دشن الاعتداء الوحشي على
كنيسة الإسكندرية مرحلة جديدة من الصدامات الطائفية في مصر، فلم يحدث من قبل مثل
هذا الهجوم المخطط جيدا حتى في زمن انتشار الجماعات الإسلامية المسلحة في
التسعينات والتي لم تحاول تفجير الكنائس رغم استطاعتها ذلك، والذي ربما استخدمت
فيه تكنولوجيا التفجير عن بعد أو التفجير الانتحاري. ويبدو أن الصراع الطائفي قد
دخل مرحلة جديدة أكثر شراسة.
ورغم تفكك المنظمات الإسلامية
المسلحة الكبرى في مصر ازدادت في الآونة الأخيرة المعارك الطائفية.
ومن الغريب أن أغلب منظمات
المجتمع المدني لم تفكر في طرح تحليل موضوعي للجريمة-المأساة، بل اهتم الجميع – تقريبا
- بإظهار المودة والتضامن مع الضحايا وادعاء الوحدة الوطنية وتبادل المجاملات
وإصدار بيانات الإدانة للمعتدين، واكتفى معظم الممتعضين من الحادث بإدانة عجز الدولة عن
حماية المسيحيين وطالبوا بإصدار قانون موحد لبناء دور العبادة، ومن الغريب أن
ناشطين علمانيين رفعوا شعارا طائفيا: وحدة الهلال والصليب، كما رُفع شعار نصف ديني
نصف علماني: الدين لله والوطن للجميع.
ولم يتساءل أحد هل حرية
بناء الكنائس سيحل المشكلة الطائفية؟؟ أو هل يكفي؟
وهل الاعتداء كان بسبب عدم صدور القانون المذكور؟؟ وهل
الاعتداء ليس له أي تعليل سوى رغبة البعض في ممارسة الإرهاب؟ ومن الملاحظ أن رجال
الكنيسة قد اهتموا أكثر ما اهتموا بدعوة الدولة لحماية الكنائس وإصدار قانون موحد
لدور العبادة، والمقصود تحرير عملية بناء الكنائس من القيود الحالية، ويترجم هذا
بحمايتهم وتوسيع سلطتهم لا أكثر.
إذا استعرضنا تطور
الاحتقان الطائفي في مصرعلى مدى الشهور الماضية أنه تطور كالآتي:
- احتجاز السيدة كاميليا شحاتة[1] دشن تصاعدا حادا
ومتسارعا للاحتقان الطائفي، ضاعف منه تصلب موقف الكنيسة وعدم استعدادها لإظهار أية
مرونة، بل وراح رجالها يتحدون الرأي العام تارة ويحاولون خداعه تارة أخرى مع صمت
حكومي متعمد، بل إن الحكومة هي التي اعتقلت السيدة وسلمتها للكنيسة.
- خرجت مظاهرات للسلفيين تندد باحتجاز السيدة
كاميليا وغيرها وتهين رجال الكنيسة وتهددهم، ومن منطلقات طائفية بزعم أن السيدتين
"أسيرتين" مسلمتين لدى الكنيسة المدعومة – زعما - من الدولة. وفي الوقت
نفسه تقاعست أغلبية منظمات المجتمع المدني عن إثارة الموضوع تحرجا من إثارة
المسيحيين المضطهدين.
- جاملت الدولة الكنيسة حين رفضت تطبيق حكم المحكمة
بتمكين المسيحيين المطلقين من الزواج الثاني، مما أثار الرأي العام واستفزه وأشعره
بأن الكنيسة فوق القانون، بينما تتعامل الدولة –زعما - بقسوة مع المعارضين
الإسلاميين، رغم أن الدولة تترك جماعة الإخوان غير الشرعية تعمل علنا!
- صدرت تصريحات مستفزة للأنبا بيشوي يصف المسلمين
بالضيوف على مسيحيي مصر مما يفهم منه أنه
قد آن أوان رحيلهم. وكانت مراوغة البابا حين علق على هذا التصريح أكثر إثارة مما
يعني أن فكرة تهميش أو طرد 70 مليون مصري هي فكرة موجودة لدى بعض رجال الكنيسة على
الأقل . والكثيرون من المسيحيين العاديين حين يتكلمون يصفون أنفسهم بأنهم أصل
البلد أو أصحاب البلد الأصليين.. إلخ مما يؤكد وجود هذه الفكرة على الأقل في بعض
الأوساط المسيحية.
- قام قليل من الناشطين المسيحيين وأقل منهم من
المسلمين بتقديم بلاغات للنائب العام للتحقيق في موضوع كاميليا دون جدوى، وحاول
بعضهم محاكمة الأنبا بيشوي كنسيا دون أي استجابة من البابا شنودة.
- قام بعض السلفيين الإسلاميين وغيرهم بالصيد في
الماء العكر بادعاء وجود أسلحة بالكنائس والأديرة، مما أجج الرأي العام المسلم.
- تدخلت الكنيسة في انتخابات البرلمان بترشيح بعض
المسيحيين ودعوة أتباعها بانتخابهم (بغض النظر عن البرامج التي يحملونها) مما زاد
من الشحن الطائفي. والغريب أن جمهور المسيحي العادي كان مهتما باختيار هؤلاء
المرشحين رغم انتماءاتهم السياسية المختلفة!!
- استغل تنظيم القاعدة الموقف وراح يهدد بالانتقام
من الكنيسة مالم يتم الإفراج عن وفاء قسطنطين وكاميليا المحتجزتين لدى الكنيسة. ونفذ
"بروفة" في كنيسة عراقية. وبعد حادث الإسكندرية أعلن مسؤوليته عنه.
وحتى لو لم ينفذ تنظيم
القاعدة تهديده فكان من الممكن أن يرتكب الجريمة المذكورة تنظيم مصري. وبالتأكيد
أن من نفذ العملية هم مصريون ينتمون للقاعدة إما تنظيميا أو فكريا، لأنه يصعب أن
يقوم غيرمصريين باختراق الأمن في أعماق البلاد وتنفيذ مثل هذه العملية الكبرى.
أما الكلام الحكومي
المعتاد والذي ردده البعض من خارج الحكومة عن مسؤولية جهات خارجية فيعني أن "مصر بخير" ولكن هناك
"قلة مندسة" من الخارج تزعزع أمنها. وهذا الادعاء المضحك يتسم بالتفاهة
والغباء لأن عوامل الانفجار الطائفي موجودة ومتصاعدة.
يمكن أن نلخص عوامل
التصاعد في الوضع الطائفي في مصر في :
- استمرار التمييز ضد المسيحيين على كثير من
الأصعدة: حرية الاعتقاد، وحرية العبادة (أي حق بناء الكنائس بدون تعقيدات)، وعدم
معاقبة المعتدين عليهم بحرق بيوتهم وقتل بعضهم والاستيلاء على ممتلكاتهم وإطلاق
سراح المعتدين في أغلب الأحوال.. مما ساعد على نمو الخطاب المسيحي المتعصب، وإصدار
التصريحات المتشنجة من جانب بعض رجال الكنيسة ومسيحيي الخارج، وزيادة ميل الجمهور
المسيحي إلى التقوقع والالتفاف حول الكهنة المتعصبين ضيقي الأفق والذين لا يهمهم
سوى مصالحهم الخاصة.
- رد فعل الكنيسة وردود أفعال معظم الناشطين
المسيحيين على الاعتداءات وهي ردود أفعال تتسم بالتعصب وإظهار الكراهية الشديدة للآخرين
ككل وليس للقلة المعتدية فقط، واستخدام الكنيسة للمسيحيين البسطاء في عمل مظاهرات
وإطلاق شعارات متشددة والاصطدام بالأمن (من أمثلة ذلك تنظيم مظاهرات طائفية بعد اختفاء كاميليا والتحايل
لبناء كنيسة العمرانية والتضحية بعدد من البسطاء في معركة غير متكافئة مع الأمن). كل
هذا يعززه شعور مسيحيي مصر بالقهر والاضطهاد من قبل الأغلبية المسلمة، مع وجود
تصور أن الدولة أيضا هي دولة الآخر المسلم وتشارك في قمعهم بدافع ديني، رغم أن
النخبة الحاكمة لا يعنيها أي دين من أي نوع وتتصرف وفقا لمصالحها فقط.
- الاستعداد الكامن لدى الرأي العام المسلم للاستفزاز
وإعلان العداء للآخر بسبب سيادة الفكر الإسلامي المتشدد والذي يعبر عن شعور بالقهر
والانسحاق والدونية تجاه العالم المتقدم، يجري تعويضه بالاستعلاء على الآخرين
وادعاء العظمة والتفوق.
هكذا تلاقت العوامل
الثلاثة: تعمد الدولة تأجيج الصراع الطائفي لامتصاص الصراع الطبقي، والمصالح
الضيقة للكهنة الذين يزداد نفوذهم على أتباعهم المغيبين ويزداد حجم الدعم المقدم
من مسيحيي المهجر لهم كلما تصاعد المد الطائفي، وسيادة التعصب الديني لدى المسلمين.
وإن أيَّ متابع لتطور
الوضع الطائفي في مصر خلال الأشهر الماضية يتوقع بسهولة مذبحة مثل التي حدثت ومثلما
سيحدث أيضا.
ولن يكون كافيا أبدا
إظهار التضامن بين مسلمين ومسيحيين أو ادعاء المحبة والوئام أو الاكتفاء بالتبرع
بالدم للمصابين وتقديم التعازي لأهل القتلى، لمنع المذابح القادمة، فلابد من
مواجهة الموقف بالوضوح اللازم وذلك بالاعتراف بتشخيصي السابق لأصل المشكلة.
ولن ينزع فتيل الوضع
الحالي إلا أن يتضامن كل من يهمه أمر هذا البلد ولو بصدم الرأي العام المغيب
بإطلاق شعار الدولة العلمانية بوضوح وصراحة، مع العمل على:
1- إجبار الدولة على احترام حرية الاعتقاد
المطلقة لكل المواطنين وإنهاء كل أشكال التمييز ضد غير المسلمين السنة: الشيعة – المسيحيين
– الملحدين – البهائيين – القرآنيين، وغيرهم، والذي يتضمن إلغاء المرجعية الدينية للقوانين و جعل الصالح العام هو مصدر
التشريع ، و الذي من المفترض أن يدافع عنه البرلمان و هذه النقطة تتضمن إلغاء ما
يسمى بـ"الدين الرسمي للدولة" و عدم تبني الدولة لأيديولوجية رسمية ، و
قصر هذا الحق للأفراد و مؤسسات المجتمع المدني وإلغاء بند الدين من كافة الأوراق الرسمية.
2-
إلغاء التعليم الديني .
3 - الفصل بين المؤسسات الدينية والدولة، بما يعني عدم تقديم
أي دعم حكومي لهذه المؤسسات.
4- إلغاء أي سلطة للمؤسسات الدينية في المجالات المدنية
مثل الزواج والطلاق وإلغاء الرقابة الدينية على القوانين أو الأعمال الأدبية و
الفنية و أي نشاط آخر .
5
- جعل الزواج مدنيا ، بمعنى أن يتم في الشهر العقاري
أو مؤسسة مدنية مختصة لكل المواطنين بغض النظر عن دينهم .
6- تطبيق القانون حرفيا
على كل المواطنين، ومحاكمة كل من يدعو للطائفية من كل الأطراف بمن فيهم كبار رجال
كل المؤسسات الدينية وقيادات ومفكري الإسلام السياسي الطائفيين.
7- إنهاء الدور السياسي للكهنة ولكل المؤسسات
الدينية لأية ملة والإفراج عن السيدات المحتجزات لدى الكنيسة ومحاسبة المسؤولين عن
احتجازهم.
8- إصدار قانون موحد لبناء
دور العبادة مع إزالة الدور غير المرخصة.
[1] تناولت هذه المسألة تفصيلا من قبل فى مقال
بعنوان:ما وراء مأساة كاميليا، http://modernization-adil. blogspot. com/2010/11/blog-post. html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق