بالإجراءات البحثية العادية.
- تخضع المادة إلى تحليل (أيْ تجريد)
يصل بنا إلى مقولات عامة هيَ الأشكال المختلفة لتطور الظاهرة.
- إدراك العلاقات المختلفة المتبادلة
بين هذه الأشكال (المقولات)، أيْ فهمها كأجزاء من كل واحد تشكله الظاهرة.
- يأتي بعد ذلك (منهج العرض)، الذي
يستهدف عرض هذا الكل. وهذا العرض هو وصف للحركة الواقعية. وهذا الوصف هو الانعكاس
المثالي للموضوع في الذهن. وفي نفس الوقت يبدو هذا العرض كبنيان قبلي.
فما يبدو أمامنا إذن كبنيان قبلي ليس
محض خداع، وإنما هو ذاته الحركة الواقعية للظاهرة؛ أيْ أنَّ الظاهرة لابد وأن تعكس
نفسها في الفكر على هيئة بنيان Structure، لأنَّ الحركة الواقعية ذاتها مركبة هذا
التركيب.
- إنَّ هذه المراحل المركبة توضح أنَّ
الحركة الواقعية، كما تعرض وفقا لمنهج العرض تختلف عن الحركة الظاهرة Phenomenal المدركة بمحض المشاهدة أو جمع المادة. أيْ أنَّ الموضوع له ظاهر وباطن.
ويبدو أنَّ ماركس يشير هنا إلى مسألة معروفة في العلم، هيَ اختلاف حركة الأفلاك
الحقيقة كما يركبها العلم عن الحركة الظاهرية المرصودة بالتليسكوب مثلا. فعن طريق
تركيب مشاهدات عديدة تبدو للوهلة الأولى متعارضة مع بعضها البعض نصل إلى تصور الحركة
الواقعية (مثلا تبدو الشمس وهيَ تشرق كل صباح كما لو كانت تدور حول الأرض بينما
العكس هو الصحيح)
لنتبع إذن بعض النتائج التي تترتب على (قلب
الجدل الهيجلي) أو التصور المادي للمنهج الجدلي.
1- لا يجوز بالطبع الانطلاق من أفكار
مجردة في منهج العرض، وإنما من تصورات ومقولات عينية بسيطة، تعد أساسا لما يليها
من مقولات. وبالنسبة لـ (رأس المال) يشير ماركس إلى ذلك صراحة: "أنا (أيْ
ماركس) بادئ ذي بدء لا أنطلق من مفاهيم، يعني إذن لا أنطلق أيضا من مفهوم
القيمة وليس عليَّ بالتالي أنْ أقسمه بأيِّ كيفية كانت. أما ما أنطلق منه فهو
الشكل الاجتماعي الأبسط، الذي يعرض ذاته فيه في المجتمع الحالي منتوج العمل، وهو البضاعة
(...) إذن فأنا لا أقسم القيمة إلى قيمة استعمالية وقيمة تبادلية على أنهما طرفان
متعارضان ينشطر فيهما المجرد، أيْ القيمة"
فالقيمة إذن لا تتمايز ذاتيا وتنتج السلعة وإنما السلعة تشكل وحدة بين قيمتين
مستقلتين، (وسنفحص طابع هذه الوحدة في النقطة التالية)، وهيَ إذن نقطة الانطلاق
الحقيقي بقدر ما هيَ أبسط مؤسسة واقعية في المجتمع الرأسمالي.
2- ومع ذلك لم ير ماركس في السلعة محض
مادة للتبادل، وإنما رأى فيها انشطارا أساسيا إلى قيمة استعمالية وقيمة (تبادلية)
يتحدان في السلعة. وهنا يبرز أمامنا منطق التعريف الأرسطي: وحدة النوع والفصل.
فجانبا السلعة هنا لا يشتقان من بعضها البعض وإنما يعمل أحدهما كأساس للآخر (نوع
للفصل)، فتعريف السلعة هنا هو ببساطة: قيمة استعمالية تنتج بغرض التبادل (بغرض
تحقيق قيمة تبادلية). وبالمثل نجد أنَّ عملية الإنتاج الرأسمالية هيَ عملية عمل Labour Process تجري بغرض إنتاج القيمة الزائدة. ورأس المال النقدى Money Capital هو نقد يقوم بوظائف دوران رأس المال، و"التركيب العضوي لرأس المال
هو التركيب القيمي لرأس المال بقدر ما يتحدد بتركيبه التقني ويعكس تغيراته" وفي
كل هذ الأحوال تجمع المقولة العينية بين طرفين لا يتطابقان في المدى المفهومي أو
الماصدقات، تماما مثل النوع والفصل عند أرسطو، وإنما يشكل أحدهما أساسا للآخر، فماله
قيمة تبادلية لابد وأنْ تكون له قيمة استعمالية والعكس غير صحيح، وهكذا بالنسبة
لما ذكرناه من تعريفات.
وحين يأخذ ماركس على الاقتصاديين البورجوازيين
عدم رؤيتهم للإنتاج الرأسمالي كنظام عابر للإنتاج، لا يقصد أنْ يطالبهم بشجب الإنتاج
الرأسمالي، وإنما يشير في اعتقادنا الى عجزهم عن رؤية هذا الازدواج بين خصوصية الإنتاج
الرأسمالي وبين الإنتاج بصفة عامة كأداة للتحليل. وهذا بالضبط ما يحققه الشكل
المزدوج للتعريف عند ماركس، فهنا نجد منذ البداية وفي قلب التعريف ذاته عملية الإنتاج
الرأسمالي كشكل اجتماعي لمضمون معين هو عملية العمل بصفة عامة. وعموما يرى ماركس في
علاقات الإنتاج شكلا اجتماعيا لقوى الإنتاج يتحدان في نمط الإنتاج المعين، ولأنها
وحدة تباين، نشطة وفعالة، لابد وأن يؤدي نمو قوى الإنتاج إلى تجاوز حدود علاقات الإنتاج
المعينة ودفعها إلى أزمة (تمس قوى الإنتاج بالطبع) تسمح بالقضاء على علاقات الإنتاج
القائمة.
وفي إطار هذه الوحدة المتباينة، يقوم
النوع بدور الأساس للفصل، أو المادة بالنسب للصورة أو المعطى. فالقيمة الاستعمالية
تقوم بدور المادة في مقولة السلعة وهكذا بالنسبة للأمثلة الأخرى، وما يقوم بدور
المادة يؤخذ في عموميته، أيْ بقدر ما يرتبط بالصورة وليس في تميزاته العديدة فالقيمة
الاستعمالية في حد ذاتها يمكن تقسيمها بعشرات الطرق، ولكنها لا تدخل من حيث أنواعها
في مقولة السلعة وإنما تدخل فقط كأساس جوهري للقيمة (التبادلية).
3- فإذا انتقلنا إلى حركة المقولات من
البسيط إلى المركب، لوجدنا أيضا تأثير المعطى، فليست هناك عند ماركس أيُّ محاولة
للادعاء بإمكان الاستنباط المحض لفكرة من فكرة أو من مقولة إلى أخرى. ليست هناك
محاولة لاظهار الحركة في صورة قياس، وإنما تكمن القوة المحركة للمقولات في
افتقارها إلى تفسير الواقع (الظاهرة). وعلى سبيل المثال ليس هناك عيب منطقي بحت في
تصور أنَّ السلع تباع وفقا لقيمتها (وفقا لتحليل ماركس في الجزئين الأول والثاني
لرأس المال)، ولكن عدم كفاية هذا التصور لتفسير الحركة الواقعية لرأس المال التي
تفضي إلى قانون تساوي معدل الربح (بسبب المنافسة واختلاف التركيب العضوي لرأس
المال في قطاعات الإنتاج المختلفة) يؤدي عند ماركس إلى انشاء مقولة سعر الإنتاج (الكتاب
الثالث، الجزء الثاني). كذلك فإن تصور إنتاج فائض القيمة المطلق (باطالة يوم
العمل) لا يشير بذاته مهما بلغت (قوة) التفكير التأملي إلى الطريق الآخر لزيادة إنتاج
فائض القيمة، وهو تقصير وقت العمل الضروري بزيادة الإنتاجية (إنتاج فائض القيمة
النسبي)، وإنما لابد هنا من تصور المنافسة بين المنتجين داخل القطاع الواحد لزيادة
حجم منتجاتهم وباتالي السعي إلى تحقيق ميزة نسبية
وعلى ذلك يستمد التركيب الجدلي مشروعيته من
قدرته التفسيرية للواقع، أيْ من قدرته على استيعاب المقولات التي ينتجها الفهم من
ملاحظة الظاهرة في كل بنائي يغطي حركة الظاهرة الفعلية.
3- فإذا فحصنا (منهج العرض) في (رأس
المال) لوجدنا أنَّ كل مقولة تحتوي على ماسبقها من مقولات في جوفها؛ تماما مثل (علم
المنطق) لهيجل. ومع ذلك فماركس يشير صراحة إلى أنَّ هذا المنهج الذي يتقدم من
المجرد إلى العيني "هو ببساطة الطريق الذي يتمثل به التفكير ما هو عيني ويعيد
إنتاجه كمقولة عقلية عينية". ولكن هذا الطريق ليس بأيِّ حال عملية تطور
العالم العيني ذاته؛ فمثلا تفترض أبسط مقولة اقتصادية، مثل القيمة –
التبادلية وجود السكان، بل وسكان ينتجون وفقا لشروط محددة، كما تفترض شكلا متميزا
للعائلة أو المجتمع أو الدولة.. إلخ. " فالقيمة التبادلية يستحيل أنْ توجد
إلا كعلاقة مجردة وحيدة الجانب لكل عيني متواجد أصلا" "فالأبسط
والأعقد إذن يتواجدان سويا في الزمان، والمقولة الأعقد تشكل أساسا عينيا للمقولة الأبسط،
ولكننا لا نستطيع أنْ نتمثلها عقليا إلا بهذا الصعود من البسيط إلى المركب لأنَّ
التصور العيني عيني لأنه تركيب Synthesis من تعريفات عديدة وبذلك
يمثل وحده الجوانب المتعددة"[104]
4- ونظرا إلى أنَّ منهج العرض يبدأ
بوحدة متماهية بين الشكل والمضمون كما سبق ذكره كان لابد وأن تبرز المقولات الأعلى
هذا التناقض الضمني، ومن ثم فإن ما يتحقق في نهاية التحليل هو التوصل إلى الكل العيني
كوحدة متناقضة في طريقها إلى التفكك. وما (يتحقق) هو التناقض لا الهوية، لأنَّ
الهوية ذاتها متناقضة تناقضا جوهريا لأنَّ شقيقها غير متساويين (على عكس الهوية
المستوعبة تماما لتناقضاتها عند هيجل). وهكذا نجد (رأس المال) ينهيَ تحليله الأساسي
بمقولة ميل معدل الربح إلى الهبوط (الكتاب الثالث). وغنى عن البيان أنَّ هذا
التطوير للتناقض يستند منذ البدء إلى تأسيس تاريخية الظاهرة الرأسمالية في قلب
المقولات ذاتها كما ذكرناه. هنا إذن نجد التأسيس المنهجي لثورية الماركسية.
5- ليس القانون العقلي في بنائه الجدلي
هدفا في حد ذاته عند ماركس، بل كشفا للصيغة اللاعقلية لحركة المجتمع الحديث.
فالقانون الاجتماعي هو نتيجة لاغتراب الفاعل الاجتماعي عن الحركة الاجتماعية التي
ينتجها. ليس هناك تبرير (كما يبرر هيجل الدولة باشتقاقها من الإرادة) وإنما دعوة
للعمل: "إنَّ سلاح النقد لا يستطيع بالطبع أنْ يحل محل نقد السلاح، والقوة
المادية يجب أنْ تقبلها قوة مادية أيضا، ولكن النظرية تصبح قوة مادية حين تستولي
على الجماهير" [105] والنظرية
الاجتماعية التي تحتاج إلى الاستيلاء على الجماهير لا تنتمي في الواقع إلا إلى عهد
الاغتراب، وعهد ما قبل التاريخ، بينما يبدأ التاريخ الحقيقي عند ماركس عندما يبدأ
الناس في صنع تاريخهم بوعي. ليست الماركسية دعما لقانون اجتماعي، وإنما دعوة لثورة
اجتماعية، وليس المجتمع لديها موضوعا فلسفيا تأمليا، وإنما سعيٌ امتد على مدى آلاف
السنين لتحقيق الحرية.
6- الديالكتيك إذن مبدأ لإبراز الواقعي
من وراء الحادث، ولكشف تناقض الشكل والمضمون، وهو فوق ذلك سلاح ضد الاغتراب. وإذ
يلتحم الديالكتيك بالاغتراب ويكشفه، فإنما لإلغائه ذاته.. إنَّه برومثيوس وقد وعى أنَّ
عقابه على يد الآلهة شرط ضروري لخلق عالم من البشر الأحرار من الاغتراب ومن
الديالكتيك على حد سواء.
**********************