عادل العمري - شريف يونس
عادل العمري - شريف يونس
نُشر هذا المقال عام 1988 في مجلة "الراية العربية"
وقد رأيت إعادة نشره الآن نظرا لاقتناعي أنه مازال مفيدا في ظروف العملية
الثورية الدائرة في مصر والحوارات المصاحبة لها حول التغيير المنشود
عادل
2 أكتوبر
2011
|
شهدت الأعوام القليلة الماضية حوارًا حول الطابع
العام للطبقة المسيطرة في مصر، شارك فيه عديدٌ من الكتاب المنتمين للمعارضة
اليسارية.
وقد انقسمت الآراء، إلا أنها تميزت إلى اتجاهين
رئيسيين، عبر كل عن رؤيـة محددة لإمكانيات واتجاهات التغيير المطلوبة والممكنة
لتجاوز الأزمة التي تحيط ببلادنا.
ويمكننا
إيجاز وجهتي نظر هذين الاتجاهين كالآتي: -
الاتجاه
الأول:
تضمنت
أطروحاته فكرة أنَّ الطبقة المسيطرة في مصر تمتلك إمكانيات تاريخية بشكل من
الأشكال وأن ما يعيق تحقيق هذه الإمكانيات هو وجود فئة أو فئات طفيلية داخل هذه
الطبقة. وقد أجمع أصحاب هذه الرؤية على أنَّ هذه الفئات هيَ السائدة في المجتمع
والسلطة، وعلى هذا الأساس تكون إزالتها كفيلة بانطلاق التطور الاقتصادي والاجتماعي.
وهذا ما تبلور في شعار “ترشيد الرأسمالية“ الذي يتبناه هذا الاتجاه. ويضاف إلى هذا أنَّ
هناك تناقضًا في المصالح بين الفئات الطفيلية وغير الطفيلية([1]).
ويقام
التمييز بين المجموعتين المذكورتين من الفئات الاجتماعية على أسس تباينت من رأيٍ
لآخر؛ فالبعض حدد الطفيليين بأنهم أولئك الرأسماليين العاملين في مجال التداول لا في
مجال الإنتاج، وكان هذا هو الرأيُ الغالب، الذي ميز الرأسمالية إلى منتجة و
غير منتجة، وهو يعتبر هذه الأخيرة طبقة طفيلية. وقد لجأ محمود عبد الفضيل (أعمق
ممثلي هذا الاتجاه) إلى استخدام تعبير أكثر ليونة؛ فبدلًا من الرأسمالية الطفيلية
تحدث عن صفة ريعية (ويقصد طبعًا صفة طفيلية) "غالبة على الأقسام الواسعة من
الرأسمالية المصرية"([2])،
وبهذا لم يعد يتحدث عن رأسمالية منتجة وغير منتجة؛ بل وصف بالريعية رأسماليين
يعملون في مجال الإنتاج السلعي: "توجد جيوب هامة للرأسمالية الطفيلة ذاتها في
قلب الأنشطة السلعية"([3])؛
إلا أنه حدد وجود (خصوصية لمجال التداول) فيما يختص بالطابع الطفيلي للطبقة
المسيطرة.
وداخل
نفس التيار حدد البعض الفئات الطفيلية بأنها تلك التي تمارس الجريمة الاقتصادية، وأفضل
المعبرين عن هذه الفكرة هو إبراهيم العيسوي([4])،
الذي تبلور رأيه النهائي في وصف معظم أفراد المجتمع بالطفيلية، ولكنه راح يفرق بين
طفيليين محترفين يمارسون التطفل بشكل دائم، وطفيليين يضطرون إلى ممارسة التطفل
لفترات تطول أو تقصر. وواضح أنه يختلف كثيرًا عن رأي هذا الاتجاه عمومًا؛ فالنشاط
الطفيلي فيما يرى يتركز أساسًا في فئة معينة من كبار الطفيليين، وبذلك يظل كلامه
متضمنًا الاعتراف بوجود فئة طفيلية محددة ضمن الطبقة المسيطرة.
الاتجاه
الثاني:
يرى
هذا الاتجاه أنَّ الطفيلية هي طابع عام يشمل الطبقة المسيطرة في مصر ككل، ولا يختص
بقطاع التداول ولا حتى بأيِّ قطاع اقتصادي محدد. ويعتقد أصحاب هذا الرأي أنَّ هذا
الطابع الطفيلي للطبقة المسيطرة قد بات سائدًا في العصر الحالي، الذي وصفة حسام
عيسى بأنه عصر تدويل رأس المال([5])، ووصفه صلاح العمروسي بأنه عصر
هبوط الرأسمالية التاريخي([6])،
بينما وصف محمد دويدار الأمر بأنه طابع ريعي يسم الطبقة المسيطرة في الفترة
الحالية([7]).
ويرى هذا الرأي أنَّ الطبقة المسيطرة في مصر لا يمكن إنْ تتخلص من طابعها الطفيلي
السائد؛ لأنه يرتبط ببنيتها في هذه المرحلة من تطورها.
إلا
أنه رغم بعد شقة الخلاف – كما هو ظاهر بين
الاتجاهين السابقين – فهمًا يتفقان في مسألة
نعتقد أنها بالغة الأهمية؛ وهي أنَّ سيادة الفئات الطفيلية (في الحالة الأولى)
والطابع الطفيلي العام (في الحالة الثانية)، هو أمر حديث برز في السبعينات، منذ
انتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادي، أو – في أفضل الحالات – برز منذ فشل الناصرية
وسقوطها و“عودة“ التبعية للغرب. ونحن نختلف مع هذه الفكرة
المشتركة بالتحديد، ونرى أنَّ اتفاق التيارين السابقين عليها إنما يقرب كثيرًا جدًّا
من شقة افتراقهما في بقية جوانب هذه القضية، أو على الأقل يحمل إمكانية اتفاقهما
في ظروف معينة على تحديد الموقف من النظام الاجتماعي القائم، لصالح الاتجاه الأول؛
فإذا كانت السياسات الإصلاحية الناصرية (ولبعض الحكومات السابقة عليها كذلك) تنعت
من قبل الجميع بالثورية والتقدمية، فإنَّ إصلاحية جديدة – وهي أمر ممكن نظريًّا - وقد يتحقق عمليًّا في ظروف سياسية معينة – كفيل بالتحول مائة وثمانين درجة من معارضة
النظام القائم إلى تأييده، هذا إذا تمسك الجميع بأفكارهم. وقد أردنا بهذا
الاستنتاج أنْ نبين فقط المنزلق السياسي المتضمن في الفكرتين المطروحتين، وذلك
لتوضيح مدى أهمية القضية النظرية التي نحن بصددها. إلا أنَّ الأمر الأهم – طالما أننا في حالة حوار فكري – هو التحديد العلمي للأساس النظري لأيِّ موقف
سياسي، ولذلك سنقصر حديثنا على المناقشة النظرية البحتة لفكرة الرأسمالية الطفيلية،
كما طرحها أصحاب الآراء سابقة الذكر([8]).
تحديد
المفاهيم:
قدم
أصحاب الآراء سابقة الذكر تحديدات متباينة من حيث العمق والدقة لمفهوم الطفيلية. فنجد
إبراهيم العيسوي يصف كل نشاط غير ضروري للنظام الرأسمالي بأنه طفيلية (هذا هو جوهر
ما نفهمه من أطروحاته)، واتفق معه محمد عبد الشفيع من منطلقات أخرى تمامًا. كما
وصف خليل أبو راشد بالطفيلية "كل نشاط اقتصادي يحقق دخلًا من غير طريق منتج”([9]). وراح رفعت السعيد يميع هذا
المفهوم ليشمل الشرائح التي تحصل على “فائض
القيمة“ من عمليات أخرى غير
عملية الإنتاج" أو عمليات ذات طابع إنتاجي وإنما لا تلبي احتياجات حقيقية
للمجتمع"([10]).
يفتقد
هذا النوع من التعريفات لمعان واضحة أو محددة؛ فالطفيلية على النظام الاجتماعي
القائم يمكن أنْ
تتخذ أو يضفي عليها معنى نسبيًّا؛ أيْ بالنسبة للنظام نفسه أو معنى مطلق؛ أيْ تعد
طفيلية بوجه عام بالإضافة لطفيليتها على النظام نفسه. وفي الحالة الأولى قد توجد
فئات أو ممارسات طفيلية، ومن الممكن مثلًا أنْ نفهم الجريمة الاقتصادية وهيَ
طفيلية بالمعنى الأول بطرق مختلفة:
1ـ
فقد لعبت بعض أشكال الجريمة الاقتصادية دورًا محفزا للنمو الرأسمالي في بريطانيا إبان
القرنيين 18 و19، حيث
لم يكن جهاز الدولة هو والنظام التشريعي قادرين على تمهيد الطريق أمام الرأسمالية بأقصى
سرعة وكفاءة ممكنتين، وبذلك لعبت الرشوة مثلًا دورًا تقدميًّا.
2ـ
أما الجريمة الاقتصادية المتمثلة في أنشطة تعيق التطور الثوري لقوى الإنتاج، وهو
أمر وُجد دائمًا في كل النظم حتى أوقات صعودها التاريخي؛ فتكون عائقًا طفيليًّا.
3ـ
وقد تلعب الجريمة الاقتصادية في مجتمع يمر بمرحلة انحدار تاريخي دورًا منشطًا للإنتاج،
ويؤدي إلى زيادة تحقيق الفائض الاحتمالي، وهو أمر وارد تمامًا، مثل سرقة براءات
الاختراع والاستفادة منها؛ وبذلك تلعب دورًا تقدميًّا يحفز تناقضات النظام.
4ـ
وقد تؤدي الجريمة الاقتصادية إلى إعادة توزيع الفائض المنتزع داخل طبقة مسيطرة
رجعية من الناحية التاريخية؛ فتكون الجريمة الأخلاقية مجرد نقطة في بحر من جريمة
تاريخية؛ إن صح التعبير.
ومن
المتصور كذلك أنَّ بعض ألوان الجريمة الاقتصادية تكون طريقة لتوزيع الفائض مرتبطة
ارتباطًا مطلقًا بالنظام نفسه، أيْ تشكل جزءًا أصيلًا من آليات عمله، وتتخذ صورة
العرف، سواء في فترة صعود أو هبوط النظام. فلأسباب معينة يكون المجتمع الرأسمالي – على سبيل المثال – مضطرًّا – حتى خلال فترة صعوده – إلى سن قوانين يضطر هو
نفسه إلى انتهاكها في الوقت ذاته. وهذا التناقض يسم كافة المجتمعات الحديثة؛
فالتفاوت الاجتماعي وضع لا يكون مقبولًا في صورته المباشرة من قبل الكادحين، ولذلك
تلجأ الحكومات إلى تغطيته بالشرائع والقرارات والنظم التي تقر المساواة بين
الأفراد إلى هذا الحد أو ذاك. إلا أنَّ التفاوت نفسه يحتم اختراق هذه التشريعات؛
فيميل أفراد الطبقة المسيطرة إلى تخطي أيِّ عقبات تعيق استغلالهم للشغيلة أو
مراكمة الثروات، حتى لو وضعت هذه العوائق بواسطة دولتهم نفسها([11]).
إذن
لا تصلح الجريمة الاقتصادية في ذاتها لتقديم دلالة محددة وذات مغزى مهم فيما يتعلق
بظاهرة الطفيلية، وأبسط الأسباب – كما أوضحنا أعلاه – هو أنها لا تلعب دائمًا دورًا رجعيًّا ومعاديًا
للتطور.
أما
الربط المطلق بين الطفيلية والنشاط غير الإنتاجي (سواء نظر إليه على أنه عمل غير
منتج أو رأسمال غير منتج)، فإنه يفتقد هو الآخر لدلالة ذات مغزى؛ فالإنتاج بالمعنى
العام للكلمة هو إنتاج قيم استعمالية، سواء في صورة منتجات مادية أم خدمات، لا
للاستعمال المادي فحسب، بل وللاستهلاك المعنوي أيضًا. ومن وجهة نظر إنسانية بحتة
(أو إذا ما تصورنا وجود مجتمع إنساني – لا طبقي)؛ فكل نشاط يؤدي إلى تطور البشر يعد نشاطًا منتجًا، وأيُّ
نوع آخر من النشاط هو بالقياس نشاط طفيلي؛ لأنه يبدد قوة العمل. إلا أنَّ هذا
المقياس يجب أنْ يتضمن مراعاة المرحلة التاريخية التي يعيشها البشر؛ فالرأسمالية
على سبيل المثال لعبت دورًا عظيمًا في تطوير القوى المنتجة (البشر في النهاية)، رغم
أنها مارست أنشطة لا تنتج قيمًا استعمالية على نحو مباشر، بل ورغم أنها دمرت في سياق
تطورها الكثير من الطاقات البشرية، ولكن هل يمكن اعتبار هذا الجانب (الطفيلي)!
منفصلًا عن ومعاديًا للجانب الثوري؟ الحقيقة أنَّ هذه “الطفيلية“ كانت – بوجه عام- ضرورية تاريخيًّا، ولذلك بالذات لا يمكن اعتبارها
طفيلية. والأمر يشبه إلى حد كبير السياسات والقرارات “غير
الإنسانية“ للثورات؛
فهيَ تكون إنسانية بقدر ما تكون ضرورية للثورة نفسها. وإذا ما استخدمنا تعبيرًا
فلسفيًّا نقول أنَّ الطفيلية في هذه الحالة هي مجرد “لحظة“ في التطور، لا يمكن تحليلها منفصلة عن سياقها.. ويمكننا أنْ نعتبر
ألوان التبديد المختلفة في هذه الحالة مجرد أشكال غير مباشرة للاستهلاك المنتج
وليست بظاهرة طفيلية([12]).
وقد
تصدى كل من صلاح العمروسي ومحمد عبد الشفيع لفكرة تقسيم الرأسمالية إلى جناح منتج
وآخر غير منتج بما فيه الكفاية، وليس لدينا حجج أخرى أساسية بهذا الخصوص، ويمكننا أنْ
نقدم خلاصة أفكارهما كما فهمناها:
لعبت
الرأسمالية كطبقة في مرحلة تاريخية معينة دورًا لا غنى عنه للتطور الإنساني وفي
سياق هذا الدور قامت بحكم طبيعة تكوينها نفسه بممارسة أنشطة غير منتجة بالمعنى الذي
ذكرناه سابقًا ونشير بالذات إلى نشاط التداول. وتلعب هذه الأنشطة دورًا لا غنى عنه
لتحقيق الدور التاريخي للرأسمالية، وإذن لا تعد بحد ذاتها طفيلية، أما حين انتهى الدور
التاريخي لهذه الطبقة فإنَّ نشاطها ككل أصبح طفيليًّا معرقلًا للتطور. ولا يمكن رد
هذا الدور إلى مجرد وجود أنشطة للتداول أو الخدمات أو اتساعها الزائد، ذلك أنَّ
هذه الأنشطة أو حتى اتساعها الكبير ينتجان عن المنحى العام لعملية الإنتاج الرأسمالي
نفسها، وإن تقليص هذه الأنشطة فرضًا رغم أنَّ هذه الإمكانية محدودة لا يصلح مسارها
العام، بل لا يلبث رأس المال الاجتماعي أنْ يتخذ نفس طريقته في العمل، بما
يتفق مع التناقضات التاريخية المتفجرة داخله.
إذن
يصبح تحديد مفهوم الطفيلية تحديدًا مطلقًا ضروريًّا لفهم القضية التي نتناولها اصلًا،
فضلًا عن تناولها بشكل علميٍّ، ومجدٍ في النهاية..
وقد
قدم أنصار الاتجاه الثاني تحديدًا علميًّا لهذا المفهوم؛ فوصف دويــدار بالريعية
(ويقصد بها الطفيلية، كما نظن) "كل طبقة يصبح دورها تاريخيًّا إعاقة تطور قوى
الإنتاج في المجتمع"([13]). كذلك حدد العمروسي "إنَّ
الجوهر الدقيق لمفهوم الطابع الطفيلي يكمن في تعويق العلاقات الرأسمالية تطور
القوى المنتجة عند مرحلة محددة من التطور الرأسمالي"([14]). ولا نختلف مع جوهر كلام دويدار خاصة، إلا
أننا نقدم تحديدًا نعتبره أكثر وضوحًا: الطفيلية هيَ كل نشاط أو وضع من شأنه أنْ
يعرقل عملية التطور الاجتماعي لقوى الإنتاج في ظل ظروف أخرى ممكنة تاريخيًّا في
نفس الوقت.
ونحن
لم نضع هذا التحديد وفقًا لهوى خاص أو لهدف عملي بحت، بل انطلاقًا من حقيقة موضوعية،
هيَ أنَّ العامل الاقتصادي متمثلًا في قوى الإنتاج هو المحرك الأول لتاريخ المجتمع،
ولذلك يعتبر أيُّ عائق أمام هذه الحركة عائقًا للتطور الإنساني نفسه، ويُعد بالتالي
عملًا مخربًا. وحيث إنَّنا نتناول قضية تتعلق بالوجود الاجتماعي – الاقتصادي فقد لجأنا إلى التركيز على تحديد
معنى اجتماعي ـ اقتصادي وتاريخي للطفيلية، باعتبارها ظاهرة اجتماعية وليست سلوكًا
فرديًّا، وباعتبارها ظاهرة تاريخية تلعب دورًا مخربًا، وليس باعتبارها ظاهرة
أخلاقية أو قانونية محصورة في إطار العلاقة بين الخير والشر، بالمعنى الذي يتقبله
المجتمع الحالي. ونحن نعتقد بأن التاريخ هو عملية صراع بين الجديد والقديم، بمعنى
التاريخي واللاتاريخي، ولذلك حددنا الطفيلية كمفهوم في إطار هذا الصراع وكسمة
لطرفه الثاني. وبهذا المعنى وحده يكون هناك معنى لطرح فكرة طفيلية الطبقة المسيطرة
أصلًا، ويكون من المجدي تركيز الاهتمام بها، وتحديد موقف منها، حيث إنَّ هذا
التحديد هو الذي يجبرنا على اتخاذ موقف حاسم وواضح ودقيق من العلاقات الاجتماعية
القائمة.
والآن
كيف يمكن أنْ نحدد ما إذا كانت الطبقة السائدة في بلد ما طفيلية أم لا؟ من الواضح أنَّ
قياس هذا بمعدل نمو إنتاجية الآلات أو قوة العمل لا يقدم لنا أيَّ مقياس حقيقي؛
لأننا لا نملك مقياسًا معينًا لتحديد الإنتاجية الملائمة لنمط إنتاج معين في مرحلة
ما من تطوره، كما أنَّ العلاقات الإنتاجية الرجعية لا تمنع، بل تعرقل فحسب، تطور
القوى المنتجة، كما يتبدى في الإنتاجية. كما أنَّ مجرد بعض، أو حتى كثير من الأنشطة
غير المنتجة لا يدل بحد ذاته على طفيلية النظام؛ إذ يجب – وهذا هو الأهم – تحديد المغزى العميق
لوجودها. أما المقياس الأهم، بل والممكن فهو تحديد قدرة النظام على تحقيق
الفائض الاحتمالي ([15]). فهذا
المقياس هو أولًا مباشر، وثانيًا يوضح على نحو مباشر قدرة النظام على تطوير قوى الإنتاج
في الظروف التاريخية القائمة.
ويتأتى هذا الأمر بتحليل المنحى العام لعملية
التراكم في المجتمع ككل، أيْ شكل استخدام الثروة من القيم المادية وقوة العمل في
مجموعهما. ووفقًا لهذا المعيار يتبين الطابع الطفيلي للاقتصاد باتجاه متزايد نحو
تبديد الفائض الاحتمالي، ودائمًا ما يترافق مع هذه العملية تبديد للفائض الفعلي([16])
كذلك. وتتخذ هذه العملية أشكالًا متباينة من بلد لآخر.
وعلى
هذه الأسس النظرية نبدأ في دراسة الطابع الطفيلي من عدمه للطبقة المسيطرة في مصر.
*************************
ـ
طفيلية النظام القائم وطابعها الخاص([17]):
في رده على صلاح العمروسي حاول محمود عبد
الفضيل أنْ يدافع عن مفهوم الفئة الطفيلية، وكان أكثر أصحاب هذه الفكرة وضوحًا
وتماسكًا. وقد استطاع أنْ يفجر بشدة قضية بالغة الأهمية، هي مسألة خصوصية التطور
الاقتصادي في مصر الحديثة بالنسبة لأوروبا الرأسمالية. وهو أمر طرحه البعض من قبل في
سياق تحليل ظاهرة الطفيلية أيضًا، ولكن في العموم. فقد أشار دويدار إلى دور
التبعية – التخلف في إنتاج الطابع “الريعي“ للطبقة المسيطرة والدولة في مصر، كما طرح محمد عبد الشفيع المسألة
بشكل أكثر حدة: "ولكن هذا الوضع القائم كله من وجهة نظرنا عقبة دون التطور الاقتصادي
الاجتماعي المتواصل، ولا نقول أنه “طفيلي“ لأنه لم يكن تقدميًّا في مرحلة ما، بعكس
الحالة التي وصفها لينين بخصوص الإمبريالية. إنه استمرار وتعميق لأسلوب "إنتاج
التخلف الذي نشأ وتبلور عبر القرون الثلاثة الماضية. ولعلنا بذلك نستثني الانقطاع
المؤقت الذي أحدثه (نظام إنتاج الدولة) الناصري في عقد الستينات"([18]).
ولم يوضح لنا الكاتب لِمَ يستثنِ ما اعتبره انقطاعًا في العهد الناصري، ولماذا
اعتبره انقطاعًا اصلًا، وما إذا كان قد أوقف "تعميق أسلوب إنتاج التخلف"،
كما يسميه.. فهو أول من نفى في خضم الحوار المذكور فكرة خصوصية مرحلة الانفتاح
بالنسبة لطفيلية النظام القائم، إلا أنه سرعان ما تراجع أمام تأثره بالناصرية (وهو
أمر سنعود إليه بالتفصيل المناسب فيما بعد). ورغم أنه الأكثر راديكالية في أطراف الحوار
إلا أنه في سياق طرحة للقضية تبنى فكرة وجود فئة طفيلية محددة في البلدان الرأسمالية
في عصر انحطاطها التاريخي، تتمثل كما يرى في أصحاب رأس المال المالي([19])،
بناء على الاعتماد على لينين وفهم عباراته فهمًا خاطئا رغم ذلك، كما لاحظ العمروسي
بحق([20]).
أما
الأخير؛ ففي سياق محاولته دحض أصحاب نظرية الفئة الطفيلية، ذهب بعيدًا في إبراز
خصوصيات ما يسميه بالرأسمالية المصرية؛ فهو يرى أنَّ "الطابع الطفيلي للرأسمالية
المصرية وصل أشد تحقيقاته فداحة في عصر الانفتاح"- ص91 (إذن كان موجودًا من
قبل؟). "وفضلًا عن ذلك فقد استوردت الرأسمالية المصرية منذ النشأة النزعات
الاستهلاكية الترفية السفيهة من الغرب الإمبريالي، خاصة أنها نشأت من قلب طبقة
ملاك الأراضي بنزعاتهم الاستهلاكية"- ص 91. كما يقول بأن أمراض الأزمة العامة
للرأسمالية، أيْ مرحلة تدهورها وتعفنها.. “قد شهدنا عناصر منها تصيب رأسمالية في
البلدان والمتخلفة وهيَ في مرحلة شبابها فما بالنا بمرحلة الشيخوخة والتدهور"
- ص 90، كما رصد الطابع الاحتكاري “للرأسمالية المصرية" - ص91. ورغم رصده
للدور الطفيلي للحماية الجمركية في مصر إلا أنه امتدحه: "رغم الدور التقدمي
للحماية الجمركية إلا أنَّ الرأسمالية المصرية اتخذت منها وسيلة لتضخيم أرباحها
على حساب المستهلكين من الطبقات الشعبية، كما أدت إلى إضعاف الحافز على التطور
والابتكار" - ص 92 (التشديد من عندنا). كما رصد غياب “قاعدة تكنولوجية متطورة
للصناعة المحمية بحواجز جمركية كبيرة"، وأنها "تفتقد قوى الدفع الذاتي
لتطوير القوى المنتجة وتوسيع السوق القوي".. “وغابت منها أهم فروع إنتاج
وسائل الإنتاج". ويصف هذا الهيكل ككل بأنه "هيكلا صناعيًّا مشوهًا ومفككًا
ويحمل في صلب تكوينه عوامل الركود والتعفن السريع والأزمة وضيق السوق ومشكلات
التمويل" - ص 91. كما أشار إلى دور "التبعية للرأسمالية العالمية في
تشابكها مع العلاقات الرأسمالية العالمية المتخلفة" - ص 104.
ولنرجع
إلى محمود عبد الفضيل. وهو قد رصد الخصوصيات التالية لما تسمى بالرأسمالية المصرية،
وذلك خلال رده على صلاح العمروسي؛ إذ أنَّ الأول رغم تبنيه فكرة الفئة الطفيلية
الأقل راديكالية، سار شوطًا أبعد بكثير من الثاني في إبراز خصوصية طفيلية الطبقة
المسيطرة في مصر، مسددًا نحوها نقدًا أكثر راديكالية؛ فهو لا يرى أنَّ الجانب
الطفيلي "غالب على الرأسمالية المصرية في مرحلة انحدارها فقط، بل إنَّ السمات
الطفيلية قد تكون ملأزمة لأقسام واسعة من الرأسمالية المصرية في مرحلة
صعودها"، بل يؤكد ردًّا على العمروسي أنَّ أشكال المضاربات كانت مصدرًا أساسيًّا
من مصادر التكاثر والتراكم المالي "دون أنْ تقود بالضرورة إلى تطوير قوى الإنتاج
في المجتمع المصري"([21])؛ إلا أنه توقف عند استنتاج مجرد تمامًا،
هو أنَّ هذه الطفيلية تدل على أنَّ هناك خصوصية للتطور الرأسمالي في مصر؛ متهمًا
اليساريين المتشددين بالاعتماد على النصوص والقياس على وقائع التاريخ الأوروبي
(سنعود إلى هذا الأمر بعد قليل).
وطرح
عبد الفضيل كذلك مسألة خصوصية مجال التداول بالنسبة للطابع الطفيلي؛ فاعترض على
الفكرة التي دافع عنها العمروسي، والقائلة بتكامل الإنتاج والتداول في نمط الإنتاج
الرأسمالي، معتبرًا أنَّ هذا ممكن فقط في مرحلة نضوج الرأسمالية لا في مرحلة
جنينيتها أو تدهورها، كما لا ينطبق هذا الكلام على (النمو المشوه) في العالم المتخلف،
وراح يستعيد كلام موريس دوب([22])
حول دور أرباح التجارة البعيدة في توليد الفائض في بدايات التكوين الرأسمالي في أوروبا،
معتبرًا أنَّ هناك تمايز بين مجال الإنتاج ومجال التداول، وأنه من الممكن الحصول
على الفائض من مجال التداول. كما أشار إلى عوائد المصريين العاملين بالخارج كعامل
مهم أدى إلى غلبة دور التداول. وفي النهاية استنتج عبد الفضيل أنَّ العلاقة بين الإنتاج
والتداول بالنسبة لحالة مصر قد لا تكون علاقة تكامل.
وسوف
نقوم فيما يلي بعرض وجهة نظرنا في هذه القضايا من خلال نقد الأطروحات السابقة، ولنبدأ
بتحليل أطروحات الأستاذ صلاح العمروسي:
سار
صلاح بعيدًا في إبراز خصوصيات ما أسماه بالرأسمالية المصرية، وذلك لايقاع الهزيمة
بخصومه؛ إلا أنه لم يواصل السير حتى النهاية. فقد طرح فكرة صحيحة تمامًا: إنَّ
تراكم صور النهب والغش والاحتيال.. إلخ، في مرحلة الصعود التاريخي للبورجوازية
(يتكلم عن أوروبا) يصب في النهاية في التطوير الثوري للقوى المنتجة، عكس الحال في
مرحلة الهبوط التاريخي. واعتمادًا على هذه الفكرة الصحيحة اعتبر أنَّ الطابع
الطفيلي الذي ميز “الرأسمالية
المصرية“ منذ
البداية "يختلف دوره ووزنه في مرحلة الصعود والتقدمية والثورية عن مرحلة التدهور والرجعية وتبديد الفائض والنزعات الاستهلاكية
وتعويق القوى المنتجة" - ص89 (التشديد من عندنا). والحقيقة أنَّ الأستاذ
العمروسي قد خلط بين الطفيلية والجريمة الاقتصادية في هذه النقطة بالذات، رغم
أهميتها البالغة، وهيَ المسألة التي عالجها بنقد مرير في أول كتابه؛ فهو يخلط بين
المضاربة والغش والنهب.. إلخ، معتبرًا كل هذه صور من الطفيلية دون أنْ يميز بين ما
هو طفيلي منها وما هو غير قانوني فحسب. فالمضاربة نشاط من طبيعته أنْ يحجز كمية من
رأس المال في عملية لا تفيد النشاط الإنتاجي؛ أما أشكال الغش فلا تتضمن بالضرورة
هذه الطفيلية. وكان الأحرى أنْ يقول الكاتب إنَّ الجريمة الاقتصادية في عمومها
كانت في فترة صعود الرأسمالية تصب في تطوير القوى المنتجة، مثلها مثل معظم ألوان
النشاط المالي والإنتاجي في ذلك الوقت. وسوف نعود بعد قليل إلى هذه النقطة.
ورغم
أنَّ العمروسي قد استطاع أنْ يحدد بعض خصوصيات تطور الطبقة المسيطرة في مصر، إلا
أنه أصر على التعامل معها كمجرد صورة (اعتبرها مشوهة) من الرأسمالية الأوروبية؛ وهو
قد اعتمد أساسًا في رده على الآخرين على إبراز اضطراب أطروحاتهم وعلى العودة إلى
ما سماه بـ “الأصول"؛
أيْ الاستعانة بنصوص ماركس ولينين، أكثر مما اعتمد على تقديم أفكار بديلة أكثر وضوحًا.
والحقيقة
أنه قد طرح قضية لم يستطع أنْ يفسرها إطلاقًا. فرغم إصراره على وصف النمو الاقتصادي
في مصر الحديثة بالتشوه، والتفكك، والتخلف، والتبعية، ورغم كل هذا الذي نقلناه عنه،
فإنه لم يتخلص أبدًا من رؤيته النمطية: "فالرأسمالية المصرية.. حققت صعودًا تاريخيًّا
أعقبه هبوط تاريخي"؛ فرأيناه على سبيل المثال – يتحدث عن "نجاحات نسبية في تقويض أشكال
التبعية المباشرة" (التشديد من
عندنا)، و"تحقيق دفعة من التنمية الصناعية"، ثم يقول "فإنَّ طريق
التطور الرأسمالي وصل في النهاية إلى طريق مسدود وأثبت عجزه عن بلوغ مستويات
التطور التي تنطوي عليها من الناحية النظرية العلاقات الرأسمالية" - ص 91. ويبدو
أنَّ غياب التحليل العيني يمنح المرء فرصة استخدام الكلمات المجردة على هواه؛ ورغم
ذلك (أو لذلك بالذات) عجزت هذه الكلمات عن إقناعنا بفكرته. وإذا كنا بصدد موضوع
الطفيلية التي لم يختلف معنا – جوهريًّا – على
مفهومها، فإنَّ الأستاذ العمروسي مطالب بأن يحدد إذا ما كان هذا النمو المشوه
المتخلف... إلخ - حسب وصفه - قد حقق أقصى ما يمكن في ظل الظروف التاريخية التي جاء
فيها؟ هل يمكن الكلام عن طبقة تقدمية وثورية تفتقد في نفس الوقت "قوى الدفع
الذاتي لتطوير القوى المنتجة" وإلى "أهم فروع وسائل الإنتاج"، والى
"قاعدة تكنولوجية متطورة"، كما وصفها نفسه؟
والحقيقة
أنَّ فكرة العمروسي يمكن أنْ تتعرض للنقد الآتي:-
1-
تحدث عن طابع طفيلي مبكر للطبقة المسيطرة، وان لم يصفها بهذا على نحو مباشر، إلا أنَّ
هذا هو ما نستنتجه من وصفة الصحيح جدًّا لـ “الرأسمالية
المصرية“ في
بداية تكونها، ورغم هذا لم يتخلص من رؤيته لهذه الطبقة، كأنها مرت بفترة صعود تاريخي؛
وكنا نتمنى أنْ يوضح لنا كيف لعب "التلاعب والغش والفساد”، أيْ الجريمة
الاقتصادية، بالذات دورًا ما في تطوير القوى المنتجة كما فعلت أوروبا في مرحلة
صعود الرأسمالية، علاوة على أنْ يشرح لنا كيف تنسجم طفيلية طبقة مع تقدميتها
وثوريتها. والحقيقة أنَّ أطروحة الكاتب بهذا الصدد مضطربة تمامًا؛ فهو يقول:
"ثمة طابعًا طفيليًّا كامنًا
(التشديد من عنده) في صلب تكوين الرأسمالية، وهو طابع تاريخي، وليس أخلاقيًّا، ولم
يكن الطابع الرئيسي للرأسمالية في مرحلتها التقدمية وتطويرها الثوري لقوى الإنتاج.
ولكن هذا الجانب الطفيلي يتحول إلى سمة أساسية في مرحلة الانحدار والتدهور" –
ص ص 71-72. وهو يتحدث بعد ذلك عن المضاربة والغش والابتزاز.. إلخ، كأشكال للطفيلية،
خالطًا بذلك بين الطفيلية والجريمة الاقتصادية (الغش.. إلخ)، وهو ما يناقض مفهومه
للطفيلية كما أوضحنا من قبل، كما أنه يناقض نفسه مرة أخرى، حين يعزي إلى الطفيلية
دورًا تقدميًّا في مرحلة الصعود التاريخي، ويتناسى تعريفه للطفيلية سابق الذكر. إنه
يحاول أنْ يرد على خصومة بقلب المائدة بما فيها أو عليها؛ فالطفيلية لدية هيَ دائمًا
طابع عام للطبقة، وذلك لكي يفلت من فكرة الفئة الطفيلية، واقعًا بذلك في خطأ نظري
كبير، إذ يعزي للرأسمالية الأوروبية في فترة صعودها طابعًا طفيليًّا تقدميًّا! وذلك
حتى لا يرى فئة أو فئات طفيلية محددة المعالم وجدت فعلًا.
واذا أردنا
أنْ نعود إلى أرضية صلبة للحوار، فلنتكلم عن دور تقدمي لبعض أشكال الجريمة
الاقتصادية في فترة صعود الرأسمالية؛ هذا ما حدث
في أوروبا فعلًا؛ ولنتناسى خطأ العمروسي في الخلط بينها
وبين الطفيلية. وبالنسبة لمصر يختلف الأمر؛ فقد ترافقت أشكال النهب المختلفة
القانونية وغير القانونية طوال تاريخ مصر الحديثة، مع تبديد بشع للثروة ولقوة
العمل. وهاك أرقامًا بسيطة تخص توزيع الفائض الفعلي خلال الفترة من 1937-1953([23]):
استهلاك فاخر 38%
توظيفات سائلة وشبه سائلة 15%
توظيف عقاري 34%
استثمارات إنتاجية 14%
وفي
الفترة نفسها بلغ معدل الادخار النسب التالية من الناتج الإجمالي([24]):
1939 5%
1942 23%
1944 29 %
1950 13%
ونلاحظ
أنَّ هذا المعدل قد ازداد خلال الحرب كأمر اجباري لعدم ورود البضائع المستوردة من
الخارج، وأن هذا المعدل الكبير من الادخار لم يقابله معدل استثمار مماثل، وإنما
قابلته أرصدة استرلينية ضخمة ثم استهلاكها بعد ذلك.
لقد
أصاب الفائض المتحقق، كما هو واضح، تبديد بشع، إلى جانب تخريب لم يسبق له مثيل في
الفائض الاحتمالي الذي يمكن أنْ نتبينه في الأرقام الخاصة بحجم البطالة الصريحة
والمقنعة طوال تاريخ مصر الحديث، خاصة بعد الانفجار السكاني.
هل
يستطيع إذن الأستاذ العمروسي أنْ يشرح لنا كيف صبت المضاربات والغش.... إلخ، في
تطوير القوى المنتجة؟
واذا
أردنا أنْ نقارن بين الرأسمالية الأوروبية وطبقتنا المسيطرة، لوجدنا أنه بالنسبة
للأولى كان معدل امتصاص الصناعة لفائض العمالة الريفية حتى 1850 حوالى 80%، وبلغ
30 – 40% خلال الثورة
الصناعية الأولى، هذا رغم الجريمة الاقتصادية وألوان النهب الخارجي والداخلي “غير الأخلاقية“؛ أما بالنسبة للبلدان المتخلفة؛ فقد بلغ هذا
المعدل في الفترة من 1950-1970 حوالي 10% فقط([25])؛ أما في حالة مصر بالذات، فبلغ
استيعاب الصناعة للعمالة الجديدة في الفترة من 1937-1960 نحو 20%، ومن 1960- 1970 نحو
18%([26])،
هذا دون حساب نسبة الاستيعاب من زيادة عرض قوة العمل ككل([27]).
وهذا
الانخفاض من 20% إلى 18% إلى 17% له معنى واحد؛ هو تفاقم ظاهرة اختلال الاقتصاد
لصالح القطاعات غير المنتجة، ومع المقارنة بأوروبا يتضح أنَّ هذا الاختلال بالنسبة
لاقتصاد حديث يعني ميلًا قويًّا للركود.
2-
رغم أنَّ العمروسي قد استشهد بلينين في ربطه بين الطابع الاحتكاري للرأسمالية
وطابعها الطفيلي، مستخدمًا ذلك في دحض محمد عبد الشفيع، إلا أنه تناسى هذه الفكرة
لدى رصده "لوجود أشكال عالية من التركيز"، "وأوضاع احتكارية لدينا
هنا" - ص91، ومن المعروف أنَّ هذه الأوضاع كانت قائمة دائمًا في مصر الحديثة،
ولعبت فعلًا دورًا هامًّا في عرقلة تطور قوى الإنتاج، حتى “بالشكل المشوه“ كما يسميه صلاح العمروسي. وقد تخلى الكاتب
هنا بالذات عن كلاسيكيته المتشددة؛ ونقصد أنه لم يصف هذه الرأسمالية الاحتكارية
منذ بداية تكوينها بالطفيلية، رغم أنه أطلق عليها عديدًا من الصفات الطفيلية، إلا
أنه تعامل مع هذه الصفات (أو هذا ما فهمناه من كلماته) على أنها مجرد نقط نظام، أو
تحفظات على ثوريتها!
3-
يرى الكاتب أنَّ الطابع الطفيلي الحالي
كان نتاجًا “لبلوغ طريق التطور الرأسمالي (....) إلى طريق مسدود" - ص91، ومعنى
هذا أنَّ التناقض بين قوى وعلاقات الإنتاج الرأسمالية في مصر قد نضج، وهو أمر لم
يدلل عليه أحد من أنصار نظرية صعود وهبوط الرأسمالية المصرية. وكان ينبغي عليه أنْ
يحدد لنا هذا الأمر، خاصة أنه يقدم دراسة في هذه القضية بالذات. ونحن لا ننكر أنَّ
النمو الاقتصادي في مصر قد بلغ حالة أزمة بالغة الحدة، إلا أنَّ هذا النمو المعاصر
ليس النمو الرأسمالي وإنما نمو التخلف؛ ومما يميز هذا النوع من النمو هو
أنه دائمًا ما يكون نمو داخل أزمة، وأنه بقدر ما يتحقق بقدر ما تنمو أزمته الخاصة؛
ولذلك لم يخل تاريخ مصر الحديث منذ نهاية محمد على عن حالة أزمة مزمنة، وكثيرًا ما
بلغت هذه الأزمة درجة من الحدة (1947-1953 على سبيل المثال..)، وهيَ حدة قابلة
للإنكسار ودائمًا؛ وليس من المستحيل أنْ تشهد مصر خلال السنوات القادمة نموا
اقتصاديًّا ملموسًا بمعاونة الولايات المتحدة. ومن الغريب أنَّ الكاتب يعتبر هذه
اللحظة الحادة من الأزمة هيَ نهاية طريق “التطور
الرأسمالي“، كما يسميه؛ ناسيًا الأمر
الأهم وهو الأزمة المزمنة للنظام منذ نشأته في القرن التاسع عشر، والتي لازمته حتى
في أوقات انتعاشه الحاد؛ ففترة الانتعاش لهذا النظام لا تنفي الأزمة الدائمة، المزمنة
بل تعززها، وهيَ تتبدى في طفيلية شاملة.. طابع طفيلي عام، يعكس ميلًا للركود؛ فالنمو
المتخلف يعيق نفسه بحكم طبيعته نفسها (نمو تصديري – إحلال واردات على حساب النمو ذو التوجه الداخلي)؛
لذلك وجدت دائمًا طاقة عاطلة ملموسة في أدوات الإنتاج والعمالة، مع تبديد واسراف..
إلخ. وكان الأحرى أنْ يقول الكاتب أنَّ طريق النمو الرأسمالي في مصر الحديثة
(بالطريقة التي يفهمه بها) كان دائمًا مسدودًا، ولهذا بالذات كان طريق النمو
الدائم للأزمة على المدى الطويل: نمو إنتاج الفائض ونمو الميل إلى تبديده في نفس
الوقت.
إنَّ
إصرار الكاتب على رؤية نمطية لتطور الاقتصاد المصري الحديث قد أوقعه في مشاكل لا
حل لها إلا بالتخلي عن هذه النظرة كليةً؛ فقد برهن بدون أنْ يقصد (ودعمنا نحن هذه
الفكرة) على الطابع الطفيلي العام للاقتصاد المصري الحديث ككل، والذي أسماه الرأسمالي،
والذي بسبب طفيليته هذه لا يمكن أنْ يعد تطورًا تاريخيًّا. وتحل فكرة نمو التخلف
هذه الأشكالية، وهيَ تحل محل فكرة النمو الرأسمالي، الذي صعد تاريخيًّا ثم أصبح
معاقًا في مرحلة الهبوط التاريخي للرأسمالية. واذا كان العمروسي قد نجح في توضيح
الطابع الطفيلي للاقتصاد في عصر الانفتاح، فإنه قد فشل في تفسير ديمومة هذه
الظاهرة منذ نهاية محمد علي وحتى اليوم، بل حاول على العكس أنْ يقدم الفترة
الحالية مقابل الفترة السابقة على الانفتاح، خصوصا الفترة الناصرية، وهو أمر سنعود
اليه فيما بعد.
وسوف
نقدم بصدد هذه النقطة إضافة أخيرة: إنَّ النظام المتخلف القائم في مصر هو نظام رجعي
منذ نشأته؛ لأنه يحل محل نظام ثوري موجود بالقوة، بل و يعمل على قمع القوى
السياسية التي تبشر به([28]).
وما اضطرار الأستاذ العمروسي إلى استخدام مصطلحات مثل “النمو
المشوه“، ما وضعه لعديد من
التحفظات على الطابع الذي يعتبره ثوريًّا لهذا النمو قبل عصر الانفتاح، إلا تعبيرًا
عن احساسه بالإشكالية التي تواجهه.
واذا
كانت التقدمية والثورية لدى الأستاذ العمروسي تعني اقامة بضعة مصانع راكدة ومتأخرة،
فلا يكون شرف التقدمية والثورية في هذه الحالة من نصيب رجال الأعمال وملاك الأراضي
المصريين، وانما يكون بالدرجة الأولى من نصيب الطبقة التي تعد مسئولة عن إنتاج هذه
المصانع نفسها؛ الرأسمالية الأوربية والأمريكية، بما يعني منح دور ثوري للإمبريالية.
أما إذا أصر الكاتب على وجهة نظره، فتصبح الأنظمة العميلة الأكثر اندماجًا في
السوق العالمية أكثر ثورية من النظام المصري قبل وبعد 1952؛ حيث شهدت معظم هذه
البلدان حركات تصنيع أوسع (أمريكا اللاتينية، شرق آسيا) ولعب رأس المال الأمريكي
الدور القيادي في هذا التصنيع، كما يصبح النظام السعودي أو نظام قابوس بطلًا ثوريًّا
بالنسبة لانظمة معتدلة كالهند والجزائر.. أليس كذلك؟! وقد أردنا فقط من هذه الإشارة
أنْ نوضح إلى أيِّ حد تتمخض فكرة الصعود والهبوط المذكورة عن مشاكل لا حل لها.
وننتقل
الآن إلى أطروحات محمود عبد الفضيل:
1-
رغم أنه قد رصد حقيقة طفيلية الطبقة المسيطرة في مصر خلال تاريخها الحديث واعتبرها
ضمن خصوصياتها كطبقة متخلفة، إلا أنه لم يحاول اكتشاف المغزى الحقيقي لهذا الأمر
وراح يستشهد - كما فعل العمروسي – بماركس:
رأس المال الربوي في نهاية عصر الإقطاع له سمات طفيلية بارزة، إذ أنه “يلتصق بنمط الإنتاج
كطفيلي، يمتص دمه ويحطم أعصابه"، مستنتجًا أنَّ إشارة ماركس هذه تعني أنَّ
" الطابع الطفيلي الغالب على قسم معين من أقسام رأس المال في مرحلة تاريخية
معينة ليس بدعة من ابتداع اليسار المصري ذي النزعة الإصلاحية". إلا أنَّ الأستاذ
عبد الفضيل يتناسى هنا أنَّ نظام الإقطاع نفسه في نهاية عمره كان نظامًا طفيليًّا في
كليته وأن رأس المال الربوي لم يكن سوى ملحقًا به، أحد مكوناته، كما أنَّ هذا
الوضع كان خاصًّا بمرحلة انحلال الإقطاع دون أنْ يتعلق بمرحلة صعوده التاريخي. إذن
كان ينبغي لعبد الفضيل أنْ ينتبه إلى أنه قد رصد حالة لا علاقة لها بما يريد أنْ
يستنتجه منها. والأمر فيما يتعلق بمصر الحديثة هو كما ذكر عبد الفضيل نفسه – ملازمة الجانب الطفيلي دائمًا بل وغلبته
(هذا المعنى موجود ضمنًا في كلمات عبد الفضيل نفسها). ورغم ذلك يشترك هذا المثال
مع خصوصية مصر الحديثة في مسألة هامة؛ فالطبقة المسيطرة في مثاله (في الفترة التي
ذكرها) وفي مصر الحديثة ككل طفيلية بالكامل وهو الأمر الذي لايلتفت اليه مثبتًا
بمثاله خطأ فكرته الأصلية لا صوابها. وكان من الأفضل له أنْ يضرب الأمثلة التي
ضربناها في هامش 12. إلا أنَّ الأمر يظل ضد صحة فكرته أيضًا؛ فهو لم يستطع أنْ
يحدد لنا أيَّ فئة صاعدة تاريخيًّا (أو غير طفيلية) من الطبقة المسيطرة في مصر، وقد
ذكر أمثلة (لا نعرف إن كان لم يجد أفضل منها!): ”أصحاب الورش الصغيرة (ورش النجارة
في دمياط) وتجار الموسكي المرتبطين بالسوق المحلية"، وقد فات الأستاذ عبد
الفضيل أنَّ هذه الفئات تنتمي إلى البورجوازية الصغيرة لا إلى “الرأسمالية“، كما فاته ما هو أهم؛ أنَّ صغار المنتجين
الصناعيين في مصر المعاصرة يعتمدون اصلًا على الصناعة الكبيرة (ورش إصلاح سيارات، ورش
إنتاج اجزاء الغسالات..إلخ).
كما
أنَّ التاجر الصغير هو جزء لا يتجزأ من الاقتصاد الطفيلي القائم؛ فهو مجرد تابع
لتاجر الجملة. وبامكاننا أنْ نقدم له أمثلة أكثر تعبيرًا عما يريد أنْ يقول: صناعة
المخللات، المخابز البدائية، صناعة بعض انواع الحلوى، صناعة النشوق، التطريز
(اليدوي)، السجاد اليدوي، صناعة رتق ورف الملابس، صناعة الحصير، الفخار، الغزل
والنسيج اليدوي.... إلخ؛ فهذه الصناعات موجهة أساسًا للسوق الداخلي، وهيَ
قطاعات لها جذور قديمة في الثقافة والبناء الاقتصادي المحلي وهيَ ليست تابعة
للخارج بأيِّ شكل.. ومع ذلك هل يمكن اعتبار هذه الفئات تقدمية؟ إنَّ هذا لا يعدو إلا
أنْ يكون شيئًا مضحكًا؛ فأولا: هذه الفئات طفيلية بالمعنى العلمي للكلمة؛ فهي لا
تبذل أيَّ جهود لتطوير القوى المنتجة بل تؤبد تأخرها، ولا يمكن وصفها بأنها تحمل
نظامًا اقتصاديًّا ثوريًّا. ثانيًا: آخذة في الانخراط في الاقتصاد التابع- الرجعي
ككل، أيْ في القطاعات الأخرى التي نوافق عبد الفضيل على اعتبارها طفيلية منذ
نشأتها؛ فعلي سبيل المثال، تلجأ بعض هذه الصناعات (المحلية جدًّا) شيئًا فشيئًا
منذ عقود عديدة إلى التحول من صناعات داخلية التوجه إلى صناعات معتمدة على
التكنولوجيا المستوردة (مثل صناعة الخبز) وماليًّا كذلك (تربية الدواجن وصناعة
اللحوم)؛ أيْ إلى إحلال الواردات. ومن الأمور الغريبة أنَّ عبد الفضيل في رده على
العمروسي قد رصد حقيقة نوافقه عليها؛ أنَّ هذه الغلبة للطابع الطفيلي لم تؤد إلى
تطور القوى المنتجة (ونفهم من هذا التعبير أنه يعني إعاقة تطور القوى المنتجة لا
وقف تطورها)؛ فأين إذن دور الفئات الثورية (أو غير الطفيلية) في الرأسمالية
المصرية المزعومة؟ وكان الأجدر به أنْ يستنتج لا مجرد وجود خصوصية لما يسميه
التطور الرأسمالي في مصر، بل أنْ يحدد هذه الخصوصية، وهيَ في هذا المقام خصوصية
تتعلق بسيادة الطابع الطفيلي دائمًا في هذا الاقتصاد.. المعيق للتطور، الرجعي دائمًا..
واستكمالًا
لهذه النقطة نضيف أنَّ الأستاذ عبد الفضيل لم ينتبه لمغزى مثاله بالذات؛ فمعظم
صغار الملاك بوجه عام يدفعون ثمن وضعهم الاجتماعي غير الثوري؛ أيْ أنهم يعدون ضحية
لطفيليتهم، وينتمون إلى الجماهير الكادحة؛ ومن هذه الزاوية فقط هم ثوريون. وهنا
نتذكر فكرة ابراهيم العيسوي حول الطفيليين المحترفين والطفيليين الذين يضطرون إلى
ممارسة النشاط الطفيلي؛ فالفئة الأخيرة ضحية للنظام القائم الطفيلي ككل، وهيَ
تستمد ثوريتها من كونها ضحية لا من كونها تعمل في مجال اقتصادي بعينه. وبالمثل
تتضمن الطبقة العاملة جماعات طفيلية (العمالة الزائدة) إلا أنهم ضحايا للنظام
وليسوا أصحابه ولهذا السبب هم ثوريون أيضًا. وكل هذه الفئات الطفيلية من صغار
الملاك والعمال تعد من حفار قبر النظام دون أنْ تشكل جزءا من الطبقة المسيطرة
المسماة بالرأسمالية، بل إنَّ وجودها نفسه يدل على طفيلية النظام الذي يفرزها، والنظام
– كما هو مفهوم – هو نظام الطبقة المتحكمة في الثروة.
2-
أما بالنسبة لخصوصية دور التداول فقد استطاع عبد الفضيل أنْ يتجاوز تعميم الفكرة
المجردة القائلة بتكامل الإنتاج والتداول (كما طرحها العمروسي) إلا أنَّ تحليله
تضمن عددًا من القصورات الهامة:
أولًا:
إذا كان الكاتب قد أقر بإمكانية تمايز التداول واستقلاله الجزئي عن الإنتاج متمثلًا
في الحصول على الفائض من التداول نفسه، فإنه لم يؤكد على أنَّ هذا الفائض بالنسبة
لأوروبا في فترة التكوين الرأسمالي كان يتكون أساسًا من خارج الإنتاج الرأسمالي، خاصة
عن طريق التجارة البعيدة. ومن الأمور المحسومة في الفكر الاقتصادي أنَّ انتصار الرأسمالية
في أوروبا لم يكتمل بإلغاء القنانة فقط، بل وبتحقيق سيادة رأس المال الصناعي على
رأس المال التجاري؛ تلك السيادة التي تجسدت بالنسبة لبريطانيا مثلًا في حل شركة
الهند الشرقية بقرار من الملكة فكتوريا([29]).
إذن
كان هذا الطابع الخاص للتداول متوافقًا مع مرحلة الانتقال إلى الرأسمالية وليس خاصًّا
بالنظام الرأسمالي عمومًا. وخلاصة الأمر أنَّ هذا التمايز قد دل على نقص التكوين
الرأسمالي؛ أيْ أنه مشروط. وتظل بالتالي فكرة التكامل بالمعنى الذي طرحها به
العمروسي منطبقة على الرأسمالي “الناضج“ حسب تعبير عبد الفضيل. ويتلخص استنتاجنا
الرئيسي هنا في أنَّ تمايز التداول ليس مجرد إمكانية مجردة أو حالة لا يمكن
تفسيرها أو مجرد احدي حالات العلاقة بين الإنتاج والتداول في ظل الرأسمالية بل يظل
التكامل (حسب شرح العمروسي) أحد سمات الرأسمالية. أما التمايز فهو الاستثناء الذي
يؤكد القاعدة ولا يخرج عليها؛ فقد حدث في فترة لم تكن الرأسمالية خلالها قد حققت
انتصارها أو سيادتها في المجتمع، وبالتالي لا يعد وجود هذا التمايز أو الدور
الفريد للتداول في مصر المعاصرة مجرد أحد حالات العلاقة بين الإنتاج والتداول في
ظل الرأسمالية؛ بل يعد دليلًا على نقص الرسملة وعلى طابع خاص للنمو الاقتصادي في
مصر الحديثة، أو على الأقل يثير التساؤل حول طبيعة علاقات الإنتاج السائدة فيها
وسوف نعود بعد ذلك لمناقشة هذه القضية.
ثانيًا:
ذكر عبد الفضيل أنَّ الاقتصاد المصري حاليًّا يتميز بغلبة التداول على الإنتاج،
ولكنه لم يتوقف طويلًا عند هذه الإشارة. وجدير بالملاحظة أنَّ هذا الوضع لم يكن
قائما في أوروبا الرأسمالية قط؛ ففي بداية تكوين الرأسمالية كان رأس المال التجاري
يقاوم رأس المال الصناعي ويعرقل نموه إلا أنه لم يسيطر عليه، انما كان يسيطر على
جزء من الورش الصغيرة (نمط الإنتاج الصغير) معيقًا تطورها؛ بينما تطورت الرأسمالية
أساسًا بواسطة المنتج الذي صار تاجرًا ورأسماليًّا وهو الذي سماه ماركس بالطريق
الثوري حقًّا([30])،
والذي كان يناضل ضد “التجارة
البعيدة“، دون أنْ يخضع لها
ويتأقلم معها، وهذا عكس الحال في مصر.
فنحن
نتفق مع عبد الفضيل في أنَّ التداول هنا غالب على الإنتاج، إلا أننا نفهم من كلمة “غالب“ لا مجرد الغلبة الكمية، بل الهيمنة، بمعنى أنَّ رأس المال الإنتاجي هو في الحقيقة جزء من رأس المال التجاري وليس العكس
هو الصحيح. وهذه هيَ الخصوصية الأساسية للتداول في بلادنا وفي العالم الثالث ككل. ويشمل
التداول التجارة الخارجية والبنوك في مجملها لأنها تمول أساسًا التجارة الداخلية
المتمثلة في تجارة السلع والخدمات ومختلف الأنشطة المالية (تأمين – مضاربة – سمسرة – تجارة عملة..... إلخ).
وتتبلور
هيمنة التداول على الإنتاج في هيمنة التبادل الخارجي على عملية الإنتاج فمن خلال
هذا التبادل يتم حفز نمو قطاعات تصدير معينة، وبنفس الشكل يتم حفز اقامة الصناعة
الحالة محل الواردات.. والتابعة تكنولوجيًّا. وقد تكون هذا الوضع بالقضاء على
احتكار دولة محمد على وفتح السوق المصري على مصراعيه أمام المنتجات الأوروبية، مما
حفز التوسع في إنتاج القطن للتصدير واقامة بنية أساسية وصناعات تخدم هذه العملية
(سكك حديدية، تلغراف، حلج وكبس القطن، تطوير الموانئ، مشاريع ريّ وصرف ضخمة..)
وذلك على حساب القطاعات الأخرى، خاصة الصناعات التحويلية. وعزز تصدير رأس المال إلى
مصر من اتساع التجارة الخارجية بشكل ملموس خاصة الواردات الممولة من القروض. وبدأ
الاستهلاك (العام والفردي) يتحول إلى السلع المستوردة الجيدة والرخيصة، كما أخذت
المنتجات المحلية تعتمد بشكل متزايد على الآلات المستوردة بينما صارت الصناعات
المحلية تمامًا نحو الانزواء وأخذ تُتنزع من قاعدتها الإنتاجية المحلية (الإنتاج
المحلي لوسائل الإنتاج الذي مات تقريبا) ثم أُنشئت الصناعات الحالة محل الواردات
منذ الحرب العالمية الأولى أساسًا، وفي سياق هذا كله نمت المدن نموا سرطانيًّا
(باستثناء فترة قصيرة في عصر إسماعيل).
توضح
لنا هذه الآليات كيف لعب التبادل الخارجي دور إنشاء وإعادة إنشاء الاقتصاد الحديث في
مصر([31])
داخل هذا الاقتصاد اتسعت المبادلات الداخلية المرتبطة بالتجارة الخارجية عبر هذا
البناء الجديد نفسه.
هذا
هو المعنى العميق لغلبة التداول على الإنتاج وهو ما يمكن أنْ نعبر عنه بشكل يوضح
لنا مغزاه تمامًا كالآتي: الاقتصاد المصري الحديث هو ككل اقتصاد تداولي وليس
باقتصاد صناعي (إنتاجي) وهو أمر سنوضحه بشكل عيني بعد ذلك.
والملاحظة
الأخيرة بهذا الخصوص هيَ أنَّ رأس المال التجاري يستند في هيمنته هذه على تحقيقه
لجزء هام من الفائض المنتج بآليات غير رأسمالية (خاصة نمط الإنتاج الصغير) والمنتج
خارج الاقتصاد المحلي (خدمات مختلفة للأجانب، تحويلات خارجية..). هكذا.. يصنع
التداول الاقتصاد كله خالقًا وضعية تخدم سيطرته، وتستند هذه الدائرة المغلقة إلى
الهيمنة الإمبريالية؛ فالتبادل الدولي لا يتم في سلام كامل، بل يتم مصحوبًا بمختلف
أشكال الضغط الأجنبي والتهديد الدائم باستعمال العنف، وفي النهاية: التفوق الاقتصادي
الكبير للبلدان الرأسمالية. ولا ننسى بالطبع أنَّ كل هذا يتم مع وجود استعداد داخلي
للاندماج في السوق العالمية بهذا الشكل.
ثالثا:
ذكر عبد الفضيل أنَّ الأموال المحولة من الخارج قد لعبت دورًا هامًّا في تحقيق غلبة
التداول على الإنتاج. ولو مددنا هذه الملاحظة على استقامتها لا تضحت لنا أمور أكثر؛
فالمعنى العميق لملحوظة عبد الفضيل هو أنَّ التداول في هذه الفترة يحصل على كم
ملموس من الفائض من خارج الإنتاج المحلي. ويمكن أنْ نضيف عمقًا جديدًا، وهو أنَّ
التدوال يجني فائضًا بخلاف فائض القيمة المنتج بالطبع في قطاعات الرأسمالية
المحلية([32]).
وبهذا
يتضح تمامًا خصوصية التبادل في مصر المعاصرة؛ فسيطرته على الإنتاج- كما أشرنا سابقًا
– تكسبه طابعًا رجعيًّا-
طفيليًّا معاديًا للتطور، يفسر لنا، وإن بشكل غير مباشر، بقاء ونمو نمط الإنتاج
الصغير في مصر والذي يعتصر منه رأس المال التجاري نسبة كبيرة من الفائض الاجتماعي
العام([33]).
إلا أنَّ هذه الخصوصية بالذات تعني أنَّ رجل الأعمال الإنتاجي يحصل هو الآخر على
فائض ملموس جدًّا بخلاف فائض القيمة، من خلال التداول المحض، وأنه بهذا الشكل لا
يكون مجرد صناعي، بل تاجر- صناعي، وهيَ حالة قبل رأسمالية لرجل الصناعة كما هو
واضح. ففي المجتمع قبل الرأسمالي وجدت التجارة وأحيانا على نطاق واسع، إلا أنَّ
التاجر لم يكن رأسماليًّا Capitalist بالمعنى الحديث لهذا اللفظ؛ فلم يكن يحصل على فائض قيمة بل على
فائض ينتجه الفلاح والحرفي (لا العامل المأجور)، وفي فترة نشوء الرأسمالية في أوروبا
الرأسمالية في أوروبا كان التاجر الصناعي يحصل على هذا الفائض بالإضافة لفائض
القيمة المنتزع من العمل المأجور الذي كان لازال في فترة تكون ونمو.
ومن
الصحيح أنَّ الفوائض المحولة من الخارج قد تكاثرت في السبعينات، إلا أنه قبل هذه
الفترة لعبت الفوائض المحولة من الإنتاج الصغير والقطاعات الريعية وشبه الريعية
(بترول- سياحة- قناة السويس) الدور نفسه. وبذلك يمكننا أنْ ننظر إلى قطاع الإنتاج
على أنه هو الآخر ذو طابع طفيلي تابع، لا في الفترة الحالية فحسب، بل في مصر
الحديثة عمومًا، هيَ نتيجة تجهض تمامًا محاولة عبد الفضيل اكتشاف قطاع غير طفيلي في
الاقتصاد المصري.
إنَّ غلبة
التداول تعني أنه يقود الاقتصاد لا أنه يقهره؛
فالإنتاج هو الآخر يقبل هذه الغلبة بكل رضًا، بل ويشكل
مجرد جزءًا متحورًا من رأس المال العامل في مجال التداول.
رابعًا:
وأخيرًا نود أنْ نضيف إلى فكرة عبد الفضيل حول خصوصية التداول؛ فوفقًا للمعيار
المباشر الذي حددناه فيما سبق للطفيلية، فالمجال الذي تتضح فيه إلى أقصى حد طفيلية
النظام هو مجال التداول؛ ذلك أنه يكون المجال الصريح والمباشر الأساسي لإهدار الفائض؛
فتطوير القوى المنتجة يتم بالدرجة الأولى على صعيد الإنتاج لا التداول، كما أنَّ
ضخامة قطاع التداول (نسبيًّا) في حد ذاتها تدل على تأخر عملية الإنتاج نفسها([34]).
ولذلك
تكتسب سيادة التداول على الإنتاج مغزى طفيليًّا أبرز من كل المظاهر الأخرى، خاصة أنَّ
مجال التداول هو مجال العمل غير المنتج حتى في مرحلة صعود الرأسمالية ولذلك بالذات
يعتبر طفيليًّا بالقوة Potentially. لهذا السبب تعد ظاهرة نمو القطاعات المسماة بالثالثية (التداول
ومحلقاته من خدمات وإدارة..) في العالم الثالث ذات مغزى طفيلي، وهيَ ظاهرة ليست
حديثة قط بل ميزت هذه البلدان منذ بداية انجرارها إلى السوق العالمي و“تحديثها“، وهيَ أبرز مظاهر طفيلية هذه النظم وتعفنها.
ورغم
أنَّ الطفيلية تشمل النظام القائم ككل في مصر، إلا أنَّ نمو التداول على حساب – بل وفي مواجهة – نمو الإنتاج يعد من أهم علامات الاختلال المباشرة للاقتصاد. وذلك
وجدنا صلاح العمروسي الذي بذل جهدًا صادقًا ومثمرًا لاثبات عدم اقتصار الطفيلية
على التداول يستخدم ظواهر مثل تضخم القطاعات غير الإنتاجية كدليل على طفيلية الاقتصادي
ككل (ص99)، متخليًا عن تشبثه بفكرة تكامل الإنتاج والتداول التي سبقت الإشارة اليها.
والحقيقة أنَّ تضخم دور التداول في حالة مصر يعبر عن طفيلية النظام ككل ولا يعد
مجرد ظهور لقطاع طفيلي. فهذه الظاهرة؛ أيْ تضخم دور التداول انما تعبر- في حالة
مصر- عن حقيقة سبق لنا الإشارة اليها، هيَ أنَّ الاقتصاد ككل تداولي، بمعنى أنَّ
التداول يحكم الإنتاج وهذا لا يعد دليلًا على قوة التداول فحسب بل وعلى ضعف الإنتاج
أيضًا، وهيَ ظاهرة تفسر لنا لماذا صبت الفوائض المحولة من الخارج ومن نمط الإنتاج
الصغير في التداول أكثر مما صبت في الإنتاج.. لماذا لم تمثل هذه التحويلات عملية
تراكم بدائي لرأس المال الصناعي؟ والظاهرة لا تعود إلى عصر الانفتاح وتحويلات
العاملين بالخارج، بل إنها ظاهرة أصيلة في الاقتصاد المصري الحديث، منذ نهاية محمد
علي. وهذه الغلبة للتداول تعد في حد ذاتها دليلًا هامًّا على طفيلية النظام؛ لسبب
جوهرى، هو أنها تعيق تطور الإنتاج.
وأخيرًا
يمكننا الآن أنْ نستنتج فكرة بديلة لفكرة صلاح العمروسي حول تكامل الإنتاج
والتداول؛ فقد نجح عبد الفضيل في توجيه نقد لهذه الفكرة بالنسبة للاقتصاد قبل الرأسمالي
والاقتصاد المتخلف، ولكنه لم يقدم بديلًا لها، مكتفيًا برصد دور خاص مجرد جدًّا
للتداول، ويوضح تحليلنا السابق أنَّ الإنتاج والتداول في مصر الحديثة يكونان تكاملاً؛
إلا أنها علاقة مناقضة تمامًا للعلاقة التي تصورها صلاح العمروسي؛ فقد تصور الأخير
أنَّ التداول هو مجرد تابع للإنتاج دون أنْ يتبين خصوصية مصر المتخلفة؛ وهيَ أنَّ
العكس هو الصحيح؛ أنَّ الإنتاج هو مجرد تابع للتداول، وهذه هيَ أعمق خصوصيات الأخير
في حالة مصر([35]).
**************************
أما
محمد عبد الشفيع فقد كان أكثر الجميع جذرية في رؤيته لطفيلية النظام القائم، كما
ذهب أبعد منهم في رؤيته لخصوصية تطور الاقتصاد الحديث في مصر.
وهو
يرى أنَّ هذه الخصوصية تتلخص في كون هذا النظام نظامًا كولونياليًّا، أو نظام نمط إنتاج
التخلف كما يسميه([36])؛
إلا أنه لم يبذل في كتاباته – حسب علمنا – جهدًا كافيًا لشرحها. وعلى
أساس هذه الفكرة لا يعترف بوجود طبقة رأسمالية في مصر، أيضًا دون أنْ يشرح هذه
الفكرة، غير أنه قد وضع بذلك حدودًا أولية لفكرة ثالثة فيما يخص مسألة الرأسمالية
الطفيلية. وهيَ التي بدأنا تقديمها فيما سبق ونستكملها فيما يلي:
تعد
ظاهرة النمو المركب Combined Development المميز الجوهري والخصوصية الأهم للاقتصاد المصري، وقد تمثلت فيما
يلي:
1-
استخدام أحدث منتجات التكنولوجيا في غياب القاعدة الضرورية لإعادة إنتاجها.
2-
الانفصال المتزايد بين الإنتاج والاستهلاك؛ فالاقتصاد يزداد استقطابا باستمرار إلى
قطاع تصديري وقطاع لاحلال الواردات، على حساب الإنتاج الموجه لإشباع الحاجات الأساسية..
بقايا النظام القديم.
وهذا
المنحى يسم عملية النمو في مصر عمومًا؛ فظاهرة الميل المتزايد إلى إنتاج سلع لا
تستهلك واستهلاك سلع لا تنتج محليًّا، موجودة بعمق في الاقتصاد المصري منذ هزيمة
محمد علي، وهيَ تعبر عن الانخراط المتوصل للاقتصاد المحلي في السوق العالمي لصالح الأخير.
3-
وجود أزمة نقص التمويل مع العجز عن الاستخدام الرشيد للفائض.. وهذا يعني وجود
زيادة فعلية للفائض، يجري تبديدها رغم نقص رأس المال في الوقت ذاته ! (ليس أدل على
ذلك من تبديد القروض!).
4-
ترافق البؤس البالغ مع الاستهلاك الترفي حتى لدى الطبقات الكادحة، ويتضمن هذا
الازدواج تركب نمط الاستهلاك، حيث يجري استخدام سلع لا تناسب الظروف الثقافية
والمادية القائمة، بحيث يكون نمط الاستهلاك ككل غير منسجم.
وتنعكس
هذه الأشكال من الازدواج في التشريعات والقوانين والتعليم والثقافة: تشريعات دينية
ووضعية، تعليم ديني وعلماني، ثقافة دينية وعلمانية، ازدواج القانون والعرف([37])،
مؤسسات متطورة تحكمها نظم موضوعية، مع أساليب إدارة فاسدة ولا تخضع لأيِّ نظم
محددة ([38]). وتتبلور الازدواجية في
النهاية في شكل إنتاج الفائض الاجتماعي (وقد سبق تناول هذا الأمر) ؛ أيْ النمو
المركب لأنماط الإنتاج: نمط إنتاج رأسمالي – أنماط إنتاج قبل رأسمالية (ما يشبه حالة انتقالية دائمة... ساكنة..
ولهذا السبب لا يمكن اعتبارها مجرد حالة انتقالية)، وهو ازدواج ناتج عن ازدواج آخر؛
نمو الاقتصاد على الصعيد المحلي، إلا أنه في الوقت ذاته نمو ذو طابع تخارجي
(بتعبير سمير أمين)، ويتم هذا النمو بتوسط التداول. وينتج عن هذا الوضع المركب
حالة من الأزمة الدائمة والمركبة: أزمة فيض إنتاج في بعض القطاعات مع أزمة نقص إنتاج
في قطاعات أخرى، وهيَ حالة تختلف عن أزمة النظام الرأسمالي. وينتج الطابع المزدوج
للأزمة كالتالي: يتم النمو بشكل مختل؛ فينمو الإنتاج التصديري واحلال الواردات على
حساب الحاجات الأساسية، ويتم النوع الأول (خاصة إحلال الواردات) من النمو هو نفسه
بشكل مختل بحكم طبيعة توجهه.. وتكون النتيجة هيَ النمو غير المنسجم مما يؤدي إلى
ظاهرة الأزمة المركبة. إذن فلا مجال للحديث عن تناقض قوى الإنتاج مع علاقات الإنتاج
الرأسمالية بل تناقض قوى الإنتاج مع الطابع المركب للنمو، وحتى في المشاريع الكبرى..
“الرأسمالية“.. نجد أنَّ التناقض قائم بين قوى الإنتاج
وعدم اكتمال الرسملة، فيما سميناه من قبل بظاهرة التاجر الصناعي([39])، المعبرة عن الطابع المركب
لعلاقات الإنتاج.
ولم
يحاول قط أيٌّ من أصحاب نظرية الرأسمالية المتخلفة والمشوهة.. إلخ تفسير هذه
الخصوصيات، اللهم إلا باللجوء إلى التعبيرات المجردة: تشوه العلاقات الرأسمالية، النمو
التابع.. التخلف.. ولكن ماهو جوهر المشكلة؟!
في
أوروبا لم تحقق الرأسمالية انتصارها إلا باستيعابها الكامل لرأس المال التجاري؛ فهل
حققت “الرأسمالية
المصرية“ انتصارها بأن أخضعت
نفسها لهذا الرأسمال؟ أليست هذه القضية مما يستحق التفكير من جانب أصحاب النظرية
المذكورة.
أما
بعد هذا التوضيح السريع (والملائم كما نظن لحدود هذا المقال)، فيمكننا أنْ ننظر إلى
الطبقة المسيطرة في مصر لا كطبقة رأسمالية، بل يمكن اعتبارها وفقًا للطابع المركب
للاقتصاد مجرد فئات متباينة من رجال الأعمال والملاك وأصحاب الأسهم والودائع.. “طبقة“ تمتلك اقتصادًا يمكن أنْ نعتبره إلى حد ما، واذا
استعرنا
تعبير مكسيم رودنسون: اقتصادًا رأسمالويًّا([40]) CAPITALISTIQUE، حيث
تهيمن صيغة التاجر؛ التاجر الصناعي لا صيغة الرأسمالي الصناعي؛ كما أنها لا تشكل طبقة حقيقة، حيث، ترتبط كل فئة
منها أو مجموعة بالسوق العالمية بأقوى مما ترتبط بالفئات الأخرى.
مسألة
الناصرية:
أشرنا
من قبل إلى تراجع محمد عبد الشفيع عن فكرته الجوهرية أمام شبح الناصرية. والحقيقة أنَّ
هذا التراجع قد ابتلع كافة أفكاره حول طبيعة النمو الاقتصادي في مصر، خاصة أنه
تعامل مع الفترة الناصرية على أنها مجرد “انقطاع“ لم يقدم له أيَّ مبرر.
ويتضح
تعثر صلاح العمروسي هو الآخر كلما تذكر الناصرية؛ فقد عرض الكثير من مظاهر طفيلية
مصر الانفتاح وكأنه لم يجد ما يسنده في الفترة السابقة التي يعتبرها فترة صعود
البورجوازية، إلا ما حدث خلال الستينات. فبعد انتقاداته الحادة لـ (البورجوازية
المصرية) والتي أبرزناها فيما سبق، بلغ الكلام عن الفترة الناصرية فوجدناه يتعثر..
فيتكلم عن " تنمية صناعية نسبية" و"استقلال نسبي" و"تعبئة
للفائض (…) أخفت على البعض خصائص الطابع الطفيلي
لطريق التنمية الرأسمالية (…) وقد خففت بالفعل من بعض جوانبه؛ إلا أنَّ
العديد من هذه الخصائص استمرت بأشكال أخرى، وأطلقت العنان لعناصر أخرى جديدة أخذت
تستفحل في عصر الانفتاح بعد أنْ تجاوزت البورجوازية الحاكمة مرحلتها التقدمية المعادية (بشكل
نسبي) للاستعمار"
- ص92 (التشديد من عندنا).
ألا
يتضح لنا من هذه العبارات مدى التشوش الذي وقع فيه الكاتب؟ فخصائص الطابع الطفيلي،
واستمرار العديد منها بأشكال أخرى بينما خففت (فقط؟) بعضها، ورغم كل هذا فقد لعبت تلك
“البورجوازية“ دورًا تقدميًّا أيضًا.. كيف يمكن أنْ نفهم
هذا؟ الرد المتضمن مسبقًا في كتاب العمروسي هو أنَّ هذا الطابع الطفيلي كان غير
سائد، بل ويصب في تطوير القوى المنتجة.. وبالطبع لابد ألا ننسى تلك الفكرة المدهشة
التي يبرر بها كل تناقضاته: “بشكل نسبي“!.. إنه الحل السحري لكل المشاكل
النظرية المعقدة!
ومن
الممكن للمرء أنْ يعتبر أيَّ شئ بشكل نسبي.. حكومة السادات مستقلة طبعًا بشكل نسبي..
وقامت بتطوير قوى الإنتاج بشكل نسبي (صناعة الألومنيوم وغيرها).. وحاربت الاستعمار
والصهيونية (في أكتوبر) بشكل نسبي.. كذلك يطور رأس المال الاحتكاري في الغرب قوى الإنتاج
بشكل نسبي.. وبهذا الشكل النسبي تضيع المفاهيم.. ما هيَ المعايير المطلقة إذن؟؟([41]).
لم
يبذل العمروسي أيَّ جهد للمقارنة بين عصر السادات والناصرية فيما يتعلق بمسألة
الطفيلية معتمدًا بالطبع على عدم حاجته لهذه المقارنة؛ فالرأيُ العام اليساري ككل
لازال يسبح بحمد الناصرية بحيث إنَّ الجميع يتحدثون عن الانفتاح وسيادة الطفيلية
متصورين الناصرية بشكل معين، مناقض تمامًا لهذه الصورة.
ومن
الأمور المفهومة أنَّ الطبقات الرجعية تعرقل تطور القوى المنتجة، ولا تمنعه، أيْ
تطورها في حدود معينة، أقل مما يستطيع نظام آخر موجود بالقوة.. ألا يصلح هذا النوع
من تطوير القوى المنتجة أنْ يوصف بأنه نسبي؟ أين إذن ما يمكن أنْ تحله نسبية الأستاذ
العمروسي؟
وسوف
نقدم بدورنا تحليلًا لعملية التراكم خلال الفترة الناصرية لتوضيح طفيليتها من
عدمها، اعتمادًا على المعيار المطلق الذي حددناه من قبل للطفيلية ويدفعنا إلى
التركيز على الفترة الناصرية بالذات في عصر ما قبل السادات، كونها لازالت تعد أقوى
دعامة للتيارين المذكورين هنا: أصحاب نظرية الفئة الطفيلية وأصحاب نظرية الطابع الطفيلي
القاصر على عصر الانفتاح.
المنحى
العام لعملية التراكم في الفترة الناصرية([42])
تقدم
دراسة عملية التراكم الشكل النهائي لحركة البنية الاجتماعية – الاقتصادية من الداخل. وهيَ ليست مجرد عملية
كمية، بل تتضمن لحظات ثلاث: آليات عملية التراكم – معدل التراكم العام – الميل العام للتراكم. وكل من هذه اللحظات يتوسط اللحظتين الآخرتين؛
فآليات عملية التراكم تحمل – بالقوة – منذ البداية الميل العام للتراكم، الذي
يتحدد من خلال معدله العام على الصعيد المحلي ككل بالنسبة لمجمل حجم الفائض الاحتمالي
والفائض الفعلي.
وتتوقف
طبيعة هذه الصيرورة على طبيعة البنية الاجتماعية – الاقتصادية، وتتوقف تحولاتها على طابع ومدى عمق التحولات
الاجتماعية، ومن ثم على الطابع العام للسياسة الاقتصادية للنظام والحكومة متضمنة
موازين القوى الاجتماعية السياسية.
الموضوع
– في
حدود علمنا – لم يدرس بشكل خاص من قبل
(بخصوص مصر) اللهم إلا في أطر أخرى، وبطريقة إحصائية بحتة، وبشكل يكاد أنْ يكون
عارضًا وجزئيًّا. والأمر يستحق دراسة خاصة باعتباره كمنهج لدراسة آليات عمل النظام
ككل - من الداخل - مفتقدًا حتى الآن في أدبياتنا([43])، وهيَ طريقة – من وجهة نظرنا – فعالة للوقوف على الطابع الداخلي للبنية الاقتصادية – الاجتماعية.
منذ
أخذت مصر تدمج في السوق الدولي، سارت عملية النمو الاقتصادي في منحى محدد تميز بما
يلي:
1
– إنشاء
وإنماء مستمر لقطاع تصديري.
2
– إعادة
تكييف قطاع الصناعة مع السوق العالمي، وذلك بالاضمحلال التدريجي للصناعات القديمة
مع إنشاء صناعة حديثة تخدم قطاع التصدير أو تحل محل الواردات.
3
– المحافظة على نمو القطاع
غير الرأسمالي، ممثلًا أساسًا في نمط الإنتاج الصغير في الزراعة والصناعة.
4
– اتجاه متزايد للاقتصاد
نحو التنقيد، واتساع التبادل السلعي الخارجي والداخلي.
5
– نمو كبير للنشاط التداولي
(تجاري – خدمي – مصرفي). ويتلخص هذا كله في إنشاء وإعادة إنشاء
وانماء قطاع تصديري قوي، وإعادة تشكيل وتدعيم نمط استهلاك يتفق مع ميول السوق العالمي،
وتكوين وتكييف وإعادة تكييف لطبقة من رجال الأعمال تقوم بالإشراف على هاتين
العمليتين.
وتتم
عملية التراكم لخدمة هذه العمليات التي تعد في النهاية لحظات في عمليات واحدة:
تكييف وإعادة تكييف الاقتصاد المصري مع حاجات السوق العالمي. وهذا النمط من النمو
يدفع الظاهرة المسماة بتهميش الجماهير باستمرار كظاهرة متلأزمة بالضرورة مع ظاهرة
أخرى تميز عملية التراكم وهيَ اتجاه القطاع الثالثي إلى النمو بمعدل أسرع من معدل
النمو الاقتصادي الكلي.
ويمكننا
إعادة إيجاز العملية ككل بالشكل التالي:
يسيطر
رأس المال الصناعي من الخارج، عن طريق التبادل الخارجي، والداخلي (الذي يعتبر هو الآخر
– من حيث الجوهر – خارجي)، تلك السيطرة تحجز عملية النمو المتمحور
حول الذات (في حالتنا: النمو ذو المنحى القومي)، ويؤدي هذا إلى ظاهرة التهميش
ويعرقل توسع السوق الداخلي، لذلك يميل رأس المال إلى التراكم خارج الإنتاج ويجر
معه العمالة ويضفي طابعًا طفيليًّا على الاقتصاد ككل، هذا القطاع الوسيط نفسه ينقل
أنماطًا خدمية من الخارج. هكذا تتكون دائرة مغلقة؛ فالقطاع الوسيط ينقل السيطرة
الخارجية مؤديًا بذلك إلى نمو نفسه، ويصبح هو في النهاية المصب الرئيسي لعملية
التراكم على الصعيد المحلي.
*
آليات عملية التراكم:
المصدر
الداخلي النهائي للتراكم هو دائمًا الفائض الاجتماعي الذي ينتجه الكادحون في وحدات
الإنتاج.
وإبان
الفترة الناصرية – عكس ماهو شائع – تقلص عدد العاملين بالنسبة لعدد السكان الإجمالي
(بالعكس ازداد في عهد "الردة الساداتية")([44]).
أما
العمالة المنتجة للفائض بالنسبة للعمالة الكلية فظلت نسبتها ثابتة (انخفضت بنسبة
صغيرة جدًّا).
العمالة
المنتجة (الصناعة + الزراعة) بالنسبة للعمالة الكلية([45]):
1947 60.8
%
1960 60.75
%
1966 60.6 %
والانخفاض
يكون أكبر من هذا، إذا ما أخذنا في الاعتبار البطالة المقنعة. هكذا استمرت عملية
تهميش السكان على قدم وساق.
كما
أنَّ معدل نمو القطاعات المنتجة للفائض كان أقل من معدل النمو الاقتصادي ككل (كما
سنرى بعد)، مما يعني أنَّ مصادر التراكم قد تقلصت بالنسبة للحجم الكلي للبنية
الاقتصادية. وهذا لا ينفي بالطبع أنَّ حجم هذه المصادر قد تزايد تزايدًا مطلقًا. مما
يتضح من تزايد القيمة المضافة.
إلا
أنَّ الأمر المهم هو التبدلات التي جرت بخصوص المصادر العينية المباشرة للتراكم
وكانت تتمثل حسب أهميتها قبل الانقلاب في:
1-
ريع الأرض الذي يدفعه عادة صغار المزارعين.
2-
أرباح الصناعة.
3-
رأس المال الأجنبي الوارد من الخارج (وكان حجمه قد تقلص كثيرًا).
4-
الدولة (الضرائب وغيرها).
وقد
ازداد دور أرباح الصناعة، والأنشطة الوسيطة وريع الأرض، كمصادر للتراكم (الذي اتجه
أغلبه إلى قطاع الاسكان)، بينما تقلص دور رأس المال الأجنبي المستثمر مباشرة أكثر
فأكثر. وكان التحول الجوهري الذي طرأ بعد انقلاب 1952 على مصادر وآليات عملية
التراكم يتمثل في الدور الفريد للدولة الناصرية في هذه العملية. بدأت الناصرية فور
الانقلاب تقوم بدور فعال في توجيه عملية التراكم؛ فأصدرت من القرارات والقوانين ما
يشجع رجال الأعمال على استثمار أموالهم، خصوصا في الصناعة، كما شملت إجراءاتها الإصلاحية
زيادة أموال صندوق المعاشات، وزادت من نصيبها في الاستثمارات، خصوصا في الزراعة
والريِّ، ثم الصناعة، وراحت تملأ الفجوة التي كانت متزايدة الاتساع بين معدل
التراكم الذي كانت تراه وبين ما يوجهه رجال الأعمال إلى مجال الاستثمار، خصوصًا الصناعي.
وقامت الدولة بإقامة مشاريع عديدة، داعية رأس المال الفردي إلى المساهمة في
رأسمالها، خاصة السد العالي، وراحت في كل المجالات تلعب الدور الذي كان يقوم به
رأس المال الأجنبي في تشجيع رأس المال المحلي، مثل التسويق لبعض المشاريع، المساهمة
في رأس المال.. إلخ، حيث أصبح ورود رأس المال الأجنبي بغرض الاستثمار المباشر محدودًا
للغاية.
وجاءت
مرحلة تالية منذ 1956؛ أيْ تأميم قناة السويس، ثم عمليات التمصير لتضيف الدولة مزيدًا
من بصماتها على عملية التراكم؛ فازداد دخلها من جراء هذه العمليات، وتكون قطاع
دولة كبير مربح، كان مصدرًا هامًّا للتراكم في خطة 1957 – 1960 الصناعية.
وبعد
استقرار السلطة الجديدة داخليًّا وعلى الساحة الدولية، بدأ رأس المال الأجنبي يرد
من خلال الدولة أساسًا، التي لعبت دورًا هامًّا للغاية في استثمار هذا الرأس مال،
وبات اقتراضها هو الآلية الأساسية لدخوله.
وكان
الدور الرابع للدولة دورًا غير مباشر؛ إذ إنَّ السلطة البيروقراطية الجديدة وما
صاحب مجيئها من اتساع كبير في قطاع الدولة، أديا إلى استشراء الفساد على نطاق لا
مثيل له، وأصبح قطاع الدولة بقوم بدور البقرة الحلوب للقطاع الخاص ولرجال الدولة، وقد
حول النهب الواسع كميات ضخمة من الفائض إلى الأنشطة الوسيطة، كما هرب بعضها إلى
الخارج، بجانب تربية الماشية، والمزارع؛ وقد لعبت السياسات الإصلاحية للدولة في
الستينات الدور الأساسي في هذا التوجه لرأس المال، إذ أنه كان من الطبيعي أنْ يتجه
إلى تلك القطاعات التي سمح لها بالعمل وتوسيع نشاطها بواسطة الأفراد.
وقد
بلغ الأمر حد أنْ تقوم الدولة باستثمار 90% من رأس المال الصناعي في الستينات مع
الاستمرار في القيام بالدور التقليدي للدولة في مصر؛ أيْ رعاية عملية الريّ والصرف
واستصلاح الأراضي.
وبغض
النظر عن منحى عملية التراكم، ظل للدولة الناصرية دور هام وبارز وحيوي في توجيه
التراكم وحتى في تجميع الفائض أصلًا (ضرائب غير مباشرة - نهب شبه مباشر لصغار
الفلاحين – قروض خارجية – ضرائب مباشرة على قطاعها الاقتصادي نفسه)، ورغم
هذا الدور لم يرتفع معدل الادخار (حول 12% من الدخل طوال الفترة) بينما كان معدل
الاستثمار يتجاوز هذا الرقم.
معدل
الادخار بالنسبة لمعدل الاستثمار([46])
معدل الادخار
/
معدل
الاستثمار
%
|
السنة
|
معدل الادخار
/
معدل
الاستثمار
%
|
السنة
|
93.1
|
60-1961
|
87.1
|
52-1953
|
65.6
|
1962
|
99.6
|
1954
|
65.2
|
1963
|
81.5
|
1955
|
63.6
|
1964
|
92.6
|
1956
|
80.5
|
1965
|
101.1
|
1957
|
69.4
|
1966
|
88.1
|
1958
|
96.1
|
1967
|
77.8
|
1959
|
79.2
|
67-1968
|
102.6
|
1960
|
وكانت
هذه الفجوة تسد بواسطة القروض الأجنبية. ويعود هذا الفشل في رفع معدل الادخار – رغم زيادة دور الدولة – إلى وضع بيروقراطية الدولة
نفسها، التي أصبحت منذ 1952 تشكل السلطة العليا في الدولة، بالإضافة إلى كونها
أداتها في نفس الوقت؛ فكان دورها في تجميع وتوجيه الفائض الاجتماعي يسد فجوة نتجت
عن تراجع رأس المال الأجنبي، المترتب عليه تقاعس رأس المال الخاص. ورغم جهود
الضباط لم يتعد معدل التراكم معدله خلال فترة طويلة قبل الانقلاب، ولم تستطع حكومة
الضباط أبدًا أنْ تصل بمعدل الاستثمار إلى ما بلغته بلدان شرقي آسيا ولا طبعًا
البلدان الرأسمالية؛ فقد استمرت مختلف آليات تبديد الفائض، سواء السابقة على الانقلاب
(الاستخدام الجزئي للموارد المتاحة، الإنفاق الترفي للطبقات المسيطرة، تهريب الأموال
للخارج) أو بالأشكال الجديدة الآتية مع حكومة يوليو مثل الإنفاق الضخم على مؤسسة
رئاسة الجمهورية وأجهزة الأمن، التبديد الناتج عن سواء إدارة المشاريع وسوء
التخطيط والإنفاق المتزايد على الجهاز البيروقراطي نتيجة تشغيل اعداد ضخمة من
الموظفين الجدد، وكافة الأشكال الناصرية الأخرى للتبديد، شاملة التبديد البشع لقوة
العمل.
فالدولة؛
أولا: لم تقم بتجميع كامل للفائض المحقق، علاوة على أنها لم تجمع الفائض الاحتمالي
نظرًا لضيق أفق إجراءاتها وطابعها الإصلاحي، كدولة تمثل في نهاية الأمر كبار
الملاك ورجال الأعمال. وثانيًا: لم تقم بتوجيه الفائض المجمع بالشكل الأمثل؛
فأهدرت منه جانبًا كبيرًا على نفسها (وغير ذلك)، وهذا يعود إلى طبيعتها كدولة
بوليسية تقوم بدور قيادي في المجتمع.
وعلى
ذلك فقد تميز دور الدولة في عملية التراكم بالآتي:
1
– أنه حل
جزئيًّا محل دور رأس المال المحلي، والأجنبي كذلك.
2
– أنه
كان في خدمة مصالح النظام بعيدة المدى وقصيرة المدى أيضًا. بعيدة المدى حين كانت
تقوم بحفز عملية التراكم، وقصيرة المدى حين كانت تقوم من حين لاخر بانفاق جزء من
مواردها على الجماهير الشعبية؛ أيْ حين كانت تحجز عملية التراكم من وجهة نظر
النظام الاجتماعي نفسه.
والدولة
بهذا الشكل راحت تلعب دور المنظم لرجال الأعمال؛ فتضبط معدل التراكم من حين لآخر
حسب الظروف وتضبط العلاقة بين المصالح الآنية والمصالح البعيدة للنظام، دون أنْ تنسى
– في شخص
كبار رجالها – أنْ تحصل
لنفسها على نصيب محترم، ولم تكن لها القدرة على القيام بعملية الضبط والربط بهذا
الأسلوب إلا لأنها دولة رجال الأعمال ذات الطابع البونابرتي.
والخلاصة أنَّ آليات عمليات التراكم في الفترة
الناصرية لم تتغير من حيث الجوهر:
1-
فاستمر دور رأس المال الأجنبي كمصدر للتراكم، بل وشهد نموا خلال الستينات.
2-
واستمر تحويل الفائض من الريف إلى المدينة.
3-
واستمرت عملية التراكم تتم – من الناحية المباشرة – بواسطة القطاعات الوسيطة في الاقتصاد؛ فظل
اعتصار الشغيلة يتم داخل عملية الإنتاج وفي عملية التبادل أيضًا (حيث استمرت الأنشطة
الوسيطة ومنها الملكية العقارية تشكل المصدر المباشر الأول للتراكم)، وكان الأمر
الجديد هو دخول الدولة كوسيط مهم في هذه العملية.
4-
كما استمر التوزيع النسبي للعمالة بدون تغيير كبير.
*
المعدلات العامة للتراكم
أدى
استمرار الآليات السابقة لعملية التراكم، رغم اتساع الدور الوسيط للدولة وكذلك
دورها في تحقيق الفائض، إلى استمرار المعدل العام للتراكم بالنسبة لحجم الفائض الاحتمالي
وحتى بالنسبة لحجم الفائض المتحقق، كما هو.
ليس
من الصحيح أنَّ أعلى معدل للنمو يرتبط على نحو آلى بأعلى معدل للتراكم؛ فإنَّ
الحالة المعنوية للمنتجين تتأثر قطعًا عند لحظة معينة من نمو معدل التراكم، كما أنَّ
إعادة إنتاج قوة العمل تتطلب معدلًا مناسبًا للاستهلاك المادي والمعنوي تتلاءم مع
درجة تطور المجتمع بوجه عام، وتعد هذه العملية ضرورة مطلقة لتحويل التراكم إلى إنتاج،
ولذلك نعتقد بأن المعدل الأسمى Optimum للتراكم
هو ذلك المعدل الذي يشكل نسبة من الفائض الاجتماعي تتلاءم إلى أقصى درجة، مع معدل
الاستهلاك الملائم في الظروف الاجتماعية – السياسية القائمة. ومن الملاحظ أنَّ معدل التراكم في مصر الناصرية
كان يقل كثيرًا عن نسبة الفائض الكلي الذي اتجه معظمه إلى الاستهلاك الترفي وكافة
ألوان التبديد الأخرى. ومن الأمور الملفتة للنظر أنَّ الدولة التي لعبت أكبر دور في
تحقيق التراكم خلال الخمسينات والستينات، هيَ التي لعبت في الوقت نفسه أكبر دور في
تبديد الفائض، والمسألة لا تحسب بمعدل “الحسنات“ ومعدل “السيئات“ وانما تشكل هاتان العمليتان وجهان لعملة
واحدة؛ فاستمرار التبديد والاستهلاك الترفي تحت إشراف الدولة يعبران بوضوح عن
الهوية الاجتماعية للأخيرة؛ نفس الهوية التي منحتها فرصة قيادة المجتمع في فترة
محددة، واهتمامها بزيادة الفائض لتمويل الاستهلاك الترفي والتبديد بجانب برنامج الإصلاح
الاجتماعي المحدود والمستهدف تأميم الصراع الاجتماعي.
وخلال
الفترة تراوح معدل الادخار المحلي حول 12 –13%([47])
ومعدل الاستثمار حول 15%([48])
من الناتج الإجمالي، بينما بلغ معدل زيادة الأخير إبان الفترة 4-5% سنويًّا؛ أيْ أنَّ
هيكل توزيع الناتج بين الاستثمار والاستهلاك ظل ثابتا؛ بل وكان من الأمور الملفتة
للنظر أنَّ معدل زيادة الاستهلاك فاق في فترة معينة معدل زيادة الناتج؛ ففي أوائل
الستينات راح معدل زيادة الاستهلاك الكلي يتجاوز معدل النمو؛ فبلغت زيادة معدل
الاستهلاك في الفترة من 60 – 1965: 46.9% بينما ارتفع
الناتج الإجمالي بـ37 % حسب التقديرات الرسمية([49])،
وقدره معظم الباحثين بأقل من ذلك (26.5% حسب تقدير هانسن – ميد([50])).
وقامت
الحكومة بسد هذه الفجوة بالاقتراض من الخارج (كما لعبت معونات القمح الأمريكية دورًا
كبيرًا).
معدل
الاقتراض السنوي بالأسعار الجارية([51]):
ـــــــــــــــــــــــ
1948 –
1950 6 م. ج
1954 - 1956 32 م. ج
1960 –1963 67 م. ج
وبذلك
كان الاقتراض من الخارج يمول جزءًا من الاستثمار وجزءًا من الاستهلاك وهنا لعبت
الدولة دورًا حاسمًا، بالاعتماد على الخارج لا بالاعتماد على تنمية المصادر الأساسية
المحلية أساسًا، وبدلًا من تجميع الفائض الاحتمالي الذي يزيد بالتأكد كثيرًا عن
الفائض المتحقق كما يزيد عن معدلي الاستثمار والادخار! وهذه الحقيقة وحدها كافية
لنفي أيِّ دور ثوري للدولة الناصرية في عملية الإنماء، التي لا تعكس بالتالي أيَّ
عملية تحويل ثوري، خاصة أنَّ الإغراق في الديون لم يكن ينتظر نهاية؛ فمعدل
الاقتراض كان متزايدًا، كما انتهت خطط الدولة بشبح الكارثة الاقتصادية. ولذلك
نستطيع أنْ نقرر أنَّ دور الدولة في تجميع الفائض لم يؤد إلى زيادة حقيقية في معدل
التراكم العام ولا إلى تغيير جذري في مصادره الاجتماعية كما سبق أنْ رأينا، ويتأكد
هذا حين نتذكر أنَّ الضغوط الناجمة عن الديون وعجز ميزان المدفوعات قد عرقلت من
عملية الإنماء، حتى بلغ معدل النمو نسبة سلبية في 1967، أيْ أنَّ معدل التراكم
العام المرتفع نسبيًّا إبان خطة 60 – 1965 (بالنسبة للفترة السابقة عليها) عاد وانتكس بسرعة، خاصة مع
توقف المعونات الأمريكية.
ويعبر
معدل التراكم العام عن آليات عملية التراكم؛ فقد تمت عملية تعبئة الفائض عبر
جماعات من ملاك الأراضي ومقاولي الأنفار، والسماسرة، والمقاولين، والمغامرين من كل
صنف، وفي المقدمة كان الدور الخاص للبيروقراطيين، المرتبطين على نحو وثيق بهذه
الفئات ماديًّا وسياسيًّا، عوضًا عن ارتباطهم بجهاز دولة فاسد ويعمل بآليات متخلفة
ورجعية، وتنحصر طموحاته في مجرد البقاء وتسكين الشغيلة. ويرتبط كل هذا بشكل واضح
بميل قوي إلى الاستهلاك الترفي،
سواء بواسطة أفراد الطبقة المالكة أو رجال الدولة وبزيادة ضخمة في استهلاك دولة
بوليسية بطبيعتها، علاوة على عجز الطبقة المسيطرة عن استخدام ما يتبقى لديها من
فائض قابل للتراكم وتبديد أجزاء منه أثناء عملية الاستثمار نفسها.
وقد
ترافق مع وارتبط بمعدل تراكم الثروة المادية معدل ضئيل لنمو قوة العمل عمومًا:
معدل
نمو العمالـة([52]):
1937 –
1947 3.5%
1947 –1960 1 %
1960 –1970 2.6%
من
الواضح أنَّ نسبة 2.6% تنخفض بشكل حاسم إذا وضعنا في الاعتبار البطالة المقنعة التي
نمت بشدة([53])
أما
الحجم النسبي للعمالة المنتجة للفائض (شاملة قطاع التشييد) فانخفض كالتالي (من
العمالة ككل)([54]):
1959 –
1960 67.2 %
1965 –
1966 66.6%
1969 –
1970 65 %
1974 63.2%
وكان
معدل نمو العمالة يقل عن معدل تزايد السكان، وعن معدل نمو عرض قوة العمل:
نسبة
التشغيل بالنسبة لعرض قوة العمل([55])
:
1947
= 90 %
1960
= 73 %
1970
= 63 %
ومعنى
هذا هو تزايد نسبة البطالة السافرة.
وتوضح
لنا هذه المعطيات اتجاهات ومعدلات نمو العمالة ومدى عجز النظام الناصري عن استخدام
قوة العمل استخدامًا رشيدًا.
***************************
*
المنحى العام للتراكم:
تنطوي
المعدلات العامة للتراكم كما حللناها على حقيقة ستتضح في تحليل المنحى العام
لعملية التراكم؛ ألا وهيَ الميل إلى احتجاز عملية إنتاج الفائض وتبديد الجزء
الأكبر من المتحقق منه كميل أصيل للنظام القائم، مرتبط أشد الارتباط ببنيته
الاجتماعية، وتؤدي بنا هذه الحقيقة إلى توقع استمرار عملية التراكم في اتجاه تهميش
الإنتاج، والتبديد الاستهلاكي، وبالتالي محورة عملية التراكم حول هذا الميل الأصيل؛
فتتم مراكمة الفائض لتلبية الطلب الفعال: السوق العالمي (وامتداده: السوق المحلي
نفسه)، وهو الطلب على منتجات التصدير التي يتوقف معدل نموها على حالة السوق الخارجي
نفسه، وعلى وسائل الاستهلاك السائدة والتي تشمل كما هو مفهوم أشكالًا مختلفة
للتبديد والترف.
وهكذا
انطوت آليات تجميع الفائض وانفاقه على تبديد هائل، كما أنها تضمنت آليات عملية
التراكم نفسها، وبذلك تسير هذه الدائرة باستمرار معبرة بشكل خالص عن بنية التخلف.
ويمكننا
أنْ نحدد الميل العام للتراكم إذا قارنا بين توزيع الاستثمارات الكلية و معدلات
نمو رأس المال الثابت بين مختلف القطاعات. وفي بلد يدعي حكامه أنه بلد نام Developing ينبغي أنْ يتجه الميل العام للتراكم لصالح
القطاعات المنتجة للفائض، وفي حالة تعبئة الفائض المتاح – علاوة على الفائض الاحتمالي – لا ينبغي أنْ تحصل القطاعات الخدمية إلا على
الحد الأدنى الضروري لكي يوجه أقصى ما يمكن إلى عملية التراكم، بحيث يتحقق أعلى
معدل ممكن للتراكم – الإنتاج.
ويوضح
لنا الميل العام لعملية التراكم حركة بنية الاقتصاد ككل، ويحدد بالتالي وظيفة كل
قطاع في حركة البنية ودوره في امتصاص الفائض المولد والنشاط العام للطبقة التي
تمتلك الثروة والطابع العام لعملية النمو الاقتصادي، ويتكون لدينا من جراء تحليلنا
لمنحى عملية التراكم مدى عمق تحولات السياسة الاقتصادية والى أيِّ مدى بلغت
التحولات الاجتماعية.
والأرقام
الصماء لا تعد مفيدة بحد ذاتها مالم نتناولها على ضوء تحليل البنية الاقتصادية وآليات
عملها؛ لذا فإنَّ تحليل الميل العام للتراكم ما هو إلا وضع النقاط فوق الحروف
بالنسبة لحركة وآليات عمل الاقتصاد.
وقد
تلخصت الظاهرة التي وسمت الاقتصاد المصري الحديث في نمو الاقتصاد – كما أسلفنا – نموًا مركبًا؛ وفيما يتعلق بالتراكم اتسمت إعادة إنتاج التخلف
بالتوسع النسبي المتزايد للقطاع الاقتصادي غير المنتج للفائض – فضلًا بالطبع من اتساعه
المطلق – وسوف نورد فيما يلي بعض
المعطيات التي تقضي على الأوهام التي نشأت حول التنمية في العصر الناصري ودور
التراكم البيروقراطي المزعوم في بناء صرح صناعي.
والمسألة
تمت بصلة شبه مباشرة لشعار الانفتاح الإنتاجي المطروح اليوم في مواجهة الانفتاح
الاستهلاكي، باعتبار أنَّ الأول هو شعار الماضي السعيد.
الســـنة
|
معدل التراكـم %
|
الســـــنة
|
معدل التراكـم %
|
1945
|
-
0.2
|
1957
|
0.42
|
1946
|
3.6
|
1958
|
4.5
|
1947
|
7.3
|
1959
|
4.3
|
1948
|
12
|
1960
|
2.35
|
1949
|
10
|
1961
|
0.18
|
1950
|
10.3
|
1962
|
3.9
|
1951
|
8.8
|
1963
|
5.9
|
1952
|
6.5
|
1964
|
2.3
|
1953
|
3. 10
|
1965
|
2.7
|
1954
|
4.45
|
1966
|
3.75
|
1955
|
9.2
|
1967
|
1.5
|
1956
|
7
|
وقد
بلغ معدل ربح الصناعة ككل خلال الفترة من 45-1950 نحو 20% وارتفع بعد 1952 إلى نحو
35%.
أما
في الزراعة حيث كان معدل الربح أكثر ارتفاعًا بالنسبة للصناعة فقد بلغ معدل تراكم
رأس المال النسب التالية([57]):
السنة
|
معدل
التراكم %
|
السنة
|
معدل
التراكم %
|
1960
|
2.9
|
1952
|
0.1
|
1961
|
2.3
|
1953
|
1.6
|
1962
|
7.4
|
1954
|
2.3
|
1963
|
7.4
|
1955
|
3.2
|
1964
|
5.1
|
1956
|
2.2
|
1965
|
5.4
|
1957
|
1.6
|
1966
|
4.3
|
1958
|
1.5
|
1967
|
3.8
|
1959
|
2.7
|
واذا
افترضنا أنَّ معدل الربح في الزراعة 20% (نسبة بالغة التواضع) وبفرض ثبات التركيب
العضوي لرأس المال وتساوي معدل تراكم رأس المال الدائر Circulating والمتغير Variable مع معدل تراكم رأس المال الدائم المذكور أعلاه فإنَّ كمية ضخمة من
الفائض كانت تحول من الزراعة أو تبدد: 100 م ج سنويًّا زائد نسبة من مجموع رأس
المال الدائر والمتغير حسب نسبتهما إلى رأس المال الكلي، واذا طبقنا نفس الشروط
على الصناعة فيكون المحول والمبدد سنويًّا هو كالآتي([58]):
(بالإضافة إلى نسبة أخرى من مجموع رأس المال الدائر والمتغير).
السنة
|
القيمة المحولة
سنوياً
|
1945-1950
|
31.6
|
1952-1956
|
60.7
|
1957-1960
|
98.00
|
وللإنصاف
فمن المحتمل أنَّ جزءًا من الفائض الزراعي كان يستهلك بواسطة صغار الملاك (يملكون
35% من الأرض عام 1952 ارتفعت إلى 57% عام 1965) ولكنه يقل عن نسبة ما يملكونه من
الأرض حيث إنَّ رأس المال المستثمر في اراضيهم يقل كثيرًا عن ذلك المستثمر لدى
كبار الملاك بالنسبة للفدان الواحد. وتكون بالتالي كمية الفائض المتحقق ضئيلة. وبهذا
الشكل يكون استهلاك وتبديد رجال الأعمال وملاك الأراضي والدولة زائد استثماراتهم في
الأنشطة الوسيطة كبيرًا للغاية، يضاف إلى هذا أنَّ الدولة نفسها كانت تقوم بنفس
العمل: استهلاك ترفي واستثمار واسع خارج الإنتاج ونواصل توضيح الأمر كما يلي:
السنة
|
متوسط 52/53 -56/57
|
متوسط57/58 -59/60
|
متوسط59/60 -64/65
|
متوسط65/66 -66/67
|
الزراعة
|
11.4
|
14.9
|
23.4
|
21.8
|
الصناعة
|
23.8
|
25.7
|
26.6
|
27.4
|
الكهرباء
|
6
|
4
|
7.4
|
17.1
|
المواصلات
|
14.1
|
18.8
|
19.3
|
13.4
|
الإسكان
|
32.5
|
23.1
|
10.7
|
12.5
|
الخدمات
|
9.8
|
12.1
|
10
|
6.3
|
أخرى
|
1.8
|
1.4
|
2.6
|
1.5
|
والاكتفاء
بجداول توزيع الاستثمارات (مثل الجدول السابق) يعطي نتائج خادعة؛ فالجانب الأعظم
من الاستثمارات في الزراعة والصناعة لايعتبر في الحقيقة استثمارًا جديدًا لأنه
يوجه جزئيًّا للاحلال والتجديد؛ فاذا أخذنا هذا بالاعتبار نجد المفارقات التالية:
(رأس المال الدائم)
الآلات فقط
|
التراكم الصافي السنوي
|
الاستثمارات السنوية
|
السنة
|
12
|
19.6
|
26
|
1945-1950
|
13.6
|
25.3
|
43
|
1952-1956
|
8.2
|
8
|
53
|
1957-1960
|
6.3
|
7.6
|
60
|
1961-1965
|
التراكم في الزراعة وتربية الحيوان بأسعار سنة 1960
(رأس المال الدائم)-
( مليون
جنيه)([61])
التراكم الصافي السنوي
|
الاستثمارات السنوية
|
السنة
|
|||||
بدون
تربية الحيوان
|
الكلية
|
بدون تربية
الحيوان
|
الكلية
|
||||
5.3
|
6.4
|
5.6
|
32.3
|
1945-1950
|
|||
9.7
|
7.5
|
15.1
|
32.7
|
1951-1955
|
|||
11.3
|
13.1
|
19
|
32
|
1956-1960
|
|||
44.7
|
46
|
52
|
78
|
1961-1965
|
|||
واذا
ما طبقت هذه الطريقة في الحساب على بقية القطاعات لاتضحت لنا صورة أكثر واقعية
لاتجاهات التراكم بدلًا من الصورة الخادعة التي تعطيها الجداول التقليدية لتوزيع
الاستثمارات والناتج المحلي. والمعيار الذي كثيرًا مايستخدم، وهو دور القطاعات في تحقيق القيمة
المضافة هو الآخر معيار غير دقيق لأسباب
متعددة([62])،
إلا أنه مع ذلك يبين اتجاها واضحًا لنمو دور القطاعات الثالثية:
أنصبة
القطاعات في تحقيق الناتج المحلي الإجمالي %([63]):
السنة
|
زراعة
|
صناعة
وكهرباء
|
تشييد
|
مواصلات
|
تجارة
|
إسكان
|
مرافق
|
خدمات
|
|||||||
55-1956
|
34.4
|
13.8
|
2.3
|
6.00
|
11.00
|
7.3
|
-
|
21.1
|
|||||||
60-1961
|
31.5
|
20.9
|
2.8
|
7.3
|
11.4
|
6.4
|
0.5
|
19.9
|
|||||||
64-1965
|
29.7
|
22.7
|
4.7
|
8.9
|
8.6
|
3.8
|
0.4
|
21.1
|
|||||||
67-1968
|
29.00
|
22.00
|
3.8
|
5.5
|
8.3
|
5.5
|
0.5
|
24.2
|
وتشير
الفجوة المذكورة فيما سبق بين معدل التراكم في الزراعة والصناعة ومعدل الربح إلى أنَّ
الجزء الأكبر من الفائض يتجه إلى القطاعات غير المنتجة. وهذا التفاوت يعطينا فكرة
واضحة إلى حد بعيد عن منحى عملية التراكم، وعن الدور الفعلي لقطاع الإنتاج في
عملية التراكم؛ فهو ليس نقطة تجميع لرؤوس الأموال أكثر منه مصدرًا للفائض الذي
يدور معظمه خارج عملية الإنتاج أو يبدد. وفي النهاية تصبح عملية إعادة الإنتاج إعادة
إنتاج موسعة لبناء اقتصادي مختل (غير متوازن)، يقوم فيه الإنتاج موضوعيًّا بدور
الحلقة الوسيطة في عملية الدوران. ويبدو رأس المال الصناعي كمجرد جزء من رأس المال
التجاري (الذي يشمل كل الأنشطة الوسيطة بما فيها تأجير العقارات والأراضي).
والحقيقة
النهائية لعملية التراكم في مصر الناصرية هيَ أنَّ المصب النهائي لها هو القطاعات
الثالثية، وقد نتجت هذه المحصلة – ويعاد إنتاجها – من الدور الموضوعي للاقتصاد المصري المتخلف في
السوق العالمي، كمجرد سوق داخلي لرأس المال الصناعي في البلدان الرأسمالية. وهو
الدور الذي يفرض على الطبقة المسيطرة أنْ تكون – من الناحية الجوهرية – مجرد وسيط بين البلدان الرأسمالية وقوة العمل المحلية، مما يسمها في
كليتها بطابع تجاري شامل، ويكون نشاطها الإنتاجي عقدة أو حلقة وسيطة في نشاطها التجاري
– الخدمي. ويفرض الطابع التجاري
– التخارجي للاقتصاد على
الطبقة المسيطرة توجيه جانب متعاظم من الفائض إلى القطاعات غير المنتجة للفائض، سواء
بالتبديد أو باستثمار في أنشطة وسيطة أو حتى مخربة بشكل مباشر؛ فالدور الموضوعي
للطبقة يعرقل توسع السوق المحلية، مما يؤدي – منطقيًّا – إلى
المنحى المذكور للتراكم.
والنمو
الكبير لقطاع الخدمات – إذا لم
يكن مرتكزًا على نمو ملائم في القطاع المنتج يكون نموا سرطانيًّا، أيْ يتم على
حساب عملية الإنتاج الاحتمالية وقد شهدت مصر الناصرية هذا النوع من النمو. واذا
كانت سياسة الإنماء نفسها (إنماء التخلف) تعد مسئولة بدرجة أو بأخرى عن هذه الظاهرة
فإنَّ إدارة النظام تتحمل نصيبها من هذه المسئولية. فعلي سبيل المثال كان انماء
قطاع الخدمات مقصودًا لخدمة الأغراض السياسية للدولة، وقد أكدت مختلف الأبحاث أنَّ
اتجاه نصف الزيادة في الدخل المحلي إلى قطاع الخدمات وحده يعود أساسًا إلى زيادة
عدد الموظفين. وقد ترافق بالطبع مع هذا الميل لتراكم رأس المال الدائم ميل لتراكم
البطالة والعمالة الزائدة والعمل في الأنشطة الوسيطة على نطاق واسع للغاية.
دور
الدولة في تحديد الاتجاه العام للتراكم
تبرز
المعطيات السابقة فكرة محددة؛ فالدولة لم تغير المنحى العام للتراكم ولكنها قامت
ببعض التعديلات الجزئية أهمها على الإطلاق تحويل التراكم من قطاع الإسكان إلى السد
العالي وتوسيع وتعميق قناة السويس. وفي مجال الصناعة ضغطت الدولة وساعدت – كدور بديل عن دور رأس المال الأجنبي الخاص – على تحويل التراكم جزئيًّا من الصناعة
الاستهلاكية التقليدية إلى صناعة السلع المعمرة والصناعات الوسيطة. والدور المفتقد
والذي نعتقد أنه كان يمكن أنْ يحمل معنى جوهريًّا، هو تحويل صناعة السلع التجهيزية
إلى مركز جذب لرأس المال، ذلك الذي يتطلب اصلًا محورة العملية الاقتصادية حول قطاع
قائد فعال. والدور المميز الذي لعبته الدولة في رأينا كان هو ضرب نشاط بناء
المساكن لأنَّه الفعل الوحيد الذي كان مضادًا للميل الطبيعي لرأس المال حتى في
حالة دخول رؤوس أموال أجنبية وفي ظل أيِّ ظروف للنظام الاجتماعي القائم، حيث إنَّ
هذه السلع، أيْ المساكن، تمتعت بطلب قوي بسبب زيادة عدد المهاجرين إلى المدن بعد
نهاية الحرب. وكان قرار الناصرية بضرب هذا النشاط بديلًا عن عجزها عن تجميع الفائض
الاجتماعي لتوجيهه الوجهة التي رأت أنها ضرورية؛ فهذا الدور لم يكن دورًا حميدًا
يستحق الثناء – كما ذهب البعض – وكان من الممكن أنْ يكون له معنى تقدميٌ لو أنَّ
هذه القيود وضعت لصالح عملية تنمية فعالة قادرة على العطاء فيما بعد، ليصبح من
الممكن حل مشكلة الإسكان التالية.
وأخيرًا
لم تكن عملية التراكم تتم في شكل رأسمالي خالص؛ فعملية النمو كانت عملية نمو
للتخلف حيث كان نمو الصناعة يساوي نمو ظاهرة التاجر الصناعي. والحقيقة أنَّ ظاهرة
التاجر الصناعي اصبحت في الفترة الناصرية أكثر تبلورًا، أو بمعنى أفضل أكثر مباشرة.
إذ تمت تصفية القطاع الأكبر من رجال الصناعة، وبذلك أزيلت تلك الغلالة الرقيقة التي
أخفت حقيقة الرأسمالية الصناعية المصرية؛ إذ أصبح القطاع الصناعي يلعب على نحو
مكشوف ومباشر دور المشاغل الملكية التي أشار اليها دوب بخصوص أوروبا؛
فقد أصبح في يد رجال الدولة – رجال الأعمال مجرد بقرة حلوب يتم اعتصارها
ومن خلالها يتم أيضًا اعتصار صغار الملاك في الريف بالذات (أسعار التوريد
الإجبارية ـ رفع أسعار السلع الصناعية..)، وتم كل هذا بالنهب المباشر (اختلاس..)
والغش والتلاعبات المالية المختلفة مثل المضاربة … إلخ. ومن الطريف أنَّ القوانين الناصرية سمحت أكثر
ما سمحت بالنشاط التجاري والسمسرة والمضاربة وتأجير العقارات … إلخ، بينما حجمت دور رجل
الصناعة؛ مما حول مجمل رجال الأعمال إلى مجرد وسطاء من كل صنف، وهو الأمر الذي
بلور إلى أقصى حد ظاهرة التاجر الصناعي؛ خصوصا أنَّ القطاع الصناعي قد بات ملكًا
للطبقة المسيطرة ككل بما فيها رجال الدولة. وبالإضافة إلى ذلك استمر وجود ونمو نمط
الإنتاج الصغير، كما استمرت آليات عملية التراكم تتضمن في جوهرها أشكالًا غير رأسمالية
(النهب من خلال التبادل لفائض لا ينتجه العمل المأجور..).
يتلخص
الاستنتاج الرئيسي من العرض السابق في أنَّ أساليب التبديد الناصرية لم تصب - كما
يتخيل الأستاذ صلاح العمروسي - في تنمية قوى الإنتاج؛ بل صبت في إعادة إنتاج موسعة،
لكل من الفائض وأساليب تبديده. وعلى عكس تصوره؛ فالتطوير (الذي لا مفر منه في
اقتصاد حديث) النسبي لقوى الإنتاج كان يؤدي إلى تدفق الفائض إلى الأنشطة غير
المنتجه للفائض. إنها إذن طفيلية من النوع الذي وصف به النظام في عصر الانفتاح.
واذا
حاولنا عمل مقارنة صريحة بين الفترة الحالية والفترة الناصرية، نجد أنَّ كافة
مظاهر الطفيلية الحالية، والتي رصدها العمروسي، كانت موجودة وبقوة خلال الفترة
السابقة:
1-
بالنسبة
لظاهرة تدهور نصيب القطاعات السلعية في تحقيق الناتج الإجمالي:
نصيب الزراعة والصناعة والكهرباء من الناتج المحلي
الإجمالي بنفقات عوامل الإنتاج (%)([64])
السنة
|
النسبة المئوية
|
1937
|
55
|
52 / 1953
|
50.9
|
56 / 1957
|
50.8
|
59 / 1960
|
52.2
|
64 / 1965
|
50.2
|
69 / 1970
|
48.3
|
2- تضخم تكاليف الاستثمارات وتشوه هيكل توزيعها على عناصرها
العينية المختلفة، وضرب الكاتب مثالا: بلغ الإنفاق على الآلات عام 1978: 33.1 % من
الاستثمارات، 51.2% خصص للمباني والأرض والأثاث، 10.5% للنقل (ص 105). فاذا قارنا
بالعقود السابقة لوجدنا ما يأتي:
في
الفترة من 1935 – 1952 بلغ نصيب المباني
من رأس المال الدائم في الصناعة نحو 46.5%، رغم توقف استيراد الآلات أثناء فترة
الحرب العالمية الثانية، وعلمًا بأن هذه النسبة تمثل التراكم الصافي، أيْ القيمة
الفعلية لرأس المال بأسعار سنة 1960، و في الفترة من 1952 – 1967 بلغت النسبة أكثر
بقليل من 50%. والواضح أنَّ نصيب المباني كان يزداد طوال هذه الفترة. ولم تتميز
الحقبة الانفتاحية وحدها بهذه الظاهرة؛ بل واذا عدنا إلى الوراء؛ الفترة من 1920
حتى 1935، لوجدنا أنَّ هذه النسبة كانت أكثر ارتفاعًا: 65% وفي الفترة من 1900 – 1920 كانت نحو 66%؛ ونحن نرد هذا الارتفاع
الكبير في تلك الفترات المبكرة إلى ضخامة دور الطاقة اليدوية في الصناعة([65]).
3-
رصد الكاتب ظاهرة أخرى: نمو الجهاز البيروقراطي، متناسيًا أنَّ هذه الظاهرة بلغت
أوجها خلال الفترة الناصرية، كما أنها سابقة عليها كذلك([66])،
ويُعزى نمو نصيب قطاع الخدمات من الدخل في الستينات إلى زيادة التشغيل في الحكومة أساسًا([67]).
وهو أمر آخر أغفله الكاتب.
4-
كذلك الطاقة العاطلة في الصناعة التحويلية،
لم تتغير النسبة منذ الناصرية؛ 30% خلال الستينات([68])،
وقدرت رسميًّا بـ 10-15%([69])،
وقبل ذلك شهدت الصناعة المصرية طاقة عاطلة ضخمة، خلال الثلاثينات ولم نستطع التوصل
إلى معلومات مباشرة حول هذا الأمر، إلا أنَّ حجم هذه الطاقة يتضح إلى حد كبير إذا
عرفنا أنَّ الصناعة رفعت إنتاجها بنسبة 40% خلال الحرب الثانية([70])
بالرغم من تآكل رأس المال الدائم([71]).
وشهدت الفترة من 46-1947 انتعاشًا مفاجئًا تلته فترة ركود طويلة، استمرت حتى منتصف
الخمسينات، وسرعان ما عاد الركود المزمن بعد سنوات قليلة من الانتعاش المحدود.
ومن
الملاحظ أنَّ ركود الصناعة الحديثة هو ظاهرة عامة في العالم الثالث. فتصل الطاقة
العاطلة في هذه البلاد – في
الأحوال العادية – إلى
نسبة عالية جدًّا (تصل إلى أكثر من 50%)([72])،
وهيَ ظاهرة ترجع إلى طابع توجه الصناعة نفسه؛ إحلال الواردات أو الصناعة التصديرية.
إنَّ
الكثير من مظاهر طفيلية النظام في المرحلة الحالية كانت موجودة دائمًا في مصر
الحديثة، وبشكل خاص في العهد الناصري. ومثلما يفشل النظام الحالي فشلت الناصرية في كافة خططها الاقتصادية:
خطة 57-1960، 1960 – 1965، ولم تستطيع أنْ تبدأ اصلًا في تنفيذ
خطة 65 - 1970([73]).
و
إذا واصلنا المقارنة فسوف نجد أنَّ النظام الحالي قد طور القوى المنتجة بشكل نسبي أيضًا!
على الطريقة الناصرية: صناعات حربية متطورة، (طائرات، مدفعية، ناقلات)، مخابز آلية،
مواد بناء، مشروع الصرف المغطى، مصنع الصلب الجديد؛ بخلاف التطور الملحوظ الذي
شهدته صناعة البناء، والمزارع الحديثة.. إلخ. ومن المتوقع أنْ يقام مفاعل نووي
حقيقي خلال السنوات القادمة، ومن الممكن بالطبع أنْ تقام عديد من الصناعات الكبرى
بمشاركة مباشرة مع رأس المال الأمريكي والإسرائيلي.. فاذا كانت المسألة تتلخص في
عدد من المصانع؛ فلا تكون المقارنة دائمًا في صالح الناصرية.. وحتى لو كانت عملية
تطوير الصناعة قد تجمدت لعدة سنوات، فهذا في حد ذاته لا يعني شيئًا بالنسبة إلى
القضية التي نحللها (إذ حدث هذا أكثر من مرة في مصر الحديثة).
ونشير
أخيرًا إلى ظاهرة ذات مغزى: إنَّ الطابع الطفيلي العام للنظام في المرحلة الحالية
يفوق طابعة الطفيلي في المراحل السابقة، ومن الواضح أنَّ أنصار الناصرية يتخذون من
هذه الظاهرة دليلا على ثورية الناصرية، واذا أعدنا النظر إلى المسألة حسب تحليلنا
السابق، نجد أنَّ هذه الظاهرة تنطبق على الناصرية نفسها؛ فهيَ أشد طفيلية من
الفترة السابقة عليها (20-52)، ويدل هذا على التفاقم المتواصل لتناقضات نمو التخلف.
ويمكننا في النهاية أنْ نحدد سمة جوهرية لنمو التخلف في مصر: إنَّ ميل النظام إلى
تبديد الفائض يفوق ميله إلى إعادة إنتاجه. ويفسر لنا هذا التناقض الطابع الحالي للأزمة
الاقتصادية، الدائمة والمتفاقمة دومًا، وهو تناقض يختلف عن طبيعة التناقض في
النظام الرأسمالي: القدرة على الإنتاج تفوق القدرة على الاستهلاك، ويدل هذا الفرق
على طابع طفيلي أكثر أصالة للاقتصاد المصري الحديث؛ فالاقتصاد الرأسمالي يتميز
بميل أصيل إلى تطوير القوى المنتجة، وهو يميل في مرحلة هبوطه التاريخي إلى عرقلة
هذه العملية، بينما يميل النمو المركب؛ أيْ التخلف إلى عرقلة تطور القوى المنتجة دائمًا،
ومنذ لحظة بدء تكوينه؛ فالطفيلية صفة لصيقة بالرأسمالية في مرحلة معينة، ولكنها
لصيقة بالتخلف على نحو مطلق..
**************************
([8]) طرح
محمد عبد الشفيع (الطليعة، مارس 1984، ونوفمبر 1986) أفكارًا مختلفة عن وجهتي
النظر المذكورتين. ورغم خلافنا معه –
كما سنوضح – إلا أننا نرى أنه قد وضع أساسًا لرؤية
ثالثة للمسألة، هي التي سنعرضها هنا بشكل كامل (بالطريقة التي نفهمها بها). وتجد
هذه الرؤية مع ذلك جذورًا، سنوضحها أيضًا، في أطروحات بعض ممثلي الاتجاهين الآخرين،
خاصة لدى محمود عبد الفضيل في مقاله في: قضايا فكرية، العدد الرابع، ومحمود
دويدار، وصلاح العمروسي.
([12]) ورغم هذا لا ننكر إمكانية وجود فئات طفيلية محددة – بالمعنى الذي حددناه لهذه الكلمة – ضمن الطبقة المسيطرة، وهو أمر يبدو وأن العمروسي
يرفضه مبدئيًّا. فمن الأمور الممكن تصورها أنْ تتكون فئات معينة ضمن الطبقة
المسيطرة تعرقل عمل هذه الأخيرة إبان فترة صعودها التاريخي. وهذا الأمر واضح
تمامًا في تاريخ الرأسمالية في أوروبا؛ فشعار مقاومة الاحتكارات قديم جدًّا، ومن
المعروف أنَّ الاحتكارات الصناعية الضخمة لعبت دورًا معرقلا للتطور التقني في غرب
اوربا إبان القرن السابع عشر بل ووقفت هذه الفئة من البورجوازيين ضد الثورة
الفرنسية وتم حل المشاغل الملكية الضخمة في إنجلترا بعد ثورتها. كما أنه من الأمور
المعروفة أنَّ طبقة كبار ملاك الأراضي (ونقصد تلك المنتمية للنظام الرأسمالي وليس
غيره) في أوروبا قد لعبت في فترة ما دورًا طفيليًّا معيقًا لتطور النظام الذي
انتمت اليه. فكانت تشكل طبقة طفيلية محددة تسبب مثلًا في عرقلة نمو الصناعة الإنجليزية
قبل إلغاء قانون القمح بسبب ضخامة الربع الذي كانت تحصل عليه. ويُعد هذا الشكل في
الحصول على الدخل أساسًا موضوعيًّا للاستهلاك الترفي حيث إنَّ التوسع في الملكية
العقارية ليس ضروريًّا للاستمرار في تحصيل الريع، عكس الحال بالنسبة للربح
الرأسمالي. وتتضح أهمية هذه الإعاقة إذا تذكرنا الدور الذي لعبه انخفاض أسعار
المحاصيل الزراعية الأمريكية الشمالية في القرن الـ19 بسبب غياب ريع الأرض تقريبًا
في دفع النمو الرأسمالي. ولهذا السبب دعا بعض المفكرين البورجوازيين في أوروبا في
القرن الـ19 إلى تأميم الأراضي وتوزيعها على الفلاحين (تم هذا مثلًا في فرنسا،
واليابان فيما بعد). وقد يتخيل أصحاب نظرية الفئة الطفيلية أنَّ هذه الأمثلة تخدم
فكرتهم فهيَ توضح إمكانية وجود فئة طفيلية محددة في المجتمع الرأسمالي بل و إبان
فترة صعوده التاريخي. والمسألة كما نرى هيَ حقيقة لا تحمل أيَّ لبس، إلا أنَّ
الوضع في مصر يختلف كثيرًا.. فأين هيَ هذه الرأسمالية الطفيلية والرأسمالية الثورية؟
ولنقارن بين انتصار الرأسمالية الإنجليزية على كبار ملاك الأراضي في منتصف القرن
الـ19 بإلغاء قانون القمح، وتضامن كبار رجال الصناعة في مصر مع كبار ملاك الأراضي للإبقاء
على قانون القطن المشابه كثيرًا القانون القمح الإنجليزي في مغزاه.. يتضمن المثال
الأخير أنَّ هذا الجناح الطفيلي كان يتشكل من طبقة حقيقية تنتمي للنظام الرأسمالي
لها وضع خاص وفريد؛ فهيَ جزء من النظام الرأسمالي (الصاعد في ذلك الوقت)، إلا أنها
الجزء الرجعي فيه، والرجعي بالضرورة ودائمًا. وهذه الطبقة هي عالة على نفس النظام
الذي تنتمي إليه في فترة صعوده. ويتمثل أخيرًا وضعها الفريد في كونها لا تنتمي
للنظام البورجوازي إلا من حيث إنها عالة عليه بالذات، ممثلة لشبح الإقطاع البغيض،
دون أنْ تحقق بذاتها أيَّ صعود تاريخي، بل شكلت عائقًا أمام الرأسمالية. أما المثل
الأول فيوضح بجلاء إمكانية وجود فئة طفيلية محددة المعالم ضمن الطبقة المسيطرة،
إلا أنها وجدت في أوروبا مقابل نقيضها: الرأسمالية الثورية ممثلة في أصحاب
المشاريع الصغيرة غير الاحتكارية، والتي لعبت الدور الأساسي في تطوير قوى الإنتاج
بل واستطاعت تصفية الاحتكارات في بلدان غرب اوربا فاتحة عصر المنافسة الحرة على
مصراعيه.
الاقتصاد السياسي للتنمية، ترجمة أحمد فؤاد بلبع، دار
القلم، القاهرة 1967، صـ 84.
([35]) لنقارن
بين مصر وأوروبا في فترة صعود الرأسمالية: في أوروبا لعبت الرأسمالية دورًا
مباشرًا في تنظيم الإنتاج والإشراف المباشر على إقامة الصناعات وتطويرها وخلق
الترابط بين فروع الإنتاج، أما في مصر فالنشاط الأساسي لرجال الأعمال هو استيراد
المصانع، استيراد التكنولوجيا، الإدارة المالية – من بعيد –
لوحدات الإنتاج الصغيرة، التجارة، المقاولات.. إلخ أيْ أنهم يتعاملون مع النشاط
الإنتاجي كمجرد تجار – مقاولين لا كرجال صناعة حقيقيين.
وهذا الفرق الدقيق يوضح لنا مغزى وصف ماركس لـ (المنتج)
الذي يصبح تاجرًا ورأسماليًّا (بالطريق الثوري حقًّا) مقابل تحول التاجر إلى تاجر
صناعي بتمويل الصناعة وإدارتها من الخارج، ذلك أنه في الحالة الأولى يكون الرأسمالي
الصناعي الحقيقي. ونسجل ملحوظة أخرى؛ أنَّ مصر لا تخلو من المنظمين الصناعيين خاصة
في الصناعات المتوسطة الحجم، الذين يعملون بكل اجتهاد على تنظيم وتشغيل مصانعهم، إلا
أنهم يظلون مع ذلك مجرد تجار صناعيين، ذلك أنَّ فرقًا مهمًّا يظل قائمًا
بينهم وبين نظرائهم في أوروبا: ففي أوروبا لعبت المشاريع الصغيرة الدور الأكبر في
تطوير القوى المنتجة بينما لعبت في مصر دورًا معاكسًا تمامًا ومعاديًا للتطور إلى أقصى
حد، بل إنها تكتفي بتحقيق الأرباح في حماية الاحتكارات الضخمة، بل وتعمل أساسًا في
خدمة الأخيرة. كما أنها تعتمد كلية تقريبًا على شراء التكنولوجيا والمعدات من
الخارج.
([37]) انظر
بهذا الخصوص: نبيل عبد الفتاح، المصحف والسيف - صراع الدين والدولة في مصر، مكتبة
مدبولي – القاهرة 1984. كما طرح نفس القضية احمد صادق سعد في محاضرة ألقاها
بكلية الآداب (قسم الاجتماع) – جامعة عين شمس في 26/4/1987
بعنوان: (آثار المجتمع الماضي في المجتمع الحاضر في مصر) حيث أضاف فكرة ازدواج
الوجود الاجتماعي عمومًا في مصر الحديثة؛ قطاع قديم شرقي وقطاع حديث، على صعيد
الفكر والتنظيم والاقتصاد، واستطاع أنْ يرصد الكثير من مظاهر وجود (النظام الشرقي)
في مصر المعاصرة مختلطًا بأشكال المجتمع الحديث.
([39]) من السهل
جدًّا على المرء أنْ يتخيل موقف رجل الأعمال من آلاته إذا تبين أنه يستطيع أنْ
يزيد ربحه باستمرار، وما يعطيه هذه الميزة هو وجود قوة شرائية مرنة جدًّا، تنمو
بفعل التحويلات الخارجية أو نمو نمط الإنتاج الصغير، بالإضافة إلى تخصص رجل الأعمال
هذا في إنتاج سلع لا يتمتع الطلب عليها بمرونة كبيرة (وهيَ إحدى خواص الصناعة المصرية)
وبوضع احتكاري ممتاز وبدعم الدولة الكبير.
ونجد فكرة مماثلة متضمنة في (رأس المال) حيث حلل ماركس
الدور التاريخي لرأس المال التجاري، مشيرًا للفرق بين دوره الرأسمالي ودوره قبل
الرأسمالي: "في المراحل قبل الرأسمالية هيمنت التجارة على الصناعة أما في
المجتمع الحديث (يقصد الرأسمالي) فان العكس هو الصحيح".
Capital,
Vol, III, PART IV, CHAPTER XX, P. 330, Moscow, 1974.
"داخل
الإنتاج الرأسمالي ينتزع رأس المال التجاري من وجوده المستقل السابق إلى مرحلة
خاصة في توظيف رأس المال".. ibid,p. 327
ونحيل القارئ كذلك إلى: موريس دوب، المرجع السابق، الفصل
الرابع.
([42]) هذا العرض
هو جزء من دراسة عادل: (الناصرية في الثورة المضادة) وهيَ منشورة في: https://www.4shared.com/office/NHArwsbj/___.html
([43]) قدم
سمير رضوان دراسة ضخمة بعنوان:Capital Formation In Egyption Industry and
Agriculture, 1884 –1967, London, 1974.
ولكنه لم يقدم تحليلًا وافيًا لآليات وتوجهات عملية
التراكم ككل.
1960 1.23 % 2.38 %
1966 1.22 % 2.54 %
1976 2.6 % 2.31 %
عبد النبي الطوخي، بحث مقدم إلى المؤتمر العلمي الثالث للاقتصاديين المصريين،
القاهرة 23 – 25
مارس 1978.
([64]) حُسبت
على أساس معطيات عيسوي، مابرو – رضوان، أوبريان. كما قدر هانسن
ومرزوق هذه النسبة كما يلي:
1937
– 1939 57 % (بالأسعار الجارية للعوامل – ناتج محلي).
1945 55% (بأسعار 54 – ناتج محلي ).
1954 44% (بأسعار 54 – ناتج محلي ).
1962 –
1963 44%
(وبأسعار 53 – 1954 (ناتج قومي اجمالي)
. op. cit
([65]) حُسبت
هذه النسب على أساس معطيات سمير رضوان، وهيَ لا تشمل النقل والتخزين والكهرباء
والتشييد، كما حُسبت على أساس أسعار 1960.
والنسب التي أوردناها لايمكن مقارنتها بالنسب
التي أوردها الكاتب لأننا حسبناها على أساس رأس المال الدائم وحده وليس مجموع
الاستثمارات وهيَ تبين حقيقة أكيدة أردنا توضيحها: تزايد نصيب المباني في الصناعة
التحويلية خلال العهد الناصري.
([66]) بدأت
هذه الظاهرة في مصر الحديثة منذ تحقيق الاستقلال – الجزئي في 1923. طارق البشري –
المرجع السابق ص 252. أما خلال الفترة من 1952 – 66 / 1967 فقد بلغت زيادة
الموظفين نحو 300%
وارتفعت نسبة حصتهم من الدخل القومي من 8.6
إلى 13%، مابرو – المرجع السابق، ص 339.
1592 41.9
1955 44.9
1960 35.6
1965 33.1
1966 36.7
وجديد
بالملاحظة أنَّ هذه النسب تزيد كثيرًا على نسب الطاقة المعطلة في البلدان
الرأسمالية عدا أوقات الكساد الحاد حيث بلغت الطاقة العاطلة أعلى معدل لها خلال
الكساد العظيم وتجاوزت رقم الـ 50% عام 1932. انظر بول باران – بول سويزي: رأس
المال الاحتكاري، ترجمة حسين فهمي مصطفى، ص251.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق